أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

وصلّينا عليهم ودفنّاهم (١). أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين عليه‌السلام مكتوف اليد ، فقد احتجّ على معاوية ثمّ ثار على ولده يزيد ؛ إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الاُمّة من الجور الهائل.

٧ ـ تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت عليهم‌السلام

اجتهد الحكم الاُموي أن يغيّر الصّورة الصّحيحة للرسالة الإسلاميّة ، والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم ، فقد عمد الاُمويّون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين ، والتمييز بين العرب وغيرهم ، وبثّ روح التناحر القبلي ، والعمل على تقريب قبيلة دون اُخرى من البلاط وفق المصالح الاُمويّة في الحكم.

وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشّخصيّة والإقبال على اللهو (٢).

ولمّا كان لأهل البيت عليهم‌السلام الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلاميّة ، ورعاية هموم الرسالة الإسلاميّة ؛ فقد عمد الاُمويّون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم باُسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد (٣).

٨ ـ الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير ، ومبلّغها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السّماء دون تخطيط وعناية ، ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها ، يخلص لها في قوله وعمله ، ويوجّهها نحو هدفها المنشود ، مستعيناً بدرايته وبعلمه الشّامل

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.

(٢) تأريخ الطبري ٨ / ٢٨٨ ، والأغاني ٤ / ١٢٠.

(٣) نهج البلاغة ٣ / ٥٩٥ و٤ / ٦١ وو ١١ / ٤٤.

١٤١

بأحكامها ، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى وتبقى كلمة الله هي العليا. والمتتبّع لسيرة الرّسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبيّ وتكاملها ، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.

وقد أدلى الإمام الحسين عليه‌السلام بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق ، فقال عليه‌السلام : «أمرني رسول الله بأمر وأنا ماضٍ له» (١).

كما إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسين عليه‌السلام بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتّى بات ذلك من الاُمور المتيقّنة لدى المسلمين (٢).

أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام

إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في التأريخ ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام الحسين عليه‌السلام الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة ، وثقل الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل ، وأمام سيرته لنبحث عن أهداف نهضته المقدّسة ـ التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه ـ لا نجد من السّهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك ، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً.

لقد تفانى الحسين عليه‌السلام في الله ومن أجل دينه ، فكانت أهدافه ـ التي

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٧٦ ، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٢١٨ ، والفتوح ٥ / ٧٤.

(٢) مستدرك الحاكم ٤ / ٣٩٨ و٣ / ١٧٦ ، وكنز العمال ٧ / ١٠٦ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٨٧ ، وذخائر العقبى / ١٤٨ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٥.

١٤٢

تمثّل رضى الله وطاعته ـ سامية جليلة ، كما إنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين عليه‌السلام من ثورته كما يلي (١) :

١ ـ تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم

لقد أصابت الاُمّة حالة من الركود حتّى أنّها لم تعد تتحرّك لاتّخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم ، فالجميع يعرف مَنْ هو يزيد ، وبماذا يتّصف من رذائل الأخلاق ممّا تجعله غير لائق أبداً بأن يتزعّم الاُمّة الإسلاميّة.

في مثل هذا الظرف وقف الكثيرون حيارى يتردّدون في قرارهم ، فتحرّك الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ ليجسّد الموقف الرسالي الرافض للظلم والفساد ، في حركة قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء من أجل العقيدة الإسلاميّة ؛ لتتّخذ الاُمّة الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان.

٢ ـ فضح بني اُميّة وكشف حقيقتهم

إنّ الحكّام الذين تولّوا اُمور المسلمين ولم يكونوا معصومين ولا شرعيين كانوا يغطّون تصرّفاتهم بغطاء ذي مسحة شرعية عند الجماهير. وكان بنو اُميّة من أكثر الحكّام المستفيدين من هذا الاُسلوب الماكر ؛ إذ لم يتردّد معاوية في وضع الأحاديث المفتعلة لتدعيم حكمه ، بل سعى بكلّ وسيلة لتضليل الاُمّة ، وتمكّن من فعل ذلك مع عامّة النّاس.

وأصبح الأمر أكثر خطورة حين تولّى يزيد ولاية الحكم بطريقة لم يقرّها الإسلام ؛ ولهذا كان لا بدّ من فضح التّيار الاُموي وتصويره على حقيقته ، لتتّضح الصورة للعالم الإسلامي فيعي دوره ورسالته ، ويقوم بواجبه ووظيفته ،

__________________

(١) للمزيد من التفصيل راجع أضواء على ثورة الحسين عليه‌السلام ـ للسيّد محمّد الصدر / ٥٧.

١٤٣

فتحرّك الحسين عليه‌السلام بصفته الإمام المعصوم ؛ ليواجه زيف الحكم وضلالته. وفعلاً أسفر التّيار الاُموي عن مكنون حقده بارتكابه الجريمة البشعة في كربلاء بقتل خير النّاس وأصحابه وأهل بيته من الرجال والنساء والأطفال ، ثمّ أعقب ذلك بقصف الكعبة بالمنجنيق في واقعة الحرّة ، وإباحة المدينة ثلاثة أيام ؛ قتلاً ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال بشكل بشع لم يسبق له مثيل (١).

وانتبه المسلمون إلى انحراف الفئة الحاكمة الضالّة وإلى فساد أعمالها ، وسعوا من خلال محاولات عديدة إلى تطهير الجهاز الحاكم المتوغّل في الظلم والطّغيان ، حتّى غدت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام اُنموذجاً يُحتذى به لمقارعة ومقاومة كلّ نظام يستشري فيه الفساد. وقد أفصح الإمام عليه‌السلام عن الصّفات التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم بقوله : «فلعمري ، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله» (٢).

٣ ـ إحياء السنّة وإماتة البدعة

انحدرت الاُمّة الإسلاميّة في منحدر صعب يوم انحرفت الخلافة عن مسارها الشّرعي في يوم السّقيفة ؛ فإنّها قبلت بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتولّى أمرها مَنْ يحتاج إلى المشورة والنّصيحة ، ويخطئ في حقّها ويعتذر ، فكانت النّتيجة بعد خمسين عاماً من غياب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتولّى أمرها رجل لا يتورّع عن محارم الله ، بل ويظهر الحقد على الإسلام والمسلمين ، فتعرّض الإسلام

__________________

(١) راجع الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٣٠١ ، والإمامة والسياسة ـ للدينوري ٢ / ١٩ ، مروج الذهب ٢ / ٨٤.

(٢) تأريخ الطبري ٦ / ١٩٧.

١٤٤

ـ عقيدةً وكياناً واُمّةً ـ للخطر الحقيقي ، والتشويه المقيت المغيّر لكلّ شيء ، على غرار ما حدث لبعض الرسالات السّماوية السّابقة.

في مثل هذا المنعطف الخطير وقف الإمام الحسين عليه‌السلام ومعه أهل بيته وأصحابه ، وأطلق صرخة قويّة ومدوّية محذّراً الاُمّة ، مفتدياً العقيدة والاُمّة بدمه الطاهر الزكي ، ومن قبل قال فيه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النّجاة». كما قال غير مرّة : «حسين منّي وأنا من حسين». فكان الحسين عليه‌السلام ونهضته التجسيد الحقيقي للإسلام الحقّ ؛ فقد كان الخطّ الحقيقي للإسلام المحمدي متمثلاً في الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم).

وقد صرّح الإمام الحسين عليه‌السلام في رسالته التي بعثها إلى أهل البصرة بكل وضوح إلى أنّ السنّة قد ماتت حين وصل الانحراف إلى حدّ ظهور البدع وإجبائها.

٤ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد كان غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة طبيعية لتولّي الزعامة المنحرفة ، وقد حدث هذا تحت عناوين متعدّدة ، منها : لزوم إطاعة الوالي ، وحرمة نقض بيعة تمّت حتّى لو كانت منحرفة ، وكذلك حرمة شقّ وحدة الكلمة ، وقد وصف الإمام عليه‌السلام هذه الحالة بقوله : «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله ...» (١). لذا تطلّب الأمر أن يبرز ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للجهاد وهو يحمل السّيف في محاولة لإعادة الحقّ إلى نصابه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد أدلى عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

١٤٥

بذلك في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حين كتب له : «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

إنّ الإصلاح المقصود هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة ، وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قام عليه‌السلام بها ، فكانت الهداية والرعاية للبشر دينياً ومعنوياً ، وإنسانياً واُخروياً بمقتله وشهادته ، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من الاُمّة ، وتخرّجت من مدرستها الأبطال والصناديد ، ولا زالت وستبقى المشعل الوضّاء ينير درب الحقّ والعدل والحرية وطاعة الله إلى يوم القيامة.

٥ ـ إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف

في أحيان كثيرة لا يستطيع أصحاب العقائد ودعاة الرسالات أن يحاوروا العقل والذهن مجرّداً معزولاً عن عنصر العاطفة لأجل تعميق المعتقد والفكر لدى الجماهير ، وقد ابتليت الاُمّة الإسلاميّة في عهد الإمام الحسين عليه‌السلام وبعد تسلّط يزيد بحالة من الجمود والقسوة ، وعدم التحسّس للأخطار التي تحيط بها ، وبفقدان الإرادة في مواجهة التحديات ضدّ العقيدة الإسلاميّة ؛ لهذا لم يكتف الإمام الحسين عليه‌السلام بتثبيت الموقف الشّرعي وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي ، بل سعى إلى إيقاظ ضمائر النّاس ، وتحريك وجدانهم وأحاسيسهم ليقوموا بالمسؤولية. فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من أجل العقيدة والدين ، واتّخذ اُسلوب الاستشهاد الذي يدخل بعمق وحرارة في قلوب الجماهير ، وقد ضرب لنا مثلاً رائعاً حينما برّزت ثورته أنّ التضحية لم تكن مقصورة على فئة أو مستوىً معيّن من

١٤٦

الاُمّة ، فللطفل كما للمرأة والشيخ دور فاعل فضلاً عن الشباب.

وما أسرع ما بان الأثر على أهل الكوفة ؛ إذ أظهروا الندم والإحساس بالتقصير تجاه الإمام والإسلام ، فكانت ثورة التوّابين التي أعقبت ثورة أهل المدينة التي وقعت في السّنة الثانية من بعد واقعة الطفّ.

لقد كانت واقعة الطفّ تأكيداً حقيقياً على أنّ المصاعب والمتاعب لا تمنع من قول الحقّ والعمل على صيانة الرسالة الإسلاميّة ، كما إنّها زرعت روح التضحية في سبيل الله في نفوس أبناء الاُمّة الإسلاميّة ، وحرّرت إرادتها ودفعتها إلى التصدّي للظلم والظالمين ، ولم تُبقِ عذراً للتهرّب من مسؤولية الجهاد والدفاع عن العقيدة والمقاومة لإعلاء كلمة الله.

لماذا لم ينهض الإمام الحسين عليه‌السلام بالثورة في حكم معاوية؟

إنّ الأحداث السّياسية التي عصفت بالاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ثقيلة الوطأة عليها ، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشّام ومحاربة الإمام عليّ عليه‌السلام ، وبالتالي اضطرار الإمام الحسن عليه‌السلام لإبرام صلح معه ؛ لأسباب موضوعية كانت تكتنف الاُمّة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسن عليه‌السلام تجاه معاوية حتّى بعد استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام ، فلم يعلن ثورته ، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن عليه‌السلام إلى قبول الصلح ، فمِنْ ذلك :

١ ـ حالة الاُمّة الإسلاميّة

كان الوضع النفسي والاجتماعي للاُمّة الإسلاميّة متأزّماً ، إذ كانت تتطلّع إلى حالة السّلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم

١٤٧

الإمام عليّ عليه‌السلام ، فكان رأي الإمام الحسن عليه‌السلام هو أن يُربّي جيلاً جديداً وينهض بعد حين ، فقد قال عليه‌السلام :

«إنّي رأيت هوى أعظم النّاس في الصّلح ، وكرهوا الحرب ؛ فلم اُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون ، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من القتل ، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما ، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن» (١).

وهو نفسه موقف الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الاُمّة ، فكان قوله لمَنْ فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسن عليه‌السلام عنها : «صدق أبو محمّد ، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً».

وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام ؛ لبقاء نفس الأسباب ، فقد كتب عليه‌السلام يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة :

«أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً» (٢).

٢ ـ شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن

لقد كانت زعامة الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك.

ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً ؛ إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية ، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السّلطة

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٢١.

(٢) المصدر السابق / ٢٢٢.

١٤٨

بيده ، متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يُغطّي جرائمه الأخلاقية واللإنسانيّة ، والتي منها فتكه بخيار المسلمين ، ومخادعة عوام النّاس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم ، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب ، فهو الذي اغتال الإمام الحسن عليه‌السلام ، وسعد بن أبي وقّاص (٢) ، وقضى على عبد الرحمن بن خالد (٣) ، ومن قبله على مالك الأشتر ، وقد أوجز اُسلوبه هذا في كلمته المشهورة : «إنّ لله جنوداً منها العسل» (٤).

كما إنّ معاوية كان يضع كلّ مَنْ يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد ، فتُرفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه.

في مثل هذا الاُسلوب ـ أي التصرّف تحت ستار الإسلام ـ لو قام الإمام الحسين عليه‌السلام بحركة واسعة ، ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسن عليه‌السلام مباشرةً لما كان قادراً على فضح معاوية ، وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته ، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج ، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها ، وتضيع جهود كبيرة كان من شأنها أن تبني في الاُمّة تيّاراً واعياً ، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ.

وما كان الإمام الحسين عليه‌السلام ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة (٥) ، المتمثّلة في إنقاذ الاُمّة من الظلم ، وصيانة الرسالة

__________________

(١) شرح النهج ـ لابن أبي الحديد ٢ / ٣٥٧.

(٢) مقاتل الطالبيين / ٢٩ ، ومختصر تأريخ العرب / ٦٢.

(٣) التمدن الإسلامي ـ لجرجي زيدان ٤ / ٧١.

(٤) عيون الأخبار ١ / ٢٠١.

(٥) للتفصيل راجع ثورة الحسين ، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٢.

١٤٩

الإسلاميّة من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.

وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة ، وهو مَنْ قد عرفه النّاس باللهو والفسق ، والشغف بالقرود وشرب الخمور ، وعدم صلاحيته للخلافة ؛ لتجاوزه وعدوانه على كلّ المقاييس الشّرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين ، فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين ، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح.

٣ ـ احترام صلح الإمام الحسن عليه‌السلام

لقد كان العهد والميثاق الذي تمّ بين معاوية وبين الإمام الحسن عليه‌السلام ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السّلطة ، صحيح أنّه عهد غير حقيقي ، وما كان برضى الإمامين عليهما‌السلام ، وتمّ في ظروف كان لا بدّ من تغييرها ، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام مع وجود هذا العهد ، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشّيعة ، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية.

وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسين عليه‌السلام ، وإظهاره بموقف الناقض للعهد ، فقد كتب إلى الإمام عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ اُمور عنك ، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله ، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، ونفسك فاذكر ، وبعهد الله أوفِ ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّقِ شقّ عصا هذه الاُمّة (١).

__________________

(١) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٨ ، والأخبار الطوال / ٢٢٤ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٨٢.

١٥٠

من هنا لجأ الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومن بعده الحسين عليه‌السلام إلى اُسلوب آخر لنشر الدعوة ، والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره ، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح ، حتّى إذا مات معاوية كان كثير من النّاس ، وعامّة أهل العراق ـ بشكل خاصّ ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت عليهم‌السلام لأنفسهم ديناً (١).

المواقف من ثورة الحسين عليه‌السلام قبل انطلاقها

لم تكن نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام وثورته حركةً آنيةً ، أو ردّة فعل مفاجئة ، بل كان الحسين عليه‌السلام في الاُمّة يُمثّل بقيّة النبوّة ، وكان وريث الرسالة ، وحامل راية القيم السّامية التي أوجدها الإسلام في الاُمّة وأرسى قواعدها ، كما إنّ العهد قريب برحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يُكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين عليه‌السلام ، وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين الفاسدة تجاه رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلاميّة واُمّته المؤمنة برسالته.

وقد وقف أهل البيت عليهم‌السلام بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلاميّة ، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.

وفي عصر الإمام الحسين عليه‌السلام كان لتراخي وفتور الاُمّة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير ، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة وصيانتها ، وسيادة الحقّ والعدل.

__________________

(١) الفتنة الكبرى ، علي وبنوه ـ طه حسين / ٢٩٠ ، وللمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين عليه‌السلام ، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٧.

١٥١

ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين عليه‌السلام تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة ، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الاُمّة الإسلاميّة ، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الاُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.

وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج ، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة ، وبين التثبيط وفتّ العزائم.

وتبنّى شيعة أهل البيت عليهم‌السلام الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد ، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد ، واُودع البعض الآخر السجن ، أو حوصر من قبل قوّات السّلطة الاُمويّة.

كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام عليه‌السلام ـ مثل عبد الله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة ـ موقف الحذر ، ورجّحوا للإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى اليمن ؛ نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة ، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها (١).

وتبنّى آخرون موقف التثبيط ، وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم ، فنصحوا الإمام عليه‌السلام بالدخول فيما دخل فيه النّاس ، والصّبر على الظلم ، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسين عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٧ و٢١٦ ، ومروج الذهب ٣ / ٦٤.

(٢) مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩١.

١٥٢

البحث الرابع : توجّه الإمام عليه‌السلام إلى مكّة

خرج الإمام الحسين عليه‌السلام من المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته ، وبني عمومته وبعض الخواصّ من شيعته ، ولم يبقَ إلاّ أخوه محمّد بن الحنفيّة ، وأفادت بعض المصادر التأريخية بأنّ الإمام عليه‌السلام أقام في بيت العباس بن عبد المطلب (١) ، فيما تحدّثت مصادر اُخرى عن إقامته عليه‌السلام في شِعْب عليّ (٢). وأقام الإمام عليه‌السلام في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة ، كان فيها مهوى القلوب ، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ، ويتعلّمون منه الحلال والحرام ، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء ، وحيث ترك الإمام عليه‌السلام وشأنَه ؛ فقد عزله يزيد بن معاوية عنها ، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شهر رمضان من تلك السنة (٦٠ هـ) ضمّ إليه المدينة ، وعزل عنها الوليد بن عتبة ؛ لأنّه كان معتدلاً في موقفه من الإمام عليه‌السلام ، ولم يستجب لطلب مروان (٣).

رسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه‌السلام

وقد عرف النّاس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسين عليه‌السلام عن البيعة ، فاتّجهت إليه الأنظار ، وبخاصّة أهل الكوفة ، فقد كانوا يومذاك من أشدّ النّاس نقمةً على يزيد ، وأكثرِهم ميلاً إلى الإمام عليه‌السلام ؛ فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي ، فقام فيهم خطيباً فقال : إنَّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

(٢) الأخبار الطوال / ٢٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر٢ / ٥٨.

١٥٣

تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه وأعلموه ، وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه. قالوا : لا ، بل نقاتل عدوّه ، ونقتل أنفسنا دونه. قال : فاكتبوا إليه. فكتبوا إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم

«للحسين بن عليّ عليهما‌السلام من سليمان بن صرد ، والمسيّب بن نَجَبَة ، ورفاعة بن شدّاد البجلي ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمَّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضا منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود! إنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ ، وإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة ، وإنّنا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشّام إن شاء الله تعالى».

ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مِسْمَع الهَمْداني ، وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء (١) ، فخرجا مسرعين حتّى قدما على الحسين عليه‌السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب ، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي ، وعبد الله وعبد الرحمن ابني

__________________

(١) النجاء : السرعة.

١٥٤

شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين عليه‌السلام ومعهم نحو من مئة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة ، ثمّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي ، وكتبوا إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم

«للحسين بن علىّ عليهما‌السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمَّا بعد ، فإنّ النّاس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثمّ العجل العجل ، والسّلام».

ثمّ كتب شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير التميمي :

«أمَّا بعد ، فقد اخضرّ الجَناب ، وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة ، والسّلام» (١).

جواب الإمام عليه‌السلام على رسائل الكوفيّين

تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم ؛ لإنقاذهم من ظلم الاُمويّين وبطشهم ، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والاُمّة إن تأخّر عن إجابتهم. ورأى الإمام ـ قبل كلّ شيء ـ أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، وقد اختار ثقته وكبير أهل بيته مسلم بن عقيل ، وهو من أمهر السّاسة

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٨ ، وروضة الواعظين / ١٧١ ، وتذكرة الخواص / ٢١٣ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٢ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٣٣ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩٥.

١٥٥

وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصّعبة ، والصمود أمام الأحداث الجسام ، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة ، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد ، وهي كما يلي :

بسم الله الرحمن الرحيم

«من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد ، فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر مَنْ قَدِمَ عليّ من رسلكم ، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جُلّكم إنّه ليس علينا إمام ، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى. وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم ، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله. فلعمري ، ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابسُ نَفسه على ذات الله. والسّلام» (١).

تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة

لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة ، بعد أنْ أمره بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس ، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك (٢).

وفي النّصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة ، فعرّج

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٩ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٦ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٣٥ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩٥.

(٢) الفتوح ٥ / ٣٦ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩٦.

١٥٦

على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة.

وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة ، فثمّة مَنْ قال : إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة (١) ، وقيل : نزل في بيت مسلم بن عوسجة (٢) ، وقيل : في بيت هاني بن عروة (٣).

وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين عليه‌السلام إلى مدينتهم ازدحموا للقائه وبيعته ، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشّيعة تختلف إليه ، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه‌السلام وهم يبكون ، وبايعه النّاس ، حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً (٤).

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام

ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشّعبية ويأخذ البيعة للإمام عليه‌السلام ، وتوالت الوفود تقدّم ولاءها ، والجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ النّاس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام التي فيها يحيّيهم ، ويعلن استعداده للقدوم إليهم ، وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.

وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار بادر بالكتابة إلى الإمام عليه‌السلام ، ناقلاً إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة ، وقيّم له

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤١ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧.

(٢) الإصابة ١ / ٣٣٢.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٤٩.

(٤) الإرشاد ٢ / ٤١ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٠ ، وتذكرة الخواص / ٢٢٠.

١٥٧

الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.

وقد جاء في رسالة مسلم للإمام عليه‌السلام : «أَمّا بعد ، فإن الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً ، فعجّل حين يأتيك كتابي ، فإنّ النّاس كلَّهُم معك ، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى» (١).

رسالة الإمام عليه‌السلام إلى زعماء البصرة

وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام ـ بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق ـ بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها : «أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلقه ، وأكرمه بنبوّته ، واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه إليه ، وقد نصح لعباده ، وبلّغ ما اُرسل به ، وكنّا أهلَه وأولياءه ، وأوصياءه وورثته ، وأحقَّ الناس بمقامه ، فاستأثر علينا قومنا بذلك ، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه. وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ؛ فإنّ السنّة قد أُميتت ، والبدعة قد أُحييت ، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد» (٢).

وقد بعث عليه‌السلام عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلّ من : مالك بن مسمع البكري ، والأحنفِ بن قيس ، والمنذر بن الجارود ، ومسعود بن عمرو ، وقيس بن الهيثم ، وعمرو بن عبيد بن معمر ، ويزيد بن مسعود النهشلي ، وأرسل الإمام عليه‌السلام النسخ مع مولىً له يُقال له : سليمان أبو رزين.

ولم يُجب على رسالة الإمام عليه‌السلام غيرُ الأحنف بن قيس ويزيد بن مسعود ، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد ـ وكان

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٢ / ٣٤٨ ، عن تأريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٦ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

١٥٨

حينها والياً على البصرة ـ فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة (١). وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرّسول مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه.

جواب الأحنف بن قيس

وأمّا الأحنف بن قيس ـ وهو أحد زعماء البصرة ـ فقد أجاب على رسالة الإمام عليه‌السلام برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة ، ولم يزد عليها : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٢).

وهذا الجواب يعكس مدى تخاذله وتقاعسه في مواجهة الظلم والمنكر.

جواب يزيد بن مسعود النهشلي

واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ ، فاندفع بوحي من إيمانه وعقيدته إلى نصرة الإمام ، فعقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له ، وهي : ١ ـ بنو تميم. ٢ ـ بنو حنظلة. ٣ ـ بنو سعد.

وانبرى فيهم خطيباً فكان ممّا قال : إنَّ معاوية مات ، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً ، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، وهيهات الذي أراد! اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة للمسلمين ، ويتأمرّ عليهم بغير رضىً منهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه ، فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجِهادُه على

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٠ ، والآية (٦٠) من سورة الروم.

١٥٩

الدين أفضل من جهاد المشركين.

وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذو الشّرف الأصيل ، والرأي الأثيل. له فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف. وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه ، وقِدمه وقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. يعطف على الصغير ، ويُحسن إلى الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ ، ولا تسكعوا في وهد الباطل ... والله لا يُقصِّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده ، والقلّة في عشيرته ، وها أنا قد لَبَسْتُ للحرب لامَتها ، وادَّرَعْتُ لها بِدِرْعِها. مَنْ لم يُقْتَلْ يَمُتْ ، ومَنْ يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب».

ولما أنهى النهشلي خطابه انبرى وجهاء القبائل فأظهروا الدعم الكامل له ، فرفع النهشلي رسالة للإمام عليه‌السلام دلّت على شرفه ونبله ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لم يخلُ الأرض قطّ من عامل عليها بخير ، ودليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ، ووديعتُه في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمدية ، هو أصلها وأنتم فرعها ، فأقدم سعدت بأسعد طائر ؛ فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الضمأى لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد ، وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقُها فلمع» (١).

ويقول بعض المؤرّخين : إنّ الرسالة انتهت إلى الإمام عليه‌السلام في اليوم العاشر من المحرّم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، وهو وحيد فريد قد أحاطت

__________________

(١) اللهوف / ٣٨ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

١٦٠