الحسين عليه السلام سماته وسيرته

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

الحسين عليه السلام سماته وسيرته

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٠

فكيف حفظكم لوديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!

مع أنّ زيد بن أرقم نفسه هو ممّن يُوَجَّه إليه هذا السؤال؟

وسنقرأ الإجابة في الفصل (٣١) ضمن «المواقف المتأخّرة»؟

٦١
٦٢

الباب الثاني

سيرة الحسين (عليه السّلام) قبل كربلاء

ثانياً : بعد غياب الرسول (صلّى الله عليه وآله)

١٦ ـ ضَياعٌ بعدَ الرسول (صلّى الله عليه وآله)

١٧ ـ موقف من عمر

١٨ ـ مع أبيه (عليه السّلام) في المشاهد

١٩ ـ في وداع أخيه (عليه السّلام)

٦٣
٦٤

١٦ ـ ضياع بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله)

ولئن ذهبَ قولُهم : «المرءُ يُحْفَظُ في ولده» مثلاً سائراً فإنّ لذلك أصلاً قرآنياً أدّب الله به عباده المؤمنين على لسان عبده الصالح الخضر ، حيث أقام الجدار الذي كان للغلامين اليتيمين في المدينة ، معلّلاً بأنّه (كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) سورة الكهف ، الآية ٨١.

فلصلاح أبيهما استحقّ الغلامانِ تلك الخدمة من الخضر. لكنّ كثيراً ممن ينتسب إلى أُمّة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، لم يُكرموا آلَ محمّد (عليهم السّلام) من أجل الرسول ، ولم تُمهل الأُمّة أهلَ البيت (عليهم السّلام) أكثر من أن يُغمِضَ الرسولُ (صلّى الله عليه وآله) عينيه ولمّا يُقْبر جسده الشريف ، عَدَوْا على آله فغصَبُوا حقّهم في خلافته ، ثم انهالوا عليهم بالهتك والضرب حتّى أقدموا على إضرام النار في دار الزهراء (عليها السّلام) ابنته ، وأسقطوا جنينها ، وأغضبوها ، حتّى قضت الأيّام القلائل بعد أبيها معصّبةَ الرأس ، مكسورة الضلع ، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وماتت بعد شهور فقط من وفاة أبيها ، وهي لهم قالية!

وما كان نصيب الغلامين السبطين الحسن والحسين من الأمّة بأفضل من ذلك!

٦٥

بل تكوّنتْ على أثر ذلك التصرّف المشين فرقة سياسيّة تستهدف آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالعداء والبغضاء ، فدبّرت المؤامرة التي اغتالت عليّاً (عليه السّلام) في محرابه ، وطعنت الحسن (عليه السّلام) في فسطاطه ، وقتلت الحسين (عليه السّلام) في وضح النهار يوم عاشوراء في كربلائه كما يُذبح الكَبْش جهاراً أمام أعين الناس ، من دون نكير!

ولم يكن هذان الغلامان بأهونَ من غلامي الخضر ، إذ لم يكن أبوهما أصلح من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قطعاً.

ولقد جابه الحسينُ (عليه السّلام) بهذه الحقيقة واحداً من كبار زعماء المعادين لآل محمّد ، والمعروف بنافع بن الأزرق ، في الحديث الآتي :

[٢٠٣] قال له الحسين (عليه السّلام) : «إنّي سائلك عن مسألة : (وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَينِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ) [الكهف ، الآية (٨١)].

يابن الأزرق : مَنْ حُفِظَ في الغلامين؟!

قال ابن الأزرق : أبوهما!

قال الحسين (عليه السّلام) : «فأبوهما خيرٌ أم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟» (١).

إنّها الحقيقة الدامغة ، لكن هل تنفع مَنْ أُشربت قلوبهم بالنفاق ، وغطّى عيونهم الجهل والحقد والكراهية للحقّ؟!

لقد كان من نتائج هذا الضياع أنّه لم يمضِ على وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) خمسون عاماً حتّى عَدَتْ أُمَّتُه على «وديعته» و «ريحانته» الحسين ، وقتلته بأبشع صورة!

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٣٠ ـ ١٣١.

٦٦

وهل يُتصوّر ضياعٌ أبعد من هذا؟!

وكان من نتائج ذلك الضياع المفضوح أنّ التاريخَ المشوّه وأهله العملاء (١) تغافلوا عن وجود أهل البيت (عليهم السّلام) طيلة الأعوام التي تلتْ وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتّى خلافة الإمام عليّ (عليه السّلام) ، فهذا الحسينُ لم نجدْ له ذكراً مسجّلاً على صفحات التاريخ طيلة العهد البكري ولا العُمَريّ ولا العُثماني سوى فلتات تحتوي على كثير من أسباب ذلك التغافل!

١٧ ـ موقف من عُمر

ومن تلك الفلتات حديثٌ تضمّن موقفاً للحسين (عليه السّلام) من عمر لمّا جَلَسَ على منبر الخلافة والحسينُ دون العاشرة من عمره. وبفرض وجوده في بيت أبيه الإمام عليّ (عليه السّلام) وقد امتلأ بكلّ ما يراهُ وليدُ البيت أو يسمعهُ من حديث وأحداث مهما كان خفيّاً أو كانت صغيرة ، ولا يُفارق ذهنه ، بل قد يقرأ الصبيُّ ممّا حوله أكثر ممّا يقرأه الكبير من الكلمات المرتسمة على الوجوه ، ويسمعُ من النبرات أوضح المداليل التي لا تعبّر عنها أفصح الكلمات.

كيف ، والحسينُ هو الذي أهّله جدّهُ الرسول (صلّى الله عليه وآله) لقبول «البيعة» منه ، وأهّلته أُمّه الزهراء (عليها السّلام) للشهادة على أنّ «فدكاً» نحلتها من أبيها عندما طلب أبو بكر منها الشهود!

ويكفي الحسينَ أنْ يعرفَ من خُطبة أُمّه الزهراء في مسجد رسول الله ، ومن

____________________

(١) وهناك فلتات من المؤرّخين الّذين تصدّوا لتسجيل بعض الحقائق ، مثل ابن إسحاق صاحب السيرة ، وعمر بن شبّة صاحب الكتب الكثيرة ، لكن تراثهم هُجر واندثر ، ولم تبقَ منه إلاّ نتف فيها الدلالات الواضحة على ما نقول.

٦٧

انزواء أبيه (عليه السّلام) في البيت طيلة أيّام الزهراء (عليها السّلام) أنّ حقّاً عظيماً قد غُصب منهم.

مضافاً إلى أنّه يجدُ بيتهم الملتصقَ ببيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، ولا يفصله عنه سوى الحائط ، أمّا بابه فقد فتحهُ الله على المسجد ذاته لمّا أحلّ لأهله من المسجد ما لم يحلّ لأحد بعد أن كان «بيت فاطمة في جوف المسجد» [١٨٢] [١٥٨].

إنّ الحسينَ (عليه السّلام) يجد هذا البيتَ العظيم كئيباً مهجوراً ، خِلْواً من الزحام ومن بعض الاحترام الذي كان يَفيض به أيام جده الرسول (صلّى الله عليه وآله) قطب رحى الإسلام ، وأبوه عليّ (عليه السّلام) يدور في فلكه.

ويجدُ الحسينُ (عليه السّلام) أنّ القومَ يأتمرونَ في مَراح ناءٍ ، حيث الوجوه الجدُد قد احتلّوا كلّ شيّ : الأمر والنهي ، والمحراب والمنبر!

وقد أبرزَ ما تكدّس على قلبه لمّا حضر يوماً إلى المسجد ، ورأى عمر على منبر الإسلام ، فلنسمع الموقف من حديثه :

[١٧٨ ـ ١٨٠] قال (عليه السّلام) : «أتيتُ على عمر بن الخطّاب وهو على المنبر ، فصعدتُ إليه ، فقلتُ له : انزلْ عن منبر أبي واذهبْ إلى منبر أبيك!

فقال عمر : لم يكنْ لأبي منبر.

وأخذني وأجلسني معه ، فجعلتُ أُقلّب حصىً بيدي ، فلمّا نزل انطلق بي إلى منزله ، فقال لي : مَنْ علّمك؟

قلتُ : ما علّمنيه أحدٌ.

[قال : منبر أبيك والله ، منبر أبيك والله ، وهل أنبت على

٦٨

رؤوسنا الشعر إلاّ أنتم!] (١).

قال : يا بُنيَّ ، لو جعلت تأتينا وتغشانا» (٢).

والحديث إلى هُنا فيه أكثر من مدلول :

فصعودُ الحسين (عليه السّلام) إلى عمر وهو خليفة على المنبر مُلْفتٌ للأنظار ، ومُذكِّر بعهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) حين كان سبطاه الحسنان يتسلّقان هذه الأعواد ، ويزيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) في رفعهما على عاتقه أو في حجره.

أمّا بالنسبة إلى الخليفة فلعلّها المرّة الأُولى والأخيرة في ذلك التاريخ أن يصعد طفل إليه ، فضلاً عن أن يقول له تلك المقالة ، إذ لم يسجّل التاريخ مثيلاً لكل ذلك.

وقوله لعمر : «انزل عن منبر أبي»

فليس النزول يعني في المنظار السياسي مدلوله اللغوي الظاهر ، وإنّما هو الانسحاب عن الخلافة التي تَشَطّر هو وصاحبه ضرعيها في السقيفة ، فقدّمها إليه هناك حتّى يرخّصها له اليوم.

و «منبر أبي» فيها الدلالة الواضحة إذا أُريد بها الحقيقة الظاهرة ، فأبوه عليّ (عليه السّلام) هو صاحب المنبر ، لاعتقاد الحسين (عليه السّلام) بخلافة أبيه بلا ريب.

وإن أُريد بها الحقيقة الأُخرى الماضية فأبوه هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فلماذا انتقل المنبرُ الذي أسّسهُ وبنى بُنيانَه إلى غير أهله؟!

وقوله : «اذهَبْ إلى منبر أبيك» فيه الدلالة الفاضحة ، فالحسين (عليه السّلام) وكلّ

____________________

(١) ما بين [المعقوفتين] من مختصر تاريخ دمشق لابن منظور.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٢٧.

٦٩

الحاضرين يعلمون أنّ «الخطّاب» أبا عمر لم يكن له منبر ، بل ولا خَشَبةٌ يصعدُ عليها!

أمّا عمر فقد أحْرجه الموقفُ واضطرّه ـ وهو على المنبر ـ أن يعترفَ : «أنّه لم يكن للخطّاب منبر».

والنتيجة المستلهَمة من هذا الاعتراف أنّ المنبر له أهلٌ يملكونهُ ، وأهلهُ أحقّ بالصعود عليه وتولّي أُموره ، فما الذي ادّى إلى تجاوزهم واستيلاء غيرهم عليه ، واستحواذه على اُموره دونهم؟!

ولكنّ عمر اصطحب الطفلَ ليجري معه عملية «التحقيق» لسوء ظنّه بأنّ وراء الطفل مؤامرةً دَبَّرتْ هذا الموقفَ ، واستغلّتْ طفولة الحسين (عليه السّلام) ، فذهب به إلى منزله وقال له : مَنْ علَّمك؟

مع أنّ الحسين (عليه السّلام) لا يحتاج إلى مَنْ يُعلّمه مثل تلك الحقيقة المكشوفة وهو يعيش في بيت يعرّفه كلّ الحقائق.

وإذا انطلت الأُمور على العامّة من الناس فهناكَ الكثير ممّن يأبى أن يتقنّع بقناع الجهل والعناد والعصبيّة المقيتة ، أو ينكر النهار المضيء!

وبقيّة الحديث مثيرة أيضاً :

فالحسين الذي صارحَ بالحقيقة ، وقام يؤدّي دوره في إعلانها للناس أخذ عمر يُطايبهُ ، فيدعوه إليه بقوله : يا بُني ، لو جعلت تأتينا فتغشانا.

فيأتيه الحسينُ (عليه السّلام) يوماً وقد خلا بمعاوية ـ أميره على الشام ـ في جلسة خاصّة ، ويُمنع الجميعُ من اقتحام الجلسة المغلقة حتّى ابن عمر.

فيأتي الحسينُ (عليه السّلام) ويرجعُ ، فيطالبُه عمر ، وهُنا يعرّفه الحسينُ بأنّه أتاه فوجده خالياً بمعاوية.

٧٠

لكنّ عمر يُطلق تصريحاً آخر ، صارفاً لأنظار العامة ، فيقول للحسين (عليه السّلام) :

أنت أحقّ بالإذن من ابن عمر

وإنّما أنبَتَ ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم. ووضع يده على رأسه.

وهكذا ينتهي هذا الحديث الذي يدلّ على نباهة الحسين (عليه السّلام) منذ الطفولة ، وأدائه دوره الهامّ بشجاعة هي من شأن أهل البيت (عليهم السّلام) ، وجرأة ورثها ـ فيما ورث ـ من جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله).

ولكنّ عمر كان أحْذَقَ من أن تؤثّر فيه أمثال هذه المواقف ، فكان يُطّوق المواقف بالتصريحات والتصرّفات ، فبين الحين والآخر يُطلق : لولا عليٌّ لهلك عمر ولمّا دوّن الديوان وفرض العطاء :

[١٨٢] ألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بَدْر لقرابتهما برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ففرض لكلّ واحد منهما خمسة آلاف (١).

وهل يبقى أثر لما يُنتقدُ به أحد إذا كان في هذا المستوى من القول والعمل؟!

لكنّ الذين اعتقدوا بخلافة عمر ، واستنّوا بسُنتّه ، وجعلوا منها تشريعاً في عرض الكتاب والسُنّة النبوية ، لم يُراعوا في «الحسين» حتى ما راعاه عمر!

١٨ ـ مع أبيه (عليه السّلام) في المشاهد

كانت حروب الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) ومشاهده محكَّ أهل

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٢٧.

٧١

الولاء ، ومجمع أهل الصفاء من الصفوة النُجباء من أصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتابعين لهم بإحسان.

فمن أدرك الفتح لحِق به وكان في ركبه ، يُقارع الّذين خرجوا على إمام زمانهم من :

الّذين نكثوا بيعتهم له في المدينة ، ونابذوه الحرب في البصرة ... ، تقودهم أُمّهم على الجَمل.

والذين بغَوا عليه في صِفّين ، يقودهم مُعاوية إلى الهاوية ، هو وفئته الباغية.

والّذين مرقوا من الدين ، ساحِبين ذُيول الهوان في النهروان.

إنّ عليّاً (عليه السّلام) كان محور الحقّ في عصره ، يدورُ معه حيثما دار ، بنصّ النبيّ المختار ، وبقوله (صلّى الله عليه وآله) : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار» أو «لم يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض» (١).

وصحابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين والأنصار يتفانون في الذبّ عن الإمام ونصرته ، ويتهافتون بين يديه مُضحّين بأرواحهم دونه بعد أنْ وجدوا في شخصهِ متمثلةً كلّ دلائل النبوّة ، ومتحقّقة عنده كلّ أخبار الرسالة.

وعمّار ـ الفاروق بين الحقّ والباطل في الفتنة ـ يأتمر بأوامره.

والنجمان المتألِّقان ، السِبطان الأكرمان ، سيّدا شباب أهل الجنّة في ركاب أبيهما ، ويسيران في ظِلّ رايته.

____________________

(١) ورد باللفظ الثاني عن اُمّ سلمة رضي الله عنها في تاريخ دمشق لابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي (عليه السّلام) ٣ / ١٥١ رقم (١١٧٢) ، ونقله الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٢١ رقم (٧٦٤٣) ، وورد في ترجمة سعد من تاريخ دمشق ٢٠ / ١٥٧ باللفظ الأوّل عنها ، ونقله في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٦.

٧٢

وكلّ اُولئك يفتخرون أنَّهم وُفِّقوا للكون مع الإمام الذي يمثّل الحق ، كما كان لأصحاب النبي الفخر بصحبته (صلّى الله عليه وآله).

وقد رووا في تسمية الاُمراء يوم الجمل

[٢١٢] وعلى الميسرة الحسين بن عليّ (عليه السّلام).

وذكر المحلّي في تعبئة أمير المؤمنين (عليه السّلام) لعسكره في صفّين :

على خيل ميمنته الحسن والحسين ، وعلى رجّالتها عبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل وعلى الميسرة محمد بن الحنفيّة ومحمد بن أبي بكر ، وعلى رجالتها هاشم بن عتبة. وعلى جناح القلب عبد الله بن العبّاس وعلى رجالتها الأشتر والأشعث.

وعلى الكمين : عمّار بن ياسر (١).

١٩ ـ في وداع أخيه الحسن (عليه السّلام)

ووقف الحسين (عليه السّلام) ينعى صنوه وشقيقه في كلّ الحياة ، وفي الفضائل ، وفي المشاكل وإن سبقه في الولادة ستّة أشهر وعشرة أيام ، فقد سبقه في الشهادة عشر سنين.

وفي الكلمة التي ألقاها الحسين (عليه السّلام) على قبر أخيه كثير من المعاني الجامعة على لسان هذا الصنو الموتور بأخيه ، قال (عليه السّلام) :

____________________

(١) الحدائق الوردّية / ٤٠.

٧٣

«رحمك الله أبا محمد ،

إنْ كنتَ لتناصر الحقّ عند مظانّه ، وتؤثر الله عند مداحضِ الباطل وفي مواطن التقيّة بحُسْن الرويّة.

وتستشفُّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتقبض عنها (١) يداً طاهرة.

وتردعُ ما ردة (٢) أعدائك بأيسر المؤونة عليك.

وأنتَ ابن سلالة النبوّة ، ورضيع لُبان الحكمة.

وإلى رَوْح وريحان ، وجنّةِ نعيم.

أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه» (٣).

حقّاً ، يعزُّ على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) أن يفقد عضده في أحلك الظروف حيث شوكة بني اُميّة في تقوٍّ ، وأحوال الأُمّة في تردٍّ ، وقد كان الإمام الحسن (عليه السّلام) صامداً في مواجهة المعاناة التي تحمّلها ، فتجرّع غصص الصلح مع معاوية ، ذلك الذي ألجأه إليه وَهْنُ الجبهة الداخلية ، وشراسة الأعداء الخارجيّين ، وتسلّل الخَونة من أمراء جيشه ، وفساد خُلق الأُمّة وانعدام الخَلاق إلى حدّ التكالب على الدنيا وحبّ الحياة ، والهروب من الموت.

إن كان الإمام الحسنُ (عليه السّلام) يُواجه هذه المصاعب فإنّه لم يكن وحيداً ، بل كان الحسين (عليه السّلام) إلى جانبه يعضُده ، لكن الحسين (عليه السّلام) حين ينعى

____________________

(١) في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور : وتفيض عليها.

(٢) في المختصر : بادرة.

(٣) تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسن (عليه السّلام) ص ٢٣٣ رقم (٣٦٩) ومختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ٤٦.

٧٤

أخاه سوف يبقى لما سيتحمّله من أعباء المسؤوليّات وحيداً بلا عضُد.

ولكنّه الواجب الإلهي يفرض على الإمام (عليه السّلام) أن يقف أمام كلّ التحديات التي تهدّد كيان الإسلام مهما كانت خطيرة وصعبة ولو على حساب وجود شخص الإمام الذي هو أعزّ مَنْ في الوجود ، وهذا هو الدرس الذي تلقّنه من جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) طفلاً ، ومن أبيه (عليه السّلام) شابّاً ، ومن أخيه (عليه السّلام) كهلاً.

٧٥
٧٦

الباب الثاني

سيرة الحسين (عليه السّلام) قبل كربلاء

ثالثاً : في مقام الإمام

٢٠ ـ مقوّمات الإمامة

٢١ ـ البركة والإعجاز

٢٢ ـ «الحجّ» في سيرة الحسين (عليه السّلام)

٢٣ ـ مع الشعر والشعراء

٢٤ ـ رعاية المجتمع الإسلاميّ

٢٥ ـ مواقف قبل كربلاء

٧٧
٧٨

٢٠ ـ مقوِّمات الإمامة

إنّ الإمامة في الحضارة الإسلاميّة هي ولاية أُمور المسلمين المرتبطة بدينهم وبدنياهم.

والإمام هو الوالي المدبّر لتلك الأُمور حسب المصالح المتوفّرة في زمنه ، وبالأدوات والأساليب الممكنة له كمّاً وكيفاً.

ولا بُدّ أن يتّصف الإمامُ بالأهليّة التامّة لمثل تلك الولاية التي يرتبط بها مصيرُ الأُمّة كلّها ، والإسلام نفسه ، كما إنّ إرادته هي التي تحدد مسير الدولة ودوائرها وسياستها.

ومن أجل خُطورة المنصب وعظمة ما يترتّب عليه ويرتبط به من أُمور مصيريّة فإنّ العلم بتوفّر تلك الأهليّة التي تكوّنها مقوّمات خلقيّة ونفسية وقابليّات ، ونيّات وأهداف ، لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من خلال المعرفة التامة ، والتداخل الوثيق في الماضي والحاضر وحتّى المستقبل المستور ، وذلك ليسَ متصوّراً حصوله إلاّ لله العالم بكلِّ الأُمور.

ومن هُنا فإنّ عنصر «النَّص» والتعيين الإلهيّ من خلاله لشخص الإمام المالك لأهليّة الإمامة شرط أساسيّ وضروريّ لإثبات الإمامة لأَي إمام.

٧٩

ثمّ المواصفات الأُخرى :

فالعلم بالدين بجميع معارفه وشؤونه ، وبشكل كامل وتامّ من أبده الأُمور اللازم وجودها في الإمام الذي يتولّى أمر الدولة الإسلاميّة ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالاتّصال الوثيق بمصادر المعرفة الإسلاميّة الثرّة الغنية ، والبعيدة عن الشوب والتحريف ، ليكون الإمام أعلم الناس ، ومرجعاً لهم في أُمور الدين ومعارفه.

والفضل وأدواته من الشرف والتقى ومكارم الأخلاق فلا بُدّ أن يكون الإمام مقدَّماً على أُمّته فيها حتّى يكون «القدوة» لهم.

والقيادة ، بأن يكون بمستوى رفيع من الحكمة والتدبير ، والجرأة في الإقدام على الصالح للدين وللمسلمين ، والمتكفّل لعزته ودوامه.

وفي الفترة من سنة (٥٠) إلى سنة (٦٠) انحصرت هذه الخلال ، واجتمعت في شخص الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) بالإجماع وبلا منازع.

أمّا النصّ :

فقد روى أهل الإسلام كافّة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في الحسن والحسين صلوات الله عليهما : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» الحديث الذي أجمع عليه أهل القبلة ، وتلقّته الأُمّة بالقبول ، وبلغ حدّ التواتر (١).

مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على إمامة الحسين بعد أخيه الحسن ، وما دلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر ، أوّلهم عليّ أمير المؤمنين ، والآخرون من ذرّيّته. ممّا طفحت به كتب الإمامة.

____________________

(١) رواه الشيخ المفيد في النكت في مقدمات الأُصول. الفقرة (٨٢). وقد خرّجناه في هامشه. ونقلنا ما قاله علماء الإسلام حول تواتره.

٨٠