الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

عند مجلس بني أسد ، فتحادثا حتّى اختلفت عنقا فرسيهما ، فقال حبيب : لكأنّي بشيخ أصلع ، ضخم البطن ، يبيع البطيخ عند دار الرزق ، قد صلب في حبّ أهل بيت نبيّه فتبقر بطنه على الخشبة.

فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلاً أحمر ، له ضفيرتان ، يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه فيُقتل ويُجال برأسه في الكوفة. ثمّ افترقا.

فقال أهل المجلس : ما رأينا أكذب من هذين ، فلم يتفرّق أهل المجلس حتّى أقبل رشيد الهجري فطلبهما. فقالوا : افترقا ، وسمعناهما يقولان : كذا وكذا.

فقال رشيد : رحم الله ميثماً ، نسي : ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم. ثمّ أدبر.

فقال القوم : هذا والله أكذبهم. قال : فما ذهبت الأيام والليالي حتّى رأينا ميثماً مصلوباً على باب عمرو بن حريث. وجيء برأس حبيب وقد قُتل مع الحسين (عليه السّلام) ، ورأينا كلّ ما قالوا (١).

وتظهر منزلته وعلو شأنه من هذا الكلام ولهذا

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في إبصار العين في أنصار الحسين ـ محمد السماوي ص ٦٥ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٥.

٢٢١

اختاره الحسين (عليه السّلام) قائداً لمسيرة جيشه. وله خطب ومواعظ ومواقف في واقعة كربلاء. وهو أيضاً من شجعان العرب وفرسانهم ، قتل على كبر سنه اثنين وستين رجلاً كما يقول المقرّم (١).

ولمّا سمع الحسين (عليه السّلام) بمقتله هدّه ذلك وقال : «عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي». واسترجع كثيراً (٢).

* الحرّ بن يزيد الرياحي :

الحرّ بن يزيد الرياحي التميمي أحد قوّاد الجيش الاُموي ، أدركته الهداية فترك قيادة الجيش وجاء إلى الحسين (عليه السّلام) منكسّاً رأسه ؛ حياءً من آل الرسول (ص) ، لأنّه هو الذي جعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ ، قائلاً :

اللّهمّ إليك اُنيب فتب عليّ ؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. يا أبا عبد الله ، إنّي تائب ، فهل لي من توبة؟

فقال الحسين : «نعم ، يتوب الله عليك».

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٠١.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٦.

٢٢٢

ثمّ طلب الإذن بالقتال ، فهجم على القوم ومعه زهير بن القين فقاتلا قتالاً شديداً ، فكان إذا شدّ أحدهما فاستلحم شدّ الآخر حتّى يخلّصه ، ففعلا ذلك ساعة فشدّت الرجال على الحرّ فقتلته (١).

فجاء إليه الحسين (عليه السّلام) ووقف عليه قائلاً :

«أنت كما سمّتك اُمّك ، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة».

كلمة موجزة أبّن (عليه السّلام) بها الحرّ ، فكانت المصداق الواقعي للحرية التي تحرّر بها الحرّ من القيود التي تكبّل إرادة الإنسان الخيّرة. قيود المادة بمفهومها وسلطانها المهيمن على النفوس الضعيفة التي سرعان ما تخضع وتركع أمام جبروتها ومغرياتها. وما أكثر هذه النفوس في كلّ عصر وزمان ، إلاّ أنّ هناك بعض النفوس استطاعت أن تُتحرّر من هذه القيود ، وتنطلق من رواسبها وآثارها فلم تؤثّر فيها مغريات الحياة ولا غرور المنصب ، ولا طغيان الجاه والزعامة ولا حبّ المال. من أمثال : الحرّ بن يزيد الرياحي ؛ فإنّه ترك المنصب والوظيفة والزعامة ؛ لأنّها تقيّد نفسه الحرّة التي أبت أن

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٥.

٢٢٣

تكون أسيرة وخاضعة ؛ فلهذا انطلق مع ركب الشهداء الأحرار واستشهد في صبيحة عاشوراء. فوقف أبو الشهداء (عليه السّلام) عليه قائلاً : «أنت كما سمّتك اُمّك ، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة» (١).

* زهير بن القين :

زهير بن القين البجلي له مواقف مشهورة ، وشهد بعض المغازي ، وكان عثماني العقيدة ، فالتقى بالحسين (عليه السّلام) في طريق عودته من الحجّ فصار علوياً ، وقاتل بين يدي الحسين (عليه السّلام) قتال الأبطال حتّى قُتل.

فوقف الحسين على جثمانه قائلاً : «لا يُبعدنك الله يا زهير ، ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير» (٢).

* عمرو بن قرظة :

وجاء عمرو بن قرظة الأنصاري ووقف أمام الحسين (عليه السّلام) يتلقى سهام الأعداء بصدره ونحره ، ليقي الحسين (عليه السّلام) بنفسه حتّى اُثخن بالجراح فسقط

__________________

(١) إبصار العين في أنصار الحسين ـ محمد السماوي ص ١٤٥.

(٢) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٠٦ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٦.

٢٢٤

قائلاً للحسين (عليه السّلام) : أوفيت يابن رسول الله؟

الحسين (عليه السّلام) : «نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله عنّي السلام ، واعلمه أنّي في الأثر» (١).

* واضح التركي :

واضح التركي مولى للحرث المذحجي ، فإنّه لمّا صرع جاءه الحسين واعتنقه.

واضح فتح عينيه بوجه الحسين (عليه السّلام) قائلاً : مَنْ مثلي وابن رسول الله واضعاً خدّه على خدّي (٢)؟!

* جون مولى أبي ذر :

جون مولى أبي ذرّ الغفاري ، عبد أسود خرج إلى الأعداء بعد أن أذن له الحسين (عليه السّلام) بالقتال ، وهجم على القوم فقَتل وقُتل ، فمشى إليه الحسين (عليه السّلام) ووقف على مصرعه قائلاً : «اللّهمّ بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع محمّد ، وعرّف بينه وبين آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)». فكان لا يمرّ عليه أحد في المعركة إلاّ ويشمّ منه رائحة طيّبة أزكى من المسك (٣).

__________________

(١ و ٢) المصدر نفسه ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٣) انظر تفصيل ذلك في الوثيقة (١٢٠) من هذا الكتاب.

٢٢٥

الحسين (عليه السّلام) وقتلى أهل بيته (عليهم السلام) :

* علي الأكبر :

هو نجل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) ، واُمّه ليلى بنت ميمونة بنت أبي سفيان. فإنّه عندما خرج للقتال ناداه رجل من الأعداء : يا علي ، إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين (يزيد) ونريد أن نرعى الرحم ، فإن شئت آمنّاك.

علي الأكبر يردّ عليه قائلاً :

إنّ قرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحقّ أن تُرعى. وكان (عليه السّلام) ، أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله). ولمّا خرج للمبارزة لم يتمالك الحسين (عليه السّلام) دون أن أرخى عينيه بالدموع ، وقال مخاطباً عمر بن سعد : «ما لك! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وسلّط عليك مَنْ يذبحك على فراشك» (١).

ثمّ رفع شيبته المباركة نحو السماء قائلاً :

__________________

(١) مقتل الحسين ـ الخوارزمي ج ٢ ص ٣٠.

٢٢٦

«اللّهمّ اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمّد ؛ خلقاً وخلقاً ومنطقاً ، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ فامنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا» ، ثمّ تلا قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

وجاء يطلب الماء من أبيه بعد أن اشتدّ به العطش ، فقال له الحسين (ع) : «يا بُني ، ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها أبداً».

ثمّ هجم على القوم في عدّة صولات قتل فيها منهم تمام المئتين (٢) ، ولمّا أكثر فيهم القتل ، أحاطوا به من كلّ جانب حتّى طعنه مرّة بن منقذ العبدي بالرمح في ظهره ، وضربه آخر بالسيف على هامته ، فنادى رافعاً صوته :

__________________

(١) سورة آل عمران ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٢٢.

٢٢٧

«عليك منّي السلام يا أبا عبد الله ، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها ، ويقول : إنّ لك كأساً مذخورة» (١).

وقد احتوشه الناس من كلّ جانب فقطّعوه بأسيافهم ، فأتاه الحسين (عليه السّلام) وانكبّ عليه قائلاً :

«قتل الله قوماً قتلوك يا بُني! ما أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا» (٢).

* القاسم بن الحسن :

القاسم هو ابن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) ، واُمّه رملة ، وهو غلام لم يبلغ الحلم ، وقد خرج إلى الأعداء ووجهه كأنّه شقّة قمر ، وفي يده السيف وعليه قميص وأزار ونعلان. فأذن له الحسين (عليه السّلام) بالقتال بعد إلحاح وإصرار منه ، فجعل (عليه السّلام) يُقاتل القوم ، وانقطع شسع نعله اليسرى ، فأنف أن يُقاتل في الميدان على هذا

__________________

(١) مقتل الحسين ـ الخوارزمي ج ٢ ص ٢١.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٤.

٢٢٨

الحال ، فوقف يشدّ شسع نعله وإذا بعمرو بن نفيل الأزدي يضربه بالسيف على رأسه ، فصرخ منادياً : يا عماه! فجلى الحسين (عليه السّلام) كما يجلي الصقر ، ثمّ شدّ شدّة ليث غضب ؛ فضرب عمراً بالسيف فاتقاها بالساعد فأطنّها من المرفق ، فصاح ثمّ تنحّى عنه. وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوه من الحسين (عليه السّلام) فوطأته حتّى مات. وانجلت الغبرة وإذا بالحسين (عليه السّلام) واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه ، فقال (عليه السّلام) : «بعداً لقوم قتلوك! ومَن خصمهم يوم القيامة جدّك! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك. يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره» (١). ثمّ قال (عليه السّلام) :

«اللّهمّ أحصهم عدداً ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً. اللّهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعل ذلك لنا في الآخرة ، وانتقم لنا من القوم الظالمين». ثمّ التفت إلى أهل بيته وبني عمومته قائلاً :

«صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم» (٢).

__________________

(١ و ٢) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٢٢ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٤١.

٢٢٩

* العباس بن علي :

العباس ابن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، واُمّه فاطمة بنت حزام الكلابية ، وتُكنّى باُمّ البنين. ولد (عليه السّلام) في سنة ست وعشرين هجرية ، وقُتل في معركة كربلاء سنة ٦١ هـ ، ويُكنّى بأبي الفضل ، ويلقّب بقمر بني هاشم ، ولقّب أيضاً بعد مقتله بساقي العطاشى. وكان شجاعاً ، فارساً ، وسيماً ، جسيماً ، يركب الفرس المطّهم ورجلاه تخطّان في الأرض. وقال عنه الإمام الصادق (عليه السّلام) : «كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله (عليه السّلام) وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً» (١). وحمل لواء أخيه الحسين (عليه السّلام) في المعركة. ولمّا قُتل جميع الذين كانوا مع الحسين (عليه السّلام) في المعركة من فرسان أهل بيته وأنصاره ، ولم يبق له ولي ولا نصير ، وانقطع عنه المدد ، ونال الظمأ من النساء والأطفال بعد أن منعوهم من الماء ثلاثة أيام. ولمّا سمع العباس (عليه السّلام) عويل النساء وصراخ الأطفال من شدّة العطش ، لم يطق صبراً ، ولم تسمح له نفسه بما يرى ، فلم يتمالك إلاّ أن جاء إلى أخيه الحسين (عليه السّلام)

__________________

(١) إبصار العين في أنصار الحسين ـ محمد السماوي ص ٣٠.

٢٣٠

طالباً منه الإذن بقتال الأعداء ، فقال له (عليه السّلام) : «يا أخي ، أنت صاحب لوائي». فأعاد الطلب ثانياً وثالثاً ، قائلاً :

«قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، واُريد أن آخذ بثأري منهم». فأذن له الحسين. فخرج إلى القوم واعظاً ومحذّراً ، فلم تنفعهم موعظة ولا تحذير ، فنادى بصوت عال : «يا عمر بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله ، قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطشى فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم».

شمر يردّ عليه قائلاً :

يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد (١).

ولمّا سمع مقالة الشمر لم يتمالك ، فهجم على الفرات ، فأحاط به أربعة آلاف فارس وراجل ، ورموه بالنبال فلم يَرُعْهُ جمعهم وعددهم فكشفهم عن الماء ، ونزل إلى الفرات بعد أن اشتدّ به العطش ،

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٣٤ و ٣٣٦.

٢٣١

فاغترف منه بيده ليشرب فتذكّر عطش الحسين (عليه السّلام) وأطفاله وعياله وصراخهم من شدّة الظمأ ، فرمى الماء من يده ؛ وفاءً ومواساةً لآل البيت (عليهم السّلام) ، وقال :

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربينَ باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فِعالُ ديني

وهكذا يجب أن تكون المواساة الحقيقية في الأخوّة الصادقة ، حيث إنّ العباس (عليه السّلام) أبى أن يرتوي هو وحده والحسين (عليه السّلام) وأهل بيته يتلظّون عطشاً. فهذا هو العطف الأخوي الصادق ، والوفاء النبيل في أشدّ الظروف وأقساها.

ولمّا رمى الماء من يده ملأ القربة وركب جواده ، وكرّ راجعاً نحو مخيّم آل البيت (عليهم السّلام) ؛ ليروي عطشهم ، فتكاثر عليه الأعداء من كلّ حدب وصوب ، وسدّوا عليه الطريق حتّى لا يوصل الماء إلى الحسين وآله (عليهم السّلام) ، فكشفهم عن الطريق قائلاً :

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقا

حتى أُوارى في المصاليتِ لقى (٢)

وبينما هو يُقاتل كمن له حكيم بن الطفيل من

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٣٤ و ٣٣٦.

(٢) انظر تفصيل ذلك في الوثيقة رقم (١٢٢) من هذا الكتاب.

٢٣٢

وراء نخلة وضربه على يمينه فبراها ، فقال :

واللهِ إن قعطتمُ يميني

إنّي اُحامي أبداًً عن ديني (١)

فأخذ السيف بشماله وهمّه الوحيد إيصال الماء إلى أطفال الحسين (عليه السّلام) ، وإذا بزيد بن ورقاء الجهني وقد ضربه من وراء نخلة على شماله فقطعها ، وتكاثروا عليه ، وأتته السهام من كلّ جانب كأنّها المطر ، فأصاب القربة سهم وأريق ماؤها ، وضربه رجل بالعمود على رأسه ، فهوى (عليه السّلام) إلى الأرض منادياً : عليك منّي السلام أبا عبد الله. فانقضّ عليه الحسين (عليه السّلام) كالصقر ، فرآه مقطوع اليدين ، مرضوخ الجبين ، مشكوك بسهم في العين ، مطروحاً على الصعيد قد غشيته الدماء ، وجلّلته السهام ، فرثاه قائلاً :

«الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدوي».

ولمّا سمعن النسوة بمقتله أصابهن الهلع والخوف ، وفقدن الأمل والاطمئنان. ورجع الحسين (عليه السّلام) إلى مخيّمه حزيناً منكسراً وقد تدافعت الأعداء على مخيّمه ، فنادى بأعلى صوته :

«أما من مغيث يغيثنا! أما من مجير يجيرنا! أما

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في الوثيقة رقم (١٢٢) من هذا الكتاب.

٢٣٣

من طالب حقّ ينصرنا! أما من خائف من النار فيذبّ عنّا!» (١).

فصاحت اُخته زينب : «وا أخاه! وا عباساه! وا ضيعتنا بعدك!». وهذه الصيحة تكشف مدى تأثّر حرم أهل البيت بمقتله (عليه السّلام) ، واضطرابهنّ وخوفهنّ ووجلهنّ بعد فقده ومقتله لأنّه كان عماد أخبيتهنّ ، ومسكن روعهنّ ، ولواؤه كان يرفرف على رؤوسهنّ ، فكنّ ينَمنَ قريرات مطمئنات. بعكس الأعداء فقد كانت عيونهم ساهرة ؛ خوفاً من سطوته وبطشه ، وبعد مقتله انعكس الأمر وصارت بنات الرسالة قلقات على مصيرهنّ وأمرهنّ كما قال الشاعر :

اليوم نامت أعينٌ بكَ لم تنمْ

وتسهّدت اُخرى فعزّ منامها

١١٥ ـ الحسين (عليه السّلام) ينادي قتلاه :

ولمّا قُتل جميع فرسانه ورجاله ، وبقي وحيداً لا ناصر له ولا معين ، أخذ يجول بنظره يميناً وشمالاً ؛ علّه يجد أنصاراً وأعواناً ، فلم يرَ إلاّ أجساماً مجزّرة ومضرّجة كالأضاحي ، قد صافحها

__________________

(١) المنتخب ـ الطريحي ص ٣١٣.

٢٣٤

التراب ، وأحرقها هجيرُ الشمس ، فنادى أهل بيته وأصحابه وأنصاره بهذه النداء :

«يا مسلم بن عقيل ، ويا هاني بن عروة ، ويا حبيب بن مظاهر ، ويا زهير بن القين ، ويا يزيد بن مهاصر ، ويا فلان ويا فلان. يا أبطال الصفا ، ويا فرسان الهيجا ، ما لي اُناديكم فلا تسمعون؟ وأدعوكم فلا تجيبون؟ أنتم نيام أرجوكم تنتبهون ، أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟ هذه نساء الرسول (صلّى الله عليه وآله) لفقدكم قد علاهنّ النحول ، فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام ، وادفعوا عن حرم الرسول الطغام اللئام ، ولكن صرعكم والله ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، وإلاّ لما كنتم عن نصرتي تقصّرون ، ولا عن دعوتي تحتجبون ؛ فها نحن عليكم مفجوعون ، وبكم لاحقون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون» (١).

ثمّ صاح بأعلى صوته :

«هل من ذاب عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟»

__________________

(١) مقتل أبي مخنف : ٨٥.

٢٣٥

فلمّا سمع زين العابدين السجّاد (عليه السّلام) استغاثة أبيه نهض يتوكّأ على عصا ، ويجر سيفاً لأنّه مريض لا يستطيع الحركة ، فقال الحسين (عليه السّلام) لأخته اُمّ كلثوم : «احبسيه ؛ لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمّد». فأرجعته إلى فراشه (١).

١١٦ ـ الحسين (عليه السّلام) وطفله :

كان الحسين (عليه السّلام) يوم العاشر من محرّم يقدّم رجاله قرباناً بعد قربان ، وضحية تلو ضحية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، وتحطيم كلمة الانحراف والضلال ، وهو يقول : «اللّهمّ إن كان هذا يرضيك فخذ حتّى ترضى».

ولمّا لم يبقَ في خيامه سوى أطفاله ونسائه ؛ فإنّه عندئذ دعا بولده الرضيع عبد الله ، واُمّه الرباب بعد أن جفّ اللبن في ثدييها من شدّة الظمأ ، فأخذه (عليه السّلام) وجاء به إلى القوم طالباً منهم أن يسقوه جرعة من الماء ، ومخاطباً إيّاهم بقوله :

«إن كان هناك ذنب للكبار فما ذنب الصغار؟

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٤٠.

٢٣٦

ألم تروه كيف يتلظى عطشاً؟».

فاختلف العسكر فيما بينهم ، بعضهم يقول : اسقوه فإنّه لا ذنب له ، والآخر يقول : لا تسقوه أبداً ، ولا تبقوا من أهل هذا البيت باقية.

عمر بن سعد : يلتفت إلى حرملة بن كاهل الأسدي قائلاً له :

اقطع نزاع القوم يا حرملة.

حرملة : رمى الطفل بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد.

الحسين (عليه السّلام) : تلقّى دم طفله المذبوح بكفه ورمى به إلى السماء قائلاً :

«هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى. اللّهمّ لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح. إلهي إن كنت حبست عنّا النصر ، فاجعله لما هو خير منه ، وانتقم لنا من الظالمين ، واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل. اللّهمّ أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فإنّهم نذروا أن لا يتركوا أحداً من ذريّة نبيّك محمّد» (١). وسمع (عليه السّلام) قائلاً يقول : «دعه يا

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٤٤ ، مقتل أبي مخنف ص ٨٣ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٤٢.

٢٣٧

حسين ؛ فإنّ له مرضعاً في الجنّة». ثمّ نزل (عليه السّلام) وحفر له بجفن سيفه وصلّى عليه ودفنه.

١١٧ ـ الحسين (عليه السّلام) يحمل على الأعداء :

ولمّا لم يجد الحسين (عليه السّلام) بداً إلاّ الدفاع عن دين جدّه محمّد ، والمحاماة عن حرمه وعياله بعد أن فقد الناصر والمعين ، فإنّه (عليه السّلام) برز إلى الأعداء مصلتاً سيفه ، وداعياً الناس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ مَنْ برز إليه حتّى قتل جمعاً كثيراً (١).

ثمّ حمل على الميمنة والميسرة ، قال عبد الله بن عمّار : إنّه حمل على مَنْ عن يمينه حتّى انذعروا ، وعلى مَنْ عن شماله حتّى انذعروا ، وعليه قميص له من خز ، ومعتمّ بعمامة ، فوالله ما رأيت مكثوراً قط ، قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ، ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله! إن كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب (٢). فأكثر (عليه السّلام) فيهم القتل حتّى خشي عمر بن سعد أن يفنى

__________________

(١) مقتل الحسين ـ الخوارزمي ج ٢ ص ٣٣.

(٢) تاريخ الطبري ج ٥ ص ٤٥٢.

٢٣٨

جيشه إن بقي الحسين على حاله ، فصاح بجيشه :

«هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، احملوا عليه من كلّ جانب. فأتته أربعة آلاف»(١).

١١٨ ـ الحسين (عليه السّلام) يصرخ بالجيش مندداً بنذالتهم :

وحال الرجال بينه وبين حرمه وأرادوا التعرّض لها ، فصرخ فيهم الحسين (عليه السّلام) مندّداً بقبح أفعالهم هذه قائلاً لهم :

«يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون. امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهّالكم».

شمر : ما تقول يابن فاطمة؟

الحسين (عليه السّلام) : «أنا الذي اُقاتلكم ، والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيّاً».

شمر : ذلك لك يابن فاطمة (٢).

فعندئذ قصده القوم بنفسه واشتدّ القتال

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٢ ص ٢٢٣.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٤٤ ، مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٤٦.

٢٣٩

بينه وبينهم وقد نال العطش منه (عليه السّلام) ، فحمل على الفرات وكشفهم عنه وأقحم الفرس في الماء وأراد أن يشرب منه.

فناداه رجل من القوم : أتلتذّ بالماء يا حسين وقد هُتكت حرمُك؟ فرمى الماء من يده وقصد خيامه وحرمه.

١١٩ ـ الوداع الأخير :

ورجع إلى خيامه وحرمه ليرعاها ويحميها ما دام على قيد الحياة ، لأنّه يعلم أنّه بعد سويعات ستبقى من دون حمي ولا نصير ، فنادى نداء وداع وفراق لا أمل فيه بلقاء وعودة ، وناداهنّ بقلب محزون مفجوع : «يا اُمّ كلثوم ، ويا زينب ، ويا سكينة ، ، ويا رُقية ، ويا عاتكة ، ويا صفية ، عليكنّ منّي السلام ؛ فهذا آخر الاجتماع ، وقد قرب منكنّ الافتجاع».

فأحطن به بنات الرسالة من كلّ جانب ، هذهِ تشمّه ، واُخرى تأخذ بردائه ، وثالثة تستنجد به ، ورابعة تقول : يا أخي ، ردّنا إلى حرم جدّنا. فقال لها الحسين (عليه السّلام) :

٢٤٠