الحسين عليه السلام سماته وسيرته

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

الحسين عليه السلام سماته وسيرته

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٠

الباب الرابع

أحداث بعد كربلاء

٣١ ـ مواقف متأخّرة

٣٢ ـ أحزان الأحلام

٣٣ ـ رثاء الطبيعة

٣٤ ـ الأسى والرثاء

٣٥ ـ الانتقام للدماء

١٨١
١٨٢

٣١ ـ مواقف متأخّرة

ودائماً ، وفي كلّ حوادث التاريخ يبقى بعضُ الناس في المؤخّرة ، لأنّهم يحتاطون فيقفون بعيداً عن الأحداث لئلاّ يُصيبهم شررٌ أو أثارة من سوء.

لكن ليس مصير المتأخّرين دائماً النجاة والسلامة وإنْ بقوا بعيدين عن الإصابات ، فهم ليسوا بمنجاة من الحسابات ، حسابات التأريخ والضمير والواقع.

وهكذا كان شأن الّذين تخلّفوا عن اللحوق بالحسين (عليه السّلام) سواء في مسيره إلى أرض كربلاء ، أو في سيرته على أهداف كربلاء ، وخاصّةً اُولئك الّذين كانت تمدّ إليهم الأعناق ، باعتبارهم حاملين للنصوص الفاصلة لكلّ نزاع ، التي هي وصايا النبيّ وسُنّته (صلّى الله عليه وآله) ، وهم صحابته وحاملو آرائه.

ولكن هؤلاء الّذين لم يلحقوا الفتح بتخلفّهم عن وجهة الحسين (عليه السّلام) في المسير والسيرة وجدوا أنفسهم بعد الحسين (عليه السّلام) بين مخالب القتلة وزهوهم بعد المذبحة التي ارتكبوها بحقّ الثائرين.

ومهما فرضنا لهؤلاء المتخلّفين من البساطة ، وأنّهم لم يكونوا يتصوّرون أن الدولة الإسلاميّة تُقدِمَ على قتل جمع من خيرة رجال المسلمين ، وفي مجموعتهم كوكبة من آل محمّد ، وعلى رأسهم الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى

١٨٣

الله عليه وآله)! وأنّهم فوجئوا بذلك فأُسقط في أيديهم!

لكنَّ بُعْدَهم عن مجريات الأحداث إلى الحدّ الذي يؤدّي بهم إلى هذه السذاجة ، وتخلّفهم عن ركب الدفاع عن حياض الإسلام ، والالتحاق بالوحيد المتبقّى من سلالة محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو في نفسه يشكّل نقطة محاسبة عسيرة.

وكفاهم ذُلاً ومهانة أنْ يحضروا مجلس الحكّام القتلة ليُشاهدوا بأعينهم ما يجري على رأس الحسين ـ ذلك الرأس الذي رأته أعينهم ذاتها على صدر الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وعلى عاتقه وفي حجره! ـ لكن في حالة أُخرى ، وبالضبط كما يروونها هم :

فهذا أنس بن مالك :

[٣١٩] قال : لمّا قُتل الحسين جيء برأسه إلى عبيد الله ابن زياد ، فجعل ينكث بقضيب على ثناياه ، وقال : إن كان لحسن الثغر!

فقلتُ : أما والله لأسوءنّك ، لقد رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقبّل موضع قضيبك من فيه (١).

وهل كان أنس ـ وهو خادم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ـ جريئاً حتّى يتمكّن من مواجهة ابن زياد بهذا؟!

ولماذا لم يُحاول أن يُسيئ إلى ابن زياد قبل أن يضرب ثنايا الحسين (عليه السّلام)؟! بل قبل أن يقتل الحسين (عليه السّلام)؟!

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥١.

١٨٤

ألم يكن عبيد الله مجرماً ومستحقّاً للإساءة قبل هذا؟!

ثمّ ماذا يفعل أنس في مجلس عبيد الله في مثل هذا الوقت؟!

وهل رأى أنس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يفعل ذلك فقط بسبطه الحسين (عليه السّلام) دون غيره من أفعال فعلها بالحسين ، وأقوال قالها في الحسين (عليه السّلام) والتي عرفنا بعضاً منها في فصلي (١٠ و ١١)؟!

هذا وهو خادم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ملازم له على باب داره!

ثم ـ أخيراً ـ لماذا لم يُحاول أن يُبرز هذا الذي رآه يفعله الرسول (صلّى الله عليه وآله) بسبطه الحسين (عليه السّلام) قبل هذا المجلس حتّى لا يصل الأمر إلى هذه الحال؟!

وهذا زيد بن أرقم :

[٣٢١] قال : كنت عند عبيد الله بن زياد لعنه الله ، إذ أُتي برأس الحسين بن عليّ ، فوضع في طست بين يديْه ، فأخذ قضيباً فجعل يفتر به عن شفتيه ، وعن أسنانه!

فلم أرَ ثغراً قطّ كان أحسن منه! كأنّه الدرّ! فلم أتمالك أن رفعتُ صوتي بالبكاء.

فقال : ما يُبكيك أيّها الشيخ؟

قلت : يُبكيني ما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يمصّ موضع هذا القضيب ويلثمه ، ويقول : «الّلهمّ إنّي أُحبُّه فأحبَّه» (١).

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥٢.

١٨٥

وفي نصٍّ آخر أنّ ابن زياد قال لزيد : إنّك شيخ قد خرفتَ وذهب عقلك!

والذي يستوقف الناظر : ماذا كان يفعل هذا الصحابي الشيخ في مجلس عبيدالله داخل القصر في مثل هذه الأيّام؟!

هل كان يجهل أنّ النّاسَ في الكوفة قد ذهبوا لقتال الحسين (عليه السّلام)؟! فهو إذاً قد خرف حقّاً!

ثمّ أين كان حماسُهُ هذا قبل أن يُؤتى برأس الحسين (عليه السّلام)؟!

ولماذا لم يرو قبل هذا ما رواه بعد هذا المجلس لمّا :

[٣٢٢] خرج زيد بن أرقم من عنده ـ يعني ابن زياد ـ يوْمئذ وهو يقول : أما والله ، لقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «الّلهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين»؟! فكيف حفظكم لوديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (١)؟!

لكن كيف كان حفظُك أنت يا صحابي لوديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد أسلمتَه وحدَه في كربلاء ، يُذْبَح هو وأهل بيته وشيعته وأنت تنادم ابن زياد؟!

ولكن هذه المواقف المتأخّرة هل تَسُدُّ شيئاً ممّا أُصيب به الإسلام من الثلمات؟! أو تردّ على الأُمّة ما فقدوه من الرجالات؟!

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥٢.

١٨٦

ولو وقفوا هذه المواقف قبل قتل الحسين (عليه السّلام) لكانت أشرفَ لهم ، وأنفع للأُمّة.

ولو ساروا بعد ذلك بسيرة الحسين (عليه السّلام) لكان أعذرَ لهم ، وأخلد لذكرهم.

أمّا لو ضيّع الصحابة وديعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وهم «السلف» المخاطبون بحفظها مباشرة! فما هو عتابه على البُعداء التابعين لهم في دينهم وعقيدتهم وهم «الخلف» الّذين يستنّنون بسُنّتهم؟!

٣٢ ـ أحزان الأحلام

ومهما كانت الأحلام وواقعها فإنّ الحُزْن بألم عاشوراء لم يقف على عالم اليقظة ، بل لقد تحدّثت الأخبار عن أحزان عالم الرؤيا :

[٣٢٤ ـ ٣٢٥] قال ابن عبّاس : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما يرى النائم بنصف النهار أغبر ، أشعث ، وبيده قارورة فيها دم.

فقلت : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله! ما هذا؟

قال : «هذا دم الحسين وأصحابه ، لم أزل منذ اليوم ألتقطه».

فأُحصي ذلك اليوم فوجدوه قُتل يومئذ.

واُمّ سلمة زوجة الرسول ، المتّقية ، المحبّة لأهل بيته ، الحنون على الحسين ، والتي لها ذكر مكرّر في سيرة الحسين (عليه السّلام) ، قد أفزعها المنام كذلك هي الأُخرى :

١٨٧

[٣٢٧] عن سلمى قالت : دخلت على اُمّ سلمة وهي تبكي ، فقلت : ما يبكيك؟

قالت : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب ، فقلت : ما لك يا رسول الله ، ما لك؟!

قال : «شهدتُ قتل الحسين آنفاً» (١).

٣٣ ـ رثاء الطبيعة

ومن الأحداث بعد مذبحة كربلاء أنّ الطبيعة شاركت في إعلان الحزن بأساليب غريبة لم تؤثر عند عامة الحوادث.

فمنها : بكاء السماء دماً :

[٢٨٧] قال ابن سيرين : لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريّا إلاّ على الحسين بن عليّ (عليه السّلام) (٢).

[٢٩٥] قالت نصرة الأزدية : لمّا أن قُتل الحسين بن عليّ مطرت السماء دماً فأصبحت وكلّ شيء لنا ملآن دماً.

[٢٩١] وقالت امرأة : كُنّا زماناً بعد مقتل الحسين ، وإنّ الشمس تطلع محمرّة على الحيطان والجدران بالغداة

____________________

(١) مختصر ابن منظور ٧ / ١٥٢.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٤٩.

١٨٨

والعشيّ.

قالت : كانوا لا يرفعون حجراً إلاّ وجدوا تحته دماً (١).

ومنها ظلمة السماء :

[٢٨٨] قال خليفة : لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) اسودّت السماء وظهرت الكواكب نهاراً حتّى رأيت الجوزاء عند العصر ، وسقط التراب الأحمر (٢).

[٢٩٣] قال عيسى بن الحارث الكندي : لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) مكثنا سبعة أيّام إذا صلّينا العصر نظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة ، ونظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضاً (٣).

[٢٩٦] قال أبو قبيل : لمّا قُتل الحسين بن عليّ (عليه السّلام) كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتّى ظننّا أنّها هي (٤).

[٣٠١] قالت أُمّ حبّان : يوم قتل الحسين (عليه السّلام) اظلمّت علينا ثلاثاً ، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه إلاّ احترق ، ولم يقلب حجرٌ ببيت المقدس إلاّ أصبح تحته دمٌ عبيط (٥).

وقد اعترف ببعض هذه الأحداث حكّام بني أُمّية :

[٣٠٢] قال معمر : أوّل ما عُرف الزهريّ تكلّم في مجلس

____________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) و (٥) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٤٩.

١٨٩

الوليد بن عبد الملك ، فقال الوليد : أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قُتلَ الحسين بن عليّ؟

فقال الزهري : بلغني أنّه لم يقلب حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط.

٣٤ ـ الأسى والرثاء

لم يبق أحدٌ لم يدخل عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين (عليه السّلام) ، فالإمام لم يكن شخصاً ، بل كان شاخِصاً إليه تشخص أعين الأُمّة كي يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها.

ولئن تقاعس الناسُ عن إدراك ما يجب عليهم أن يفعلوه في تلك الظروف العصيبة ، ولم يتمكّنوا من الإقدام على الفداء والتضحية ، إلاّ أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) بتضحيته وإقدامه فجّر في نفوسهم كوامنها ، فلم يحبسوا عن الإمام (عليه السّلام) نصرهم بالعواطف بعد أن فاتهم نصره بالنفوس وإن كان بعد أن خسروا وجوده الشريف ، وما يحمله من معارف ومعاني ومكارم!

فكانت المراثي التي تعتبر في مثل ذلك الظرف الرهيب استمراراً لثورة الحسين ، واحداً من نتائجها لمّا انطلقت الألسنُ عن صمتها.

وأوّل من أعلن الرثاء اُمّ سلمة زوجة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، التي ساهمتْ في نشر أخبار سيرة الحسين (عليه السّلام) بكثرة ، فقد كانتْ تستطلعُ أخبار الحسين ، فقالتْ لجارية لها :

[٨٩] : اخرجي فخبّريني فرجعت الجارية ، فقالت : قُتل

١٩٠

الحسين!

فشهقتْ شهقةً غشي عليها ، ثمّ أفاقت فاسترجعتْ ، قالت : قتلوه! قتلهم الله ، قتلوه! أذلّهم الله ، قتلوه! أخزاهم الله.

[٣٢٩] قالت : قد فعلوها!

ملأ الله بيوتهم ـ أو قبورهم ـ ناراً.

ووقعت مغشيّاً عليها (١)!

وكان ابن عبّاس يتوقّع خبر الحسين بن عليّ (عليه السّلام) إلى أن أتاه آت ، فسارّه بشيء ، فأظهر الاسترجاع ، قال الراوي :

[٣٣٠] : فقلنا : ما حدث يا أبا العبّاس؟

قال : مصيبةٌ عظيمةٌ عند الله نحتسبها (٢).

وحتّى الجنّ قد أسهموا في هذا الحُزن العظيم مع المؤمنين ، ومع الطبيعة ، فقد جاءت الأخبار بما يلي :

[٣٣٥] قالت اُمّ سلمة : سمعت الجنّ تنوح على الحسين يوم قتل ، وهنّ يقلن :

أيّها القاتلون ظلماً

حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيلِ

كلُّ أهل السماء يدعو عليكم

من نبيٍّ ومرسَلٍ وقتيلِ

____________________

(١) و (٢) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥٣.

١٩١

قد لُعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الإنجيلِ (١)

 [٣٣٦] وجنيّة تنوح :

ألا يا عين فاحتفلي بجهدِ

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا

إلى متجبّرٍ في ملك عبدِ (٢)

 [٣٣٧] قال أبو جناب الكلبيّ : أتيتُ كربلاء ، فقلت لرجل من أشراف العرب بها : بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ؟

قال : ما تلقى حرّاً ولا عبداً إلاّ أخبرك أنّه سمع ذاك.

قلت : أخبرني ما سمعتَ أنتَ؟

قال : سمعتهم يقولون :

مسحَ الرسول جبينه

فله بريقٌ في الخدودِ

أبواه من عَلْيا قري

شٍ جدّه خير الجدودِ (٣)

 [٣٣٨] كان الجصّاصون إذا خرجوا في السحر سمعوا نوح الجنّ على الحسين (عليه السّلام) ينشدون ذلك الشعر.

[٣٣٩] ولمّا قُتل الحسين بن عليّ (عليه السّلام) سُمع مناد ينادي ليلاً ، يُسمع صوتُه ولم يُر شخصُه :

____________________

(١) و (٢) و (٣) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥٤.

١٩٢

عقرتْ ثمودٌ ناقةً فاستؤصلوا

وجرت سوانِحُهم بغير الأسعدِ

فبنو رسول الله أعظم حرمةً

وأجلّ من أُمّ الفصيل المقصدِ

عجباً لهم ولما أتوا لم يُمسخوا

والله يملي للطغاة الجُحَّدِ (١)

وأمّا الإنس : فقد فجّرت واقعة كربلاء قرائح الشعراء ، أصحاب الولاء لأهل البيت ، وقد ملأت مراثيهم دواوين الأشعار وكتب الأخبار ، وعرف كثير من شعراء العربية برثائهم للحسين (عليه السّلام) فقط.

وفي طليعة أهل الرثاء : خالد بن عَفران : من أفاضل التابعين كان بدمشق ، وحدّثوا أنّ رأس الحسين بن عليّ (عليه السّلام) لمّا صلب بالشام ، أخفى خالد بن عَفران شخصه عن أصحابه ، وطلبوه شهراً حتّى وجدوه ، فسألوه عن عزلته؟

فقال : أما ترون ما نزل بنا؟!

ثمّ أنشد يقول :

جاؤوا برأسك يابن بنت محمّدٍ

متزمّلاً بدمائه تزميلا

وكأنّما بك يابن بنت محمّدٍ

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولم يترقّبوا

في قتلك التنزيل والتأويلا

ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا (٢)

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ٣٩٢. في ترجمة خالد بن عَفران.

١٩٣

[٤٠٠] ومنهم ـ وقيل : إنّه أوّل من رثى الإمام (عليه السّلام) ـ سليمان بن قَتّة ، قال :

وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشمٍ

أذلّ رقاباً من قريش فذلَّتِ

فإنْ تبتغوه عائذ البيت تفضحوا (١)

كعاد تعمّتْ عن هداها فضلّتِ

مررتُ على أبيات آل محمّد

فلم أرها أمثالها حيث حلّتِ

وكانوا لنا غُنماً فعادوا رزيّةً

لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ

فلا يُبعد الله الديارَ وأهلَها (٢)

لقد عظمتْ منهم برغمي تخلّتِ

إذا افتقرتْ قيسٌ جبرنا فقيرَها

وتقتُلنا قيسٌ إذا النعلُ زلّتِ

وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا

سنجزيهمُ يوماً بها حيث حلّتِ

ألم تر أنّ الأرض أضحتْ مريضةً

لفقد حسين والبلاد اقشعرّتِ (٣)

 [٤٠١] وأنشدوا لبعض الشعراء في مرثية الحسين بن عليّ (عليه السّلام) :

لقد هدَّ جسمي رزءُ آل محمدٍ

وتلك الرزايا والخطوب عظامُ

وأبكتْ جفوني بالفرات مصارعٌ

لآل النبيِّ المصطفى وعظامُ

عظامٌ بأكناف الفرات زكيةٌ

لهنَّ علينا حرمةٌ وذمامُ

فكم حُرّةٌ مسبيّةٌ فاطميَّةٌ

وكم من كريمٍ قد علاه حسامُ

لآلِ رسول الله صلّتْ عليهمُ

ملائكةٌ بيضُ الوجوه كرامُ

____________________

(١) البيت في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور : فإن تبتغوه عائذ البيت تصبحوا.

(٢) الشطر الثاني من البيت السابق وهذا الشطر كلاهما من مختصر تاريخ دمشق لابن منظور.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٥٨.

١٩٤

أفاطمُ أشجاني بَنُوكِ ذَوُو العُلا

وشِبتُ وإنّي صادقٌ لَغُلامُ

وأصبحتُ لا ألتذُّ طيبَ معيشةٍ

كأَنَّ عَلَيَّ الطّيباتِ حرامُ

ولا الباردُ العذبُ الفراتُ أُسيغهُ

ولا ظلَّ يهنيني الغَداةَ طعامُ

يقولون لي صبراً جميلاً وسلوةً

ومالي إلى الصبر الجميل مرامُ

فكيف اصطباري بعد آل محمّدٍ

وفي القلب منهم لوعةٌ وسقامُ

٣٥ ـ الانتقام للدماء

ولئن كانت فتنةُ الله لعباده الصالحين ـ من الأنبياء والأئمّة والأولياء ـ شديدة الوطأة عليهم ، ولكنّها كانتْ وَعْداً وعهداً ربّانياً اتّخذوه وصَدَقُوهُ ، فصبروا على الأذى في جنب الله ، وصابروا ورابطوا على مواقع الحقّ ، ولم يتراجعوا ، ولم يهنوا ، ولم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا ، وجاهَدُوا بكلّ قُوّة وصلابة وإصرار حتّى فازوا برضا الله عنهم كما رضوا عنه ، وحازوا خلود الذكر في الدنيا ، وجنّات عدن في الآخرة.

وصَدَقهم الله وعدَهُ بالانتقام من المُجْرِمين ، وليعلموا أنّ وعد الله حقّ ، وأنّ الله منجز وَعْدِهِ رُسُلَهُ إلى أن يرثَ ويرثوا الأرض ، ويستخلفهم عليها ، وعْداً عليه حقّاً في كلّ الكتب السماوية : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن.

وقبل هذا الأمر المعلن في النصوص المقدّسة ، والذي لا يستيقنه الّذين لا يؤمنون ، فهم لا يؤمنون بالغيب ، وإن كان أمر الانتقام من قتلة الصالحين والمصلحين هو مكشوف للعيان واضح لكلّ ذي عينين إذا أتعب جفنيه ففتحهما على ما حوله :

١٩٥

ألَيْس خلوّ المجتمع من الصلحاء المخلصين للأُمّة والوطن يعني فراغ الساحة للعابثين والانتهازيّين والنفعيّين؟!

أليس قتل الجماعة المؤمنة ذات المستويات الرفيعة في الشرف والكرامة بين الأُمّة ، يؤدّي إلى تجرّؤ القتلة والظلمة على ارتكاب الجرائم الأكثر ، لأنّه يهوّن عليهم قتل الآخرين بعد قتل الأشراف؟!

أليس سكوت الأُمّة على فظائع مروّعة ، ومجازر رهيبة مثل مذبحة كربلاء ، بجرائمها وبشاعتها ، يكشف عن عجز الأُمّة عن التصّدي للظالم وخضوعها بما يؤدّي إلى إقدامه على الإجرام الأوسع كما فعل بنو أُميّة في وقعة الحرّة.

بل على الهتك الأعظم لحرمات الله كما فعلوه في إحراق الكعبة وهدمها؟!

إنّ هذه النتائج الواقعة كانت هي النتائج المنظورة والمرئيّة لكلّ أحد ممّن يحمل قبساً من نور الوعيْ والعقل والفكر ، أو يجد عليها هدىً ، ولم يكن بحاجة إلاّ إلى التفاتة صغيرة!

وقد أخبر الإمامُ الحسين (عليه السّلام) عن بعض هذه النتائج قبل أن يرد كربلاء ، وبعد أن وردها :

[٢٦٨] قال : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي! فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة»!

[٢٦٦] وقال : «لا أراهم إلاّ قاتليّ ، فإذا فعلوا ذلك لم يَدَعُوْا لله حرمة إلاّ انتهكوها ، فيسلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة»!

١٩٦

ولقد كان القتلُ للأنبياء والأئمّة (عليهم السّلام) عادةً ، وكرامتهم من الله الشهادة ، وإنّما بَرز الّذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم ، ليثبتوا أنّهم أوفياء لوعد ربّهم ، ولدينهم وأهدافهم. فكذلك كان الانتقام للدماء الزاكية سُنّةً إلهيةً جاريةً.

وقد ذكّر الله تعالى نبيَّه بذلك كما في الحديث

[٢٨٦] : أوحى الله تعالى إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) (أنّي قد قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً ، وأنا قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً) (١).

وأمّا آحاد الحُثالات التي تكدّست في كربلاء ، وارتكبتْ جريمة عاشوراء ، فهم أحقر من أن يُذكروا ويُذكر ما جرى عليهم ، فكفاهم ذلاً وخزياً ، وعاراً وشناراً ما أقدموا عليه من قتل ابن بنت رسول الله والكوكبة الأخيار من آله ، والهالة المشعّة من الصالحين حوله.

مع أنّ التاريخ لم يغفل ما جرى على كلّ واحد منهم من الانتقام الإلهيّ في هذه الدنيا على يَدِ الأخيار من أنصار الحقّ الّذين «اختارهم» الله لهذه المهمة العظيمة لتكون عبرة لمن اعتبر ، ولمن يعتبر على طول التاريخ من الظَلمة ، ليعلموا أنّ الله لهم بالمرصاد ، وليأتينّهم موعدهم ولو بعد حين.

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٤٩.

١٩٧
١٩٨

الخاتمة

هذا هو الإمام الحسين أبو عبد الله (عليه السّلام) :

في سماته.

وفي سيرته قبل كربلاء.

وعلى أرضها يوم عاشوراء.

وأمّا بعد كربلاء فهو الزمن القصير الطويل على طول أربعة عشر قرناً ، فالإمام الحسين (عليه السّلام) بقي يُذكر وتدوّي صرخاتهُ ولم تنقطع نداءاته ولا أحزانه. ولا ظروف حركته.

وهو التأريخ يجدّد وجوده ، ويُعيد نفسه ، ويكرّر أنفاسه! وتصدُق مقولة «كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء».

ولئن خَلَت العصور من عَيْن الحسين (عليه السّلام) فإنّ روحه وأهدافه تتبلور في أبنائه وشيعته ، والسائرين على دربه وسيرته وطريقته ، يملؤون الأرض بنماذج من شعاره ، ويحملون لواءَ الحقّ يذبّون عنه ، وينشرونه على

١٩٩

خطوط الطول والعرض ، لتفيئ الكرة الأرضيّة إلى حكم الله ، وينعم البشر بآلاء الله ، ويتحقق وعدُ الله في كتابه الكريم حيث يقول :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاُولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ).

وآخر دعواهم أن الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

٢٠٠