الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

ويتزعّم هذا الكادر الحزبي الاُموي رجل اسمه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي.

١٣ ـ خطبة النعمان والي يزيد على الكوفة :

بلغ ذلك النعمان بن بشير والي يزيد على الكوفة ، فجاء إلى المسجد وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيهما يهلك رجال ، وتُسفك الدماء ، وتُغصب الأموال. إنّي لم اُقاتل مَنْ لم يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة ، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر ؛ أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يرديه الباطل (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٤.

٦١

فقام إليه أحد أعوان الحزب الاُموي ، واسمه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي ، وقال : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم ، إنّ هذا الذي أنت عليه ، فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين. فأجابه النعمان قائلاً : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله.

١٤ ـ رجال الحزب الاُموي وخطورة الموقف :

فكتب عبد الله بن مسلم الحضرمي كتاباً إلى يزيد بن معاوية جاء فيه : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف. (١)

ثمّ كتب آخرون إلى يزيد بن معاوية كتباً أخرى بهذا المضمون ، مثل : عمارة بن عقبة ، وعمر بن سعد ، وغيرهما من أنصار الحزب الأموي.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٣٩.

٦٢

١٥ ـ يزيد يعزل النعمان وينصب عبيد الله :

وعندما وصلت الكتب إلى يزيد بن معاوية وقرأها وفهم محتواها ، دعا سرجون مولى معاوية وأقرأه الكتب ، وقال : هذا الحسين قد توجّه إلى الكوفة ، وهذا مسلم بن عقيل يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء ، فما ترى؟ فقال له سرجون : أرأيت لو نشر معاوية لك ، أكنت آخذاً برأيه؟ قال : نعم. [قال : فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : هذا رأي] (٢) أبيك ، فأخذ يزيد بهذا الرأي ، وكان عبيد الله والياً على البصرة فضمّ إليه الكوفة ، وبعث إليه بعهده على الكوفة ، مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وكتب إليه كتاباً :

أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجمع لشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه ، أو تقتله ، أو تفنيه ، والسّلام (١).

فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالعهد والكتاب

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٥.

٦٣

إلى عبيد الله بن زياد بالبصرة ، فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب ، أمر بالجهاز والتهيؤ ، والمسير إلى الكوفة من الغد (١).

ولمّا كان الغداة ، استخلف أخاه عثمان بن زياد على البصرة ، بعد أن خطبهم بالوعد والوعيد. وأقبل إلى الكوفة مسرعاً لا يلوي على شيء حتّى دخلها ومعه بضعة عشر رجلاً ، متنكّراً بزيّ أهل الحجاز ، فظنّ الناس أنّه الحسين (عليه السّلام) لأنّهم ينتظرون قدومه. فأخذ لا يمرّ على أحد من الناس إلاّ وسلّموا عليه ، وقالوا : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم ، وهو لا يكلّمهم ، حتّى جاء القصر فسمع النعمان بن بشير فأغلق باب القصر عليه ، ولمّا أنتهى إلى القصر أطلّ النعمان بن بشير من بين شرفتي القصر قائلاً : «اُنشدك الله إلاّ تنحيت عنّي ، ما أنا بمسلّم لك أمانتي ، وما لي في قتلك من إرب» ظانّاً أنّه الحسين (عليه السّلام). فأزال عبيد الله اللثام عن وجهه وقال : «افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك ، وشيّدت قصرك ، وضيعت مصرك» عندها عرف النعمان والناس أنّه عبيد الله بن زياد ، ففتح النعمان باب القصر ودخل ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٥.

٦٤

ثمّ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس ، فخرج إليهم وصعد المنبر.

١٦ ـ الخطبة الأولى لابن زياد في الكوفة :

«فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متّبع فيكم أمره ، ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبي عنك لا الوعيد». ثمّ نزل ، فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً ، وقال لهم : «اكتبوا إليّ الغرباء ، ومَنْ فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومَنْ فيكم من الحرورية ، وأهل الريب الذين رأيهم الخلا والشقاق ، فمَنْ كتبهم لنا فبرئ ، ومَنْ لم يكتب لنا أحد فيضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمَنْ لم يفعل برئت منه الذمة ، وحلال لنا ماله وسفك دمه. وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا طلب على باب داره ، واُلغيت تلك العرافة من

٦٥

العطاء ، وسيّر إلى موضع بعمان الزارة» (١).

اعتقال هاني بن عروة

ثمّ تطوّر الموقف عندما اعتقل عبيدُ الله هاني بن عروة ، وطلب منه أن يسلّمه مسلم بن عقيل فأبى هاني ، فضربه عبيد الله بالسياط على وجهه فسال الدم على لحيته ، فتناول سيفاً بيد أحد أعوان عبيد الله فأراد أن ينتزعه فلم يستطع ، فعندها أمر عبيد الله به أن يغلّ ، ويحبس في غرفة ، ويوضع عليها الحرس. وإذا بجمع مذحج على باب القصر لأنّهم سمعوا أنّ عبيد الله يروم قتله فجاؤوا لاستنقاذه. فأمر عبيد الله شريح القاضي بأن يخرج للناس ويعلمهم بأنّ صاحبهم حيّ ، فخرج شريح إليهم وقال لهم : إنّي قد رأيت صاحبكم حيّاً ، وإنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلاً. فقالوا : إذاً لم يُقتل فالحمد لله. ثمّ تفرّقوا.

١٧ ـ الخطبة الثانية لابن زياد :

ثمّ إنّ عبيد الله جمع بعض زعماء القبائل ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٤٢.

٦٦

وشرطته وحاشيته ، فخرج بهم وصعد المنبر ، فخطب خطبة موجزة : «أمّا بعد ، أيّها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم ، ولا تخلفوا ، ولا تفرقوا فتهلكوا ، وتذلّوا وتقتلوا ، وتجفوا وتحرموا ، إنّ أخاك مَنْ صدقك ، وقد أعذر من أنذر» (١).

ثم إنّ الموقف قد تدهور ، وخذل الناس مسلم بن عقيل ؛ وذلك بعد أن اشترى عبيد الله ذمم وضمائر بعض الزعماء ، فأخذوا يخذلون الناس عن مسلم ويمنونهم بالمال ، ويخوّفونهم بجنود أهل الشام.

ثمّ أشرف على الناس بعض رؤساء القبائل ، وتكلّم كثير بن شهاب وقال : «أيّها الناس الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشرّ ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذريّتكم من العطاء ، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جرت أيديها» (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٥٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٥٧.

٦٧

وتكلّم بقيّة الرؤساء بنحوه ، فأخذ الناس يتفرّقون أفراداً وجماعات حتّى كانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع؟ فخذل الناس مسلم ، وبقي وحده يسير في الطريق فلا يرى أين يذهب حتّى دخل في دار امرأة يُقال لها : طوعة ، فآوته إلى الصباح.

١٨ ـ الخطبة الثالثة لابن زياد :

وكان عبيد الله قد علم بتفرّق الناس عن مسلم ، فأمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمّة من رجل من الشرطة والعرفاء ، أو المناكب ، أو المقاتلة صلّى العتمة إلاّ في المسجد. فما كانت إلاّ ساعة وامتلأ المسجد بالناس ، ثمّ أمر عبيد الله الحرس أن يحرسونه من جانب ، فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : «أمّا بعد ، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره ، ومَنْ جاء به فله ديّته. اتقوا الله عباد الله ، وألزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً» (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٠.

٦٨

١٩ ـ محاصرة مسلم بن عقيل :

ثمّ نادى : يا حصين بن نمير ـ وكان صاحب شرطته ـ ثكلتك اُمّك! إن [ضاع] باب سكّة من سكك الكوفة ، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به. وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة ؛ فابعث مراصدة على أفواه السكك ، وأصبح غداً ، واستبر الدور ، وجس خلال الدور حتّى تأتيني بهذا الرجل. ولمّا كان الغداة علم بمكان مسلم ، فبعث إليه عبيد الله بسبعين فارس مع محمّد بن الأشعث ، فأحاطوا بمسلم من كلّ جانب. فقاتلهم مسلم وحده مقاتلة الشجعان ، وكافحهم مكافحة الأبطال حتّى أكثر فيهم القتل ، واستنجدوا بعبيد الله أن يبعث إليهم بالخيل والرجال فأنجدهم ، وأخذوا يرمونه بالنار والحجارة من فوق الدور وعمدوا إلى مكيدة ؛ فحفروا له حفيرة ووضعوا عليها الحطب والتراب ، وبينما هو يهجم عليهم وهم يفرون من بين يديه إذ سقط مسلم (عليه السّلام) في تلك الحفيرة ، فهجموا عليه وضربوه بالسيف على شفته العليا ، وأخذوا السيف منه وكتّفوه ، وأخذوه إلى عبيد الله بن زياد. فقال مسلم : إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثمّ بكى ، فقيل له : إنّ مَنْ يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك. فقال مسلم : «إنّي

٦٩

والله ما لنفسي أبكي ، ولا لها من القتل أرثي وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ ؛ أبكي لحسين وآل حسين».

٢٠ ـ رسالة شفوية من مسلم إلى الحسين (عليه السّلام) :

ثمّ إنّ مسلم أقبل على محمّد بن الأشعث وقال له : «هل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلغ حسيناً ؛ فإنّي لا أراه إلاّ وقد خرج إليكم اليوم مقبلاً ، أو هو خارج غداً هو وأهل بيته ، وإنّ ما ترى من جزعي لذلك ، فيقول : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو في أيدي القوم أسير ، لا يرى أن تمشي حتّى تُقتل ، وهو يقول : ارجع بأهل بيتك ، ولا يغرّك أهل الكوفة ؛ فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل. إنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني ، وليس لمكذوب رأي (١)؟

فقال الأشعث : لأفعلن ، ولأعلمن ابن زياد. ثمّ بعث الأشعث أياس بن العثل الطائي بهذه الرسالة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٣.

٧٠

الشفوية إلى الحسين في منطقة الزُّبالة.

٢١ ـ محاورة بين مسلم وابن زياد

دخول مسلم على عبيد الله بن زياد.

ثمّ إنّ مسلم اُدخل على عبيد الله بن زياد فلم يسلّم عليه ، فقال الحرس : سلّم على الأمير. فقال مسلم : اسكت ويحك! والله ما هو لي بأمير. فقال عبيد الله : لا عليك ، سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال مسلم : إن قتلتني ، فلقد قتل مَنْ هو شر منك مَنْ هو خير منّي.

عبيد الله : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام.

مسلم : أمّا إنّك أحقّ مَنْ أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك.

عبيد الله : يا عاق! يا شاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة؟!

مسلم : كذبت ، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية

٧١

وابنه يزيد ؛ وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك زياد بن عبيد ابن بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريته.

عبيد الله : منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله.

مسلم : ومَنْ أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله؟

عبيد الله : أهلهُ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

عبيد الله : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً؟

مسلم : والله ما هو الظنّ ، ولكنّه اليقين.

عبيد الله : إيه ابن عقيل! أتيت الناس وهم جمع وأمرهم ملتئم فشتت أمرهم بينهم ، وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض.

مسلم : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ، ودفعتم المعروف ، وتأمّرتم على الناس بغير رضاً منهم ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر

٧٢

فيهم بالمعروف ، وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهلاً لذلك.

عبيد الله : وما أنت وذلك يا فاسق؟! لِم لم تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟!

مسلم : أنا أشرب الخمر! أما والله إنّ الله ليعلم أنّك تعلم غير صادق ، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَنْ يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النفس التي حرّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرّم الله على الغضب ، والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً (١).

عبيد الله : فأخذ يشتمه ويشتم علياً ، والحسن والحسين ، وعقيلاً.

مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله.

عبيد الله : أين بكر بن حمران فليصعد به إلى أعلى القصر ويضرب عنقه ، ويرمي بجثمانه من أعلى القصر (٢).

مسلم : يُصعد به إلى أعلى القصر وهو يكبّر

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٧٤ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٣.

(٢) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٦ ـ ٢٨٣ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٥٧ ـ ٥٩.

٧٣

ويستغفر الله ويسبّحه ، ويصلّي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويقول : اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا. ثم صلّى ركعتين وضُرب عنقه ، ورمي بجسده من أعلى القصر.

وكان خروج مسلم بن عقيل يوم الإثنين ، وقُتل (عليه السّلام) يوم الثلاثاء لثماني ليال مضين من ذي الحجّة من يوم عرفة سنة ٦٠ هجرية ، وهو اليوم الذي خرج فيه الحسين من مكّة قاصداً العراق.

ثمّ أخرج هاني إلى سوق الجزارين وهو يقول : «وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم ، إلى الله المعاد. اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك». ثمّ ضرب عنقه تركي مولى لعبيد الله بن زياد. وربط رجليهما بحبل ، وسحبوهما في السوق. فرثاهما الشاعر بقوله :

إذا كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري

إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

٢٢ ـ كتاب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية(١)

ولمّا قتل هاني بن عروة ومسلم بن عقيل ، حزّ

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ، ومقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٥٧ ـ ٥٩.

٧٤

رأسيهما وبعثهما إلى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حيّة الوداعي ، والزبير بن الأروح التميمي ، وزوّدهما بكتاب ، وهذا نصّه (٢) :

«أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه ، وكفاه مؤونة عدوّه ، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما العيون ، ودسست إليهما الرجال ، وكدتهما حتّى استخرجتهما وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما فضربت أعناقهما ، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هاني بن أبي حيّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً ، وفهماً وورعاً ، والسّلام» (١).

٢٣ ـ كتاب يزيد إلى عبيد الله (٢)

ولمّا وصل الكتاب إلى يزيد بن معاوية وقرأه ، كتب إليه جواباً.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٧١.

٧٥

«أمّا بعد ، فإنّك لم تعد إن كنت كما أحبّ ، عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت ، وصدقت ظنّي بك ، ورأيي فيك. وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيراً. وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح ، واحترس على الظنّ ، وخذ على التهمة ، غير أن لا تقتل إلاّ مَنْ قاتلك ، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك ورحمة الله» (١).

٢٤ ـ خطبة الإمام الحسين (عليه السّلام) في مكة

اُخبر الإمام الحسين (عليه السّلام) بأنّ يزيد بن معاوية قد زوّد عمرو بن سعيد بن العاص بخيل ورجال ، وأمره أن يقبض على الحسين ، ولو أبى لناجزه. ودس أيضاً ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة مع الحاج أن يغتالوا الحسين على أيّ حال اتفق ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. فخاف (عليه السّلام) أن يُغتال في الحرم فتهتك حرمة المسجد ، وحرمة الشهر الحرام ، فقال :

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٧١.

٧٦

«والله لئن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أن اُقتل داخلاً فيها بشبر. وأيم الله ، لو كنت في ثقب هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم ، ووالله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت» (١).

فعجّل (عليه السّلام) بالخروج من مكّة لهذا السبب قاصداً العراق ، وخصوصاً بعد أن وصلته كتبهم ، فعندما عزم تهيّأ للخروج ، ثمّ قام فخطب قائلاً : «الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني (٢) إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف. وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات (٣) بين النواويس وكربلاء ، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربةً سغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله لحمته

__________________

(١) تاريخ الطبري ص ٢٧٦ ج ٤.

(٢) الوله : الحنين.

(٣) عسلان الفلاة : الذئاب والعسلان الرماح.

٧٧

بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده. ألا ومَنْ كان فينا باذلاً مهجته ، موطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ؛ فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى» (١).

وكان (عليه السّلام) قد أحرم للحج ، وأراد الإحلال من إحرامه ، فجعلها عمرة مفردة لأنّه لم يتمكن من إكمال حجّه ، مخافة أن يُقبض عليه ، فطاف بالبيت وصلّى ، وسعى بين الصفا والمروة ، وقصّر من شعره ، وأحلّ إحرامه.

٢٥ ـ الحسين (عليه السّلام) مع رجالات مكة

عندما علم الناس بعزم الحسين (عليه السّلام) على الخروج من مكّة قاصداً العراق ، جاءه نفر من إخوته وأبناء عمومته وأقربائه ، ومن الصحابة وأبنائهم يشيرون عليه بعدم الذهاب إلى العراق ، ويرجونه البقاء بالحجاز. لأنّه سيدهم وزعيمهم ، كعمر بن عبد الرحمان المخزومي ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر الطيار ، وعبد الله

__________________

(١) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٦٣.

٧٨

بن عمر ، ومحمّد بن الحنفية وغيرهم (١).

وكان (عليه السّلام) يجيب كلاً من هؤلاء بجواب ، مثل : «استخير الله وانظر ما يكون» (٢). وقال لآخر : «إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها ، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش» (٣). أو مثل قوله لآخر : «أتاني رسول الله بعد مفارقتك ، فقال : يا حسين ، اخرج ؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً» (٤). قيل له : فما حملك هذه النسوة معك؟ فقال (عليه السّلام) : «إنّ الله شاء أن يراهن سبايا» (٥). وقال (عليه السّلام) لبعضهم : «وأيم الله ، لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقتلوني. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت. والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة».(٦)

ثم جاءه عبد الله بن عمر وأشار عليه بصلح أهل الضلال ، وحذّره من القتل والقتال ، فقال له

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٨٨.

(٢ و ٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٤ و ٥) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٦) الفرام : خرقة الحيض.

٧٩

الحسين (عليه السّلام) : «هيهات يابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني وإن أصابوني ، وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع وأنا كاره أو يقتلوني. أما تعلم يا عبد الله أنّ من هوان الدنيا على الله تعالى أنّه اُتي برأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟! أما تعلم يا أبا عبد الرحمان أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلّهم كأنّهم لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجّل الله عليهم ، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر؟! اتق الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدعن نصرتي» (١).

ثمّ إنّه (عليه السّلام) أمر إخوته وأولاده وبني أعمامه وأصحابه أن يسيروا بالظعائن والحريم ، وذلك في يوم الثلاثاء أو الأربعاء ، يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ٦٠ هـ ، فاعترضته رسل عمرو بن سعيد أمير الحجاز من قبل يزيد ليردّوه ويمنعونه من المسير إلى العراق ، فتدافع الفريقان وتضاربا بالسياط ، وامتنع الحسين وأصحابه فنادوه : يا حسين ، ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة؟ فتلا الحسين (عليه السّلام) قول الله

__________________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ ص ٢١٢ ، القسم الأول ، كتاب الفتوح ج ٥ ص ٣٨ ، ٤٢ ، حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ص ٣٢٠.

٨٠