الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

بولدها ، وهو غلام له من العمر أحد عشر سنة ، وقدّمته بين يدي الحسين (عليه السّلام) ، فلم يأذن له قائلاً : «هذا غلام قُتل أبوه في المعركة ، ولعل اُمّه تكره ذلك».

الغلام : سيدي ، إنّ اُمّي هي أمرتني.

فأذن له الحسين (عليه السّلام) وهجم على القوم قائلاً :

أميري حسينٌ ونعم الأميرْ

سرورُ فؤادِ البشيرِ النذيرْ

عليٌ وفاطمةٌ والداهْ

فهل تعلمون لهُ من نظيرْ

لهُ طلعةٌ مثلُ شمسِ الضحى

لهُ غرةٌ مثلُ بدرٍ منيرْ (٢)

ولمّا قُتل أخذت اُمّه عموداً من الخيمة ، وهجمت على الأعداء قائلة :

إنّي عجوزٌ في النسا ضعيفهْ

خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ

أضربكم بضربةٍ عنيفهْ

دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ (١)

* الحجّاج بن مسروق الجعفي : فإنّه قاتل حتّى خُضّب بدمه من كثرة جراحاته ، وعاد إلى الحسين (عليه السّلام) قائلاً :

فدتك نفسي هادياً مهديا

اليوم ألقى جدّك النبيّا

__________________

(١ و ٢) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣١٥ ، مقتل الحسين ـ الأمين ص ١٤٥.

٢٠١

ثم ّ أباك ذا الندى عليّا

ذاك الذي نعرفه الوصيّا (١)

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «وأنا ألقاهما على أثرك».

* أبو الشعثاء :

وهو يزيد بن زياد الكندي ، وكان رامياً ، فجثا بين يدي الحسين (عليه السّلام) يرمي بسهامه ، والحسين (عليه السّلام) يقول : «اللّهمّ سدّد رميته ، واجعل الجنّة ثوابه». ولمّا نفذت هجم على الأعداء مرتجزاً :

أنا يزيدٌ وأبي مهاصرُ

أشجعُ من ليثٍ بغيل خادرُ

يا ربِّ إنّي للحسينِ ناصرُ

ولابنِ سعدٍ تاركٌ وهاجرُ (٢)

* جون مولى أبي ذر الغفاري :

كان مع الحسين (عليه السّلام) ، ولمّا رأى وحدته وقلّة ناصريه ، طلب الإذن من الحسين (عليه السّلام) ، وهجم قائلاً :

كيف ترى الفجارُ ضربَ الأسودِ

بالمشرفيِّ والقنا المسدّدِ

يذبُّ عن آل النبي أحمدِ (٣)

* عمرو بن خالد الأزدي : فإنّه برز إلى الأعداء بقوله :

إليكِ يا نفس إلى الرحمان

فأبشري بالروح والريحان

__________________

(١) إبصار العين في أنصار الحسين ـ محمد السماوي ص ١٠٩.

(٢) ابصار العين ص ١٢٧.

(٣) مقتل الحسين ص ١٤٢ للامين.

٢٠٢

اليوم تُجزين على الإحسان

قد كانَ منكِ غابر الأزمان

ما خُطّ في اللوح لدى الديّان

لا تجزعي فكلّ حيّ فان

والصبر أحظى لك بالإيمان

يا معشر الأزد بني قحطان (١)

* خالد بن عمرو الأزدي :

طلب الإذن بالقتال من الحسين (عليه السّلام) فأذن له(عليه السّلام) ، فخرج قائلاً :

صبراً على الموتِ بني قحطانِ

كيما تكونوا في رضا الرحمانِ

ذي المجدِ والعزّةِ والبرهانِ

وذي العُلا والطَّولِ والإحسانِ

يا أبتا قد صرت في الجنانِ

في قصرِ درٍّ حَسَن البنيانِ (٢)

* سعد بن حنظلة التميمي : فإنّه برز قائلاً :

صبراً على الأسيافِ والأسنّهْ

صبراً عليها لدخول الجنّهْ

وحورِ عينٍ ناعماتٍ هنَّ

لمَنْ يريدُ الفوزَ لا بالظنّهْ

يا نفسُ للراحةِ فاجهدنّهْ

وفي طلابِ الخيرِ فارغبنّهْ(٣)

* عمير بن عبد الله المذحجي : هجم على القوم بقوله :

قد علمت سعدٌ وحيُّ مذحجِ

أنّي لدى الهيجاءِ ليثٌ محرجِ

أعلو بسيفي هامةَ المدجّجِ

واتركُ القرنَ لدى التعرّجِ

فريسةَ الضبعِ الأذلّ الأعرجِ

__________________

(١ و ٢ و ٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٤٢.

٢٠٣

* عبد الرحمن بن عبد الله اليزني : خرج مرتجزاً بقوله :

أنا ابنُ عبد الله من آلِ يزنْ

ديني على دينِ حسينٍ وحسنْ

أضربكم ضربَ فتىً من اليمنْ

أرجو بذاك الفوزَ عند المؤتمنْ

* يحيى بن سليم المازني :

خرج مرتجزاً بقوله :

لأضربنّ القومَ ضرباً فيصلا

ضرباً شديداً في العدا معجّلا

لا عاجزاًً فيهِ ولا مولولا

ولا أخافُ اليوم موتاًً مقبلا

لكنّني كالليث أحمي أشبلا (١)

* أنس بن حارث الكاهلي : برز إلى المعركة وهو يرتجز ويقول :

قد علمت مالكُ والذودانْ

والخندفيّون وقيسُ عيلانْ

بأنّ قومي آفةُ الأقرانْ

لدى الوغى وسادةُ الفرسانْ

مباشرُ الموتِ بطعنٍ آنْ

لسنا نرى العجزَ عن الطعانْ

آلُ علي شيعةُ الرحمانْ

آلُ زيادٍ شيعةُ الشيطانْ (٢)

* عمرو بن مطاع الجعفي :

أنا ابنُ جعفٍ وأبي مطاعْ

وفي يميني مرهفٌ قطّاعْ

وأسمر في رأسه لمّاعْ

يُرى له من ضوئه شعاعْ

اليوم قد طابَ لنا القراعْ

دون حسينِ الضرب والمصاعْ

يرجى بذاك الفوز والدفاعْ

من حرّ نارٍ حين لا انتفاعْ (٣)

__________________

(١ و ٢ و ٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢٠٤

* أنيس بن معقل الأصبحي :

فإنّه هجم على الأعداء مرتجزاً :

أنا أنيسٌ وأنا ابنُ معقلْ

وفي يميني نصلُ سيفٍ مصقلْ

أأعلو به الهامات وسطَ القسطلْ

عن الحسينِ الماجدِ المفضّلْ

ابنِ رسول الله خيرِ مُرسلْ (١)

* عمرو بن جنادة :

برز إلى الأعداء مرتجزاً بقوله :

أضقِ الخناقَ من ابن سعد واُمّه

من عامه بفوارس الأنصارِ

ومهاجرينَ مخضّبينَ رماحهم

تحتَ العجاجةِ من دمِ الكفارِ

خضبت على عهد النبي محمّد

فاليومَ تُخضبُ من دمِ الفجّارِ (٢)

* أبو عمر النهشلي :

فإنّه توجّه نحو الحسين (عليه السّلام) قائلاً :

أبشر هُديت الرشدَ تلقى أحمدا

في جنّةِ الفردوسِ تعلو صعدا (٣)

* مالك بن ذودان :

هجم على الأعداء راجزاً بقوله :

إليكمُ من مالكِ الضرغامِ

ضربَ فتىً يحمي عن الكرامِ

يرجو ثوابَ اللهِ ذي الإنعامِ (٤)

__________________

(١ و ٢ و ٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٤) الطبري ص ٤٤٦ ج ٥ ومقتل الحسين ص ١٥٠ للامين.

٢٠٥

أهل البيت (عليهم السّلام) والأراجيز

لمّا قُتل جميع أصحاب الحسين (عليه السّلام) ولم يبقَ منهم أحد ، أخذ أهل البيت (عليهم السّلام) يتسابقون إلى الجهاد ، ويبذلون الأنفس في سبيل شريعة جدّهم محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فهذا هو نجل الحسين (عليه السّلام) صاحب الثورة يتقدّم في طليعة بني هاشم ، وهو أوّل قتيل ، واسمه :

* علي الأكبر بن الحسين (عليهما السّلام)

هو علي الأكبر بن الحسين (عليهما السّلام) ، واُمّه ليلى ابنة أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، أوّل قتيل من أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فإنّه بعد أن أذن له أبوه الحسين (عليه السّلام) بالقتال ، هجم على الأعداء قائلاً :

أنا عليُّ بنُ الحسين بن علي

نحنُ وبيتِ اللهِ أولى بالنبي

تاللهِ لا يحكمُ فينا ابن الدّعي (١)

أضربُ بالسيفِ اُحامي عن أبي

ضربَ غلامٍ هاشمي علوي (٢)

* عبد الله بن مسلم بن عقيل

هو عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، واُمّه رقية بنت علي بن أبي طالب ، برز إلى الأعداء مرتجزاً بقوله :

__________________

(١) هو عبيد الله بن زياد ، كان أبوه مجهول الأب ؛ ولذا يُقال له : زياد بن أبيه.

(٢) تاريخ الطبري ج ٥ ص ٤٤٠ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٥٠.

٢٠٦

اليوم ألقى مسلماً وهو أبي

وفتيةً بادوا على دين النبي

ليسوا بقومٍ عُرفوا بالكذبِ

لكن خيارٌ وكرامُ النسبِ

من هاشمِ السادات أهل الحسبِ (١)

* جعفر بن عقيل

جعفر بن عقيل بن أبي طالب ، وهو غلام برز راجزاً :

أنا الغلام الأبطحي الطالبي

من معشرٍ من هاشمٍ وغالبِ

ونحن حقّاًً سادةُ الذوائبِ

هذا حسينٌ أطيبُ الأطائبِ

من عترةِ البرِّ التقي الغالبِ (٢)

* عبد الرحمن بن عقيل

ثمّ برز أخوه عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب قائلاً :

أبي عقيل فاعرفوا مكاني

من هاشمٍ وهاشمٌ إخواني

كهول صدقٍ سادةُ الأقران

هذا حسينٌ شامخُ البنيانِ

وسيّدُ الشيبِ مع الشبانِ (٣)

* محمّد بن عبد الله بن جعفر الطيّار

محمّد بن عبد الله بن جعفر الطيّار ، واُمّه زينب الكبرى بنت الإمام علي (عليه السّلام) ، برز إلى الأعداء مرتجزاً بقوله :

__________________

(١ و ٢ و ٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

٢٠٧

أشكو إلى اللهِ من العدوانِ

قتال قومٍ في الردى عميان

قد تركوا معالمَ القرآنِ

ومحكمَ التنزيلِ والتبيانِ

وأظهروا الكفرَ مع الطغيانِ (١)

* عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار

عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار ، واُمّه أيضاً زينب الكبرى بنت الإمام علي (عليه السّلام) ، فإنّه برز بعدما قُتل أخوه قائلاً :

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ

شهيدُ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ

كفى بهذا شرفاًً في المحشرْ (٢)

* القاسم بن الحسن بن علي

القاسم هو ابن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، غلام لم يبلغ الحلم ، برز راجلاً وراجزاً بقوله :

إن تنكروني فأنا ابنُ الحسنْ

سبطُ النبيِّ المصطفى والمؤتمنْ

هذا حسينٌ كالأسيرِ المرتهنْ

بين اُناسٍ لا سُقوا صوبَ المُزنْ

ثمّ شدّ عليهم ثانياً بقوله :

لا تجزعي نفسي فكلٌ فاني

اليوم تلقين ذوي الجنانِ (٣)

__________________

(١ و ٢) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٥٤.

(٣) المصدر نفسه.

٢٠٨

* أبو بكر بن علي بن أبي طالب

ثمّ تقدّم إخوة الحسين (عليه السّلام) من أبيه ، وعددهم ستة ، طالبين الإذن بالمبارزة ، فأذن (عليه السّلام) لهم ؛ فتقدّم أبو بكر ابن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) قائلاً :

شيخي عليٌّ ذو الفخارِ الأطولِ

من هاشمِ الصدقِ الكريمِ المفضلِ

هذا حسينُ ابن النبيِّ المُرسَلِ

عنه نحامي بالحسامِ المصقلِ

تفديهِ نفسي من أخٍ مبجّلِ (١)

* عمر بن علي بن أبي طالب فإنّه خرج بعد مقتل أخيه ، وهجم على الأعداء مرتجزاً :

أضربكم ولا أرى فيكم زجرْ

ذاك الشقي بالنبي قد كفر

يازجر يازجر تدانى من عمرْ

لعلّكَ اليومَ تبوءَ من سقر

شرّ مكانٍ في حريقٍ وسعرْ

لأنّك الجاحدُ يا شرّ البشرْ

فقتل زجر قاتل أخيه ، ثمّ شدّ على الأعداء قائلاً :

خلّو عداةَ اللهِ خلّو عن عمرْ

خلّو عن الليثِ الهصورِ المكفهرْ

يضربكم بسيفهِ ولا يفرْ

وليس فيها كالجبانِ المنجحر (٢)

* عبد الله بن علي بن أبي طالب

واُمّه اُمّ البنين ، تقدّم نحو المعركة راجزاً بقوله :

__________________

(١) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٥٦.

(٢) نفس مصدر

٢٠٩

أنا ابنُ ذي النجدةِ والأفضالِ

ذاك عليُّ الخيرِ ذو الفعالِ

سيفُ رسولِ اللهِ ذو النكالِ

في كلِّ يومٍ ظاهرُ الأهوالِ (١)

* جعفر بن علي بن أبي طالب

اُمّه اُمّ البنين ، مشى نحو المعركة راجزاً :

إنّي أنا جعفرُ ذو المعالي

ابنُ عليِّ الخيرِ ذو النوالِ

حسبي بعمّي شرفاً وخالي (٢)

* عثمان بن علي بن أبي طالب

اُمّه أيضاً اُمّ البنين ، هجم بعد مقتل أخويه قائلاً :

إنّي أنا عثمانُ ذو المفاخرِ

شيخي علي ذو الفعالِ الطاهرِ

هذا حسينٌ خيرةُ الأخايرِ

وسيّدُ الصغارِ والأكابرِ

بعد الرسولِ والوصيِّ الناصرِ (٣)

* العباس بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)

فإنّه (عليه السّلام) بعدما قدّم إخوته الثلاثة وقُتلوا ، خرج طالباً قليلاً من الماء لحرم رسول الله ، لأنّ الظمأ أخذ منهم مأخذاً عظيماً بعد أن منعوهم من شربه ، فإنّه (عليه السّلام) اتّجه نحو القوم قائلاً :

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقى

حتّى اُُوارى في المصاليتِ لَقى

نفسي لسبطِ المصطفى الطهرِ وقا

إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا

ولا أخافُ الشرَّ يوم الملتقى

__________________

(١ و ٢ و ٣) نفس المصدر السابق ص ١٥٧ وص ١٥٨.

٢١٠

ففرّقهم تفريقاً ، ولكن قطعوا يمينه ، فأخذ السيف بشماله وهو يرتجز بقوله :

والله إن قطعتموا يميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النبيِّ الطاهرِ الأمينِ

نبيِّ صدقٍ جاءنا بالدينِ

مصدّقاً بالواحدِ الأمينِ

ثمّ تكاثروا عليه وقطعوا شماله ، فقال (عليه السّلام) :

يا نفس لا تخشَي من الكفّارِ

وأبشري برحمةِ الجبّارِ

مع النبيِّ السيّدِ المختارِ

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ (١)

* الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)

نظر (عليه السّلام) إلى معسكره فلم يجد له ولياً ولا نصيراً ؛ إذ أنّ أصحابه ورجال أهل بيته صرعتهم يد المنون ، وكلّما أمعن النظر فلم يجد سوى أطفال وحريم يتصارخون من شدّة الظمأ ، قد أثكلهم هول المصاب ، وقد تكاثر عليه أعداؤه من كلّ صوب وحدب ، فبرز إليهم مرتجزاً بقوله :

الموتُ أولى من ركوبِ العارِ

والعارُ أولى من دخولِ النارِ

واللهِ ما هذا وهذا جاري

__________________

(١) مقتل الحسين ـ الأمين ص ١٥٩ ، مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٣٨ ، مقتل أبي مخنف ص ٥٨.

٢١١

ثمّ شدّ عليهم كالليث الغضبان قائلاً :

أنا الحسينُ بن علي

آليت أن لا أنثني

أحمي عيالاتِ أبي

أمضي على دينِ النبي (١)

هذه نخبة من الأراجيز التي تضمّ في طيّاتها كلّ معاني الخير والكمال ، وقد كشفت لنا عن نفسيّة ثوريّة خيّرة أبت أن تخضع لواقع يتنافى مع عقيدتها وإيمانها. تاركة في سبيل ذلك كلّ غالٍ وثمين ، ولم تبخل بأيّ عطاء في سبيلها والدفاع عنها ، ولم تؤثّر فيها الأطماع والأهواء ، ولم يغرّها سلطان ولا جاه ولا مال ، بل آثرت نعيم الآخرة على نعيم الدنيا الفاني.

فهي دائماً وأبداً تنشد رضا الله تعالى ، وتبغي طاعته ورضوانه ، مدافعة عن شرعة الحقّ والخير ، لأنّ أصحابها هم ذوو مبدأ ، ورائدو رسالة ، وتلاميذ مدرسة ، أشاد بنيانها أبو الشهداء الحسين (عليه السّلام) ، فهي مدرسة لها أسسها وتعاليمها ومنهجيتها في الفكر والسلوك.

وهي تماماً على نقيض المدرسة الاُمويّة بكلّ

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٤٥ ، مقتل الحسين ـ الأمين ص ١٦٢.

٢١٢

مفاهيمها وأبعادها ، والتي قد تخرّج منها الجيش الاُموي الذي حضر واقعة كربلاء ؛ فهو يحمل خصائص وروحية وطابع تلك المدرسة ، وهو خير مصداق لتجسيد أفكارها وتعاليمها ؛ فتلاميذها هم شذّاذ الآفاق ، ومحرّفو الكلم عن مواضعه ، ومطفئو السنن ، وأتباعها عبدة المادة ، وإيمانهم الجاه والسلطان.

فهذا رأس الجيش الاُموي في كربلاء عمر بن سعد ، وأحد أقطاب هذه المدرسة يُعطينا نموذجاً لمفاهيمها وأفكارها ، وذلك لمّا طلب منه عبيد الله بن زياد أن يخرج لحرب الحسين (عليه السّلام) فبقي ليلته مفكّراً قلقاً حائراً ، يخيّر نفسه بين نعيم الآخرة وبين ملك الدنيا ، حتّى سُمع يقول كما جاء في تاريخ ابن الأثير :

أأتركُ ملكَ الرّي والرّي منيتي

أم أرجعُ مأثوماًً بقتلِ حسينِ

وفي قتلهِ النارُ التي ليس دونها

حجابٌ وملكُ الرّي قرّة عيني (١)

فبهذه الوثيقة يتبيّن لنا عقلية قائد الجيش الاُموي ، ومدى إيمانه وتأثّره بالإسلام. فهو يقدم على قتل ابن بنت رسول الله في حين يعلم أنّ

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٣.

٢١٣

مصيره النار ، وكما صرّح هو بقوله : «وفي قتله النارُ التي ليس دونها» ويكون الثمن على ذلك ولاية ملك الرّي ؛ فإنّها قرّة عينه.

وكيف لا يقدم على مثل هذه الجريمة ما دام مفهومه ومقياسه في هذه الحياة المادة واللذة؟!

هذا نموذج واحد من أقطاب هذه المدرسة ، وهناك مئات من النماذج الأخرى التي لا يسعنا ذكرها بتفاصيلها وأبعادها ؛ خشية الإطالة والخروج عن الموضوع. ولكنّني أودّ أن أذكر نموذجاً آخر يُمثل مفهوم وعقلية هذه المدرسة أيضاً ليكون برهاناً ساطعاً لمَنْ يريد أن يعرف الحقّ وأهله ؛

فقد ذكر الطبري وابن الأثير أنّ سنان بن أنس النخعي قاتل الحسين (عليه السّلام) ، جاء إلى عمر بن سعد يطلب الجزاء المادي على قتله لابن بنت نبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) قائلاً :

أوقر ركابي فضةً وذهبا

إنّي قتلتُ السيدَ المحجّبا

قتلتُ خيرَ الناسِ اُمّاً وأبا

وخيرهم إذ ينسبونَ نسبا (١)

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٤٧ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٩٦.

٢١٤

وما أدري كيف نستطيع أن نحكم على مثل قائل هذين البيتين أنّه مسلم ويدين بالشريعة المقدّسة مع أنّه يعترف بأنّه قتل خير الناس اُمّاً وأباً؟! ولو قارنّا هذين البيتين مع الأراجيز التي قيلت في المعركة من قِبل الذين قُتلوا مع الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ؛ فمثلاً محمّد بن عبد الله بن جعفر الطيّار يقول :

أشكو إلى اللهِ من العدوانِ

قتالَ قومٍ في الردى عميانِ

قد تركوا معالمَ القرآنِ

ومحكمَ التنزيلِ والتبيانِ

وأظهروا الكفرَ مع الطغيانِ (١)

لرأينا بوضوح الفرق الشاسع بين قوى الإيمان الخيّرة ، وبين قوى الضلال والانحراف والردّة.

وبهذا العرض الوجيز يتبيّن لنا الفرق الكبير بين اتجاه المدرستين ؛ المدرسة الحسينيّة ، والمدرسة الاُمويّة.

«وكلّ إناء بالذي فيه ينضح».

١١٣ ـ صلاة في معركة :

الصلاة لا تترك بحال من الأحوال ؛ لأنّها الرابطة الروحية بين العبد وخالقه ، وهي من أهم الفرائض

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٤.

٢١٥

الإسلاميّة التي لا يمكن التواني أو التردّد فيها ، والتي عبّر عنها الحديث الشريف بـ : «عمود الدين ، إن قُبلت قُبل ما سواها ، وإن ردت ردّ ما سواها» و «إنّ المستخف بها مستخف بأحكام الله» و «لن ينال شفاعتنا أهل البيت مَنْ كان مستخفاً بصلاته» على حدّ تعبير الإمام الصادق (عليه السّلام).

كما إنّها صلة بين الإنسان وخالقه ، ومعراج المؤمن وقربانه ؛ ولهذا نرى الإمام الحسين (عليه السّلام) مكثراً لها في جميع أدوار حياته حتّى في أيام عاشوراء ، لأنّه (عليه السّلام) كان يحبّها كما قال ذلك عندما زحف إليه عمر بن سعد بجيشه الجرّار في عشية يوم التاسع من محرّم ، فطلب (عليه السّلام) منهم إمهاله هذه العشية قائلاً : «لعلنا نصلّي لربّنا الليلة ونستغفره ، فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار». ولمّا حان وقت صلاة الظهر من يوم العاشر من محرّم وهم في ساحة المعركة ، التفت إليه أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قائلاً :

«يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفداء ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.»

٢١٦

الحسين (عليه السّلام) يرفع رأسه إلى السماء قائلاً :

«ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين. نعم هذا أوّل وقتها. سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي».

الحصين بن تميم يستهزئ بصلاة الحسين (عليه السّلام) قائلاً : إنّها لا تُقبل.

حبيب بن مظاهر يردّ عليه بقوله :

زعمت لا تُقبل الصلاة من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتُقبل منك يا حمار (١)!

وهكذا نرى الحسين (عليه السّلام) يهتمّ بالصلاة حتّى في أصعب الظروف وأشدّها ، فيصلّي بأصحابه صلاة الظهر.

فالصلاة هي قربان روحي للمؤمن ، وجهاد الحسين (عليه السّلام) قربان مادي ، وقدّم (عليه السّلام) القرابين في ساحة القتال لله ، فهو مع الله روحاً وجسداً.

وتقدّم أمامه زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي ليحرسانه ويقيانه من السهام. فما أتمّ صلاته إلاّ وسعيد بن عبد الله قد اُثخن بالجراح

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٥ ص ٤٣٩.

٢١٧

فسقط إلى الأرض ، وهو يقول :

اللّهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ؛ فإنّي أردت بذلك ثوابك في نصرة ذرّيّة نبيّك (صلّى الله عليه وآله). ثمّ التفت إلى الحسين (عليه السّلام) قائلاً : أوفيت يابن رسول الله؟

الحسين (عليه السّلام) : «أنت أمامي في الجنّة».

الحسين يقول لآصحابه :

ثمّ يلتفت الحسين (عليه السّلام) إلى أصحابه قائلاً : «يا كرام ، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها ، واتّصلت أنهارها ، وأينعت ثمارها. وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم ، ويتباشرون بكم ، فحاموا عن دين الله ودين نبيّه ، وذبّوا عن حرم الرسول».

فأجابه الأصحاب بلسان واحد :

«نفوسنا لنفسك الفداء ، ودماؤنا لدمك الوقاء ، فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب» (١).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٠٥.

٢١٨

١١٤ ـ الحسين (عليه السّلام) يقف على قتلاه :

* مسلم بن عوسجة الأسدي

كان صحابياً ممّن رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما صرح ابن سعد في طبقاته ، وهو من أشراف قومه وشجعانهم. وكان متعبّداً وناسكاً ومن القرّاء ، ولمّا اُخبر الحسين (عليه السّلام) بمصرعه مشى إليه ومعه حبيب بن مظاهر فإذا به رمق.

الحسين (عليه السّلام) : «رحمك ربّك يا مسلم بن عوسجة». ثمّ قرأ قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (١).

حبيب بن مظاهر دنا من مسلم قائلاً : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة.

فأجابه مسلم بصوت ضعيف : بشّرك الله بخير.

حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك ، ولاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك ؛ حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.

مسلم : بل أنا اُوصيك بهذا رحمك الله (وأشار

__________________

(١) سورة الأحزاب ص ٢٣.

٢١٩

إلى الحسين) أن تموت دونه.

حبيب : أفعل وربّ الكعبة. ثمّ فاضت روحه الطاهرة ، وصاحت جارية له : يابن عوسجتاه! يا سيداه!

فتنادي جند اُميّة : قتلنا مسلم بن عوسجة.

فقال شبث بن ربعي ، شاهداً بحقّه :

ثكلتكم اُمهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، تذللون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له ، لرُبّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين ، أفيقتل منكم مثله وتفرحون (١)؟!

* حبيب بن مظاهر :

حبيب بن مظاهر الأسدي كان صاحبياً ، رأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقاتل مع أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في جميع حروبه ، وهو من خواصّه وحملة علومه. وقد تحدّث أرباب السير والرجال كثيراً عنه ؛ فنقل الكشي عن فضيل بن الزبير ، قال : مرّ ميثم التمّار على فرس له فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٢ ، مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٩٧.

٢٢٠