الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

العامري ثمّ صف الجيش إلى خيّالة ورجّالة :

الرجّالة : يرأسها شبث بن ربعي.

الخيّالة : أميرها عزرة بن قيس الأحمسي.

وأعطى الراية إلى مولاه ذويداً (١).

وقسم من هؤلاء الرؤساء الذين اُعطوا مناصب في الجيش كانوا ممّن كاتبوا الحسين (عليه السّلام) بالمجيء إلى الكوفة ، ثمّ خانوا الله في عترة نبيّه وخرجوا لقتالهم ، وهم : قيس بن الأشعث ، وشبث بن ربعي.

وشهد هؤلاء الرؤساء كلّهم مقتل الحسين (عليه السّلام) ، وساعدوا على قتله إلاّ الحرّ بن يزيد الرياحي (رضوان الله عليه).

ثمّ إنّ عمر بن سعد بعد أن نظّم جيشه ، زحف بجيشه نحو معسكر الحسين (عليه السّلام) ، وأخذوا يجولون حول خيام الحسين (عليه السّلام) ، وقد أمر (عليه السّلام) أن تُضرم النار في الخندق لئلاّ يهجموا من خلف الخيام ، وليُقابل العدو من جهة واحدة.

شمر وخبث سريرته :

قال شمر بن ذي الجوشن : يا حسين ، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة؟

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٦.

١٦١

فقال الحسين (عليه السّلام) : «مَنْ هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن؟». فقالوا : نعم هو.

فقال (عليه السّلام) : «يابن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّاً». فقال مسلم بن عوسجة : يابن رسول الله ، جعلت فداك! ألا أرميه بسهم ؛ فإنّه قد أمكنني ، وليس يسقط سهم ، فالفاسق من أعظم الجبّارين؟ فقال الحسين (عليه السّلام) : «لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال» (١).

٩١ ـ نظرة ودعاء :

ولمّا سرّح الحسين (عليه السّلام) بنظرة إلى الجيش الاُموي وإذا هو كالسيل ، كلّ منهم يروم قتله وسلبه ونهبه. فتوجه (عليه السّلام) متضرّعاً إلى الله القدير بالدعاء ، رافعاً يديه قائلاً : «اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة. كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبة لي إليك عمّن سواك ، فكشفته وفرّجته ، فأنت ولي كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة» (٢).

__________________

(١) الطبري ص ٣٢٩ ج ٤.

(٢) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٦.

١٦٢

٩٢ ـ الحسين (ع) يخطب أمام الجيش الاُموي في كربلاء :

لمّا رأى الإمام الحسين (عليه السّلام) هذا الجمع الحاشد ، الضال في أمره ، والحائر في مصيره ، أراد أن يوقظ ضمائرهم الميّتة ، ويرشد جمعهم نحو الهدى والحقّ ؛ فوقف فيهم واعظاً ، خطب الخطبة الأولى في صبيحة اليوم العاشر من محرّم ، فدعا (عليه السّلام) براحلته فركبها ، ونادى بصوت يسمعه جلّهم :

«أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ، وحتّى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأعطيتموني النَّصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تُعطوا النَّصف من أنفسكم ، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).

فسمعن النساء صوته ، فبكين وارتفعت أصواتهن ، فقال الحسين لأخيه العباس وابنه علي الأكبر (عليهم السّلام) : «سكّتوهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ». ولمّا سكتن ، حمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء ، فذكر ما لا يُحصى ذكره ، فما سمع متكلّم

١٦٣

قبله ولا بعده أبلغ منه (١).

ثمّ قال : «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَنْ غرّته ، والشقي مَنْ فتنته ، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها ، وتُخيب طمع مَنْ طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا ، وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم! لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتباً لكم ولما تريدون! إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين (٢)!

أيّها الناس ، انسبوني مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيه ، وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدق لرسوله بما

__________________

(١) تاريخ الطبري ص ٣٢٩ ج ٤ والكامل ص ٢٨٧ج ٣.

(٢) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٧٩.

١٦٤

جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمّي؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ بمَنْ اختلقه. وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

شمر يقاطع خطبة الحسين (عليه السّلام) :

ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن قاطع كلام الحسين (عليه السّلام) بقوله : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

حبيب بن مظاهر يردّ عليه :

وإذا بحبيب بن مظاهر الأسدي ، يجيب شمراً بقوله : والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ؛ قد

١٦٥

طبع الله على قلبك (١).

الحسين (عليه السّلام) يتمّ خطبته :

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) واصل خطبته قائلاً : «فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، أنا ابن بنت نبيّكم خاصة.

أخبروني ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص جراحة؟». فأخذوا لا يكلمونه (١).

فنادى (عليه السّلام) : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أن اقدم قد أينعت الثمار ، وطمّت الجمام ، واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجندة؟».

فقالوا : لم نفعل.

قال (عليه السّلام) : «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال : «أيّها الناس ، إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال قيس بن الأشعث : أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك ؛ فإنّهم لن يروك

__________________

(١) الكامل لابن الاثير ص ٢٨٧ ج ٣ والطبري ص ٣٣٠ج ٤.

١٦٦

إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه؟

فقال الحسين (عليه السّلام) : «أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله ، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله ، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (١).

٩٣ ـ زهير بن القين يحذّر وينذر الجيش الاُموي :

ثمّ إنّ زهير بن القين (رضوان الله عليه) ، رأى أنّ القوم لم يستجيبوا لخطبة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ولم ينصاعوا إليها ، فخرج إليهم على فرس له وهو شاك في السلاح ، ليحذرهم ناصحاً لهم ، ومنذراً ممّا يرتكبون ، قائلاً :

يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب الله نذار ، إنّ حقاً على المسلم نصحية أخيه المسلم ، ونحن حتّى الآن إخوة ، وعلى دين واحد ، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٨٠ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٣٠ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٧.

١٦٧

وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّة. إنّ الله قد ابتلانا وإياكم بذريّة نبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم ، وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد ؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه ؛ لَيسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقرّائكم ، أمثال : حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه (١).

٩٤ ـ الجيش الاُموي يردّ على كلام زهير بن القين :

ثمّ إنّ جماعة من زعماء الجيش الاُموي قاطعوا كلام زهير بسبّه ، وأثنوا على عبيد الله بن زياد ، ودعوا له.

قائلين : لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَنْ معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

جواب زهير :

فأجابهم زهير قائلاً : عباد الله ، إنّ ولد فاطمة (عليها السّلام) أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمية ، فإن

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٣ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٨.

١٦٨

كنتم لم تنصروهم فاُعيذكم بالله أن تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد ؛ فلعمري إنّه ليرضى بطاعتكم من دون قتل الحسين (١).

شمر يرميه بسهم

ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن رماه بسهم ، وقال له : اسكت أسكت الله نأمتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير : يابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك اُخاطب ، إنّما أنت بهيمة ، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين ، فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال شمر : إنّ الله قاتلُك وصاحبُك عن ساعة.

فقال زهير : أفبالموت تخوفني؟! فوالله لَلموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم.

ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال : عباد الله ، لا يغرّنّكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فوالله لا تنال شفاعة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوماً هرقوا دماء ذريته وأهل بيته ، وقتلوا مَنْ نصرهم وذبّ عن

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٤ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٨.

١٦٩

حريمهم. فأمره الحسين بالرجوع فرجع ، وقال له (عليه السّلام) : «لعمري ، لئن كان مؤمن فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء ، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ» (١).

٩٥ ـ برير بن خضير واعظاً وناصحاً :

ولمّا رأى برير بن خضير إصرار القوم على الباطل ، ومعاندتهم للحقّ وأهله ، أراد أن يعظهم وينصحهم ، ويدعوهم إلى قول الحقّ والصراط المستقيم ، فاستأذن من الحسين (عليه السّلام) فأذن له ، فجاء ووقف فيهم ، وكلّ منهم يعرفه أنّه من التابعين ، ومن شيوخ القرّاء ، عابداً ناسكاً. فنادى بأعلى صوته : يا معشر الناس ، إنّ الله بعث محمّداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله ، أفجزاء محمّد هذا؟!

فأجابوه قائلين : يا برير ، قد أكثرت الكلام

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٤.

١٧٠

، فاكفف عنّا ، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَنْ كان قبله.

فقال برير : يا قوم ، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم ، وهؤلاء ذرّيّته وعترته ، وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم.

فقالوا له : نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد ، فيرى فيهم رأيه.

برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟! ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! ويلكم! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات؟! بئسما خلفتم نبيّكم في ذرّيّته! ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة؟! فبئس القوم أنتم!

فقيل له : يا هذا ، ما ندري ما تقول يا برير.

برير : الحمد لله الذي زادني فيهم بصيرة. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم. اللّهم ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

١٧١

فجعلوا يرمونه بالسهام فتقهقر (١).

٩٦ ـ الحسين (عليه السّلام) يخطب مرّة اُخرى أمام الجيش الاُموي في كربلاء :

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نبي هدىً ورحمة لبني الإنسان ، وهكذا أهل بيته (عليهم السّلام) ، فهم فرع من ذلك الغصن المبارك ؛ لأنّهم أهل بيت النبوّة ، بيت هداية ورشاد. والحسين (عليه السّلام) وليد هذا البيت ، وحفيد جدّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فهو شعاع هدىً ورحمة. لما رأى القوم في اليوم العاشر من المحرّم ، لم تهدهم خطب ، ولم تأثّر فيهم موعظة ، وهم مصرون على جهلهم وغيّهم ، فأراد (عليه السّلام) أن يعيد النصح عليهم ثانياً ، علّهم ينصاعون إلى صوت حق ، وكلمة خير ، وهو حريص على إنقاذهم من الضلال والغي ؛ لأنّه وليد نبي الهدى والرحمة. فوقف (عليه السّلام) أمام ذلك الزخم الجاهلي ، بأفكاره ومشاعره ، حاملاً بيده قرآن هداية ونور ، مندداً بموقفهم هذا ، وموبّخاً لإصرارهم وعنادهم قائلاً :

«تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً (٢)! أحين

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٨٦.

(٢) الترح : الحزن.

١٧٢

استصرختمونا والهين (١) ، فأصرخناكم موجفين (٢) ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم (٣) علينا ناراً اقتدحناها (٤) على عدوّنا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً (٥) لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم؟ فهلاّ ـ لكم الويلات! ـ تركتمونا والسيف مشيم (٦) ، والجأش (٧) طامن (٨) ، والرأي لمّا يستصحف (٩)؟ ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ، ثمّ نقضتموها. فسحقاً لكم (١٠) يا عبيد الأمة! وشذّاذ الأحزاب ، ونَبَذَة الكتاب ، ومحرّفي الكَلِم ، وعصبة الإثم ، ونفثة الشيطان ، ومطفئي السنن. ويحكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟!

__________________

(١) الوله : الحزن الذي يكاد أن يذهب بالعقل.

(٢) الوجيف : الاضطراب.

(٣) حششتم : أوقدتم.

(٤) اقتدح : حاول إخراج النار.

(٥) الألب : القوم تجمعهم عداوة واحدة.

(٦) مشيم : من شأم ، جر الشؤم.

(٧) الجأش : القلب.

(٨) ساكن.

(٩) يستصحف : يستحكم.

(١٠) أبعدكم الله عن رحمته.

١٧٣

أجل والله ، غدر فيكم قديم ، وَشِجَتْ (١) عليه اُصولكم ، وتأزّرت (٢) عليه فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر شجاً للناظر ، وأكلة للغاصب.

ألا وإنّ الدّعي (٣) ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة (٤) والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حمية ، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر».

ثمّ أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي :

فإنْ نُهزم فهزّامونَ قُدماً

وإنْ نُغلب فغير مُغلّبينا

وما إن طبّنا جبنٌ ولكنْ

منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن اُناسٍ

كلاكلَهُ أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي

كما أفنى القرونَ الأوّلينا

__________________

(١) وشجت : اشتبكت.

(٢) تأزّرت : هاجت.

(٣) المتهم في نسبه.

(٤) السلّة : سلة السيف.

١٧٤

فلو خلدَ الملوكُ إذن خلدنا

ولو بقي الكرامُ إذن بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا

سيلقى الشامتونَ كما لقينا (١)

«ثمّ وأيم الله ، لا تلبثوا بعدها إلاّ كريثما يُركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون. (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّة إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراط مُسْتَقِيم)(٢).

ثمّ رفع (عليه السّلام) يديه نحو السماء وقال : «اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة ؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا وإليك المصير ، عليك توكّلنا.

والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه ؛ قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي» (٣).

__________________

(١) انظر ، الاحتجاج ـ الطبرسي ج ٢ ص ٢٤.

(٢) سورة هود ص ٥٦.

(٣) اللهوف في قتلى الطفوف ـ ابن طاووس ص ٩٧ ـ ٩٩ ، مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٨٩.

١٧٥

٩٧ ـ النفوس الخيّرة تستيقظ :

إنّ بعض النفوس ، مهما كان عليها غشاوة ضلال وانحراف إلاّ إنّها تبقى توّاقة إلى الخير والكمال ، فمهما وجدت نوراً تسترشد به طريق الحقّ أسرعت إليه ؛ لأنّ الضلال لم يخيّم على جميع منافذها ، فتتّخذ من ذلك البصيص المنفتح على عالم الخير والحقّ طريق هداية وكمال كما هي نفسية الحرّ بن يزيد الرياحي ؛ فإنّه لمّا سمع الحسين (عليه السّلام) يخطب في ذلك الجيش الضال ، انشرح قلبه إلى الإيمان والخير ، وأشرقت نفسه بالنور والهداية ، فأسرع إلى قائد الضلال عمر بن سعد قائلاً : أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابة عمر بن سعد : أي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

فأقبل الحرّ ووقف بين أصحابه وهو يفكّر في مصيره ، فأخذته مثل العرواء (أي الرعدة) ، فقال له المهاجر بن أوس : يابن يزيد ، والله إنّ أمرك لمريب! ولو قيل : مَنْ أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك؟!

فقال له الحرّ : إنّي والله أخير نفسي بين الجنّة والنار ، ووالله لا

١٧٦

أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه ولحق بالحسين (عليه السّلام). ولمّا قرب منه قال له : جعلني الله فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلاّ هو ، ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة. وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ، ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، أفترى لي توبة؟

فقال الحسين (عليه السّلام) له : «نعم ، يتوب الله عليك ويغفر لك. ما اسمك؟».

قال : أنا الحرّ بن يزيد الرياحي.

قال الحسين : «أنت الحر كما سمّتك اُمّك ، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة. انزل».

فقال له الحرّ : أنا لك فارساً خير منّي راجلاً. ثمّ جاء ووقف إزاء جيش العدو صارخاً فيهم : يا أهل الكوفة ، لأمّكم الهبل(١) والعبر! أدعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه؟! وزعمتم أنكم قاتلي أنفسكم دونه

__________________

(١) الهبل : التكل.

١٧٧

ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكظمه ، وأحطتم به من كلّ جانب.

فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته ، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني ، وتُمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه.

وهاهم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا ، في ساعتكم هذه. (١) فرموه بالنبل ، فرجع ووقف أمام الحسين (عليه السّلام).

٩٨ ـ الحسين (عليه السّلام) يلقي الحجّة النهائية على عمر بن سعد :

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) فكّر أن يجتمع مرّة أخرى مع عمر بن سعد قائد جيش الضلال ؛ ليلقي عليه الحجّة النهائية ، لكي لا تبقى له معذورية في موقفه هذا ، فاستدعاه (عليه السّلام) واجتمع معه قائلاً بعد أن يئس منه :

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦ و ٤٠.

١٧٨

«أي عمر! أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدّعي بلاد الرّي وجرجان ، والله لا تتهنأ بذلك ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ؛ فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم».(١)

٩٩ ـ شقاوة عمر بن سعد وضلاله :

هناك بعض النفوس كلّما تنفتح لها سبل الهداية والرشاد تزداد بعداً وإصراراً وعناداً في غيّها وضلالها ، وكلّما أراد القول الطيّب أن يجد إليها منفذاً أوصدت دونه المنافذ ، فتبقى شريرة سابحة في ضلالها وانحرافها.

لم تنفعها المواعظ ولا المؤثرات الإصلاحية الاُخرى ، فتكون مصداقاً للآية الكريمة : (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً) ، كما هي عليه نفس عمر بن سعد. فإنّ الحسين (عليه السّلام) استعمل معه مختلف الأساليب الخيّرة لإصلاحه وهديه ، إلاّ أنّه أبى واستكبر وكان من الظالمين.

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٩٨ ، مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٨.

١٧٩

فوقف بكلّ وقاحة وشقاوة ، متحدّياً في صبيحة يوم العاشر من محرّم ، واضعاً سهمه في كبد قوسه ورمى به نحو معسكر الحسين (عليه السّلام) قائلاً :

اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى (١).

وأقبلت السهام من الجيش الاُموي نحو الحسين (عليه السّلام) كأنّها المطر.

١٠٠ ـ الحسين (عليه السّلام) يأذن لأصحابه بالقتال :

استعمل الحسين (عليه السّلام) مختلف الوسائل الممكنة لهديهم وإرشادهم إلى الطريق الأقوم ، وبذل جهده عسى أن يتجنّب القتال ، لأنّه صاحب دعوة خير وسلام ، دعوة الإسلام.

وكان (عليه السّلام) يبغض القتل والقتال ما دام هناك طريقة بالتي هي أحسن ؛ ولهذا كان يكره أن يبدأهم بقتال كما قال (عليه السّلام) لأصحابه في مواطن عديدة : «إنّي أكره أن أبدأهم بقتال». مقتدياً بسيرة جدّه

__________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف ص ٤٢ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٦ ، الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٩.

١٨٠