الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأبيه علي بن أبي طالب في دعوتهما إلى الله.

ولكنّه (عليه السّلام) خاب ظنّه فيهم لأنّ الشيطان استحوذ عليهم فأنساهم ذكر الله ، وذلك عندما رشقوا معسكره بالسهام وكأنّها المطر.

فعندئذ لم ير بُداً من قتالهم حتّى يفيئوا إلى أمر الله ، فأذن لأصحابه بالقتال قائلاً لهم : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإنّ هذه رسل القوم إليكم».

١٠١ ـ شقاوة وكرامة وهداية :

ذكرنا فيما سبق ، أنّه قد تصل الشقاوة لدى بعض النفوس إلى مستوى الحضيض فتنغمس في الرذيلة والشقاوة انغماساً من الرأس إلى القدم. فتتقمص شخصية الشقي بكلّ معناها ، فيصبح إنساناً شرّيراً شقيّاً كشقاوة عبد الله بن حوزة ، أحد أفراد الجيش الاُموي ؛ فإنّه تقدّم من الحسين (عليه السّلام) متحدّياً وقال : يا حسين ، أبشر بالنار ، قالها ثلاثاً. فأجابه الحسين (عليه السّلام)

__________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف ص ٤٢ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٠٩.

١٨١

قائلاً : «كذبت ، بل أقدم على ربّ غفور ، وشفيع مطاع». ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال : «اللّهمّ حزه إلى النار».

فغضب ابن حوزة من دعاء الحسين (عليه السّلام) ، فذهب ليقتحم إليه الفرس ، وكان بين الحسين (عليه السّلام) وبينه نهر ، فعلقت قدمه بالركاب ، وجالت به الفرس فسقط عنها ، فانقطعت قدمه وساقه وفخذه ، وبقي جانبه الآخر متعلّقاً بالركاب حتّى هلك ـ كما جاء في تاريخ الطبري والكامل (١) ـ فرآه أحد المتحمسين لابن زياد وهو مسروق بن وائل ، فاهتدى وترك الجيش قائلاً : لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً لا اُقاتلهم أبداً.(٢)

وانتهت هذه الواقعة بشقاوة ابن حوزة ، وكرامة للحسين (عليه السّلام) ، وهداية لابن وائل ، ولكنّها هداية بلا توفيق ، فهي شقاوة وكرامة وهداية.

١٠٢ ـ الاصطدام المسلح بين الحقّ والباطل :

لمّا يئس الحسين (عليه السّلام) من هدي القوم واستنصاحهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٨ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٩.

(٢) نفس المصدرين السابقين.

١٨٢

بعد أن بذل جهده ونصحه ، فلم يزدهم إلاّ فراراً ، ومَثَله فيهم كمثل نوح ـ نبي الله ـ في قومه حينما دعاهم إلى الإيمان والهدى فلم يزدهم إلاّ فراراً ومثله فيهم كمثل نوح نبي الله في قومه حينما دعاهم الى الايمان والهدى فلم يزدهم الا استكبارا.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً * وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١).

فهكذا توحي لنا هذه الآيات البيّنات وجه الشبه بين دعوة الحسين (عليه السّلام) وبين دعوة نبي الله نوح ، وبين الذين عارضوا الحسين (عليه السّلام) وبين الذين عارضوا نوحاً ، إلاّ أنّ هناك فارقاً بين هؤلاء القوم وبين أولئك ؛ فإنّ الذين عارضوا الحسين (عليه السّلام) لم يكتفوا بمعارضته البيانية كما فعل قوم نوح ، بل حملوا السلاح في وجهه ، ومن ثمّ قتله وقتل أهل بيته وأصحابه. وهذا ما لم يفعله قوم نوح بل اكتفوا بمعارضته وعدم الانصياع لأمره.

ولمّا رشقوا معسكر الحسين (عليه السّلام) بالسهام كأنّها المطر ،

__________________

(١) سورة نوح ص ٥ ـ ١٠.

١٨٣

فأذن (عليه السّلام) عندئذ لأصحابه بالقتال قائلاً : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم».

فسمع الأصحاب مقالة الحسين (عليه السّلام) ، ففرحوا واستبشروا بما سيلاقون من النعيم الأبدي ، ومن رضا الله ورضوانه ونعمائه كما كان أصحاب جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتمنّون الشهادة في سبيله ، فحملوا بقلّتهم على العدو بكثرته.

١٠٣ ـ العدو يطلب الإمداد لشجاعة أصحاب الحسين (عليه السّلام) :

ولمّا حمل أصحاب الحسين (عليه السّلام) بقلّة عددهم وقوّة إيمانهم على الجيش الاُموي الكثير في عدده وعدّته ، والجبان في ضميره ونفسه ، فقاتلوا قتال الأبطال حتّى أكثروا القتل في معسكر عمر بن سعد ، وما حملوا على جانب من جوانب الجيش الاُموي إلاّ وكشفوه ؛ ممّا دعا عزرة بن قيس ـ آمر الخيّالة ـ أن يستنجد بقائد الجيش عمر بن سعد ليمده بالرجال والرماة ، قائلاً له : أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه

١٨٤

العدّة اليسيرة؟! ابعث إليهم الرجّالة والرماة (١).

فدعا عمر بن سعد الحصين بن تميم ، فبعث معه المجففة والرجّالة وخمسمئة من الرماة (٢).

فحملوا على جيش الحسين (عليه السّلام) واقتتلوا حتّى انتصف النهار ، وما انجلت الغبرة إلاّ وقد فقد الحسين (عليه السّلام) خمسين رجلاً من جيشه ، وقد بانت القلّة في معسكره. ثمّ أخذ أصحابه يخرج منهم الرجلان والثلاثة والأربعة ، ويستأذنون منه للمبارزة والدفاع عن ذرية الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ فخرج سيف بن حارث بن مريع ، ومالك بن عبد مريع الجابريان وهما يبكيان ، فقال الحسين (عليه السّلام) لهما : «ما يبكيكما؟ إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين». قالا : جعلنا الله فداك! ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أن ننفعك بأكثر من أنفسنا. فقال (عليه السّلام) : «جزاكما الله يابنَي أخي بوجدكما من ذلك ومواساتكما بأنفسكما أحسن جزاء المتّقين» (٣).

__________________

(١ و ٢) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٢ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٩٠.

(٣) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٧.

١٨٥

١٠٤ ـ الحسين (عليه السّلام) يستغيث :

ولمّا نظر الحسين (عليه السّلام) إلى كثرة أعدائه وقلّة أصحابه ، وكثرة مَنْ قُتل منهم ، قبض على شيبته المباركة قائلاً : «اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي». ثمّ صاح : «أما من مغيث يغيثنا ، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله». فبكت النسوة وكثر صراخهنّ.

١٠٥ ـ هداية :

سمع نفر من جيش العدو كلامه فهزّت كلماته مشاعرهم ، وأيقظت ضمائرهم ، فاندفعوا نحو الحسين (عليه السّلام) ينصرونه ويدافعون عنه ، كسعد بن الحارث وأخيه الأنصاريين حتّى قتلا.

١٠٦ ـ جيش العدو يستنجد :

لمّا بان النقص في جيش الحسين وذلك لعدم وجود

١٨٦

الإمداد البشري والعسكري ، وللحصار المطوّق به جيشه (عليه السّلام) من كلّ جوانبه ، أخذ رجاله يخرج الرجل تلو الرجل ، فأكثروا القتل في الجيش الاُموي ، وقاتلوا قتال الأبطال ، أمثال : الحرّ بن يزيد ، ونافع بن هلال الجملي وغيرهما ، حتّى ضجر جند اُميّة وتصايح قواده ، فنادى عمر بن الحجّاج بالناس :

أتدرون مَنْ تقاتلون؟ [تقاتلون] فرسان المصر ، قوماً مستميتين ، لا يبرز إليهم منكم أحد فإنّهم قليل ، وقلّما يبقون. والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم (١).

فقاتلوهم حتّى انتصف النهار أشدّ قتال خلقه الله ـ كما وصفهم الطبري ـ ، وقابلوا جيش العدو من وجه واحد لتقارب خيامهم وأبنيتهم ، وهي خطّة عسكرية ناجحة فأمر ابن سعد أن تقوّض هذه الخيام عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ويسيطروا عليهم ، فجاؤوا بالنار وأحرقوها ، فقال الحسين (عليه السّلام) : «دعوهم فليحرقوها ؛ فإنّهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها». وكان كذلك (٢).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ج ٣ ص ٢٩٠ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣١.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٣.

١٨٧

فحمل شمر بن ذي الجوشن حتّى طعن فسطاط الحسين (عليه السّلام) ، ونادى : عليّ بالنار حتّى أحرق هذا البيت على أهله. فصحن النساء وخرجن من الفسطاط ، فانبرى له الحسين قائلاً : «يابن ذي الجوشن ، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي؟! حرقك الله بالنار». وتصدى لتوبيخه جماعة من جيش العدو بينهم حميد بن مسلم ، وشبث بن ربعي ، فإنّه قال له : ما رأيت مقالاً أسوأ من قولك ، ولا موقفاً أقبح من موقفك ، أمرعباً للنساء صرت؟!

ثمّ إنّ زهير بن القين حمل في رجال من أصحابه على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه فكشفوهم عن البيوت ، وقتلوا جماعة ، منهم أبو عزّة الضبابي وغيره (١).

١٠٧ ـ المرأة وثورة الحسين (عليه السّلام) :

دعوة الحسين (عليه السّلام) دعوة حقّ وهداية ، لبّتها قلوب صافية طاهرة من رجال ونساء. وها هي المرأة تساهم في نصرة الحسين (عليه السّلام) في صراعه مع الباطل والمنكر ، وهي على درجة من الوعي لدينها ورسالتها ، ونذكر هنا نموذجاً لهذا الوعي على سبيل المثال. فقد ذكر المؤرّخون وأرباب المقاتل عدّة نسوة كنّ مع الحسين (عليه السّلام) في واقعة كربلاء ، منهنّ زوجة عبد الله بن عمير من بني عليم ، ويُقال لها : أمّ وهب بنت عبد بن

١٨٨

نمر بن قاسط ، وذلك لمّا رأى زوجها قوماً يعرضون ويسرحون إلى قتال الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقال : والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً ، لأرجو ألاّ يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثواباً عند الله من ثوابه إيّاي في جهاد المشركين. ثمّ دخل على زوجته وأخبرها بما يريد ، فقالت : أصبت ، أصاب الله بك أرشد اُمورك ، افعل وأخرجني معك. فخرج بها ليلاً حتّى أتى الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ، ثمّ برز إلى القتال ، وخرجت خلفه زوجته وبيدها عمود تقول لزوجها : فداك أبي واُمّي! قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد. فأقبل إليها يردّها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه ، ثمّ قالت : إنّي لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها الحسين (عليه السّلام) قائلاً : «جزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ ؛ فإنّه ليس على النساء قتال». فانصرفت إليهنّ.

وقيل : إنّها قُتلت بعد أن وقفت على زوجها وهو قتيل ، قائلة : أسأل الله الذي رزقك الجنّة ، أن يصحبني معك. وقاتلها هو رستم غلام شمر ؛ فإنّه ضربها بعمود (١).

إلى ما هناك من بطولات وتضحيات

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٩١ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٧.

١٨٩

النسوة اللاتي كنّ مع الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ، أمثال عقيلة بني هاشم زينب بنت الإمام علي (عليه السّلام) التي ساهمت في ثورة أخيها مساهمة فعالة ، كما سنذكرها تفصيلاً في القسم الثاني بإذن الله (١).

١٠٨ ـ حنظلة بن أسعد الشامي يصرخ بالجيش الاُموي :

وجاء حنظلة بن أسعد الشامي ، أحد الفدائيين الحسينيين ، ووقف بين يدي الحسين (عليه السّلام) منادياً وصارخاً بالقوم بكلّ إيمان وصلابة ، قائلاً بأعلى صوته :

(يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ * وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِم وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هاد) (٢). يا قوم ، لا تقتلوا حسيناً (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذاب وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) (٣).

__________________

(١) القسم الثاني من كتابنا (النتائج الرسميّة لثورة الإمام الحسين).

(٢) سورة غافر ص ٣٠ ـ ٣٣.

(٣) سورة طه ٦٠.

١٩٠

الحسين (عليه السّلام) قائلاً له : «يابن أسعد ، رحمك الله ، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ ، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟!».

حنظلة بن أسعد : صدقت جعلت فداك! أنت أفقه منّي وأحقّ بذلك ، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟!

الحسين (عليه السّلام) : «رح إلى خير من الدنيا وما فيها ، وإلى مُلك لا يبلى».

حنظلة بن أسعد : السلام عليك يا أبا عبدالله ، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك ، وعرّف بيننا وبينك في جنته.

الحسين (عليه السّلام) : «آمين آمين».

حنظلة بن أسعد يقتحم المعركة فيقتِل ويُقتل (١).

١٠٩ ـ شهامة عابس وإيمانه :

عابس بن شبيب الشاكري أحد أبطال المعركة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٧.

١٩١

الحسينيّة ، ومن المؤمنين الواعين لثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فنراه يكشف عن إيمانه ومعتقده بتصريحاته بعد أن تقدّم يوم عاشوراء نحو الحسين (عليه السّلام) ، ومعه شوذب مولى شاكر.

عابس قائلاً لشوذب : يا شوذب ، ما في نفسك أن تصنع؟

شوذب : ما أصنع؟ اُقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتّى اُقتل.

عابس : ذلك الظنّ بك ، أمّا الآن فتقدّم بين يدي أبي عبد الله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه ، وحتّى احتسبك أنا ؛ فإنّه لو كان معي الساعة أحد وأنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدّم بين يدي حتّى أحتسبه ؛ فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما قدرنا عليه ؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم ، وإنّما هو الحساب.

شوذب تقدّم نحو الحسين (عليه السّلام) وسلّم عليه ، وهجم على الأعداء وقاتل حتّى قُتل.

عابس يتقدّم نحو الحسين (عليه السّلام) قائلاً :

ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك يا أبا عبد الله. أما والله ، لو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء

١٩٢

أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته. السّلام عليك يا أبا عبد الله ، اُشهد الله أنّي على هديك وهدي أبيك (١).

ثمّ هجم على الأعداء كأنّه الليث. كان أشجع الناس ، فنادى رجل من جيش العدو : أيّها الناس ، هذا أسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجنّ إليه أحد منكم.

عابس ينادي : ألا رجل لرجل؟ فتحاشى الرجال عن مبارزته ، فنادى عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة. فرمي بالحجارة من كلّ جانب ، ثمّ شدّ على القوم وهو يكرد (٢) أكثر من مئتين حتّى قُتل ، وتنازعوا في قتله ، وكلّ يقول : أنا قتلته. فقال عمر بن سعد : هذا لم يقتله سنان واحد.

١١٠ ـ وفاء وعطف في معركة :

جون مولى أبي ذرّ الغفاري ، كان من الأشخاص الذين اتّبعوا الحسين (عليه السّلام) طلباً للرزق والعافية ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٨.

(٢) الكرد : هو الطرد.

(٣) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٨ ، مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣١٢.

١٩٣

ولكنّه لمّا رأى الحسين بهذا الحال ، تقدّم يستأذنه في الدفاع عنه ، فعطف عليه الحسين (عليه السّلام) قائلاً :

«يا جون ، إنّما تبعتنا طلباً للعافية ، فأنت في إذن منّي».

جون قائلاً : سيدي ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم!

إنّ ريحي لنتن ، وحسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفس عليّ بالجنّة ليطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ لوني. لا والله ، لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين (عليه السّلام) ، فهجم على جيش الضلال والانحراف ، وقتل منهم خمساً وعشرين ثمّ قُتل.

الحسين يقف عليه قائلاً : «اللّهمّ بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع محمّد ، وعرّف بينه وبين آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)». فكان لا يمرّ عليه أحد في المعركة إلاّ ويشمّ منه رائحة طيّبة أزكى من المسك (١).

هكذا كان الوفاء في ساحة المعركة من جون ، والعطف من الحسين (عليه السّلام).

__________________

(١) مقتل العوالم ص ٨٨.

١٩٤

١١١ ـ شجاعة أسير :

نافع بن هلال الجملي كان من الفدائيين الحسينيين الذين يجيدون الرمي بالسهام ، وقد كتب عليها اسمه ، فأخذ يرمي الأعداء بها ، وهو يقول : أنا الهزبرُ الجملي أنا على دينِ علي ودينهُ دينُ النبي حتى قتل منهم اثني عشر سوى مَنْ جرح ، ولمّا نفذت سهامه جرّد سيفه وهجم على القوم ، فأحاطوا به من كلّ جانب حتّى كُسرت عضداه واُخذ أسيراً إلى عمر بن سعد ، فقال له : ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟! وكانت الدماء تسيل على لحيته.

نافع : إنّ ربّي يعلم ما أردت. والله ، لقد قتلت منكم اثني عشر سوى مَنْ جرحت ، وما ألوم نفسي على الجهد ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني. شمر مخاطباً عمر بن سعد : اقتله أصلحك الله.

عمر بن سعد : أنت جئت به ، فإن شئت فاقتله.

شمر يشهر سيفه على نافع يروم قتله.

نافع قائلاً لشمر : أما والله ، لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. ثمّ قتله شمر.

١٩٥

١١٢ ـ أراجيز في معركة :

الأراجيز : هي إحدى أنواع الشعر العمودي ، وكان العرب يستخدمونها في حروبهم ، فهي لون من ألوان التعبير عمّا يحتوي الإنسان المقاتل من آراء وعقائد.

وهي تعتبر نصوصاً ووثائق تاريخية نستطيع أن نحكم من خلالها على نفسيّة الراجز ، ومدى تفهّمه لواقع معركته ومبادئها التي ثار وحارب من أجلها ، بل هي من أهم الوثائق لأنّها الوثيقة الحقيقية التي تحكي عن نفسية قائلها في أشدّ الظروف وأقساها. وهي أيضاً الرأي النهائي القاطع لعقيدة المقاتل الذي لا يشوبه التشكيك أو التردد. ومن أجل ذلك كلّه ، فهي جديرة بالبحث والدراسة لمَنْ أراد أن يبحث عن ثورة الحسين (عليه السّلام) ويستخلص عقائديتها ومبادئها ، والمستوى الثوري لدى رجالها.

أراجيز الأصحاب :

* عبد الله بن عمر الكلبي : فإنّه حمل على القوم قائلاً :

١٩٦

إن تنكروني فأنا ابنُ الكلبِي

حسبي ببيتي في عليمٍ حسبي

إنّي امرؤٌ ذو مُرّةٍ وعصبِ

ولستُ بالخوّار عند النكبِ

إنّي زعيمٌ لكِِ أمَّ وهبِ

بالطعنِ فيهم مُقدماً والضربِ

ضربَ غلامٍ مؤمنٍ بالربِّ (١)

* عمرو بن قرظة الأنصاري : بعد أن هجم على الأعداء قائلاً :

قد علمت كتيبةُ الأنصارِ

إنّي سأحمي حوزةَ الذمّارِ

ضربَ غلامٍ غير نكسٍ شاري

دونَ حسين مهجتي وداري (٢)

* وهب بن حباب الكلبي : وكان نصرانياً فأسلم على يدي الحسين (عليه السّلام) ، وجاهد أعداءه بين يديه بقوله :

إن تنكروني فأنا ابن الكلبي

سوفَ تروني وترونَ ضربي

وحملتي وصولتي في الحربِ

أدرك ثاري بعد ثار صحبي

وأدفعُ الكربَ أمامَ الكربِ

ليس جهادي في الوغى باللعبِ (٢)

* الحرّ بن يزيد الرياحي :

لمّا يأس الحرّ من يقظة ضمير قومه ، وأنّهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٧.

(٢) المصدر نفسه ص ٣٣٠.

(٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٢٧.

١٩٧

مصرّون على قتل ابن بنت نبيّهم (صلّى الله عليه وآله) ، هجم عليهم قائلاً :

إني أنا الحرّ ومأوى الضيفِ

أضربُ في أعراضكم بالسيفِ

عن خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخيفِ (٢)

ثمّ أخذ يكيل الضربات للعدو المضلل قائلاً :

آليتُ لا اُُقتل حتّى أقتلا

ولن اُُصاب اليوم إلاّ مُقبلا

أضربهم بالسيفِ ضرباً معضلا

لا ناكلاً عنهم ولا مُهللا

لا عاجزاً عنهم ولا مُبدلا

أحمي الحسين الماجدَ المؤمّلا

* مسلم بن عوسجة : برز وهو يرتجز :

* حبيب بن مظاهر الأسدي :

فإنّه حمل على جيش العدو وهو مرتجز :

أنا حبيبٌ وأبي مظاهرُ

فارسُ هيجاءٍ وحربٌ تسعرُ

أنتم أعدّ عدّة وأكثرُ

ونحن أوفى منكمُ وأصبرُ

ونحنُ أعلى حجّة وأظهرُ

حقّاً وأتقى منكمُ وأعذرُ

__________________

(١) إبصار العين في أنصار الحسين ـ محمد السماوي ص ١٤٥ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٢٩.

(٢) إبصار العين ص ١٤٥ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٢٩.

(٣) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٣٤ ، ١٤٥.

١٩٨

ثمّ أخذ يقول وهو يُقاتل :

أُقسم لو كنّا لكم أعدادا

أو شطركم ولّيتم أكتادا (١)

* زهير بن القين : استأذن الحسين (عليه السّلام) بقوله :

أقدِم هُديت هادياً مهديا

اليوم نلقى جدّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليا

وذا الجناحينِ الفتى الكميا

وأسدَ اللهِ الشهيد الحيّا

ثمّ هجم على الأعداء مقاتلاً ومرتجزاً :

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القينِ

أذودكم بالسيفِ عن حسينِ

إنّ حسيناً أحدُ السبطينِ

من عترةِ البرِّ التقي الزينِ

ذاكَ رسولُ الله غيرُ المينِ

أضربكم ولا أرى من شينِ

يا ليت نفسي قسّمت قسمينِ (٢)

* نافع بن هلال الجملي : فإنّه حمل على القوم قائلاً :

إن تنكروني فأنا ابنُ الجملي

ديني على دينِ حسينِ بن علي

ثمّ إنّه كانت معه نبال ، وكان رامياً ، وقد كتب

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٥ ، مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٣٠٦ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٤٠. والأكتاد : مجتمع الكتفين من الإنسان ، أي وليتم ظهوركم.

(٢) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٣٠ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٦.

١٩٩

اسمه عليها ، فجعل يرمي بها ويقول :

أرمي بها مُعلَمة أفواقُها

مسمومة تجري بها أخفاقُها

ليملأنّ أرضها رشاقُها

والنفسُ لا ينفعها إشفاقُها

ولمّا نفذت نباله ، جرّد سيفه وهجم على الأعداء مرتجزاً :

أنا الهزبر الجملي

أنا على دينِ علي

ودينهُ دينُ النبي (١)

ويقول أيضاً :

أنا الغلامُ اليمني الجملي

ديني على دينِ حسينٍ وعلي

إن أُقتلَ اليوم فهذا أملي

فذاك رأيي واُلاقي عملي (٢)

* سويد بن عمر بن أبي المطاع : فإنّه قاتل بين يدي الحسين (عليه السّلام) مرتجزاً :

أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا

وشيخَك الحبر علياً ذا الندى

وحسناً كالبدر وافى الأسعدا

وعمَّك القرم الهمام الأرشدا

حمزة ليث الله يُدعى أسداً

وذا الجناحين تبوّا مقعدا

في جنّة الفردوسِ يعلو صعدا (٣)

* اُمّ عمرو بن جنادة الخزرجي :

 قُتل زوجها جنادة بن كعب يوم الطفّ ، فجاءت

__________________

(١ و ٢ و ٣) انظر : إبصار العين في أنصار الحسين ـ محمد السماوي ص ١٠٥ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٣٠ ، ١٣٨ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٦.

٢٠٠