الحسين عليه السلام سماته وسيرته

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

الحسين عليه السلام سماته وسيرته

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٠

وإعزازه وتقوية جانبه ، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض وإنجاحها.

والتركيز على «شباب العرب» بالذات يعني الاعتماد على الجانب الكيفي في الكوادر العاملة ، إذ بالشباب يتحقّق التحرّك السريع والجري ، فهم عصب الحياة الفعّال ، وعليهم تُعقد الآمال ، وهم يمثلّون القوّة الضاربة.

وأمّا «الموالي» فهم القاعدة العريضة التي ترتفع أرقامها في أكثر المواجهات والحركات ، وهم أصحاب العمل والمال ، والّذين دخلوا هذا الدين عن قناعة بالحقّ ، وحاجة إلى العدل.

ولكن سياسة التهجين والتدجين الأُمويّة جرّت شباب العرب إلى اللهو واللعب ، وجرّت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها.

وهنا تأتي كلمة (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) في موقعها المناسب ، لأنّها تُقالُ عند المصيبة ، والمصيبة الحقيقية أن تموت روحُ القوّة والتضحية والنضال في هذين القطّاعين المهمّين من الأُمّة.

وتقسيمه (عليه السّلام) المجتمع إلى :

مَنْ له «خُلُق» وكرامة وشرف ، يعتمد الأعراف الطيّبة ، وتدفعه المروءة إلى التزام العدل والانصاف ، ورفض الجور والفساد والامتهان ، ويرغب في الحياة الحرّة الكريمة في الدنيا.

وإلى من له «خَلاق» ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء ثواب ، يدفعه كلّ ذلك إلى نبذ الباطل وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحقّ.

فمن جمعَ الأمرين فهو أفضلُ الناس جميعاً ، وهو ممّن تكون له حميّة ، ويسعى في الدخول فيمن ينتصر الله به لدينه.

١٠١

ومن تركهما معاً فهو من أذلّ الناس وأحقرهم ، وهل شرّ أشرّ من الذُلّ؟!

ومن التزمَ واحداً فقد أخطأ طريق العمل الصالح ، وهو في ذلّ ما ترك الآخر ، وهل يُرجى الخير من ذليل وإنْ كان محسناً أو صالحاً؟!

وموقف آخر :

قال بشر بن غالب الأسدي : قدم على الحسين بن علي اُناس من أنطاكية فسألهم عن حال بلادهم؟ وعن سيرة أميرهم فيهم؟ فذكروا خيراً ، إلاّ أنّهم شكوا البَرد (١).

فالإمام (عليه السّلام) يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين حتى أبعد نقطة شمالية ، وهي أنطاكية! وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للاُمّة ، فمع فراغ يده من السلطة القائمة فهو لا يتخلّى عن موقعه ، ويخطّط له.

٢٥ ـ مواقف قبل كربلاء

التزم الحسينُ (عليه السّلام) بمواقف أخيه مدّة إمامة الحسن (عليه السّلام) ، لأنّ الحسين (عليه السّلام) من رعاياه ، وتجب عليه طاعته والانقيادُ له ، لما هو من الثابت أنّ الإمام إنّما يتصرّف حسب المصالح اللازمة ، وطبقاً للموازين الشرعيّة التي تمليها عليه الظروف وبالأدوات والإمكانات المتيسّرة له.

وقد استغلّ معاويةُ حلم الإمام الحسن (عليه السّلام) ليتمادى في غيّه ، ويزيدَ في تجاوزاته وتعدّياته ، فخطّطَ لذلك خططاً جهنّميّة تؤدّي نتائجها إلى هدم كيان الإسلام ، وضرب قواعده ، بدءاً بتحريف الحقائق ونشر البدع ، ومنع

____________________

(١) تاريخ بغداد ٣ / ٣٦.

١٠٢

الحديث النبوي وإبطال السُنّة في بلاط الأُمراء والحكّام ، ثم محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلاميّة الواسعة.

لكنّ الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحقّ وأعوان الإمام عليّ (عليه السّلام) الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن (عليه السّلام) بمخطّطه العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض ، والشروط التي كانت هي قيوداً تُكبّل معاوية لو التزمها ، وتُخزيه لو خرقها.

ولقد خالفَ معاوية كثيراً من بنود الصلح ، فأخزى نفسه في مخالفة العهد الموقّع من قبله ، وكان أخطر ما قام به هو الفتك بالصلحاء من الشيعة الّذين كانُوا يتصدّون لمُنْكره ، وللبدع التي كان ينشرها ، وللأحاديث المكذوبة التي كان يُذيعها على ألسنة وُلاته ووعّاظ بلاطه.

فلمّا ماتَ الحسنُ بن عليّ ـ والكلام من هُنا لسليم بن قيس الهلالي ، المؤرّخ الذي عاش الأحداث وسجّلها بدقّة ـ :

ازداد البلاءُ والفتنةُ ، فلم يَبْقَ لله وليٌّ إلاّ خائف على نفسه ، أو مقتول ، أو طريد ، أو شريد (١).

وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت مزاولات معاوية التعسّفية بلغت أوْجَ ما يتصوّر ، وكادت مخطّطاته أن تُثمِر ، وقد اتضّح لجميع الأُمّة ـ صالحها وطالحها ـ استهتار معاوية بالمواثيق التي ألزم بها نفسه في وثيقة الصلح ، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأُمّة ، وتبين للجميع أنّ ما يزاوله إنّما هو الملك والسلطة ، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله ، فقد انفتحت أمام

____________________

(١) لاحظ كتاب سليم ص ١٦٥ والاحتجاج للطبرسي ص ٢٩٦.

١٠٣

الحسين (عليه السّلام) آفاق جديدة وأُتيحت له ظروف مغايرة ، ووجب عليه التصّدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنّميّة التي أعدّها طوال السنين التي حكم فيها من (٤٠) للهجرة وحتّى أواخر أيام ملكه.

اجتماع «منى» العظيم

قال سليم في تتمّة كلامه السابق : فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين حَجّ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس معه.

وقد جمع الحسين بن علي (عليه السّلام) بني هاشم : رجالَهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ، مَن حجّ منهم ومَن لم يحجّ ، ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته.

ثم لم يَدَع أحداً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنُّسُك إلاّ جمعهم.

فاجتمع عليه بـ «مِنَى» أكثر من ألف رجل (١).

ويمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم موقفاً سياسياً هامّاً ، من وجهين :

١ ـ أنَّه تظاهرةٌ كبيرة تجمع عَدَداً كبيراً من ذوي الشهرة ، والوجهاء المعروفين بين الأُمّة ، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من التساؤلات حولها.

٢ ـ أنّه أكبر «مَجْلِس» يضمُّ أصحابَ الرأي من رجالات الأُمّة وشخصيّاتها ممّن له الحقّ في إبداء الرأي وسنّ القانون ، وهم النّخْبة المقدّمة من أهل الحلّ والعقد ، ومن جميع القطّاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم : العلويّون ،

____________________

(١) كتاب سليم بن قيس ص ١٦٥ والاحتجاج للطبرسي ص ٢٩٦.

١٠٤

والصحابة ـ المهاجرون والأنصار ـ والتابعون ، ومن النساء ، وطبقة الأبناء ، وطبقة الموالي.

بحيث يمكن أن يعتبر ذلك «استفتاءً شعبيّاً عامّاً» من خلال وجود ممثّلين لكلّ طبقات الشعب المسلم.

وتبدو الحكمة والحنكة في انتخاب الزمان والمكان لعقد ذلك المجمع العظيم.

فأرض «منى» المفتوحة الواسعة ، وهي جزء من الحرم ـ تسع لمثل هذا الاجتماع العظيم في ساحة واحدة ، وفي وسط كلّ الوافدين عليها من الحجّاج المؤدّين للواجب ، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى ، واجتماع رهيب مثل ذلك لا يخفى على كلّ الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة ، وبذلك ينتشر الخبر ولا يُحصَر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكان خاص.

ولا بدّ أنْ يكونَ الاجتماعُ في زمان الحضور في مِنى وهو يوم العيد الأكبر (يوم الأضحى) العاشر من ذي الحجّة ، فما بعد ، إذ على الجميع الناسكين والعاملين معهم الوجود على أرض مِنى لأداء مناسكها أو تقديم الخدمات إلى الوافدين.

وفي انتخاب مثل هذا المكان ، في مثل ذلك الزمان ، مع نوعية الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع دلالات واضحة على التدبير والاهتمام البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف.

وأمّا محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو ما

١٠٥

سنقرؤه معاً (١).

خطبة الإمام (عليه السّلام) بمنى

«أمّا بعدُ ، فإنَّ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا وبشيعتِنا ما قد رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم.

وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيء ، فإنْ صدقتُ فصدِّقوني ، وإن كذبتُ فكذِّبوني.

اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصارِكُم وقبائِلِكُم ، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فاِدعوهم إلى ما تعلمونَ من حقِّنا.

فإنّي أتخوَّفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ ، ويذهبَ الحقُّ ويُغلَب (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ).

أنشدكم الله : أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين آخى بين أصحابِهِ فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والآخرة؟».

قالوا : اللّهمّ نعم ،

قال : «أنشدكم الله : هل تعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اشترى موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتنى فيه عشرةَ منازل ، تسعة له وجعل عاشرها في وسطِها لأبي ثمّ سَدَّ كُلَّ باب إلى المسجد غيرَ بابِه ، فتكلَّمَ في ذلك مَن تكلَّمَ ،

____________________

(١) اعتمدنا في نقل نصّ الخطاب على ما أثبته العلاّمة الشيخ محمد صادق نجمي في تحقيقه القيّم الذي أصدره باسم «خطبه حسين بن علي (عليه السّلام) در منى» باللغة الفارسية ، وطبعته مؤسّسة القدس في مشهد سنة ١٤١١ هـ وقد ذكر أنّ مجموع الخطبة جاء على شكل مقاطع في كلّ من كتاب سليم ، والاحتجاج للطبرسي ، وتحف العقول لابن شعبة.

١٠٦

فقال : ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله أمرني بسدِّ أبوابِكُم وفتحِ بابِه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فوُلِدَ لرسولِ الله (صلّى الله عليه وآله) وله فيه أولادٌ؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرصَ على كُوَّةٍ قَدْرَ عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلى المسجد فأبى عليه ، ثُمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً «طاهراً» لا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولايةِ وقال : ليبلّغ الشّاهدُ الغائب؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال له في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى ، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟».

قالوا : اللّهمّ نعم.

قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعا النّصارى من أهل نجرانَ إلى المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ وبصاحبَتِهِ وابنيهِ؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنَّهُ دفع إليه اللّواء يومَ خيبر ثمّ قال : لأدفعه إلى رجل يحبُّهُ الله ورسولُهُ ويُحِبُّ الله ورسولَهُ كرّارٌ غير فرّار ، يفتحُها الله على يديه؟».

١٠٧

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءَة وقال : لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجلٌ منّي؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تنزل به شدّةٌ قطُّ إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باسمِهِ قطُّ إلاّ يقول : يا أخي ، وادعُوا لي أخي؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمونَ أنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) قضى بينَهُ وبينَ جعفر وزيد فقال : يا عليُّ أنتَ منّي وأنا منك ، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمون أنَّهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله) كلَّ يوم خلوةٌ وكُلَّ ليلة دخْلَةٌ ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمونَ أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة (عليها السّلام) : زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي ، أقدمَهُمْ سِلْماً ، وأعظَمَهُمْ حِلْماً ، وأكثَرَهُم عِلْماً؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَم ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ؟».

١٠٨

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمونَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمره بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

قال : «أتعلمونَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في آخر خطبةٍ خَطَبَها : إنّي تركتُ فيكُمُ الثّقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي ، فتمسَّكُوا بِهما لن تَضِلُّوا؟».

قالوا : الّلهمّ نعم.

ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول : «مَن زَعَم أنَّهُ يُحبُّني ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : لأنّه منّي وأنا منهُ ، مَن أحبَّهُ فقد أحبَّني ، ومَن أحبَّني فقد أحبَّ الله ، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟».

قالوا : الّلهمّ نعم ، قد سمعنا ...

«اعتبروا أيُّها النَّاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَهُ من سُوءِ ثَنائِهِ على الأحبار إذْ يقول : (لَوْلا ينهاهُمُ الرَّبَّانيّوُنَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ) وقال : (لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ ـ إلى قوله ـ لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون).

وإنَّما عابَ الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من الظَّلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً فيما كانوا ينالونَ منهم ، ورهبةً ممّا يحذرون ، والله يقول : (فلا تَخْشواْ النَّاسَ وَاْخشَوْن) وقال : (المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْض يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ).

فبدأ الله بالأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَّها إذا أُدِّيَتْ

١٠٩

وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلُّها هَيِّنُها وصَعْبُها ، وذلك أنّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردِّ المَظَالِم ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَّدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابةٌ بالعِلْمِ مشهورةٌ وبالخيرِ مذكورةٌ وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابةٌ ، يهابُكُمُ الشّريفُ وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه ولا يدَ لكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها ، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك وكرامة الأكابرِ.

أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجى عندكُم من القيامِ بحقِّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرونَ؟ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة ، فأمّا حقّ الضُّعَفاءِ فَضَيَّعْتُمْ ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم ، فَلا مالاً بذلتموه ، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها ، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله.

أنتُم تتمنّونَ على الله جَنَّتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من عذابهِ!

لقد خشيتُ عليكم ـ أيُّها المُتَمَنّونَ على الله ـ أن تَحِلَّ بكُم نقمةٌ مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها ، ومن يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ.

وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون ، وأنتُم لبعضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون! وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورةٌ ، والعُميُ والبُكُم والزّمنى في المدائنِ مهملة! لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون ، ولا مَنْ عَمِلَ فيها تُعينون. وبالادّهانِ والمُصَانَعَةِ عند الظلَمَةِ تأمنون.

كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه غافلونَ!

١١٠

وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو كنتُم تشعرون ، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَى أيدي العُلَماء بالله الاُمناءِ عَلَى حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرُّقِكُم عن الحقِّ واْختلافِكُم في السُّنّة بعد البيّنة الواضحة ، وَلَوْ صَبَرْتُم علَى الأذَى وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ ، ولكنَّكُم مكّنتُم الظَّلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم ، يَعملون بالشُّبُهاتِ ، ويَسيرونَ في الشَّهَواتِ ، سلّطهم على ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم بالحياة التّي هي مفارقتُكُم ، فأسلمتم الضُّعفاءَ في أيديهم فمن بين مُستعبَد مقهور وبين مستضعَف على معيشتِهِ مغلوب ، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم ، ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم ، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجّبارِ! في كُلّ بَلَد منهم على مِنْبَرِهِ خطيبٌ مُصْقعٌ

فالأرضُ لهم شاغرةٌ ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والنّاسُ لهم خَوَل ، لا يدفعون يد لامس ، فمن بين جبّار عنيد ، وذي سطوة على الضعفةِ شديد ، مُطَاع لا يَعْرِفُ المُبْدِئ المعيد.

فيا عجباً! وما لي لا أعجبُ والأرض من غاشٍّ غَشُوم ، ومتصدِّق ظلوم ، وعامِل على المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيم ، فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في سُلْطان ، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك ، ونُظْهِر الإصلاحَ في بلادِك ، ويأمن المظلُومونَ مِنْ عبادِك ، ويُعْمَل بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك.

فإنَّكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم ، وعَمِلَوا في إطفاءِ نُورِ

١١١

نَبيِّكُم.

وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا وإليه المصيرُ».

إنّ هذا الموقف يعتبر أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب طول حكمه ـ بعد استيلائه على أريكة الحكم في سنة (٤٠) للهجرة ـ على العمل بكلّ دهاء وتدبير لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى ، فحاول في الردّة عن الإسلام إلى إحياء الجاهليّة الأُولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله ، والقول بالجبر والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة الثورية الإسلاميّة ، والتوحيدية الإصلاحية.

فكانت حركة الحسين (عليه السّلام) ، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين ، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة ، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك.

وإن كان الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ في القضايا الجزئيّة ، وفي اللقاءات الخاصّة ، لكنّ هذا الإجراء العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة ، وتحرّكاً سياسياً خَطِراً على الدولة ، ومؤدّياً إلى تبخير كلّ الجهود والآمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد.

معاوية بين فكّي الأَسَد :

كان من مخطّطات معاوية مخالفة كلّ التراتيب الإدارية الإسلاميّة حتّى في شكل تعيين الخليفة خارجاً عن جميع الآراء حتّى تلك التي عملها الخلفاء قبله ، فَعَمَد إلى تجاوز سنن الّذين سبقوه كلّهم ، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد لعمر من بعده ، ولا عمل مثل عمر في جعلها شُورى ، ولا أرجع الأمر إلى أهل

١١٢

الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم ، بل عَمَدَ إلى تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت ، ليعلنها «مُلكاً عَضُوضاً» بعد أن كانت خلافة.

وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سنيّ حياته ، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة ، أمّا الحسين (عليه السّلام) فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقّعة من قبل معاوية «فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير» (١).

مع أنّ يزيدَ كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه ولهوه ، وعدم لياقته للأدنى من الخلافة فَضلاً عنها.

ولم يُخفِ الحسين (عليه السّلام) نشاطه حتّى عرف منه ذلك ، فجاءته الوفود يقولون له :

[٢٥٤ ص ١٩٧] : قد علمنا رأيك ورأي أخيك.

فقال (عليه السّلام) : «إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي على نيّته في حُبّهِ الكفَّ ، وأن يعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين» (٢).

إنّ كلمة «الجهاد» تهزّ الحكومة الظالمة التي تخيّلت أنّها قد قطعت شأفة أهل الحقِّ ، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ بقتل كبار القوّاد ، وطمس معالم الحقّ ، وتشويه سمعة أهل البيت ، وسلب الإمكانات المادّية منهم.

ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة «جهاد الظالمين» من الحسين (عليه السّلام)

١١٣

السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من المسلمين ، والقلائل الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين ، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع بلا ريب.

وخاصة مثل مروان بن الحكم ـ ابن طريد رسول الله ولعينه ـ الذي لم يجد فرصة للإمارة على مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلاّ حكم معاوية ، وإلاّ فأين هو من مثل هذا المقام الذي لم يحلُم به؟!

فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ أجراس الخطر تدقّ تحت آذانه ، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) منذ القديم ، يوم وقف في حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ (عليه السّلام) ، لكنّه فشل واندحر وأُسِرَ وذَلَّ ، ومَنّ عليه الإمامُ (عليه السّلام) فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب.

وهو ـ وإن استفاد من حكم معاوية ـ إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية ولا لآل أُميّة ودّاً بعد أن أصبح ذيلاً لهم ، ويراهم منتصرين في صفّين ، بينما هو اندحر أمام عليّ (عليه السّلام) وانكسر في وقعة الجمل.

والآن يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين ، فكتب إلى معاوية :

[٢٥٤ ص١٩٧] : إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسينٌ مُرصِداً للفتنة ، وأظنُّ يومكم من حسين طويلاً (١).

ولكنّ معاوية أذكى من مروان ، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين (عليه السّلام) لا يصلح لتحقيق مآربه ، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه :

[ص١٩٨] : إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً ، فوددتُ أنّي

____________________

(١) و (٢) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٣٧.

١١٤

أدركتها فأغفرها لك (١).

وهكذا يُحاول معاوية أن «يتحلّم» لكيْ يمتَصَّ من ثورة الإمام (عليه السّلام) وحركته شيئاً ما ويظهر من الكتاب الثاني أنّه أحسَّ بخطورة حين كتب إلى الإمام (عليه السّلام) بما يتهدّده ، بما نصّه :

[٢٥٤ ص١٩٨] : (أمّا بعد ، فقد انتهتْ إليَّ أُمور أرغبُ بك عنها ، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها ، ولعمري) (٢) إنّ من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء.

(وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بذلك ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله تفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة بك ، فإنّي متى أُنكرك تنكرني ، وإنّك) متى تكدني أكدك. وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوكَ إلى الشقاق ، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة).

وأهل العراق من قد جرّبتَ ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك (وقد جرّبتَ الناس وبلوتهم ، وأبوك كان أفضل منك ، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون بك ، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عليه).

فاتّقِ الله واذكر الميثاق (وانظر لنفسك ودينك (ولا

____________________

(٢) ما بين القوسين من صدر كتاب معاوية نقلناه عن أنساب الأشراف للبلاذري (ترجمة معاوية) ولم يذكر ابن عساكر إلاّ ما بعده وكذلك كلّ ما بين الأقواس منقولة عن البلاذري ، ولاحظ التعليقة التالية.

١١٥

يستخفنّك الّذين لا يُوقنون) (١)».

رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية :

ولقد اغتنم الإمامُ جواب هذا الكتاب فرصةً لتوجيه السهام المربكة على معاوية ، لِتُنتزعَ ثقتُه بتدبيراته الخبيثة ، وينغّصَ عليه استثمار جهوده الكبيرة التي زرعها طيلة سنوات حكمه ، وليعرّفه أنّه رغم السكوت المرير طيلة تلك الفترة فإنّ الإمامَ لَهُ ولمخططاته بالمرصاد ، وأنّه مراقبٌ لأعماله وتصرّفاته الهوجاء! ومتربّصٌ للوثبة عليه حينما تسنح له الفرصة ، وتؤاتيه الإمكانات وإن لم تحنْ بعدُ.

ولقد كان جواب الإمام (عليه السّلام) على ذلك التهديد صاعقةً على معاوية بحيث لم يُخْفِ تأثّره من ذلك فأصدر كلمةً قصيرة تنبئ عن كلّ مخاوفه ، فقال :

[ص١٩٨] إنْ أثَرنا بأبي عبد الله إلاّ أسَداً (٢).

ولقد تداول الرواةُ نبأ هذا الجواب وتناقلوه ، واعترف كثير منهم بشدّة محتواه.

قال البلاذري : فكتب إليه الحسين كتاباً غَليظاً يعدّد عليه فيه ما فعل ... ، ويقول له : «إنّك قد فُتِنتَ بكيد الصالحين مذ خُلقتَ ، فكدني ما بدا لك».

وكان آخر الكتاب : «والسّلام على مَن اتّبع الهُدى»!

وكان معاوية ـ من شدّة تأثّره وارتباكه ـ يشكو ما كتب به الحسينُ إليه ، إلى الناس (٣).

____________________

(١) لفقنا الكتاب من ما أورده ابن عساكر خارج الأقواس ، وما ذكره البلاذري داخلها ، وأنا أعتقد أن الكتاب نسخة واحدة وإنّما الاختصار من الرواة. ولاحظ مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٣٧.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٣٧.

(٣) المصدر نفسه.

١١٦

لكنّ سَرَقة الحضارة ، وخَوَنة التاريخ حاولوا جهد إمكانهم أن يختصروا ما في هذا الكتاب ، وأن لا يُوردوا إلاّ جزءاً منه.

فلذلك نجد رواية ابن عساكر تقتصر على قوله :

[ص١٩٨] فكتب إليه الحسين : «أتاني كتابك ، وإنّي بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها إلاّ الله ، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً ، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك ، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الاُمّة» (١).

وينقطع الحديث عند ابن عساكر ، بينما الكتاب يحتوي على فقرات هامّة لا تفي بالغرض منها هذه القطعة القصيرة.

ولوضع هذه القطعة في إطارها المناسب رأينا إيراد الجواب كاملاً نقلاً عمّا أورده المؤرّخ القديم البلاذري في أنساب الأشراف (٢) قال : فكتب إليه الحسين (عليه السّلام) : «أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه بلغك عنّي أُمور ترغب عنها ، فإن كانت حقّاً لم تقارّني عليها».

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ٧ / ١٣٧.

(٢) لقد نقل المحمودي نصّ الجواب الكامل عن أنساب الأشراف في ترجمة معاوية ، وذكر من مصادره مجموعة كبيرة من أُمّهات كتب التاريخ والحديث ، منها : الأخبار الطوال للدينوري ص ٢٢٤ والإمامة والسياسة لابن قتيبة ص ١٣١ ورجال الكشي (ترجمة عمرو بن الحمق) والاحتجاج للطبرسي ص ٢٩٧ غير من روى قطعاً منه ، فراجع هامش تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) ص ١٩٨ وهامش أنساب الأشراف ـ ترجمته (عليه السّلام) ٣ / ١٥٣ من تحقيقات العلاّمة المحمودي أدام الله بقاءه.

١١٧

ولن يهديَ إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله.

فأمّا ما نمي إليك فإنّما رقّاه الملاّقون ، المشّاؤون بالنمائم ، المفرّقون بين الجمع.

وما أُريد حرباً لك ، ولا خلافاً عليك ، وأيمُ الله لقد تركت ذلك وأنا أخاف الله في تركه ، وما أظنّ الله راضياً منّي بترك محاكمتك إليه ، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظالمين وأولياء الشياطين.

ألستَ قاتل حجر بن عديٍّ وأصحابه المصلّين العابدين ـ الّذين ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم ـ ظلماً وعدواناً بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلَّظة؟!

أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أبلته العبادة فصفرت لونه ، وأنحلت جسمه [بعد أن آمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال ، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ ، واستخفافاً بذلك العهد] (١)؟!

أوَلست المدّعي زياداً بن سُميّة ، المولود على فراش عُبيْد عبد ثقيف؟! وزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر» فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخالفتَ أمره متعمّداً ، واتّبعت هواك مكذّباً بغير هُدىً من الله. ثمّ سلّطته على العراقين ، فقطع أيدي المسلمين ، وسمل أعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل!

كأنّك لست من هذه الأُمّة ، وكأنّها ليست منك؟! وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :

____________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في رواية البلاذري ، وإنّما أخذناه من الاحتجاج للطبرسي.

١١٨

من ألحق بقوم نسباً ليس لهم فهو ملعون؟!

أوَلستَ صاحب الحضرميّين الّذين كتب إليك ابنُ سُميّة أنّهم على دين عليّ ، فكتبت إليه : «أُقتل مَن كان على دين عليّ ورأيه» فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك؟!

ودينُ عليٍّ دينُ محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يضرب عليه أباك ، والذي انتحالُك إيّاه أجلسك مجلسك هذا ولولاهم كان أفضل شرفك تجشُّم الرحلتين في طلب الخمور؟!

وقلتَ : انظر لنفسك ودينك والأُمّة واتقّ شقّ عصا هذه الاُمّة ، وأن ترد الناس إلى الفتنة.

[فلا أعرف فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأُمّة] (١) ولا أعلم نظراً لنفسي وديني أفضل من جهادك ، فإنْ أفعله فهو قربة إلى ربّي ، وإن أتركه فذنبٌ أستغفر الله منه في كثير من تقصيري ، وأسأل الله توفيقي لأرشد أُموري.

وقلت فيما تقول : إن أُنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني.

[وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ خُلقتَ؟! فكدني ما بدا لك] (٢) فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرَّ منه على نفسك ، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك وتوبق نفسك ، كفعلك بهؤلاء الّذين قتلتهم ومثّلتَ بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا بما به شرفتَ وعرفت ، مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم مُتَّ قبل أن يفعلوه ، أو ماتوا قبل أن يدركوه!؟ فأبشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب.

____________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري ، وإنّما ورد في ابن عساكر والاحتجاج.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري ـ في ترجمة معاوية ـ لكنّه ذكره في القطعة التي نقلها في ترجمة الحسين (عليه السّلام) ، وقد سبق أن نقلناها فلاحظ.

١١٩

واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لك أخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَهُ على الشبهة والتهمة [ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة] (١).

وأخذك الناس بالبيعة لابنك : غلام سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب.

ولا أعلمك إلاّ قد خسرت نفسك ، وأوبقتَ دينك ، وأكلتَ أمانتك ، وغششتَ رعيّتك [وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم] (٢) وتبوّأت مقعدك من النار ، فبعداً للقوم الظالمين!

والسلام على من اتّبعَ الهُدى» (٣).

إنّ موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) هذا الذي أبداه في جواب معاوية أربك معاوية بحيث فوجئ به وهو في أواخر أيّامه ، وقد استنفد كلّ الجهود واستعدّ ليجني ثمارها ، فإذا به يواجه «أسداً» من بني هاشم يثور في وجهه ، ويحاسبه على جرائمه التي تكفي واحدةٌ منها لإدانته أمام الرأي العام ، فكان يقول : إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.

إنّ الحسين (عليه السّلام) باتّخاذه هذا الموقف من معاوية وضع أمام إنجازاته حجرةً عرقلت سيرها ، وأوقفت إنتاجها السريع ، ممّا جعل معاوية يفكّر ويُخطّط من جديد ، ولكن كبر السنّ لم يُساعده ، والأجل لم يمهله وإن كان قد فتح للحسين صفحة في وصاياه لابنه من بعده.

____________________

(١) من الاحتجاج ، ولم يذكره البلاذري.

(٢) ما بين المعقوفتين عن الاحتجاج.

(٣) هذا السلام لم يرد في النص الكامل الذي نقله البلاذري ، وإنّما ذكره في ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، قال : وكان في آخر الكتاب «والسلام ...».

١٢٠