الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

عبد الكريم الحسيني القزويني

الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين

المؤلف:

عبد الكريم الحسيني القزويني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الشهيد الصدر
المطبعة: نمونه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤

تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فنهض الحسين (ع) قائماً ، وقال لها : «إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال لي : إنّك تروح إلينا». فلطمت اُخته وجهها وقالت : يا ويلتا! فقال الحسين (عليه السّلام) : «ليس لك الويل يا اُخيتي ، اسكني رحمك الرحمان» (١).

٧٥ ـ العباس (عليه السّلام) يُقابل الجيش الاُموي :

وجاء العباس بن علي إلى أخيه الحسين (عليهم السّلام) قائلاً : يا أخي أتاك القوم. فقال له الحسين (عليه السّلام) : «يا عباس ، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم ، وتقول لهم ما لكم ، وما بدا لكم؟ تسألهم عمّا جاء بهم». فاستقبلهم العباس (عليه السّلام) في عشرين فارساً ، فيهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر (رضوان الله عليهما) ، قائلاً : ما بدا لكم؟ وما تريدون؟

الجيش الاُموي : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم (أي نقاتلكم).

العباس بن علي (عليهما السّلام) : لا تعجلوا حتّى أرجع إلى

__________________

(١) الطبري ص ٣١٨ ج ٤.

١٤١

أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. وجاء إلى أخيه الحسين مسرعاً.

٧٦ ـ حبيب بن مظاهر وزهير بن القين يكلمان الجيش الاُموي :

واغتنم حبيب بن مظاهر فرصة عودة العباس إلى أخيه الحسين (عليهما السّلام) ليخبره بما قال القوم ، فالتفت إلى زهير بن القين قائلاً : كلّم القوم إن شئت ، وإن شئت كلّمتهم.

زهير بن القين قال لحبيب : أنت بدأت بهذا ، فكن أنت تكلّمهم.

حبيب بن مظاهر يخاطب الجيش الاُموي :

أما والله ، لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته ، وكبار أهل هذا المصر ، المجتهدين بالأسحار ، والذاكرين الله كثيراً (١)!

فقال له عزرة بن قيس : إنّك لتزكّي نفسك بما

__________________

(١) الطبري ص ٣١٨ ج ٤.

١٤٢

استطعت. فأجابه زهير بن القين : يا عزرة ، إنّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتق الله يا عزرة فإنّي لك من الناصحين.

أنشدك الله يا عزرة أن لا تكون ممّن يعين الضلاّل على قتل النفوس الزكية. قال عزرة لزهير : ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنّما كنت عثمانياً.

قال زهير لعزرة : أفلست تستدل بموقفي هذا إنّي منهم؟ أما والله ، ما كتبت إليه كتاباً قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولاً قطّ ، ولا وعدته نصرتي قطّ ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومكانه منه ، وعرفت ما يقوم عليه من عدوّه وحزبكم ، فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله (صلّى الله عليه وآله) (١).

٧٧ ـ العباس (عليه السّلام) يعود بالجواب إلى الجيش الاُموي :

ولمّا أخبر العباس أخاه الحسين (عليهما السّلام) بما ذكر القوم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ص ٣١٩ ج ٤.

١٤٣

قال له الحسين (عليه السّلام) :

«يا أخي ، ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا هذه العشية لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار» (١).

رجع العباس (عليه السّلام) إلى الجيش الاُموي ، وقال لعمر بن سعد ما قاله الحسين (ع).

فتوقّف عمر بن سعد عن إعطاء هذه المهلة ، وسأل شمر قائلاً : ما ترى أنت؟ قال شمر : أنت الأمير والرأي رأيك. ثمّ توجّه إلى زعماء الجيش الاُموي قائلاً : ماذا ترون؟ فأجابه الحجّاج بن سلمة الزبيدي : سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم ، فكيف وهم آل محمّد؟ وقال قيس بن الأشعث : أجبهم ، لعمري لنصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك (٢).

__________________

(١ و ٢) مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٤ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٦.

١٤٤

٧٨ ـ الحسين (عليه السّلام) يختبر أصحابه وأهله :

وعندما أيقن (عليه السّلام) أنّ هؤلاء القوم الذين احتوشوه مصرّون على قتاله ، وأنّه لا بدّ من أن يدافع عن دينه وأهله بكلّ ما يملك ، أجرى عملية اختبار وامتحان على أصحابه وأهل بيته من أبناء إخوته وعمومته ليطمئن قلبه أنّهم يصمدون عند الوثبة واصطكاك الأسنّة ، وأنّهم لن يخذلوه ولن يتركوه وحده. فألقى خطاباً فيهم بعد أن جمعهم في مساء يوم التاسع قائلاً : «اُثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء.

اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً. ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. ألا وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، ثمّ تفرّقوا في

١٤٥

سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهو عن طلب غيري» (١).

٧٩ ـ أهل البيت يجيبون الحسين (عليه السّلام) :

ولمّا سمع إخوة الحسين وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر (عليهم السّلام) هذه الخطبة من الحسين (عليه السّلام) ، وعرفوا فحواها ، قاموا وشمروا عن سيوفهم يتقدّمهم أبو الفضل العباس (عليه السّلام) ، وقالوا بلسان واحد : «لِمَ نفعل ذلك! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً» (١).

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) التفت إلى آل عقيل وقال : «حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم».

فأجابوه : سبحان الله! فما يقول الناس لنا؟! وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا ، وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله ما نفعل ، ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبح الله

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٧ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٥.

(١ و ٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٨ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٥.

١٤٦

العيش بعدك (٢).

٨٠ ـ أصحاب الحسين (عليه السّلام) يجيبونه :

ولمّا سمع أصحاب الحسين (عليه السّلام) خطبته هذه وعرفوا مقصده ، فإنّهم أبوا إلاّ الفوز بالشهادة بين يديه ، فقاموا يتسابقون في إجابته (عليه السّلام).

جواب مسلم بن عوسجة :

فقام إليه مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) وقال : أنحن نخلي عنك وقد أحاط بك هذا العدو ، ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟! [لا] والله حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا اُفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك (٢).

جواب سعد بن عبد الله الحنفي :

ثمّ إنّ سعد بن عبد الله الحنفي أجاب

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ج ٣ ص ٢٨٥ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٨ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٥.

١٤٧

الحسين (عليه السّلام) بقوله : لا والله يابن رسول الله لا نخليك حتّى يعلم الله أنا قد حفظنا عيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيك. والله ، لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً (١)؟

جواب زهير بن القين :

وقام زهير بن القين (رضوان الله عليه) وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نشرت ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذي ألف قتلة ، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك (٢).

جواب بقية الصحابة :

ثمّ إنّ بقيّة صحابة الحسين (عليه السّلام) قاموا وقالوا بلسان يشبه بعضه بعضاً : والله لا نفارقك ، ولكن

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٨ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٥.

(٢) تاريخ الطبري ٣١٨ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٦.

١٤٨

أنفسنا لك الفداء ؛ نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، وفيّنا لربّنا وقضينا ما علينا (١).

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) أمر أصحابه أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا هم بين البيوت ، إلاّ الوجه الذي يأتيه منه عدوّهم.

٨١ ـ الحسين (عليه السّلام) ونافع بن هلال (رضوان الله عليه) :

ثمّ إنّه (عليه السّلام) خرج ليلاً وحده ليختبر الثنايا والعقبات ، والأكمات المشرفة على المنزل ، وإذا بنافع خلفه ، فقال له الحسين (عليه السّلام) : «مَن الرجل؟ نافع؟».

نافع : نعم جُعلت فداك يابن رسول الله.

الحسين (عليه السّلام) : «نافع ، ما أخرجك في هذا الليل؟».

نافع : سيدي أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة هذا الباغي.

الحسين (عليه السّلام) : «خرجت أتفقّد هذه التلعات ؛ مخافة أن

__________________

(١) نفسي المصدرين السابقين

١٤٩

تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيّمنا يوم يحملون وتحملون». ثمّ إنّه رجع وهو قابض على يساري وهو يقول : «هي هي والله وعد لا خلف فيه». ثمّ قال لنافع :

«يا نافع ، ألا تسلك بين هذين الجبلين [وتنجو] بنفسك؟».

نافع : سيدي إذاً ثكلت نافعاً اُمّه! إنّ سيفي بألف ، وفرسي بمثله ، فوالله الذي منّ عليّ بك في هذا المكان ، لن اُفارقك أبا عبد الله حتّى يكلاّ عن فريّ وجريّ (١).

٨٢ ـ شهادة الحسين (عليه السّلام) بأصحابه :

ثمّ إنّه (عليه السّلام) فارق نافع ، ودخل خيمة أخته زينب (عليها السّلام) ، فوضعت له متكأ وجلس يحدّثها سرّاً ، ونافع واقف ينتظر خروج الحسين (عليه السّلام).

زينب تقول لأخيها الحسين (عليه السّلام) : يابن اُمّي ، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخاف أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة؟

الحسين (عليه السّلام) : «يا اُخيّة ، أما والله لقد بلوتهم ، فما

__________________

(١) المجالس الفاخرة ـ الإمام شرف الدين ص ٩٢.

١٥٠

رأيت فيهم إلاّ الأشوس ، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن اُمّه» (١).

٨٣ ـ الأصحاب يقفون عند خيام حرم رسول الله (ص) :

فلمّا سمع نافع حديث زينب (عليها السّلام) لأخيها الحسين (عليه السّلام) ، وجواب الحسين (عليه السّلام) لها ، أقبل مسرعاً إلى حبيب بن مظاهر الأسدي وأخبره بما سمع ، إلى قول الحسين (عليه السّلام) «يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن اُمّه».

قال حبيب : أي والله ، لولا انتظار أمره لعاجلتهم وعالجتهم بسيفي هذا ، ما ثبت قائمه بيدي.

نافع يقول لحبيب : يا أخي ، تركت بنات رسول الله في وجل ورهب ، فهلاّ نمضي جميعاً لنسكن قلوبهنّ ، ونذهب رعبهنّ.

حبيب : سمعاً وطاعة. ونادى بأصحاب الحسين (عليه السّلام) :

أين أنصار الله؟ أين أنصار رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ أين أنصار فاطمة؟ أين أنصار الحسين؟ أين أنصار الإسلام؟

__________________

(١) المجالس الفاخرة للامام شرف الدين ص ٩٣.

١٥١

فتطالعوا من منازلهم كالليوث الضارية ، ومعهم العباس بن علي (عليهما السّلام).

حبيب قال لبني هاشم : ارجعوا إلى منازلكم لا سهرت عيونكم.

وبقي حبيب ومعه الأصحاب ، فخطب فيهم قائلاً : يا أصحاب الحمية ، وليوث الكريهة ، هذا نافع بن هلال يخبرني الساعة بكذا وكذا ، فأخبروني عن نيّاتكم.

الأصحاب جرّدوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : أما والله يابن مظاهر ، لئن زحف القوم إلينا لنحصدنّ رؤوسهم ، ولنلحقهم بأشياخهم ، ولنحفظنّ رسول الله في عترته وذرّيّته.

حبيب : معي معي إلى حرم رسول الله لنهدئنّ رعبهنّ فسار حبيب ومعه الأصحاب حتّى وقفوا بين أطناب المخيّم ، ونادى :

السلام عليكم يا ساداتنا ، السلام عليكم يا معشر حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلاّ في رقاب مَنْ يبتغي السوء فيكم ، وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلاّ في صدور مَنْ يفرّق ناديكم (١).

__________________

(١) للمجالس الفاخرة للامام شرف الدّين ص ٩٤.

١٥٢

فخرج الحسين (عليه السّلام) إليهم وقال : «أصحابي ، جزاكم الله عن أهل بيت نبيكم خيراً».

٨٤ ـ الحسين (عليه السّلام) واُخته زينب (عليها السّلام) :

لمّا أيقن الإمام الحسين (عليه السّلام) بأنّ القوم ليسوا بتاريكه ، وأنّه مقتول لا محالة لكثرة عددهم (١).

وقد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، وقلّة ناصريه وأعوانه ، أتى (عليه السّلام) يخبر اُخته زينب تدريجيّاً بالمصير الذي سيؤول إليه ؛ من قتله وقتل جميع أهل بيته وأصحابه من الرجال ، لئلاّ يكون إخبارها صدمة مفاجئة قد تودّي بحياتها ، وهي المسؤولة الوحيدة في حفظ عياله وأطفاله ، وتكميل رسالته المقدّسة ، وبيان أحقّيتها وواقعيتها ، لئلاّ يشوّهوا واقعها الاُمويّون وأنصارهم. فجلس (عليه السّلام) بإزاء خيمتها وهو يصلح سيفه ويقول :

يا دهرُ أفٍ لكَ من خليلِ

كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ

والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكلّ حيّ سالكٌ سبيلِ (١)

__________________

(١) انظر التعداد الكمّي للجيش الاُموي في كربلاء من هذا الكتاب.

(٢) الطبري ص ٣٢٣ ج ٤.

١٥٣

فأعادها مرتين أو ثلاثاً ، فسمعتها اُخته زينب (عليها السّلام) وأقبلت عليه حاسرة ، وهي تقول : وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت فاطمة اُمّي ، وعلي أبي ، وحسن أخي ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي (١)!

الحسين (عليه السّلام) : «يا اُخيّة ، لا يذهبنّ حلمك الشيطان».

زينب (عليها السّلام) : بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله! أستقتلت نفسي فداك؟!

الحسين (عليه السّلام) ردّ غصته وترقرت عيناه ، وقال : «لو تُرك القطا ليلاً لنام». زينب (عليها السّلام) : يا ويلتا! أفتغصب نفسك اغتصاباً؟! فذلك أقرح لقلبي ، وأشدّ على نفسي. ولطمت وجهها ، وأهوت إلى جيبها وشقته ، وخرّت مغشياً عليها.

الحسين (عليه السّلام) قام إليها وصبّ الماء على وجهها فأفاقت. قال لها : «يا اُخيّة ، اتقي الله ، وتعزي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأنّ أهل السماء لا يبقون ، وأنّ كل شيء هالك إلاّ وجهه ، الله الذي خلق الأرض بقدرته ، ويبعث الخلق فيعودون ، وهو فرد وحده. أبي خير منّي ، واُمّي خير منّي ، وأخي خير منّي ، ولي

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٩.

١٥٤

ولهم ولكلّ مسلم برسول الله أسوة».

فعزّاها بهذا وقال لها : «يا اُخيّة ، إنّي اُقسم عليك فأبرّي قسمي ؛ لا تشقي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت» (١).

٨٥ ـ ليلة الوداع ليلة صلاة وتلاوة :

بات الحسين (عليه السّلام) وأصحابه معه هذه الليلة ، وهي الليلة العاشرة من محرّم ، وهم على يقين أنّهم ملاقوا ربّهم غدوة هذه العشية ؛ فلذا نراهم طلّقوا حرائرهم ودنياهم بما فيها ، وأقبلوا على الله بقلوب طاهرة ونيّات صافية أن يرزقهم الله الشهادة بين يدي ابن بنت نبيّهم محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، يستأنسون بالمنيّة دونه استئناس الطفل بلبن اُمّه كما وصفهم الحسين (عليه السّلام).

وباتوا ليلتهم هذه فرحين مسرورين ، غير وجلين ولا خائفين بما يلاقون في صبيحتهم هذه ، مقبلين على الله بكلّ مشاعرهم وأفكارهم ، فهم بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، وبين تال للقرآن ومستغفر ، ولهم دوي كدوي النحل (٢).

__________________

(١) الطبري ص ٣٣٤ ج ٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣١٦ ، مقتل الحسين ـ محسن الأمين ص ١٠٦.

١٥٥

فتأثر بهذا الجو الواقعي نفر من الجيش الاُموي من ذوي الضمائر الحيّة التي كانت عليها غشاوة ضلال ، فانجلت بهذا الجو المشحون إيماناً وتقىً وهدى.

وبينما الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وهم على هذا الحال ، وإذا بسرية من الجيش الاُموي عليها عزرة بن قيس الأحمسي تراقب عن كثب حركات الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ، فتلا الحسين (عليه السّلام) هذه الآية الشريفة : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (١).

٨٦ ـ محاورة بين برير وأبي حرب السبيعي :

وكان في الجيش الاُموي عبد الله بن شهر المكنّى بأبي حرب السبيعي ، فسمع تلاوة الحسين (عليه السّلام) فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ، ميّزنا منكم. فأجابه برير بن خضير وقد عرفه :

يا فاسق! أنت يجعلك في الطيّبين؟ فقال أبو حرب : مَنْ أنت؟

__________________

(١) سورة آل عمران ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

١٥٦

أنا برير بن خضير.

قال أبو حرب : إنّا لله ، عزّ عليّ! هلكت والله ، هلكت يا برير.

برير : أبا حرب ، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام؟ فوالله إنّا لنحن الطيّبون ، ولكنّكم لأنتم الخبيثون.

أبو حرب : وأنا على ذلك من الشاهدين.

برير : ويلك! أفلا تنفعك معرفتك؟

أبو حرب : جعلت فداك! فمَنْ ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل ، ها هو معي.

برير : قبّح الله رأيك على كلّ حال ، أنت سفيه (١). وكان سفيهاً مضحاكاً.

ولما كان السحر خفق الحسين برأسه ثم استيقظ وهو يقول :

(رأيت كأن كلا با قد شدت لتنهشني وفيها كلب أبقع رأيته أشدها علي وأظن ان الذي يتولي قتلي رجل أبرص. ثم رأيت جدي رسول الله (ص) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول :

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢٠.

١٥٧

يا بني أنت شهيد آل محمد وقد استبشر بك أهل السماوات (١).

حفر خندق :

ثمّ إنّه (عليه السّلام) أمر أصحابه أن يحفروا خندقاً وراء البيوت ، ويضعوا فيه الحطب ويضرموا فيه النار في الغداة لئلاّ يهجم القوم من وراء الخيام.

٨٨ ـ يوم اللقاء بين العسكرين :

وطلع فجر اليوم العاشر من المحرّم. صلّى الحسين (عليه السّلام) بأصحابه صلاة الغداة ، وقام فيهم قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه : «إنّ الله تعالى أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال» (٢).

فتباشر أصحابه بلقاء ربّهم ، وأنّهم سيقدمون على روح وريحان وجنّة عرضها السماوات والأرض خالدين فيها أبداً. وإذا بهم فرحين بعضهم يداعب الآخر ، فهذا برير بن خضير يمازح عبد الرحمان ، أحد أصحاب الحسين (عليه السّلام).

__________________

(١) مقتل الحسين ص ١٠٧ للامين.

(٢) الطبري ص ٣٢٧ ج ٤.

١٥٨

عبد الرحمان : يا برير ، دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل.

برير : والله ، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكن والله إنّي لمستبشر بما نحن لاقون ؛ والله إنّ ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ، ولوددت أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم (١).

وكيف لا يكونوا فرحين مستبشرين ما داموا يدافعون عن الحقّ وأهله لأنّهم علموا أنّ الحقّ لا يُعمل به ، والباطل لا يُتناهى عنه ، ما دام الحكم الاُموي موجوداً فإنّ الحياة في ظلّه سأم وضجر ، والموت في مكافحته حياة وسعادة ، فلهذا نراهم يتسابقون في التضحية والفداء عن الإسلام ومقدّساته التي حاول الاُمويّون تشويهها وتغييرها.

٨٩ ـ الحسين ينظم جيشه الصغير :

ثمّ إنّ الحسين (عليه السّلام) نظر إلى أعوانه وأنصاره فرآهم على قلّة في العدد ، ولكنّهم كثيرون في إيمانهم وعقيدتهم ، وأنّ الرجل منهم يعدّ بعشرات من هؤلاء الجبناء في نفوسهم وضمائرهم.

__________________

(١) مقتل الحسين ـ عبد الرزاق المقرّم ص ٢٧٥ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٢١.

١٥٩

وإذا بجيش الحسين (عليه السّلام) يبلغ في كمّه العددي المئة وعشر أنفار (١١٠).

فقسّمه إلى ثلاث جبهات :

جبهة اليمين : عليها زهير بن القين. جبهة اليسار : عليها حبيب بن مظاهر الأسدي. القلب : وقف هو وأهل بيته وبقية أصحابه. والراية تخفق عليهم بيد أخيه أبي الفضل العباس. لأنّه أثبت طعّاناً ، وأربط جأشاً ، وأشدّ مراساً.

٩٠ ـ الجيش الاُموي ينظّم صفوفه :

ثمّ إنّ عمر بن سعد أمر بتنظيم صفوف جيشه الذي يتكوّن من ثلاثين ألف فارس وراجل ؛ فجعل عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة ، وعبد الرحمان بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد ، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة ، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان. ثمّ قسّم هؤلاء على جبهتين :

جبهة اليمين : أميرها عمرو بن الحجّاج الزبيدي.

جبهة اليسار : على رأسها شمر بن ذي الجوشن.

١٦٠