عاشوراء بين الصّلح الحسني والكيد السّفياني

السيد جعفر مرتضى العاملي

عاشوراء بين الصّلح الحسني والكيد السّفياني

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٦

الفصل الأوّل :

سياسات ونتائج

٢١
٢٢

الكذبة الكبيرة

إنّ الملاحظ هو :

أنّ بداية الكلام في المنشور وفي السطرين الأوّلين منه بالذات تضمّنت كذبة كبيرة ، مفادها :

أنّ يزيد (لعنه الله) قد بويع ولم يبايع الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام ، ولا عبد الله بن الزبير.

قد جاءت هذه الكذبة لتعطي الانطباع بأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قد خرج على إمام قد تمّت بيعته ، وصحَّت إمامته ، ممّا يعني أنّه هو الباغي على إمام زمانه ، وأن يزيد (لعنه الله) كان في موقع الدفاع!

مع أنّ الحقيقة هي عكس ذلك تماماً ، وقد كان عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار اُموراً كثيرة كلها تدحض هذا المنطق وتدينه ، نسوق في هذه العجالة بعضاً منها ، وذلك ضمن ما يلي من مطالب :

الحسن والحسين عليهما‌السلام إمامان :

١ ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عن الحسن والحسين عليهما‌السلام :

٢٣

«ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» (١).

وفي نص آخر : «الحسن والحسين إماما اُمّتي بعد أبيهما» (٢).

وهناك حديث الخلفاء أو الأئمة بعدي اثنا عشر ، والأحاديث الدالة على أنهم من ذرّيته عليه‌السلام .. (٣).

فإمامة الحسن والحسين عليهما‌السلام مجعولة من قبل الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا ينطق عن الهوى ، وليس لأحد الحقّ في الافتئات عليهما في ذلك ..

فما معنى تصدّي معاوية للإمام الحسن عليه‌السلام ، ثمّ تصدّي يزيد (لعنه الله) للإمام الحسين عليه‌السلام ، واغتصاب مقام جعله الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهما عليهما‌السلام دون ابن آكلة الأكباد وولده؟!

الصلح الحسني العظيم

ثمّ إنّ الصلح الحسني العظيم قد ضمن لحركة الإمام الحسين عليه‌السلام الجهادية صفاءها ونقاءها ، وأبطل كل محاولات النيل منها ،

____________________

(١) علل الشرايع ١ / ٢١١ ، والإرشاد ٢ / ٣٠ ، ومناقب آل أبي طالب ٣ / ٣٦٧ ، ط مكتبة مصطفوي ـ قم ـ إيران ، والبحار ٣٦ / ٢٨٩ ، ٣٢٥ ، وج٤٣ / ٢٧٨ ، وج٤٤ / ٢ ، وج٢١ / ٢٧٩ ، وج٣٧ / ٧ ، وج١٦ / ٣٠٧ ، واللمعة البيضاء / ٤٠.

(٢) فرائد السمطين للحمويني ١ / ٥٥ ، وإحقاق الحق ٥ / ٥٥ عنه.

(٣) راجع إحقاق الحقِّ وملحقاته للسيد المرعشي النجفي تجد أحاديث كثيرة مروية عن أهل السنة ، كلها تصب في هذا الاتجاه.

٢٤

وتوضيح ذلك يحتاج إلى بسط في القول وفنون من البيان.

فنقول :

عظمة عمر بن الخطاب في العرب

لقد كان لعمر بن الخطاب مكانة عظيمة وهيمنة على قلوب العرب ، فكان قوله فيهم كالشرع المتبع ، حتّى لقد رووا أنّ القرآن قد نزل بموافقته مرات عديدة ، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك (١).

ومحبتهم له ترجع إلى عدة أسباب ، منها : ما قام به من فتوحات استفادوا منها الأموال والمقامات والرياسات ، وحصلوا على الحسناوات ، ومنها سياسة تفضيل العرب على غيرهم التي انتهجها وتوسّع فيها لتشمل مختلف الجهات والحالات ، وقطع فيها شوطاً بعيداً ، فسقطت منزلة غير العرب لصالح العرب كما أوضحناه في كتابنا «سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي».

معاوية الرجل المفضّل عند عمر :

وكان معاوية بن أبي سفيان عاملاً على الشام لعمر بن الخطاب ، فكان هو الرجل المفضّل والمدلل عنده ، حتّى إنه كان طيلة فترة حكمه يحاسب جميع عماله في كل عام ، ويقاسمهم أموالهم ، ويُبقي مَن يُبقي ويعزل مَن يعزل منهم ، ولا يبقي عاملاً أكثر من عامين (٢) ، باستثناء

____________________

(١) شرح النهج ٦ / ٣٢٨ ، وج١٢ / ٥٧ ، وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي / ٣٢ ، وتهذيب الكمال ٢١ / ٣٢٤ ، وتهذيب التهذيب ٧ / ٣٨٧.

(٢) راجع التراتيب الإدارية ١ / ٢٦٩.

٢٥

معاوية ، فإنه أبقاه وأطلق يده ، وقال له : لا آمرك ولا أنهاك .. (١). ليتصرف كيف يشاء من دون حساب ولا كتاب ، ولا سؤال ولا جواب.

فهو بعمله هذا تجاه عمّاله يشكّكهم في أنفسهم ، ويشكك الناس بهم ، ويجعلهم مظنّة للخيانة ، ويواجههم بما يضعف شخصيتهم ، ولكنه يرفع شأن معاوية ، ويعزز مقامه ، ويزيده شوكة وعظمة ونفوذاً ، بل هو قد كان إذا نظر إليه يقول : هذا كسرى العرب (٢).

ويقول عن عمرو بن العاص :

ما ينبغي لعمرو أن يمشي على الأرض إلاّ أميراً (٣).

بل هو قد قال لأهل الشورى : يا أصحاب محمّد ، تناصحوا .. فإنّكم إن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان .. (٤).

____________________

) البداية والنهاية ٨ / ١٣٣ ، وتاريخ مدينة دمشق ٥٩ / ١١٢ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٣٣ ، وشرح النهج ـ للمعتزلي ٨ / ٣٠٠ ، وراجع دلائل الصدق ٣ قسم ١ / ٢١٢ عن الطبري ٦ / ١٨٤ وعن الاستيعاب.

) البداية والنهاية ٨ / ١٣٤ ، ١٣٥ ، وتاريخ مدينة دمشق ٥٩ / ١١٤ ، واُسد الغابة ٤ / ٣٨٦ ، والإصابة ٣ / ٤٣٤ ، والاستيعاب بهامش الإصابة ٣ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٣٤ ، وراجع الفخري في الآداب السلطانية / ١٠٥.

) فتوح مصر وأخبارها / ١٨٠ ، والإصابة ٣ / ٢ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٧٠ ، وفي هامشه عن ابن عساكر ١٣ / ٢٥٧.

) شرح النهج ـ لابن أبي الحديد المعتزلي ٣ / ٩٩ ، وراجع ١ / ١٨٧ ، وكنز العمال ١١ / ٢٦٧ ط مؤسسة الرسالة ، وراجع أيضاً ٥ / ٤٣٦ ط سنة ١٣٨٤ هـ

٢٦

ومدائح عمر لمعاوية كثيرة (١).

وقد صرح معاوية نفسه بأنه قد دبّر الأمر من زمن عمر (٢) ، وما إلى ذلك.

مع أن معاوية وعمرو بن العاص لم يكن لهما ذلك الشأن بين المسلمين ، كما فقد أبو سفيان زعيم الشرك وقائد جيوشه ضد الإسلام قد فقد موقعه وأهميته ونفوذه.

عمر يمهّد لمعاوية وبني اُميّة

ولعل سبب محبة عمر لمعاوية هو أنه وجد فيه الرجل المناسب ، إذ اعتمد على بني اُميّة ومَن تابعهم لإنجاز أمر هام طالما كان عمر يفكّر فيه.

وهذا الأمر هو أنه قد كانت لدى عمر بن الخطاب رغبة بإبعاد أمر الخلافة عن الإمام علي عليه‌السلام وبني هاشم ، وكان يعلم أن أيّاً من أبنائه غير قادر على التصدي لهذا الأمر ، كما كان يدرك أن بني اُميّة هم الأكثر جرأة على اقتحام الصعاب في هذا السبيل. ولكنه كان يعلم أيضاً أنّ نقل الأمر لمعاوية مباشرة لن يكون مقبولاً ولا معقولاً مع وجود الإمام علي عليه‌السلام وغيره من وجوه ومشاهير الصحابة ، وذوي [الشأن] منهم ، خصوصاً أنّ معاوية من أبناء الطلقاء ، فآثر من أجل هذه

____________________

وتاريخ مدينة دمشق ٤٦ / ١٧٥ ، والإصابة ٣ / ٤٣٤ فإنّ النصوص وإن اختلفت لكنها تؤكّد على معنى واحد.

(١) راجع كتابنا «الحياة السياسيّة للإمام الحسن عليه‌السلام» / ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) راجع الأذكياء ـ لابن الجوزي / ٢٨.

٢٧

الأسباب وسواها أن يكون ثمة همزة وصل وسبب نقل.

فكان عثمان بن عفان ـ الشيخ الاُموي ـ هو المؤهّل بنظره لذلك ، فإذا تولّى الأمر فسوف يبقي معاوية على الشام ما دام حياً ، وسيزيد ذلك معاوية قوة ، أمّا بعد موته فإنّ معاوية لن يستسلم للإمام علي عليه‌السلام ولا لغيره بعد أن يكون قد حكم بلاد الشام حوالي عشرين سنة ، وربّاهم على يديه ، وثقَّفهم بمفاهيمه ، ونشَّأهم على محبته والارتباط به ، ومحبة من أحب ، والعداء لمن عادى حتّى لو كان الإمام علياً عليه‌السلام. لأنّ أهل الشام لم يعرفوا الإمام علياً عليه‌السلام ، ولا جهاده ، ولا زهده ، ولا علمه ، ولا .. ولا .. ، بل عرفوا وتربّوا على إسلام معاوية ، وإسلام الأطماع والغدر ، والخيانات والظلم ، والاستئثار والاحتيال ، والبحث عن الشهوات ، وارتكاب الجرائم ، والتزام مفاهيم الجاهليّة الملبّسة بلباس الدين.

فرسم الخطة في الشورى ، واختار الأشخاص ، وأصدر قرارات تجعل من تولّي عثمان من بعده أمراً يقينياً وحتمياً ..

فقد روي أن عمر حين طُعن قال :

ادعوا لي أبا طلحة الأنصاري. فدعوه له ، فقال : انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلاً من الأنصار ، حاملي سيوفكم ، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم.

فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه ..

٢٨

وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما ...

وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه ، فإن أصرّت الثلاثة الاُخرى على خلافها فاضرب أعناقها ...

وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم (١).

وفي نص آخر :

حدّثنا موسى بن هارون ، عن قتيبة بن سعيد ، عن عبد الله بن زيد بن أسلم ، عن أبيه :

أن عمر قال للستة : هم الذين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الدنيا وهو عنهم راض ، بايعوا لمن بايع له عبد الرحمن بن عوف ، فإذا بايعتم لمن بايع له عبد الرحمن ، فمن أبى فاضربوا عنقه (٢).

وسارت الاُمور بالاتجاه الذي رسمه عمر لها. فإنه كان يعرف ميول ابن عوف ، ويعرف طبيعة التركيبة التي اختارها لأركان الشورى أيضاً. وانتهت الاُمور بقتل عثمان ، وبغى معاوية على الإمام علي عليه‌السلام

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٧ ، التنبيه والإشراف / ٢٥٣.

(٢) المعجم الأوسط ٨ / ٩٥ ، وكنز العمال ٥ / ٧٤٣ ، ومجمع الزوائد ٥ / ١٨٤ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ١٦٠ ، وتاريخ مدينة دمشق ٣٥ / ٢٨٩ ، وج٣٩ / ١٩٠ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٢٧٣.

٢٩

وحاربه ، وأثار الشبهات ، واستفاد من سياسات عمر ومن غيرها لإحكام قبضته على ما في يده ، والتوثّب على ما في يد الإمام علي عليه‌السلام ، إلى أن استشهد الإمام عليه‌السلام ، وأمسك الإمام الحسن عليه‌السلام بأزمة الاُمور بعد وفاة أبيه ، فتحرك معاوية بعد ثمانية عشر يوماً (١) بجيشه نحو العراق ليحاربه كما حارب أباه من قبل.

وكان جيش معاوية يتّفق معه في الأهداف وفي السلوك ، وفي النهج السياسي وفي الولاء وغير ذلك ...

أمّا الإمام الحسن عليه‌السلام فلم يكن جيشه يتفق معه في شيء من ذلك ، بل هو إلى معاوية أقرب وأكثر انسجاماً معه. كما أن العراقيِّين أنفسهم إنما يعرفون إسلام معاوية لا إسلام الإمام علي عليه‌السلام ، ولا الإمام الحسن عليه‌السلام ، ولم يكن بينه وبينهم علاقة مصالح ، ولا علاقة عاطفية ، بل كانوا يرون أن مصالحهم مع المناوئين له ، وهم لا يقاتلون على نفس الشيء الذي كان الإمام علي والإمام الحسن عليهما‌السلام يقاتلون من أجله ، فهم كانوا في وادٍ والإمامان عليهما‌السلام في وادٍ آخر. بل كانوا منسجمين في فكرهم وعقائدهم ، وسلوكهم وأهدافهم وارتباطاتهم العاطفية مع معاوية أكثر ممّا هم منسجمون مع الإمام علي والحسن عليهما‌السلام.

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٤.

٣٠

التأسيس في الخمسين سنة الاُولى

هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى فإنّ التأمّل في الاُمور يعطي أنّ الخمسين سنة التي تلت استشهاد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت هي فترة التأسيس لبقاء هذا الدين ، وإرساء قواعده العقديّة والفكريّة والسياسيّة لتجد سبيلها إلى فكر ووعي الاُمم والأجيال المتعاقبة.

فكل ما يقال ويمارس في هذه الفترة لا بدّ أن يكون له صدى وحضور في الفكر والعقيدة ، والسياسة والممارسة الدينية عبر الدهور والعصور المتعاقبة ، فغياب الحق وأهله في هذه الفترة معناه غيابهما في المراحل التي تليها ، وبمقدار ما يكون لهما حضور في فترة التأسيس فسيكون لهما حضور في المراحل التالية ، وذلك لأنّ الأجيال والاُمم سوف تستقي من فترة التأسيس المشار إليها ، حيث ستصبح المنبع والرافد للناس في جميع العصور والدهور في فكرهم وعقائدهم ، ودينهم ومفردات إيمانهم.

الحسنان عليهما‌السلام في فترة التأسيس :

وقد عاش الإمامان الحسن والحسين عليهما‌السلام في هذه الفترة بالذات ، وكان لا بدّ لهما فيها من التعاطي مع الاُمور بصورة تحقّق أمرين :

أحدهما : حفظ الشيعة.

والثاني : حفظ جهود الأنبياء بحفظ الدين الذي جاؤوا به ، وبحفظ معالمه واُسسه ومبانيه في سياساته ، وفي عقائده ومفاهيمه ، ومن أهمها وأخطرها موضوع الإمامة في مبانيها الفكرية والإيمانية

٣١

والعقديّة ، وتحديد مفهومها ، وبيان شؤونها وحالاتها ، ومواصفات وشرائط وحالات الإمام الحق ، وليتميَّز بذلك عن المزيفين والمدّعين للباطل.

٣٢

الفصل الثاني :

الإمام الحسن عليه‌السلام

بين خياري السلم والحرب

٣٣
٣٤

بعد استشهاد الإمام عليه‌السلام

لقد استشهد الإمام علي عليه‌السلام في سنة أربعين للهجرة بعد معاناة طويلة وحروب دامية له ضد الظالمين والطامعين وطلاب اللبانات ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.

وكانت الإمامة والخلافة من بعد الإمام علي عليه‌السلام للإمام الحسن عليه‌السلام ، في الوقت الذي كان لا يزال معاوية مصراً على موقفه ، رافضاً التخلّي عن حكم الشام والدخول فيما دخل فيه المسلمون.

بل هو بمجرد أن سمع باستشهاد الإمام علي عليه‌السلام ، وبعد ثمانية عشر يوماً فقط جرَّد جيشاً قوامه ستون ألفاً ، وقصد العراق ليحارب الإمام الحسن (صلوات الله وسلامه عليه).

الإمام الحسن عليه‌السلام بين خياري السلم والحرب :

وقد قلنا : إنه كان لا بدّ للإمام الحسن عليه‌السلام من السعي لتحقيق هدفين :

أحدهما : حفظ الشيعة.

والثاني : حفظ جهود الأنبياء بحفظ الدين في عقائده وسياساته ،

٣٥

ومفاهيمه وقيمه ، وفي أحكامه وشرائعه.

وقد كان أمام الإمام الحسن عليه‌السلام خياران للوصول إلى هذين الهدفين :

أحدهما : الحرب.

الثاني : السلم.

خيار الحرب :

أمّا خيار الحرب فإنه يجعله أمام ثلاثة احتمالات لا بدّ في كل واحد منها من الموازنة بين التضحيات وبين النتائج ، ثمّ اختيار الخيار الذي يحقق الأتم والأفضل والأصلح منها ، حيث إنّ موقع الإمامة يفرض على الإمام التفكير في جميع الجوانب والحالات التي تواجهه في سياسة الاُمّة من أجل حفظ دينها ، ووجودها ومصالحها.

ومهما يكن من أمر فإنّ الخيارات الثلاثة هي التالية :

الأوّل : أن يتمكن من تحقيق النصر ولا بدّ في هذه الحالة من دفع ثمن لهذا النصر ، وهو :

أولاً ـ أرواح المئات والاُلوف من المسلمين (١) ، وفيهم المخلصون ، والأطياب الأطهار من أهل الإيمان ، ومن شيعته الذين هم خلاصة جهود

___________________

(١) يلاحظ أنهم يقولون : إن الذين قتلوا في حرب صفّين قد بلغوا سبعين ألفاً ، منهم خمسة وعشرون ألفاً من جيش الإمام علي عليه‌السلام ، وخمسة وعشرون ألفاً من جيش معاوية. راجع صفّين ـ للمنقري / ٥٥٨.

٣٦

أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن قبله الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين كان معاوية نفسه قد قتل قسماً منهم في حرب صفّين ، وقُتل قسم آخر منهم في حرب الجمل قبل ذلك.

ثانياً ـ ما ينشأ عن الحرب من سلبيات وأخطار اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وغيرها.

أمّا نتائج الحرب : فقد لا تكون في قيمتها وأهمّيتها في مستوى تلك الخسائر ، لأنّ هزيمة أتباع الخط المناوئ لأهل البيت عليهم‌السلام لا تعني القضاء عليهم ، لأن انتصار الإمام الحسن عليه‌السلام ليس مثل انتصار معاوية ـ كما بيّنّاه ـ لأنّ انتصار الإمام عليه‌السلام يقتصر على وأد الفتنة ، وإسقاط القدرة القتالية للطرف الآخر ، وسوف يصبح الجميع بعد الحرب في أمن وأمان. ثمّ البدء في عملية إصلاح واستصلاح مع حفظ سلامة الجميع ، تماماً كما حصل في حرب الجمل ، فإنّه بعد أن وضعت الحرب أوزارها عومل اُولئك المحاربون ـ حتّى زعماء الحرب وأركانها مثل ابن الزبير ومروان وأضرابهما ـ بالرفق واللين ، حتّى وكأن شيئاً لم يكن ، كما أنّ علياً في النهروان قد داوى جرحى الخوارج ولم يتعرض لهم بالأذى ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة قد عفا عنهم ، وقال لهم : «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

أمّا انتصار معاوية فإنّه لا يكون إلاّ بقتل الحسن ثمّ الحسين عليهما‌السلام ، وبني هاشم وشيعتهم ، فضلاً عمّن يُقتل من سائر الناس. فنصر معاوية نصر إبادة ، ونصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي والإمام الحسن والأئمة عليهم‌السلام نصر حقن الدماء وإصلاح واستصلاح.

٣٧

انتصار الإبادة

وقد طبّق معاوية سياسة الإبادة هذه حتّى بعد معاهدة الصلح .. حيث بطش في أصحاب علي عليه‌السلام واستأصل شأفتهم ..

فقد نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمة ممّن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته.

وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة ، لكثرة مَن بها من الشيعة ، فاستعمل زياد ابن أبيه وضمّ إليه العراقَيْن : الكوفة والبصرة ، فجعل يتتبع الشيعة ، وهو بهم عارف ، يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وصلبهم في جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشرّدهم حتّى نُفوا عن العراق ، فلم يبقَ بها أحد معروف مشهور ، فهم بين مقتول أو مصلوب ، أو محبوس ، أو طريد أو شريد.

وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع الأمصار : أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة (١) ...

وكتب إليهم أيضاً أن يقتلوا كل من يحبّ أهل البيت ، أو يُشكّ أو يُتّهم بحبه لهم (٢).

____________________

(١) الاحتجاج ٢ / ١٧ ، وسليم بن قيس / ٣١٦ ، وبحار الأنوار ٣٣ / ١٩٢ ، وج٤٤ / ١٢٥ ، ١٢٦ ، ومناقب أهل البيت عليهم‌السلام ـ للشيرواني / ٢٧ ، شرح النهج ١٠ / ٢٤٤ ، والغدير ١١ / ٢٨.

(٢) راجع المصادر في الهامش السابق.

٣٨

ومن جهة اُخرى ، فإنّ النصر العسكري للإمام الحسن عليه‌السلام لا يعني بطلان اُطروحتهم وبوار حجتهم ...

والشاهد على ما نقول : إنّ معاوية قد استطاع أن يخدع الناس بباطله حتّى في مقابل أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي لا يدانيه أحد في الاُمّة في جهاده وتضحياته ، ومقامه وفضائله.

ولا يجرؤ أحد على ادّعاء شيء منها في مقابله. فهل يعجز هو والأخطبوط الاُموي من ورائه ، والزبيريّون وأتباعهم ، والخوارج وأصحاب الأطماع ، وكذلك الذين لا يعتقدون بإمامته عليه‌السلام ، بل يوالون غيره ، هل يعجز هؤلاء كلهم عن بلبلة الأفكار وإثارة الشبهات والشكوك حول الإمامة والإمام ، خصوصاً بعد خديعة التحكيم التي أعطته الجرأة ليتسمى بأمير المؤمنين؟!

ثمّ بعد استشهاد الإمام علي عليه‌السلام وصيرورة الأمر إلى ولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، حيث تداعى الجيش العراقي ، وظهرت فيهم حسيكة النفاق ، وساروا في صراط الخيانة والغدر.

والخلاصة : أنّ انتصار الإمام الحسن عليه‌السلام لا يعني أن تصبح النتائج على صعيد وضوح الحق وإبطال كيد أهل الباطل في المستوى المطلوب ، بل سيبقى مثيروا الشبهات وأصحاب الادّعاءات الباطلة يثيرون الشبهات بدعواهم شراكة الإمام علي عليه‌السلام في قتل عثمان ، ولادّعاء أن معاوية قد ظلم ، وأن كل مَن معه قد ظلموا معه ، وسيقولون للناس : إن النصر العسكري لا يعني أن المنتصر محق.

٣٩

فالانتصار عليهم إذاً لن يكون مانعاً لهم من التشكيك في أحقّية أهل البيت عليهم‌السلام بمقام الإمامة ، فكيف إذا أصبحوا يدَّعون المظلومية لأنفسهم ، والغاصبيّة والعدوانيّة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وعلى رأسهم الإمام علي عليه‌السلام ، عليهم وعلى حقوقهم؟!

وسوف يجدون الكثيرين من البسطاء والسّذّج ، وطلاب الدنيا والجهال ، وحديثي العهد بالجاهليّة يستمعون إليهم ، ويقبلون منهم ، ويأخذون عنهم.

كما أن الخوارج والزبيريّة والعثمانيّة ، والموالين لغير أهل البيت عليهم‌السلام ، وأهل المطامع والأهواء سوف ينشطون لمواجهة خط أهل البيت عليهم‌السلام ونهجهم ، وسوف يسرحون ويمرحون ، ويضلون ويشككون ، ويثيرون الفتن ، ويشيعون الباطل في الناس ، ولربما تحدث تقلّبات وفتن تزيد الطين بلة ، والخرق اتساعاً حين تتشارك آلاف الأيدي الأثيمة في تشويه صورة الحق ، وفي زرع الفتنة وتمزيق المسلمين.

الثاني : أن لا يتحقق انتصار حاسم لأي من الطرفين ، بل يبقى كل فريق في موقعه كما كان الحال عليه في زمن الإمام علي عليه‌السلام.

ومن الواضح : أنّ هذا الأمر لن يأتي بسهولة ، بل سوف يكون ثمنه خوض حروب صعبة قد تكون كبيرة وخطيرة ، بالإضافة إلى الكثير من الضحايا من خلّص الشيعة ومن الناس عامة.

أمّا النتائج فهي بلا شك ستكون ضئيلة وغير متكافئة مع حجم التضحيات وفقاً لما أوضحناه آنفاً ، وذلك في ظل النشاط التخريبي

٤٠