عاشوراء بين الصّلح الحسني والكيد السّفياني

السيد جعفر مرتضى العاملي

عاشوراء بين الصّلح الحسني والكيد السّفياني

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٦

للأخطبوط الاُموي وكل المناوئين لأهل البيت عليهم‌السلام.

ولعلّك تقول :

إذا كان الأمر كذلك فلماذا حارب الإمام علي عليه‌السلام معاوية ولم يسعَ إلى الصلح معه؟!

ونقول في الجواب :

سيأتي : أنّ الإمام علياً عليه‌السلام كان قادراً على الحرب ، وعلى تسجيل النصر الحاسم فيها .. فسعيه لمسالمة معاوية يعطي الانطباع بأنّ معاوية محق فيما يدّعيه كما سيأتي.

الثالث : أن ينتصر معاوية في الحرب ، والثمن سوف يكون في هذه الحالة أعلى وأغلى ، فإنّ الدماء التي سوف تسفك في حرب كهذه سوف تكون كثيرة وغزيرة ، ولن يقتصر ذلك على دماء شيعة الإمام علي عليه‌السلام ، بل هي سوف تتعداهم إلى غيرهم. كما أنّ الآثار السلبية للحرب السياسيّة منها والاجتماعيّة ، والأخلاقية والاقتصاديّة وغيرها سوف تكون كبيرة وخطيرة جداً.

أضف إلى ذلك : أنّ هذه الحرب سوف تتمخض عن نتائج مرعبة هي بلا شك الأشر والأضر : هي قتل أهل بيت النبوة واستئصالهم ، ثمّ الملاحقة بالإبادة الأكيدة لجميع أهل الإيمان أينما كانوا وحيثما وجدوا.

وإذا كان معاوية قد تتبّع شيعة الإمام علي عليه‌السلام حتّى استأصلهم ـ كما تقدم ـ رغم أنه لم يخض مع الإمام الحسن عليه‌السلام

٤١

حرباً ، ورغم العهود التي أعطاها في صلحه وعقد هدنته معه ، فماذا ستكون النتيجة؟

وكيف سيعامل شيعة الإمام علي والإمام الحسن عليهما‌السلام لو أنّ الإمام الحسن عليه‌السلام كان قد حاربه وانتصر هو على الإمام عليه‌السلام؟!

وإذا تمخّضت الحرب عن هذه النتائج فمَن يا تُرى يمكن أن يكون الداعي إلى الحق والمدافع عنه ، ومن يجرؤ على تعريف الناس به أو دلالتهم عليه؟!

فإنّ هذا الدين سوف يصبح بلا شك أسيراً بأيدي الأشرار ، وعلى رأسهم من هو مثل يزيد (لعنه الله) ، والوليد ومروان ، ومن تابعهم وشايعهم من أمثال الشمر بن ذي الجوشن ، وعمر بن سعد ، وعبيد الله بن زياد ، والحجاج ، وخالد القسري ، وغيرهم ممن هو على شاكلتهم.

ومن جهة اُخرى : فإنّ معاوية الذي استطاع أن يجنّد المسلمين لحرب أعظم رجل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يخدع الناس بشبهاته وشائعاته ، وأن يستفيد إلى أبعد الحدود من قتل عثمان ، ومن علاقته بعمر بن الخطاب ، لو انتصر على الإمام الحسن عليه‌السلام فسوف يكون أقدر على تشويه الصورة وقلب الحقائق ، وسوف يستعين بكلِّ ما له من مال ورجال ، وسيشتري الضمائر ، ويشوّه الدين ، ويعبث بأحكامه بلا رقيب أو عتيد.

فلا بدّ من تجاوز مرحلة معاوية بأفضل الطرق والوسائل ، خصوصاً

٤٢

بعد أن سمّى نفسه بأمير المؤمنين بعد التحكيم ، حيث إنّ هذا سيجعله أكثر شراسة في الدفاع عمّا يعتبره إنجازاً عظيماً في سياق تحقيق طموحاته وأطماعه الكبرى.

ولعلّك تقول :

إنّ هذه الاُمور لا بدّ أن تمنع أيضاً من مواجهة الإمام الحسين عليه‌السلام ليزيد (لعنه الله).

ونقول في الجواب :

إنّ الأمر بعد الصلح قد أصبحت له حيثيات اُخرى ، فإنّ حركة الإمام الحسين عليه‌السلام الجهاديّة قد جاءت لتؤكد ثمرات هذا الصلح وتحفظها.

جيش الإمام عليه‌السلام

وإذا كانت الاُمور تسير باتجاه تكريس النصر العسكري لصالح معاوية حين استطاع أن يخرج الاُلوف الكثيرة من جيش الإمام الحسن عليه‌السلام من دائرة الصراع المسلّح ، من خلال شراء ضمائر قادتهم ، وكان من بينهم أقرب الناس إلى الإمام ، وواليه على اليمن ، وابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو عبيد الله بن العباس (١) الذي خان الإمام الحسن

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٥١ ، الغارات / ٦٤٤ ، شرح النهج ـ للمعتزلي ١٦ / ٤٢ ، وراجع حول استسلام قادة جيش الإمام الحسن عليه‌السلام أعيانَ الشيعة ٤ قسم ١ / ٢٢.

٤٣

عليه‌السلام ولحق بمعاوية في ثمانية آلاف ، لقاء مئة ألف درهم كما رواه الفضل بن شاذان في بعض كتبه (١) ، أو مليون درهم (٢) ..

مع أنّ معاوية قد قتل له طفلين في اليمن ، فقد أتي بهما أحد قواده ، وهو بسر بن أبي أرطأة ، فذبحهما (٣).

هذا فضلاً عمّن انحاز إلى معاوية مع غير عبيد الله ، مع العلم بأن جيش الإمام الحسن عليه‌السلام بأجمعه ربما لم يكن يزيد على العشرين ألفاً (٤) في مقابل ستّين ألفاً عند معاوية كما نصّت عليه المصادر (٥).

وفي بعضها أنّ معاوية كان في مئة ألف (٦).

ويدلّ على أن عدة جيش الإمام الحسن عليه‌السلام لا تزيد على

__________________

(١) قاموس الرجال ٦ / ٢١٦ عن الفضل بن شاذان في بعض كتبه ، والبحار ٤٤ / ٦٠ عن الكشي.

(٢) الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ١٣ ، وشرح النهج ـ للمعتزلي ٦ / ٤٢ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٨٣٧ ، وتاريخ مدينة دمشق ١٠ / ١٥٢ ، وراجع الاستيعاب مطبوع بهامش الإصابة ١ / ١٦٣ عن الدار قطني ، والمبرد ، وراجع مقاتل الطالبيِّين / ٦٥.

(٤) راجع صلح الإمام الحسن عليه‌السلام ـ لآل ياسين / ١٠٦.

(٥) الإمامة والسياسة ١ / ١٨٤.

(٦) راجع الهداية الكبرى / ١٩٢.

٤٤

ذلك ، أمّا ما ذكروه من أنه كان ولّى كندياً على أربعة آلاف فانحاز إلى معاوية في مئتين منهم ، ثمّ أرسل أحد بني مراد على أربعة آلاف أيضاً فانحاز إلى معاوية أيضاً ، فأعلم الناس بذلك ، فادعوا أنهم مناصحون له ، فقال لهم :

«إنّ معسكري بالتحلية فوافوني ، وإنّي لأعلم أنكم غادرون بي ، ووالله لا تفون بعهدي ، ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم».

ثمَّ إنه أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام ، فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف ،

وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية بـ :

«أنَّا معك ، وإن شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك» (١).

بل لقد قال عليه‌السلام لحجر بن عدي :

«والله يا حجر ، لو أني في ألف رجل ، لا والله إلاّ مئتي رجل ، لا والله إلاّ في سبع نفر لما وسعني تركه» (٢) ، يعني ترك معاوية الذي جاء في مئة ألف حسب نص تلك الرواية نفسها.

___________________

(١) راجع الخرائج والجرائح ٢ / ٥٧٤ ، ٥٧٥ ، ٥٧٦ ، والبحار ٤٤ / ٤٣ ـ ٤٥ ، ومعالي السبطين / ٣٤ ، والعوالم ١٦ / ١٤١ ، وراجع إثبات الهداة ٥ / ١٥١ ، والهداية الكبرى / ١٨٩ ـ ١٩١ لكن فيه : إنّ الذين وافوه إلى النخيلة هم عشرة آلاف راجل.

(٢) الهداية الكبرى / ١٩٢.

٤٥

بل ذكر المرتضى في تنزيه الأنبياء أنه عليه‌السلام دعاهم إلى أن يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة فلم يجبه منهم أحد (١).

وبذلك يظهر : أنّ ما ذكره البعض من أنه قد كان عنده أربعون ألفاً ، أو نيف وأربعون ألفاً (٢) فهو ناظر إلى الذين كان الإمام علي عليه‌السلام قد جهّزهم قبل استشهاده لحرب معاوية كما ألمح إليه ، بل صرح به بعضهم (٣).

أمّا مَن بقي معه عليه‌السلام فهم يرون أن الدنيا التي يحبونها كانت عند معاوية الذي يرون بينهم وبينه العقبات والحواجز ، كما أنهم كانت أهواؤهم وولاءاتهم مختلفة ، فمنهم الخوارج ، ومنهم ـ وهم الأكثر ـ من يكنّ الولاء لعمر بن الخطاب لا للإمام علي عليه‌السلام.

وذلك لأنّ عمر هو الذي فتح بلادهم ، ووجههم للفتوحات في بلاد فارس ، فاستفادوا المال والمناصب وغير ذلك ، وهو الذي مصَّر الكوفة والبصرة ، بالإضافة إلى أن الكثيرين ما كان يهمهم سوى الحصول على الولايات والمناصب والزعامات ، ومنهم من كان يكنّ الولاء لبني اُميّة.

وقد رأوا أنّ الإمام علياً عليه‌السلام يريد أن يحملهم على المحجّة ،

___________________

(١) راجع البحار ٤٤ / ٢٥.

(٢) راجع عمدة الطالب / ٦٦ ، والمختصر في أخبار البشر ١ / ١٨٢ ، والبحار ٤٤ / ٥٧ ، وتاريخ الخميس ٢ / ٢٨٩ ، والكامل في التاريخ ٣ ، وراجع كلام المسيب بن نجبة في شرح النهج ـ للمعتزلي.

(٣) راجع المختصر في أخبار البشر ١ / ١٩٣ ، وابن الأثير في الكامل.

٤٦

ويعاملهم بالعدل ، وقد جاهد بهم أعداء الله ، وضحوا بالأموال والأنفس ، وبالعلاقات وبغير ذلك من دون أن يحصلوا على غنائم ولا على سبايا ، ولا على مناصب أو مقامات ، بل إنّ الإمام علياً عليه‌السلام لا يسكت حتّى عن وليمة يُدعى إليها واليه على البصرة ، وهو ابن حنيف ، فيكتب إليه رسالة لوم وتقريع يخلّدها التاريخ ، كما أنه عليه‌السلام لم يكن ليفسح لهم المجال لأية مخالفة ، بل هو يعاقب المخالف وفق أحكام الشرع والدين.

وهذا أمر لم يعتادوه ، بل اعتادوا حياة الانفلات والسعي وراء الشهوات ، وكانوا يعرفون أن الإمام الحسن عليه‌السلام لا يختلف عن أبيه في ذلك ، بل هو يسير على نفس الخط.

بل إنّ هذا الجيش نفسه الذي أعدّه الإمام الحسن عليه‌السلام لحرب عدوه قد اعتدى على نفس قائده وإمامه ، فنهبوا فسطاطه ، وأخذوا مطرفه عن عاتقه ، وسحبوا البساط الذي يصلّي عليه من تحته ، وضربوه بالمعول في فخذه بساباط المدائن ، وبقي يتداوى من هذه الضربة أكثر من شهرين .. (١).

ورماه أحدهم بسهم وهو يصلي ، فلم يثبت فيه لأنه عليه‌السلام كان يلبس درعه .. (٢).

_____________________

(١) شرح النهج ـ للمعتزلي ١٦ / ٢٦ ، ٤١ ، وراجع مقاتل الطالبيِّين / ٤١ ، وكمال الدين وتمام النعمة / ٥٤٦ ، والبحار ٥١ / ٢٣٢.

(٢) أعيان الشيعة ٤ قسم ١ / ٢٢ عن المفيد.

٤٧

فالجيش الذي يفعل ذلك بقائده وسيده هل يمكن أن يضحّي بالغالي والنفيس امتثالاً لأمر ذلك القائد ونصرة لقضيته؟!

وقد قالوا في وصف جيش الإمام الحسن عليه‌السلام :

خف معه أخلاط من الناس ، بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما‌السلام ، وبعضهم محكّمة (أي خوارج) يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكّاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين (١).

أمّا معاوية فمعه جيش قوي متماسك يلتقي معه في الأهداف ، وفي السلوك ، وفي الولاء ، وقد تربى على يده ، وعلى نهجه ، وله نفس طموحاته ، وعين أهدافه ، ويكنّ له الولاء والحب.

وله أيضاً جانب كبير من أهل العراق ، وفي جيش الإمام الحسن عليه‌السلام بالذات ممّن اشترى ضمائرهم ، أو أنهم من أنصاره والموالين له مباشرة ، أو يلتقون معه في الأهداف ، أو في المطامع ، أو في الولاء والانتساب لغير أهل البيت عليهم‌السلام.

التحرك نحو الحرب :

وقد كان الإمام الحسن عليه‌السلام يعلم بكل هذه الحقائق ، ولكن

­­­­­­­­­­___________________

(١) الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ١٠ ، وراجع البحار ٤٤ / ٤٦ ، ٥٦ ، وأعيان الشيعة ٤ / ٢٠ ط دار التعارف سنة ١٤٠٠ هـ ، والفصول المهمة ـ لابن الصباغ / ١٤٣ ، وفي طبعة دار الكتب التجارية / ١٦١ ، وكشف الغمة للأربلي ٢ / ١٦٥.

٤٨

كان لا بدّ له ـ بعد أن سار معاوية إليه بجيشه ـ من أن يتحرك للدفاع وللتصدي ، لكي تتجسد الحقائق واقعاً ، حياً وملموساً ، وليرى الناس باُمِّ أعينهم حقيقة جيش الإمام في تركيبته ، وفي ممارساته لكل أحد. ولكي يمكّن أن يخضع معاوية لشرائطه ، أو على الأقل أن يقبل بأن يفاوضه عليها ، ويحقق أعظم الأهداف رغم أنه في أضعف جيش ، وفي مواجهته معاوية الداهية وهو في أقوى جيش ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أن الإمام عليه‌السلام قد حقق معجزة كبرى في مجال السياسة كما هو واضح.

خيار السلم :

وأمّا خيار السلم فهو أيضاً على نحوين :

أحدهما : أن يستسلم الإمام الحسن عليه‌السلام لمعاوية ، ويقول له : افعل ما تشاء ، فإنني قد انسحبت من ساحة الصراع.

فهذا السلام هو عين الهزيمة ، وهو سوف يعطي الشرعيّة لكل ممارسات وجرائم وجنايات معاوية ، وهو أعظم خطراً من الهزيمة العسكرية ثمَّ الإبادة.

ثاني : السلام القائم على شروط ، وهو عقد الهدنة المسمّى بالصلح ، فإنه ليس فيه تضحية لا بالأنفس ولا بالأموال ، ولا تنشأ عنه أي من سلبيات الحرب الكثيرة.

كما أنه على صعيد النتائج لا يعطي أي مبرر لاُولئك الطغاة والمجرمين للعدوان على حياة القيادة ، أو على حياة أي من الرموز

٤٩

المؤثرة والفاعلة في الحياة الدينية أو السياسيّة.

وهو أيضاً يحفظ الشيعة من تسهيل استئصالهم وإبادتهم حين يزيّن المجرمون لأنفسهم وللبسطاء من الناس أنّ جرائمهم هذه لا بدّ منها ، لأنهم إنما يقتلون عدوهم الذي حاربهم وأراد قتلهم.

ولعلك تقول :

لقد رأينا أنّ الشيعة لم يسلموا بعد الصلح من ظلم معاوية وبني اُميّة ، حيث تتبعهم زياد بن أبيه وغيره من ولاة معاوية تحت كل حجر ومدر ، وألحقوا بهم أكبر الأذى.

ونقول في مجال التوضيح والتصحيح :

إنه كان ظلماً مفضوحاً ، فاقداً لأي مبرر ، ولا يمكن أن يتسبب بأي تضليل أو شبهة ..

لأنّ هذه الخسائر في السلم قد جاءت على سبيل نكث العهد ، ونقض العقد ، فهي إذاً لم تكن بلا ثمن ، بل صار ثمن دم الشيعي هو اكتشاف الناس للخائن والغادر ، ووعيهم لحقيقة هؤلاء الظالمين ، ووضوح بطلان دعاواهم ، وفضح مكائدهم ، وإدراك أنهم غادرون ظالمون ، ناكثون للعهود ، وأنهم ليسوا أهلاً لما يدّعونه من إمامة وخلافة.

وهذا معناه : أنّ الصورة ستصبح أكثر نقاء ووضوحاً للأجيال الآتية ، وفي هذا الوضوح يحفظ الدين من غائلة تراكم الشبهات والأباطيل ، ويحفظ المسلمون من التضليل .. وبذلك يفضح أمر الطرف الآخر ، ويسلب أية شرعيّة لما يدّعيه ، وتسقط جميع تصرفاته عن الاعتبار ،

٥٠

ويظهر زيف ادعاءاته ، وبوار ممارساته ، وعوار أهدافه.

كما أنّ ذلك يسقط شرعيّة كلّ ما يدّعيه الغاصبون الذين يأتون بعد معاوية ممّن يرتكزون في شرعيتهم إليه ويعتمدون فيها عليه.

فاتّضح : أنه لولا هذا السلم المتمثل بعقد الهدنة «الصلح» لبقي أعداء أهل البيت يبثّون شبهاتهم ، ويشيعون أضاليلهم وأباطيلهم التي تتهدّد إيمان الناس واعتقادهم على مر الدهور والعصور.

واتضح أيضاً : أنّ ما يحصل عليه الإمام الحسن عليه‌السلام عن طريق السلم يستحيل أن يحصل عليه في الحرب حتّى لو انتصر فيها.

ولعلك تقول :

لماذا حارب الإمام علي عليه‌السلام معاوية ولم يسعَ إلى مصالحته؟

ونقول في الجواب :

إنّ من الضروري التنبيه إلى أن هذا لم يكن يمكن حصوله في حرب معاوية للإمام علي عليه‌السلام ، فإنّ الإمام علياً عليه‌السلام كان يملك القدرة على الحرب ، فلا مبرر للصلح بنظر الناس ، بل إنّ السعي إليه يوجب الشبهة لدى الناس في أن يكون معاوية محقاً فيما يدّعيه ، وبذلك تصبح خيانة معاوية مبررة عند الكثيرين من الجهّال والبسطاء حتّى لو بادر إلى قتل الإمام علي عليه‌السلام نفسه ، لأنه سيكون قادراً على التمويه على الناس في أمر اتهام الإمام علي عليه‌السلام بدم عثمان ، وكفى ذلك مبرراً لنقض العهد والإقدام على جريمة قتله عليه‌السلام

٥١

بدافع من إحنه البدرية وأحقاده الأحدية.

ولكن قتل الإمام الحسن عليه‌السلام ليس له مبرر ما دام أنّ الحسنين عليهما‌السلام قد دافعا عن عثمان حين هوجم وقُتل كما أوضحناه في كتابنا : الحياة السياسيّة للإمام الحسن عليه‌السلام.

حسابات معاوية في صلحه :

وإذا رجعنا إلى حسابات معاوية لأمر الصلح فإنّه وإن كان يرى نفسه في موقع القوة ، ويرى أن انتصاره العسكري سيكون سهلاً وميسوراً بملاحظة واقع الجيشين ، ولكنه كان يعلم أيضاً أنّ هذا الانتصار إذا انتهى باستشهاد الإمامين الحسنين عليهما‌السلام وبني هاشم فإنه يحمل معه احتمالات حدوث مفاجآت غير محسوبة (١) هو في غنى عن معاناة الخوف والحذر منها ، وسوف تنغّص تلك المفاجآت المحتملة عليه لذة العيش إذا كانت تتحرك في دائرة انتقال الملك إلى ولده يزيد (لعنه الله) وبني اُميّة ، فإنّ الأيام قد تتمخض عن تقلّبات لم يحسب لها هو ولا غيره حساباً ، وقد لا يستطيع من يأتي بعده من بني أبيه معالجتها بما يحفظ له النتائج الطيّبة التي يتوخاها ..

ولأجل ذلك ، فقد آثر أن يعطي الإمام الحسن عليه‌السلام ما يريد ، معتمداً على ما بيَّته من نوايا الغدر والخيانة له ، ونكث عهده ونقض

____________________

(١) ولو مثل أن يأتي سهم غرب فيقتله أو يقتل ولده ، أو أن يتمكّن إنسان من التسلل إليه أو إلى مَن يحب فيقتله ، إلى غير ذلك من احتمالات.

٥٢

عقده ، وإبطال كل ما كان شرطه له. وقد أفصح هو نفسه عن نواياه هذه بجلاء حينما أعلن بعد توقيعه على وثيقة الصلح ، يقول :

ألا إنّ كلَّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين ، لا أفي به (١).

وهذا ما صرّح به عدد من المؤرّخين أيضاً (٢).

معاوية يظهر على حقيقته :

ولكن من الواضح : أنّ هذا الغدر والخيانة ليس فقط لا يخلّ بالبنية الفكرية والاعتقادية ، بل هو يحصِّن هذه البنية ويزيدها قوة ومناعة ، من حيث إنه يمثّل الدليل الحي لسقوط الدعاوى الكاذبة بأنّ لبني اُميّة الحقَّ في امتلاك قيادة الاُمّة فإنّ الخائن والغادر والكاذب لا يمكن أن يكون أهلاً لشيء من ذلك.

وليكن هذا الانطباع الناشئ عن المعاينة بمثابة صمّام الأمان حتّى لا تتعرض الحقيقة بعد هذا للتزوير ، وليكن هو الحافظ لها من التشكيك

____________________

(١) راجع مقاتل الطالبيِّين / ٦٩ ، والغدير ١١ / ٧ ، وشرح النهج ـ للمعتزلي ١٦ / ٤٦ ، وراجع الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ١٤ ، والإمامة والسياسة ١ / ١٨٦ ، والبحار ٤٤ / ٣.

(٢) راجع النصائح الكافية لمحمد بن عقيل / ١٩٣ ، وترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ـ لابن عساكر ـ بتحقيق المحمودي / ١٨٦ ، وجواهر المطالب في إمامة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ لابن الدمشقي ٢ / ١٩٨ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٣١.

٥٣

والتلاعب وخداع الناس فيها ..

وبذلك يصبح للفكر السياسي والديني قوته ورسوخه وأصالته ، ليؤمن بعد هذا مَن آمن عن بينة ، وليكفر من كفر عن بينة.

الوفاء والخيانة لشروط الصلح

وبعدما تقدّم نقول : إنّ الإمام الحسن عليه‌السلام قد استطاع بعقد الهدنة الذي أبرمه مع معاوية أن يحفظ للشيعة المخلصين حقهم في الحياة ، وأصبح أي تعامل غير إنساني معهم يمثّل دليلاً على سقوط اُطروحة وادّعاءات مناوئي أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنه سوف يكون عدواناً غادراً ومفضوحاً لا يمكن تبريره بأي منطق كان حتّى بمنطق أهل الجاهليّة ومَن لا يؤمن بدين.

كما أنه عدوان يدركه الناس كلهم ، كبيرهم وصغيرهم ، وعالمهم وجاهلهم ، والذكي والغبي ، والقريب والبعيد .. من حيث إنّ البشر كلهم يدركون أنّ الحياة الإنسانيّة لا يمكن أن تستمر إذا لم يتم الالتزام بالعهود والمواثيق ، فمن لا يلتزم بها فإنه يصادم البداهة ، ولا بدّ من إدانته ، لأنه بنظر الناس جميعاً يعبث بسلامة الحياة الإنسانيّة ، وهو ما لا يمكن السماح ولا الرضا به في أي من الظروف والأحوال.

وبذلك يصبح الوفاء والخيانة للعهود هو المفتاح الذي إذا حرّكه الإنسان وعرف الخائن والوفي فإنه يعرف بذلك المحق من المبطل ، والمصلح من المفسد ، وقد استطاع الإمام الحسن عليه‌السلام أن يوجد هذا المفتاح ، وأن يجعله في متناول يد كل إنسان عاش معه أو يأتي بعده.

٥٤

الفصل الثالث :

شروط الصلح

تجعل يزيد (لعنه الله) هو الباغي

٥٥
٥٦

شروط الهدنة :

إنّ الشروط التي وقَّع عليها معاوية قد جاءت على غاية من الأهمية والخطورة ..

وهي شروط كثيرة لم يستطع التاريخ أن يفصح لنا إلاّ عن بعض منها ، غير أنه قد أشار التاريخ إلى كثرة هذه الشروط حين صرّح بأنّ معاوية قد أرسل إلى الإمام الحسن عليه‌السلام وثيقة ضمن له فيها شروطاً ، ولكن الإمام الحسن عليه‌السلام قد شرط عليه أضعاف ذلك (١).

والذي أفصح لنا عنه التاريخ من هذه الشروط مهم جدّاً ، ولعل ما لم يصل إلينا ممّا سعى الاُمويّون إلى طمسه وإغفاله كان هو الأهم والأكثر حساسيّة.

بعض شروط الصلح :

ومن جملة شروط معاهدة الهدنة التي كانت بين معاوية والإمام

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ١٢٤ ط الأعلمي ، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ـ لابن الدمشقي ٢ / ١٩٨ ط مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة.

٥٧

الحسن عليه‌السلام هو أنّ الإمام الحسن عليه‌السلام يسلم الأمر (١) لمعاوية على أن يكون له الأمر من بعده ، فإن حدث به حدث فللحسين عليه‌السلام (٢).

وممّا يدل على ثبوت هذا الشرط : أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قد قال لابن الزبير بمجرد ورود الخبر بموت معاوية :

«إنّي لا اُبايع أبداً ، لأنّ الأمر إنما كان لي من بعد أخي الحسن ،

____________________

(١) راجع الفصول المهمة لابن الصباغ / ١٦٣ ، وعمدة الطالب / ٦٧ ، المطبعة الحيدريّة ، وحياة الإمام الحسن عليه‌السلام ـ للقرشي ٢ / ٢٨٧. ويلاحظ أنه عليه‌السلام قد اختار كلمة «الأمر» ، ولم يقل : «الإمامة» ، أو «الخلافة» ، أو «الملك» ، أو «السلطان» ، أو «الحكم» ، لكي لا يُظَنَّ أنه عليه‌السلام قد اعترف أو رضي بأن يكون له إمامة ، أو ملكاً ، أو حاكمية ، أو سلطاناً ، أو غير ذلك ، فهو على حدِّ ما جاء في كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكسرى وقيصر حيث كتب صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما : «إلى عظيم فارس ...» ، و «إلى عظيم الروم ...» ، ولم يقل : «إلى ملك الروم» ، أو «... فارس» ، على اعتبار أنّ التعبير بكلمة «ملك» أو «سلطان» ، أو نحوهما قد يفهم منه الإقرار بالملكية أو السلطنة لهما ، وأنه ليس له صلى‌الله‌عليه‌وآله سلطة في تلك البلاد. أو أنّ ذلك يتضمّن الإقرار بأنّ لكسرى أو لقيصر استقلالاً في منطقته ، وله حق التصرف والقرار فيها ، وليس لغيره حقّ التدخل في دائرة سلطانه وملكه ، أما كلمة عظيم فهي لا تدلّ لا على كونه آمراً أو مأموراً ، ولا على كونه ملكاً أو سوقة ، ولا على غير ذلك.

(٢) عمدة الطالب / ٦٧ ط المطبعة الحيدريّة ، وحياة الإمام الحسين عليه‌السلام ـ للشيخ باقر القرشي ٢ / ٢٨٧.

٥٨

فصنع معاوية ما صنع ، وحلف لأخي الحسن أنه لا يجعل الخلافة لأحد من بعده من ولده ، وأن يردّها إليَّ إن كنت حيّاً ، فإن كان معاوية قد خرج من دنياه ولم يفِ لي ولا لأخي الحسن بما كان ضمن فقد والله أتانا ما لا قوام لنا به» (١).

كما أنّ من شروط تلك الهدنة :

أن لا يسمّي الإمام الحسن عليه‌السلام معاوية أميرَ المؤمنين (٢).

وأن لا يقيم عنده شهادة (٣).

وأن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة رسوله (٤).

وزاد بعضهم : وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين ، وبعضهم زاد : وسنة الخلفاء الصالحين (٥).

____________________

(١) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ١٢ ، وموسوعة كلمات الإمام الحسن عليه‌السلام ـ للشيخ الشريفي / ٢٧٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ / ٢ ، وعلل الشرايع ١ / ٢١٢ ط الحيدريّة ـ النجف الأشرف ، ومستدرك الوسائل ١٣ / ١٨٠.

(٣) علل الشرائع ١ / ٢١٢ ط الحيدريّة ـ النجف الأشرف ـ العراق ، ومستدرك الوسائل ١٣ / ١٨٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ للمعتزلي ١٦ / ٢٢ عن المدائني ، وراجع الفتوح ـ المجلد الثاني ٤ / ٢٩١ ، وأضاف إلى ذلك : سنّة الخلفاء الصالحين أيضاً.

(٥) ويلاحظ هنا المغزى الذي يرمي إليه هذا التقييد بكلمة المهتدين أو بكلمة الصالحين.

٥٩

وليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده (١).

وهناك شروط اُخرى مثل :

أن يترك سب الإمام علي عليه‌السلام ولا يذكره إلاّ بخير ...

واستثناء مال بيت مال الكوفة فلا يُسلّم إلى معاوية.

وعلى معاوية أن يحمل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام في كلِّ عام ألفَي ألف درهم.

وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس ...

وأن يفرق في أولاد مَن قُتل مع علي عليه‌السلام في الجمل وصفّين ألف ألف درهم (٢).

وأن يجعل ذلك من خراج دارابجرد.

وفي نص آخر : أن يكون له خراج دارابجرد (٣).

وأنّ الناس آمنون حيث كانوا ، أسودهم وأحمرهم ..

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ للمعتزلي ١٦ / ٢٢ ، والفصول المهمة ـ لابن الصباغ / ١٦٣ ، والفتوح ـ لابن أعثم ـ المجلد الثاني ٤ / ٢٩١ ، وتاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٦٥ ، والإمامة والسياسة ١ / ١٨٤.

(٢) ويلاحظ تخصيص هذين الفريقين ، ولم يذكر معهما أيتام حرب النهراوان ، وذلك لكي تفهم القضية بما لها من مضمون سياسي واعتقادي ، ولا تفهم على أساس أنها مجرد عمل إنساني وأخلاقي.

(٣) هي كلمة فارسية ، أصلها : داراب كرد.

٦٠