الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

تعالى : «لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» (١). ثمّ سار الحسين (عليه السّلام) ومعه ركبه ، وهو يذكر يحيى بن زكريا وقتله ، ويقول : «من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل». حتّى مرّ بالتنعيم ، فوجد فيها عيراً تحمل هدايا من الورس والحلل إلى يزيد بن معاوية ، بعث بها عامله على اليمن ، فأخذها وقال لأصحاب الجمال : «مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا وفّيناه كراه وأحسنّا صحبته ، ومَنْ أحبّ أن يفارقنا أعطيناه كراه». فبقي بعضهم مع الحسين (عليه السّلام) وذهب آخرون.

٢٦ ـ الحسين (عليه السّلام) والفرزدق

ثمّ أقبل الحسين (عليه السّلام) حتّى انتهى إلى منطقة الصفاح ، فلقيه الفرزدق بن غالب الشاعر ، فواقف حسيناً وقال له : أعطاك الله سؤلك ، وأملك فيما تحبّ ، بأبي أنت وأمّي يابن رسول الله! فقال له الحسين (عليه السّلام) : «ما خلفت الناس؟». فقال له الفرزدق :

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٧٧.

٨١

من خبير سألت ؛ قلوبهم معك ، وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء. فقال له الحسين (عليه السّلام) : «صدقت ، لله الأمر ، والله يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء ، فلم يعتد مَنْ كان الحق نيّته ، والتقوى سريرته ، والسلام عليك» (١). ثمّ حرّك دابته وسار.

٢٧ ـ كتاب عبد الله بن جعفر الطيار إلى الحسين (عليه السّلام)

ولمّا وصل نبأ خروج الحسين (عليه السّلام) من مكّة إلى عبد الله بن جعفر الطيار ، كتب كتاباً للحسين (عليه السّلام) ، وبعثه مع ابنيه عون ومحمّد ، جاء فيه : «أمّا بعد ، فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حتّى تنظر في كتابي ؛ فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك. إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ؛ فإنّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير ؛ فإنّي في أثر الكتاب ، والسّلام» (٢).

__________________

(١) الطبري ج ٤ ص ٢٧٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٠.

٨٢

٢٨ ـ جواب الحسين (عليه السّلام) له

فأجابه الإمام (عليه السّلام) قائلاً : «إنّي رأيت رؤيا فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، واُمرت فيها بأمر أنا ماضٍ له ، عليّ كان أو لي». فسُئل ما هي تلك الرؤيا؟ قال (عليه السّلام) : «ما حدّثت أحداً بها ، وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي» (١).

٢٩ ـ كتاب عمرو والي يزيد على مكّة إلى الحسين (عليه السّلام)

ثمّ إنّ عبد الله بن جعفر الطيار واصل سعيه وجهده ، لدى عمرو بن سعيد والي يزيد على مكّة كي يأخذ منه الأمان للحسين (عليه السّلام) حتّى يرجع عن عزمه وخروجه إلى العراق ، فطلب من عمرو بن سعيد أن يكتب كتاباً للحسين يمنّيه فيه بالأمان والإحسان والصلة ، فاستجاب عمرو بن سعيد إلى عبد الله بن جعفر ، وكتب كتاباً هذا نصّه :

«بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك ، وأن يهديك لما يرشدك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٠.

٨٣

بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق ، وإنّي أعيذك بالله من الشقاق ؛ فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك ، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد ، فأقبل إليّ معهما ؛ فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار ، لك الله عليّ بذلك شهيد وكفيل ، ومراع ووكيل. والسلام عليك» (١) ، وبعثه مع عبد الله بن جعفر وأخيه يحيى بن سعيد ليكون أكثر اطمئناناً وثقة.

٣٠ ـ جواب الحسين (عليه السّلام) لعمرو بن سعيد والي يزيد على مكة

ثمّ إنّ عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد جاءا بالكتاب إلى الحسين ، وهو في طريقه إلى العراق ، وألحّا أن ينثني عن عزمه ورجوعه إلى بلده آمناً مكرماً ، فأبى الحسين (عليه السّلام) واعتذر إليهما بما قاله في جواب عبد الله بن جعفر : «إنّي رأيت رؤيا فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، واُمرت فيها بأمر أنا ماضٍ له ، عليّ كان أو لي». فقالا : فما تلك الرؤيا؟ قال (عليه السّلام) : «ما حدّثت أحداً بها ، وما أنا محدّث أحداً حتّى ألقى

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٠.

٨٤

ربّي». ثمّ إنّه (عليه السّلام) كتب جواباً لكتاب عمرو بن سعيد والي يزيد على مكّة ، جاء فيه :

«أمّا بعد ، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله مَنْ دعا إلى الله عزّ وجلّ ، وعمل صالحاً ، وقال إنّني من المسلمين. وقد دعوتَ إلى الأمان والبرّ والصلة ، فخير الأمان أمان الله ، ولن يؤمن الله يوم القيامة مَنْ لم يخفه في الدنيا ، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة ، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة ، والسّلام» (١).

٣١ ـ كتاب الحسين (عليه السّلام) الثاني لأهل الكوفة

ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) واصل سيره حتّى مرّ بوادي العقيق ، فلقي رجلاً من بني أسد ، يُسمّى بشر بن غالب قادماً من العراق فسأله عن أهلها. فقال : «خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اُميّة». فقال (عليه السّلام) : «صدق أخو بني أسد ، إنّ الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد».

ثمّ أقبل الحسين (عليه السّلام) سائراً حتّى بلغ منطقة الحاجر من بطن الرمة ، كتب كتاباً إلى جماعة من أهل

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨١.

٨٥

الكوفة ، منهم : سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيّب بن نجية ، ورفاعة بن شداد وغيرهم ، وهو ثاني كتاب يرسله الحسين (عليه السّلام) إليهم ، وهذا نصّه :

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي ، إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر. وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء ، لثمان مضين من ذي الحجّة ، يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا ؛ فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (١). وختمه ، وأرسله مع قيس بن مسهر الصيداوي (عليه الرحمة).

٣٢ ـ رسول الحسين (عليه السّلام) مع ابن زياد

لمّا وصل نبأ سير الحسين إلى العراق إلى عبيد الله بن زياد ، أخذ استعداده العسكري الكامل ، ووضع

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٩.

٨٦

رجاله على الطرق الرئيسية. وكان الحصين بن تميم صاحب شرطته قد نزل في القادسية ، ونظم خيله ورجاله ما بين القادسية ومنطقة خفان ، إلى منطقة القطقطانة ، إلى جبل لعلع ، إلى البصرة. ولمّا انتهى رسول الحسين قيس بن مسهر الصيداوي إلى القادسية اعترضه الحصين بن تميم ليفتّشه ، أخرج قيس الكتاب وخرقه ، فأخذه الحصين إلى عبيد الله بن زياد ، فلمّا مثل بين يديه قال له عبيد الله : مَنْ أنت؟

قال قيس : أنا رجل من شيعة علي والحسين (عليهما السّلام).

عبيد الله : لماذا خرقت الكتاب؟

قيس : لئلا تعلم ما فيه.

عبيد الله : وممّن الكتاب؟ وإلى مَنْ؟

قيس : من الحسين (عليه السّلام) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

عبيد الله غضب قائلاً : والله لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم ، أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاّ قطعتك إرباً إرباً.

قيس : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا سبّ الحسين وأبيه وأخيه فأفعل.

٨٧

قيس يصعد إلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي (صلّى الله عليه وآله) وأكثر من الترحم على علي والحسن الحسين ، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه وعتاة بني اُميّة ، ثمّ قال : «أيّها الناس ، هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا رسوله إليكم ، وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه» (١).

عبيد الله : أمر به فرمي من أعلى القصر ، فتقطّع ومات (رضوان الله عليه).

٣٣ ـ الحسين يؤبّن قيساً :

فبلغ الحسين (عليه السّلام) قتله ، فاسترجع واستعبر بالبكاء ، ثمّ قرأ : «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً». ثم قال (عليه السّلام) : «جعل الله له الجنة ثواباً ، اللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ، وغائب مذخور ثوابك ، إنّك على كلّ شيء قدير» (٣).

__________________

(١) مقتل الحسين للامين ص ١٧ والطبري ص ٢٨٩ ج ٤.

(٢) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٩٨ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٧١.

٨٨

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) سار حتّى انتهى إلى ماء من مياه العرب وعليه عبد الله بن مطيع العدوي ، فاستقبل الحسين وناشده عن عدم الذهاب إلى الكوفة ، قائلاً له : «يابن رسول الله ، أذكرك الله في حرمة الإسلام أن تنتهك ، أنشدك الله في حرمة قريش وذمّة العرب ، والله لئن طلبت ما في يدي بني اُميّة ليقتلوك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً ، والله إنّها لحرمة الإسلام وحرمة قريش ، فالله الله لا تفعل ، ولا تأتِ الكوفة ، وتعرض نفسك لبني اُميّة» ، فأبى الحسين ، ثمّ ودّعه وانصرف.

٣٤ ـ عبيد الله ومنع التجول :

ثمّ لقي أعراباً فسألهم (عليه السّلام) فقالوا : والله لا نعلم غير أننا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج لأنّ عبيد الله أمر أن لا يخرج ولا يلج أحد من واقصة إلى طريق الشام ، إلى البصرة.

٣٥ ـ الحسين (عليه السّلام) وزهير بن القين :

وسار حتّى أقبل إلى ما فوق منطقة زرود فصادف زهير بن القين ومعه جماعة من فزارة وبجيلة ، وكان من أبغض الأشياء إليه مقابلة الحسين لأنّه عثماني العقيدة ، فبعث الحسين (عليه السّلام) خلفه وكان يتغذّى مع جماعته ، فأسقط ما في أيديهم كأنّ على رؤوسهم الطير. فقالت له زوجته : سبحان الله! ابن رسول الله يدعوك فلا تجيبه؟! فأتاه زهير على كره ، ثمّ رجع إلى أصحابه مستبشراً ، وأمر

٨٩

بفسطاطه وثقله ورحله فحوّل إلى الحسين (عليه السّلام) ، وقال لأصحابه : «مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني ، وإلاّ فهو آخر عهد منّي». ثمّ قال : «سأحدثكم حديثاً ؛ إنّا غزونا بلنجر ، وهي بلدة في بلاد الخزر ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، فقال لنا سلمان الباهلي : إذا أدركتم قتال شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم» (١).

ثمّ قال لزوجته : أنت طالق ، الحقي بأهلك ؛ فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خيراً لأنّي أفديه بروحي ، وأقيه بنفسي. وسلّمها إلى بني عمومتها ، فقالت له : خار الله لك! أسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين. فلزم الحسين (عليه السّلام) حتّى قُتل.

٣٦ ـ منطقة الثعلبية :

ثمّ إنّه (عليه السّلام) أخذ يسير بركبه حتّى مرّ بمنطقة الخزيمية ، فأقام بها يوماً وليلة ، فجاءته أخته زينب (عليه السّلام) وقالت له : سمعت هاتفاً يهتف ويقول :

ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدِ ومَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي على قومٍ تسوقهمُ المنايا بمقدارٍ إلى إنجازِ وعدِ

__________________

(١) الطبري ج ٤ ص ٢٩١.

٩٠

فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا اُختاه ، كلّ الذي قُضي فهو كائن». ثمّ سار الحسين (عليه السّلام) فوصل منطقة الثعلبية ممسياً.

٣٧ ـ الحسين (عليه السّلام) مع ابنه علي الأكبر :

فوضع الإمام (عليه السّلام) رأسه بين ركبتيه ، فأخذته سِنة نوم ، ثمّ أفاق فقال : «رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة».

علي الأكبر : يا أبه ، أفلسنا على الحقّ؟

الحسين (عليه السّلام) : «بلى يا بني والذي إليه مرجع العباد».

علي الأكبر : يا أبه ، إذاً لا نبالي بالموت.

الحسين (عليه السّلام) : «جزاك الله يا بني ما جزى ولداً عن والده».

٣٨ ـ الحسين (عليه السّلام) مع أحد الأعراب :

ولمّا أصبح وإذا برجل من أهل الكوفة يُكنّى بأبي هرّة الأزدي ، فسلّم على الحسين وقال : يابن رسول الله ، مَنْ أخرجك من حرم الله وحرم جدّك

٩١

محمّد (صلّى الله عليه وآله)؟

فقال له الحسين : «ويحك يا أبا هرّة! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت. وأيم الله ، لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسهم الله ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليسلطنّ الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ» (١).

٥٢ ـ الحسين (عليه السّلام) يُخبر بقتل مسلم وعبد الله بن يقطر

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) سار حتّى انتهى إلى منطقة زبالة ، فسقط إليه خبر مسلم بن عقيل ، وعبد الله بن يقطر ، أخيه من الرضاعة ، وكان قد بعثه من الطريق إلى مسلم ، فأخذه رجال الحصين بن نمير بالقادسية ، وجيء به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال له : اصعد فوق القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب حتّى أرى فيك رأيي.

فصعد عبد الله بن يقطر القصر ، وأشرف على الناس وقال : «أيّها الناس ، إنّي رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدّعي». فأمر

__________________

(١) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٧٤.

٩٢

عبيد الله برميه من أعلى القصر فرمي ، ثمّ حزّ رأسه (١).

٤٠ ـ الحسين (عليه السّلام) يؤبّن مسلم بن عقيل :

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) ترحّم على مسلم بن عقيل مراراً ، ثمّ استعبر وقال : «رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى روح الله وريحانه ، وتحياته ورضوانه. أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ولا خير في العيش بعد هؤلاء» (٢).

ثمّ أخرج كتاباً وقرأه على الناس ، والأعراب الذين جاؤوا معه طلباً للرزق والعافية ، وفيه : «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع ؛ قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، وليس عليه ذمام» (٣).

فتفرّق عنه نفر كثير لأنّهم جاؤوا معه ظنّاً منهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٠٠.

(٢) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٧٦.

(٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٧٧ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٠٠.

٩٣

أنّه قد استقامت له الأمور ، وصفا له الجو ، فأحبّ (عليه السّلام) أن يخبرهم بذلك ليكونوا على بيّنة من أمرهم ومصيرهم ؛ لئلاّ يُقال : إنّه (عليه السّلام) غرّر بهم ، وضلّل عليهم الأمر ، لأنّهم اتّبعوه طلباً للرزق ، فاستغل هذا الجانب لتكثير جمعه وزيادة أصحابه كما يستغلّ الكثير من أصحاب الثورات التي اندلعت بعد ثورة الحسين (عليه السّلام) حاملين بعض الشعارات لتضليل بسطاء الناس وإغوائهم ؛ وذلك زيادة في الجمع والعدد. ولكن الحسين (عليه السّلام) شريف في ثورته ، ونبيل في استعمال وسائلها ؛ فلهذا أخبرهم بذلك حتّى لا يبقى معه إلاّ مَنْ كان موطّناً نفسه على لقاء الله نفسه.

٤١ ـ منطقة بطن العقبة :

ولمّا كان وقت السحر أمر (عليه السّلام) غلمانه وفتيانه ، فاستقوا الماء وأكثروا ، ثمّ سار (عليه السّلام) حتّى مرّ بمنطقة بطن العقبة ، فلقيه عمر بن لوذان شيخ من بني عكرمة فسأله عن مقصده ، ثمّ ناشد الحسين (عليه السّلام) أن لا يذهب إلى الكوفة لأنّه لا يقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف. فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا عبد الله ، إنّه ليس يخفى عليّ ، الرأي ما رأيت ، ولكن الله لا يغلب على أمره. والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه

٩٤

العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الأمم» (١).

٤٢ ـ منطقة (شراف) :

ثمّ ارتحل (عليه السّلام) من بطن العقبة سائراً حتّى نزل بمنطقة شراف ، ولمّا مضى من الليل شطره أمر فتيانه بالتزوّد من الماء والإكثار منه ، ثمّ سار حتّى انتصف النهار.

٤٣ ـ التقاء الحسين (عليه السّلام) بأوّل كتيبة للجيش الأموي :

وبينما هم سائرون ، وإذا برجل من أصحاب الحسين كبّر ، فقال الحسين (عليه السّلام) : «الله أكبر ، لِمَ كبّرت؟». فقال : رأيت النخلة. فقيل له : ما رأينا به نخلة قطّ ، والله ما هي إلاّ أسنّة الرماح وهوادي الخيل.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «وأنا والله أرى ذلك ، فهل لنا ملجأ نجعله خلف ظهورنا ونستقبل القوم؟». فقالوا : ذو حسم عن يسارك. فأسرع الحسين إليه ، وضرب ابنيته وخيامه.

وإذا بمقدّمة الجيش الاُموي تعدّ بألف فارس

__________________

(١) مقتل الحسين ص ٧٨.

٩٥

وعلى رأسها الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي ، وهم على أتمّ الاستعداد الحربي ، متقلّدين سيوفهم ورماحهم ، ولكنّ العطش قد أضرّ بهم ، وكان وقت الظهيرة. فقال الحسين (عليه السّلام) لفتيانه : «اسقوا القوم وارووهم من الماء ، وارشفوا الخيل ترشيفاً». فقام فتيانه وأرشفوا الخيل ، وسقوا القوم حتّى أرووهم ، وأقبلوا يملؤون القصاع والأنوار والطساس من الماء ، ثمّ يدنونها من الفرس حتّى سقوا الخيل كلّها. وكان الحسين (عليه السّلام) يروي القوم بيده أيضاً (١).

الحرّ والحسين (عليه السّلام)

ثمّ قال الحسين (عليه السّلام) للحرّ بن يزيد : «ألنا أم علينا؟». فقال الحرّ : بل عليك يا أبا عبد الله. فقال الحسين (عليه السّلام) : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم».

٤٤ ـ خطبة الحسين (عليه السّلام) الأولى على مسامع الجيش الاُموي :

ثمّ حان وقت صلاة الظهر ، فأمر الحسين (عليه السّلام) الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فأذّن ، ثمّ خرج (عليه السّلام) إليهم في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٠٢.

٩٦

وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أيّها الناس ، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم ، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم : أن أقدم علينا ؛ فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم» (١). فسكتوا عنه ، وقيل للمؤذن : أقم للصلاة. فقال الحسين (عليه السّلام) للحرّ : «صلِّ أنت بأصحابك». فقال الحرّ : «لا بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك». فصلّى بهم الحسين (عليه السّلام) وانصرف إلى خيامه.

٤٥ ـ الخطبة الثانية للحسين (عليه السّلام) أمام كتيبة الحرّ :

ولمّا دخل وقت صلاة العصر أمر الحسين (عليه السّلام) فنودي لصلاة العصر وأقام ، فجاء (عليه السّلام) وصلّى بهم صلاة العصر ، ثمّ توجّه إليهم فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : «أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٩٧.

٩٧

أهل بيت محمّد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليّ رسلكم ، انصرفت عنكم» (١).

فأجابه الحرّ بن يزيد : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل. فقال الحسين (عليه السّلام) لعقبة بن سمعان : «اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ». فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه(٢). فقال الحرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا أن لا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد فقال الحسين (عليه السّلام) : «الموت أدنى إليك من ذلك». ثمّ قال لأصحابه : «قوموا فاركبوا». واُركبت النسوة ، فقال : «انصرفوا». فحال الجيش الاُموي دونهم.

الحسين (عليه السّلام) قال للحرّ : «ثكلتك اُمّك! ما تريد؟».

الحرّ : لو غيرك من العرب يقولها لي ، وهو على

__________________

(١) مقتل الحسين للامين ص ٨١ والطبري ص ٢٩٨ ج ٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٠٣ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٨١.

٩٨

مثل هذا الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل كائناً مَنْ كان ، ولكن ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.

الحسين (عليه السّلام) للحرّ : «فما تريد؟».

الحرّ : اُريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد.

الحسين (عليه السّلام) : «إذاً والله لا أتبعك».

الحرّ : إذاً والله لا أدعك.

فترادّا بالقول ثلاث مرّات ، وكثر الكلام بينهما

الحرّ للحسين : إنّي لم أؤمر بقتالك ، وإنّما اُمرت أن لا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى الأمير عبيد الله ؛ فلعل الله أن يرزقني العافية من أن اُبتلى بشيء من أمرك. فخذ هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية.

الحسين (عليه السّلام) أمر أصحابه بالسير والتياسر ، والحرّ يسايره (١).

٤٦ ـ الحسين (عليه السّلام) يخطب ثالثاً أمام كتيبة الحرّ :

وبينما هم على هذا الحال يسيرون حتّى وصلوا

٩٩

إلى منطقة البيضة ، فوقف الحسين (عليه السّلام) وخطب في كتيبة الحرّ بن يزيد التميمي قائلاً :

بعد أن حمد الله وأثنى عليه : «أيّها الناس ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمان ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيري. وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة. وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل ، والمغرور مَنْ اغتر بكم ؛ فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله

١٠٠