مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

العشي أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى ، فإن كل عشية تشبه تخريب الدنيا بالموت وكل بكرة تشبه القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ، وقال الحسن : إنما أقسم الله بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انتهائها ، وقرب وقت انتهاء التجارة فيها ، أو هو صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها.

روي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول : دلوني على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها ماذا حدث فيك قالت : يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا ، فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات ، ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الزنا فعليك الرجم ، وأما قتل الولد فجزاؤه جهنم ، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا ، لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر» ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) أي لفي غبن في مساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم أو في نقصان عمله بعد الهرم والموت (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم في تجارة لن تبور حيث استبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات ، (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي تحاثوا بكل ما حكم الشرع بصحته من علم وعمل (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) أي تحاثوا بالصبر على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي.

سورة الهمزة

مكية ، تسع آيات ، أربع وثمانون كلمة ، مائة وإحدى وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ) أي شدة عذاب أو واد في جهنم من قيح ودم (لِكُلِّ هُمَزَةٍ) أي مغتاب للناس من خلفهم (لُمَزَةٍ) (١) أي طعان في وجوههم نزلت هذه الآية في أخنس بن شريق ، فإنه كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قاله عطاء ، والكلبي ، والسدي ، أو في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه كما قاله مقاتل وجريج ، أو في أبي بن خلف كما قاله عثمان بن عمر أو في أمية بن خلف كما قاله محمد بن إسحاق ، أو في جميل بن فلال كما قاله مجاهد (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) (٢) أي أحصاه ، وقال الأخفش أي جعله ذخيرة لحوادث الدهر. وقال الضحاك أي أعد ماله لمن يرثه من أولاده ، وقيل : أي فاخر بكثرة عدد.

٦٦١

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر جمع بتشديد الميم على التكثير ، وقرأ الحسن ، والكلبي و «عدده» بتخفيف الدال وهو معطوف على مالا أي وجمع المال ، وعدد ذلك المال ، أو وجمع عدد نفسه من أقاربه وعشيرته الذين ينصرونه ، وقيل : هو فعل ماض بفك الإدغام (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣) أي يظن الكافر أن ماله جعله خالدا في الدنيا لا يموت لطول أمله ولفرط غفلته ، ويعتقد أنه إن نقص ماله يموت لبخله.

قال الحسن : ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت ، وقيل يظن أن المال يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة في النعيم المقيم ، وهذا تعريض بالعمل الصالح. (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده ، بل العلم ، والصلاح وعلى هذا يجوز الوقف هنا أو بمعنى حقا (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (٤) أي والله ليطرحن في النار التي تحطم كل من وقع فيها أي تكسره.

وقرئ «لينبذان» بالمثنى أي هو وماله ، وقرئ «لينبذن» بضم الذال أي هو وأنصاره وذلك لأن شأنه كسر أعراض الناس فإن الجزاء من جنس العمل ، (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) (٥) التي هي جزاء الهمزة اللمزة (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) (٦) أي التي لا تخمد أبدا بقدرته تعالى (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٧) أي التي تعلو وسائط القلوب ، فإنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال السيئة (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (٨) أي مطبقة أو مغلقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩) أي حال كونهم موثقين في عمد ممددة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين ، والعمود كل مستطيل من خشب ، أو حديد.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وشعبة «عمد» بضمتين جمع عمود أو عماد. وروي عن أبي عمر والضم والسكون ، وقرأ الباقون بفتحتين وهو على القراءتين جمع كثرة لعمود.

٦٦٢

سورة الفيل

مكية ، خمس آيات ، ثلاث وعشرون كلمة ، ستة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ تَرَ) أي ألم تخبر يا أشرف الخلق ، أو ألم تعلم علما رصينا باستماع الأخبار المتواترة ومعاينة الآثار الظاهرة (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (١) قال قتادة : إن قائد الجيش اسمه أبرهة الأشرم من الحبشة ، فقال سعيد بن جبير : هو أبو الكيشوم (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) (٢) والهمزة للتقرير أي قد جعل ربك كيدهم في تخريب الكعبة في إبطال بأن دمرهم أشنع تدمير ، (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (٣) أي طوائف.

روى ابن سيرين عن ابن عباس قال : كانت تلك الطير طيرا لها خراطيم كخراطيم الفيل ، وأكف كأكف الكلاب ، وروى عطاء عنه قال : طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا ، وقيل : كانت بلقاء كالخطاطيف كما قالته عائشة ، وقال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (٤) أي طين متحجر مصنوع للعذاب ، وقيل بحجارة من جهنم فإن سجين اسم من أسماء جهنم ، فأبدلت النون باللام (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (٥) أي كورق زرع أكلته الدود ، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف ليها الحاج ، فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج مع جيشه ، ومعه فيل اسمه محمود كان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره فلما بلغ قريبا من مكة وهو المغمس وهو في أرض الحل قريب من عرفة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل محمودا فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى غيرها من الجهات هرول ، ثم رجع عبد المطلب وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول :

لا هم إن المرأ يمنع حله فامنع حلالك

٦٦٣

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

ومحالهم عدواً محالك

 

لا يغلبن صليبهم

إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك

ويقول أيضا :

يارب فامنع عنهم حماكا

 

يا رب لا أرجو لهم سواكا

امنعهم أن يخربوا قراكا

 

إن عدو البيت من عاداكا

فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن ، فقال : والله إنها لطير غريبة ليست بنجدية ولا تهامية ، وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا ، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وأعضاؤه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتا بين يديه ، وهذه القصة وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٦٤

سورة قريش

مكية ، أربع آيات ، سبع عشرة كلمة ، ثلاثة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) واللام إما متعلقة بالسورة التي قبل هذه السورة ، وإما متعلقة بالآية التي بعد هذه اللام ، وإما متعلقة بمحذوف فعلى الأول ، فإن التقدير فجعلهم كعصف مأكول لحب قريش إلخ أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.

روي أن عمر رضي‌الله‌عنه قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين ، وفي الثانية ألم تر ، ولإيلاف قريش معا من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وإن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة ، وعلى الثاني فالتقدير فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل ، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلاف قريش ونفعهم أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة ، وعلى الثالث فإن هذه اللام لام التعجب فكأن المعنى : أعجبوا لإيلاف قريش ، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وانغماسا في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه. (إِيلافِهِمْ) بدل من إيلاف الأول لأن المبدل منه مطلق والبدل مقيد بالمفعول به ، أو توكيد لفظي فـ «رحلة» مفعول لإيلاف الأول.

وقرأ ابن عامر «لإلاف» قريش بغير ياء بعد الهمزة ، والباقون بياء بعدها ، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني أي لمؤالفتهم. قال ابن عادل : ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا ، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطا ، فهذا أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط ، وقرأ أبو جعفر «لإلف قريش إلفهم» بكسر الهمزة وسكون اللام بزنة حمل وعن ابن عامر «الافهم» بزنة كتابهم كما روي عن ابن كثير أيضا وروي عن ابن عامر أيضا ، كما روي عن عكرمة «ليلاف» قريش بياء ساكنة بعد اللام ، وقرأ عكرمة «ليألف» قريش فعلا مضارعا وعنه أيضا «ليألف» على الأمر (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) (٢) أي انتقالهما أي كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ وبالصيف إلى الشام فكانت أشراف أهل

٦٦٥

مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ، ويقولون هؤلاء جيران بيت الله ، وسكان حرمه ، وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله ، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام ، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ازدادت قيمة أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم ، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلهذا قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى : (فَعَلَ رَبُّكَ) أو من قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ) [الفيل : ٥] ليس بحجة على أنهما سورة واحدة لأن القرآن كله كالسورة الواحدة ، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا ، ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [القدر : ١] متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قراءة سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين في ركعة واحدة ، وقيل : إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا ، وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان ثمّ لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.

وقرئ «رحلة» بضم الراء وهي الجهة التي يرحل إليها ، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (٣) قال الخليل وسيبويه : إن اللام في «لإيلاف» متعلقة بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) ودخول الفاء فيه لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة وهي إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف والمعنى لجعلهم محبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم فليعبدوه تعالى (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر بواسطة كونهم جيران البيت (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤) أي من خوف دخول العدو عليهم ، ومن خوف زحمة أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم ، وقال الضحاك والربيع : أي آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدتهم جذام ، وقيل : آمنهم من خوف الضلال بالإسلام ، فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به فكانت نعمة الأمانة دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا أما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح.

٦٦٦

سورة الماعون

وتسمى سورة الدين ، وسورة أرأيت ، مكية ومدنية ، سبع

آيات ، خمس وعشرون كلمة ، مائة وثلاثة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (١) فرأى إما بصرية فالمعنى أأبصرت المكذب بالجزاء ، أو بالإسلام أو هل عرفته ، وإما بمعنى أخبرني الذي يكذب بالحساب من هو ، ويدل على هذا قراءة عبد الله بن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب والكاف لا تلحق البصرية ، وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائي ولم يصح عن العرب «ريت» ، ولكن لما كان حرف الاستفهام في أول الكلام سهل حذف الهمزة (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (٢) والفاء جواب شرط محذوف أي إن أردت أن تعرف المكذب بالحساب فذلك الذي يدفع اليتيم بعنف عن حقه.

وقرئ «يدع اليتيم» أي يتركه ولا يدعوه أي يدعو جميع الأجانب ويترك اليتيم أي يترك المواساة معه ، وإن لم تكن المواساة واجبة وقد يذم المرء بترك النوافل ، وقرئ «يدعو اليتيم» أي يدعوه رياء ، ثم لا يطعمه ، وإنما يدعوه استخداما أو قهرا ، (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣) أي ولا يحث أهله وغيرهم من الموسرين على صدقة المساكين.

قال ابن جريج : نزلت هذه الآية في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه ، وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة ، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل.

روي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي ، فقال له أكابر قريش : قل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء ، ولم يعرف اليتيم ذلك فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتمس منه ذلك وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش ، فقالوا : صبوت ، فقال : لا والله ما صبوت ، لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيّ.

٦٦٧

وقال السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة وقال الضحاك : نزلت في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقال عطاء عن ابن عباس نزلت في رجل من المنافقين (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (٥) والنسيان عن الصلاة ، هو أن يبقى الإنسان ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة أما المسلم الذي يعتقد أن فيها فائدة دينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة. بلى ، قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهيا في بعض أجزاء الصلاة فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن ، والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر. (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) (٦) بصلاتهم فإذا فاتتهم مع الناس تركوها بالمرة ، والمرائي من يظهر الأعمال عند الناس مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدين والصلاح أما من يظهر النوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرياء فلا بأس بذلك وليس بمراء ، (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧) أي ويمنعون الناس الزكاة أو يمنعون الطالبين منافع البيت كالفأس ، والقدوم ، والإبرة ، والقدر ، والقصعة ، والمغرفة ، والمقدحة ، والغربال ، والدلو ، والملح ، والماء ، والنار.

٦٦٨

سورة الكوثر

وتسمى سورة النحر ، مكية ، ثلاث آيات ، عشر كلمات ، اثنان وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ). وقرئ «أنطيناك» يا أشرف الخلق : (الْكَوْثَرَ) (١) أي الخير المفرط في الكثرة من شرف النبوة الجامعة لخيري الدارين ، فإن كتاب محمد هو الكتاب المهيمن على كتاب آدم وصحف إبراهيم وموسى ، وتحديه بالقرآن ، وذلك أعلاه كما تحدى آدم بالأسماء.

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال : لئن كنت صادقا ، فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق ، فأشار الرسول إليه ، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وعام حتى صار بين يدي الرسول وسلم عليه ، وشهد له بالرسالة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكفيك هذا؟» قال : حتى يرجع إلى مكانه ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجع إلى مكانه ، وهذا أعظم من إمساك سفينة نوح على الماء. وعن محمد بن حاطب قال : كنت طفلا ، فانصب القدر علي من النار ، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : هذا ابن حاطب احترق كما ترى ، فتفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال : أذهب البأس رب الناس ، فصرت صحيحا لا بأس بي ، وذلك أعظم من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، وأكرم الله محمدا ، ففلق له القمر فوق السماء ، وفجر له أصابعه عيونا وكان الغمام يظله ، وأعطاه الله القرآن الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب ، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفه ثعبانين ، فانصرف مرعوبا كما أكرم الله موسى ، ففلق له البحر في الأرض ، وفجر له الماء من الحجر ، وظلل عليه الغمام وأكرمه باليد البيضاء ، وقلب عصا موسى ثعبانا وسبحت الأحجار في يد الرسول وأصحابه ، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرمه الله بالبراق ، كما سبحت الجبال مع داود ، وإذا مسح الحديد لان وأكرمه الله بالطير المحشورة ، وأضاف الرسول اليهود بالشاة المسمومة ، فلما وضع اللقمة في فيه أخبرته ، وروي أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء ، وشكت ذلك إلى الرسول فمسح عليها رسول الله بغصن ، فأذهب الله عنها البرص ، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى الرسول فردها إلى مكانها ، وعرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل ، فأخبره ، فأسلم العباس لذلك ، كما أكرم الله

٦٦٩

عيسى عليه‌السلام بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ومعرفة ما يخفيه الناس في بيوتهم وحين نام رسول الله ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها وصلى وردها مرة أخرى لعلي ، فصلى العصر في وقته. وروي أن طيرا فجع بولده ، فجعل يرفرف على رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكلمه فقال : «أيكم فجع هذه بولدها؟» فقال رجل : أنا ، فقال : «اردد إليها ولدها» (١). وأكرمه الله بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان يرسل حماره يعفورا إلى من يريده ، فيجيء به وأرسل معاذا إلى بعض النواحي ، فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجز أن يرجع ، فتقدم وقال : أنا رسول رسول الله ، فانصرف وانقاد الجن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحين جاء الأعرابي بالضب وقال : لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب ، فتكلم الضب معترفا برسالته ، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة ، كما رد الله لسليمان الشمس مرة ، وعلم منطق الطير ، وأكرمه الله بمسيره غدوة مسيرة شهر ، وانقاد الجن له ، فلما كانت رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثرا فقال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

قال : عطاء الكوثر حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة.

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج». وفي رواية أنس أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر ، لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير ، وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان. وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن ، وأحلى من العسل ، وحافتاه خيام الدر ، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا الثرى مسك أذفر فقلت لجبريل : ما هذا؟ قال : الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى»(٢). (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أي فدم على الصلاة خالصا لوجه ربك الذي أفاض عليك

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ١٠٣) ، والحاكم في المستدرك (١ : ٨٠) وابن أبي شيبة في المصنف (١١ : ٤٣٧) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٤٩٨) ، والآجري في الشريعة (٣٩٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٩١٥٣) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٥٢٠) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٤٠٣) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١١ : ٤٥).

(٢) رواه مسلم في الجهاد باب : ٣١ ، وأبو داود في الخراج باب : ٢٥ ، وأحمد (م ٢ / ص ٢٩٢) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ : ٣٤) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٩) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٦ : ١٦٩) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤ :٤٧٥) ، والبغوي في شرح السنة (١١ : ١٥٢) ، وعبد الرزاق في المصنف (٩٧٣٩) ، ـ

٦٧٠

هذه النعمة الجليلة خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها ، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر ، (وَانْحَرْ) (٢) أي استقبل القبلة بنحرك كما قاله ابن عباس ، والفراء ، والكلبي ، وأبو الأحوص كأنه تعالى يقول : الكعبة بيتي ، وهي قبلة صلاتك ، وقلبك قبلة رحمتي ، ونظر عنايتي ، فلتكن القبلتان متناحرتين أي متقابلتين ، (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) أي إن مبغضك هو المنقطع عن كل خير ، وهو أبو جهل كما قاله ابن عباس.

روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ، ثم إنه وصف رسول الله بالأبتر ، ثم قال : قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا ، فلما وصلوا إلى دار خديجة ، وتوافقوا على ذلك ، أخرجت خديجة بساطا ، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا كالجبل ، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أقبح وجه ، فلما رجع أخذه باليد اليسرى ، فصرعه على الأرض مرة أخرى ، ووضع قدمه على صدره ، أو هو أبو لهب كما قاله عطاء فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شافهه بقوله : تبا لك ، كان أبو لهب يقول في غيبته أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبتر ، فنزلت هذه الآية أو هو العاص بن وائل السهمي ، كما قاله عكرمة.

روي أن العاص بن وائل كان يقول : إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه ، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي ، وعامة أهل التفسير ، أو هو عقبة بن أبي معيط ، كما قاله شمر بن عطية ، فإنه هو الذي كان يقول ذلك ، ووصف الله تعالى العدو بكونه شانئا ، إشارة إلى وعده تعالى لرسوله بقهر العدو كأنه تعالى يقول : هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك ، فيحترق قلبه غيظا وحسدا.

__________________

ـ والزيلعي في نصب الراية (٣ : ٤٣٩) ، والدار قطني في السنن (٣ : ٦٠) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٦٢١٠).

٦٧١

سورة الكافرون

وتسمى أيضا سورة المنابذة ، أو المعابدة ، وسورة الإخلاص ، أي

إخلاص العبادة ، وسورة المقشقشة ، أي المبرئة من النفاق. ست

آيات وستة وعشرون كلمة ، أربعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ) يا أشرف الرسل : (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١).

روي أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد هلم حتى نعبد إلهك مدة ، وتعبد آلهتنا مدة ، فيحصل الصلح بيننا وبينك ، وتزول العداوة من بيننا ، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا ، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا ، فنزلت هذه السورة فلما نزلت وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه ، (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (٢) أي لا أعبد الذي تعبدونه في المستقبل والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم من دون الله من الأوثان ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (٣) أي ولا أنتم عابدون في المستقبل عبادتي ، أي مثل عبادتي ، أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي وهو الله الواحد ، (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (٤) أي وما كنت قط عابدا فيما مضى الذين عبدتم فيه ، أي لم يعتد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (٥) ، أي وما عبدتم في وقت من الأوقات مثل عبادتي ، وإنما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا عن الاستقبال ، لأنه هو الذي دعوه إليه ، فهو الأهم ، فبدأ به ، أما حكايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبد الأوثان سرا ، خوفا منها ، أو طمعا إليها ، وأما نفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبادتهم ، فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلا ، وإن كان يعبد الله في بعض الأحوال وإنما قال : (ما أَعْبُدُ) في الرابعة ولم يقل : ما عبدت ليوافق (ما عَبَدْتُّمْ) في الثالثة ، لأن عبادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة لم تظهر لأحد بخلافها بعدها أما عبادة الكافر قبل البعثة وبعدها فظاهرة عند الناس ، (لَكُمْ دِينُكُمْ) وهذا تثبيت لقوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ولقوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، (وَلِيَ دِينِ) (٦) وهذا تقرير لقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) والمعنى : إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور لكم ، وإن ديني الذي هو التوحيد مقصور لي ، كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إني نبي مبعوث

٦٧٢

الشرك. وقيل : معنى الآية لكم حسابكم ولي حسابي ، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر ألبتة وقيل لكم : العقوبة من ربي ولي العقوبة من أصنامكم ، لكن أصنامكم جمادات ، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام. وقيل لكم : عادتكم المأخوذة من أسلافكم والشياطين حتى تلقوا الشياطين والنار ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي حتى ألقى الملائكة والجنة.

وقرأ نافع وهشام وحفص بفتح ياء «ولي» وحذف ياء الإضافة من «دين» وقفا ووصلا السبعة. وجمهور القراء وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب.

سورة النصر

وتسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا وهي آخر سورة نزلت ـ قاله

ابن عباس ـ مدنية ، هي ثلاث آيات وثلاث ، عشرون كلمة ، تسعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) إن كان نزول هذه السورة قبل فتح مكة ، فـ «إذا» ظرف مستقبل جوابه فسبح ، فإن كان النزول بعد الفتح فـ «إذا» بمعنى إذ التي للماضي ، فهي على هذا متعلقة بمقدر ، أي أكمل الله الأمر وأتم النعمة إذ حصل إعانة الله تعالى على عدوك ، (وَالْفَتْحُ) (١) أي فتح مكة ، وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح ، وكان لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، فقد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وطوائف العرب إلى أن نزل بمر الظهران ، وقدم العباس وأبو سفيان إليه ، فاستأذنا ، فأذن لعمه خاصة ، فقال أبو سفيان : إما أن تأذن لي ، وإلا أذهب بولدي إلى المفازة ، فنموت جوعا وعطشا ، فرق قلبه ، فأذن له وقال له : «ألم يأن أن تسلم وتوحد؟» فقال : أظن أنه واحد ولو كان هاهنا غير الله لنصرنا ، فقال : «ألم يأن أن تعرف أني رسوله؟» فقال : إن لي شكا في ذلك ، فقال العباس : أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال : وماذا أصنع بالعزى؟ فقال عمر : لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك ، فقال : يا محمد ، أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش ، وتصالح قومك وعشيرتك ، فسكان مكة عشيرتك وأقاربك وتعرضهم للشن والغارة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي ، وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم». وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر ، ثم تقدم أبو سفيان ودخل مكة وقال : إن محمدا جاء

٦٧٣

بعسكر لا يطيقه أحد ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع من ذلك فزعا شديدا ، وسأل العباس ، فأخبره بأمر الصلاة ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه ، كالساجد تواضعا وشكرا ، ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فقال : ومن تسع داري فقال : «ومن دخل المسجد فهو آمن» فقال : ومن يسع المسجد فقال : «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» ، ثم وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على باب المسجد وقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثم قال : «يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم» ، فقالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم فقال : «اذهبوا ، فأنتم الطلقاء» (١) ، فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئا ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام ، وأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوازن.

وقرئ «فتح الله» و «النصر». (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٢) ، أي وأبصرت الناس يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيفة كأهل مكة ، والطائف ، واليمن ، وهوازن ، وسائر قبائل العرب ، وكانوا قبل ذلك فيه واحدا واحدا ، واثنين اثنين. وقرئ «يدخلون» على البناء للمفعول (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). أي فقل سبحان الله حامدا له ، (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واطلب غفرانه هضما لنفسك واستقصارا لعملك ، واستعظاما ، لحقوق الله ، واستدراكا لما فرط منك من ترك الأولى ، وكأنه تعالى يقول : إذا جاء نصر الله إياك والمؤمنين ، والفتح ، ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت بالتسبيح والحمد والاستغفار (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣) أي إنه تعالى يكثر قبول التوبة لكثير من التائبين ، والتوبة اسم للرجوع والندم ، والإنسان قد يقول : أستغفر الله وليس بتائب ، فيكون كاذبا وكان تقدير الكلام : واستغفره بالتوبة ، وفي هذا تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار ، وكذا خواتيم الأعمار.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار. وعن عائشة : كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ، ولا يجيء إلا قال : «سبحان الله وبحمده» فقلت : يا رسول الله إنك تكثر من قول سبحان الله وبحمده؟ قال : «إني أمرت بها» وقرأ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ). وعن ابن مسعود لما نزلت هذه السورة كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور» (٢).

__________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ : ١٢٧).

(٢) رواه أحمد في (م ١ / ص ٢٨١) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٩ : ٧) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٥٣٤) ، والبغوي في شرح السنة (٥ : ١٢٨) ، والطبري في التفسير (٣٠ : ـ

٦٧٤

قال مقاتل : لما نزلت هذه السورة قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، وفيهم أبو بكر وعمر ، وسعد بن أبي وقاص والعباس ، ففرحوا ، واستبشروا ، وبكى العباس فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عم» قال : نعيت إليك نفسك ، أي أخبرت بموتك قال : «إنه كما قلت» ، فعاش بعدها ستين يوما ما رؤي فيها ضاحكا مستبشرا ، وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ، ثم نزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فعاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزل (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل : أحد عشر يوما ، وقيل : سبعة أيام والله أعلم ، وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ربيع الأول لاثني عشر خلت منه من هجرته إلى المدينة والهجرة ، كانت لاثني عشر خلت من ربيع الأول كما أن مولده كذلك على المشهور.

__________________

ـ ٢١٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٩٦) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٣).

٦٧٥

سورة أبي لهب

وتسمى سورة تبت ، مكية ، خمس آيات ، ثلاث وعشرون كلمة ، سبعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَبَّتْ) أي هلكت (يَدا أَبِي لَهَبٍ) هو عبد العزى بن عبد المطلب ، (وَتَبَ) (١) أي هلك هو ، فالأولى : مشت تمشية الدعاء عليه. والثانية : أخرجت مخرج الخبر ، أي وقد حصل الهلاك عليه ، فهذه الجملة على هذا على تقدير : قد ، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب بالتصريح بقد ، وقيل : كل واحد من الجملتين أخبار ولكن أريد بالجملة الأولى هلاك عمله ، وبالثانية هلاك نفسه ، فإن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله ، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد الصفا ذات يوم وقال : «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا : ما لك؟ قال : «أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقونني؟» قالوا : بلى ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (١) ، فقال : عند ذلك أبو لهب : تبا لك ألهذا دعوتنا! فنزلت هذه السورة.

وروي أنه قال : فما لي إن أسلمت؟ فقال : «ما للمسلمين» فقال : أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بما ذا تفضل؟» فقال : تبا لهذا الدين أستوي فيه أنا وغيري.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاه نهارا فأبى ، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذرا ، فجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال : «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت». فقال : لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجدي : «من أنا؟» (٢) فقال : رسول الله. وأطلق لسانه يثني عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستولى الحسد على أبي لهب ، فأخذ بيدي الجدي ومزقه وقال : تبا لك أثر فيك السحر! فقال الجدي : بل تبا لك. فنزلت هذه السورة على وفق ذلك تبت يدا أبي لهب لتمزيقه

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٤ : ٣٤٥) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٨ : ٢٩٣) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٥٦٣٢).

(٢) رواه ابن حجر في تلخيص الحبير (٤ : ٩).

٦٧٦

يدي الجدي ، وقد حصل له وجود الاعتقاد الباطل ، والقول الباطل ، والعمل الباطل (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٢) أي أيّ تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه ، فإنه لا أحد أكثر مالا من قارون ، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه؟ أو لا ينفع أبا لهب ماله وكسبه عند ذلك ، فـ «ما» في «ما أغنى» للنفي؟ أو للاستفهام و «ما» في «ما كسب» إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها ، أو استفهامية أي أيّ شيء كسب فينفعه. روي أن أبا لهب كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فاستخلص منه ، وقد خاب مرجاه وما حصل ما تمناه ، فافترس أسد ولده عتيبة بالتصغير في طريق الشام فأنزل الله تعالى هذه الآية. والكسب : هو أرباح ماله. وقيل : نتاج ماشيته. وقال ابن عباس : وما كسب هو ولده والدليل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه»(١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك» (٢). ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال. والعدسة : بثرة تخرج بالبدن فتقتل ، (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (٣) أي سيدخل أبو لهب في الآخرة نارا عظيمة ذات اشتعال. وقرئ بضم الياء وفتح اللام مخففا ومشددا ، (وَامْرَأَتُهُ) معه أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان صخر بن حرب ، واسمها العواء. وقيل : اسمها أروى. وقرئ و «مريئته» بالتصغير للتحقير ، (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٤) وماتت مخنوقة بحبلها وكانت لشدة عداوتها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحمل بنفسها الشوك والحطب ، فتنثره بالليل في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عليه‌السلام يطؤه كما يطأ الحرير. وقرأ عاصم بالنصب على الشتم ، أو على الحال إذا أريد بحمل الحطب في مطلق الزمن ، وقرأ الباقون بالرفع على أنه نعت لامرأته إذا أريد به المضي. وقرئ «حمالة للحطب» بالتنوين نصبا ورفعا فالرفع على الخبر لامرأته ، والنصب على الشتم أو على الحال من «امرأته» إن جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير المستتر ، فإنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار كما كانت تحمل الحطب في الدنيا لأذية الرسول ، وحينئذ فجملة «في جيدها» في موضع الحال من «امرأته» وإن جعلناها مرفوعة بالابتداء فجملة «في جيدها» إلخ هو الخبر. (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥) أي من حديد في الآخرة ، فقد قال ابن عباس : هو سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها ، وتخرج من دبرها ، ويكون سائرها في عنقها ،

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٣٥٣٠) ، وابن ماجة في السنن (٢٢٩١) ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٠٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٧ : ٤٨٠) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ : ١٥٤) ، وابن حجر في تلخيص الحبير (٣ : ١٨٩) ، وعبد الرزاق في المصنف (١٦٦٢٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (١ : ٣٤٧) ، والقرطبي في التفسير (٥ : ٤١٢).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٨٢) ، والحاكم في المستدرك (٣ : ٧٤) ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٦١).

٦٧٧

قتلت من حديد قتلا محكما ويقال : أي في عنقها رسن من ليف المقل وهو شجر الدوم الذي اختنقت به وماتت.

قال قتادة والضحاك : إن العواء كانت تعيّر رسول الله بالفقر فعيّرها الله بأنها كانت تحتطب في حبل من ليف تجعله في جيدها ، فخنقها الله تعالى به ، فأهلكها.

سورة الإخلاص

وتسمى سورة المعرفة ، وسورة الجمال ، وسورة التوحيد ، وسورة النجاة ، وسورة النور ،

وسورة المعوذة ، وسورة المانعة ، لأنها تمنع فتنة القبر ولفحات النار ، وسورة البراءة ،

لأنها براءة من الشرك ، مكية ، أربع آيات ، خمس عشرة كلمة ، سبعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) إن هذه السورة نزلت بسبب سؤال المشركين. قال الضحاك : إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : سببت آلهتنا وخالفت دين آبائك! فإن كنت فقيرا أغنيناك ، وإن كنت مجنونا داويناك ، وإن هويت امرأة زوجناكها! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لست بفقير ، ولا مجنون ، ولا هويت امرأة ، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته». فأرسلوه ثانية وقالوا : قل له بين لنا جنس معبودك أمن ذهب أو فضة؟ فأنزل الله هذه السورة فقالوا له : ثلاثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا ، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق؟! فنزلت (وَالصَّافَّاتِ) [الصافات : ١] إلى قوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الصافات : ٤] فأرسلوه أخرى وقالوا : بين لنا أفعاله ، فنزل (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف : ٥٤] وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عامر : إلى من تدعونا يا محمد؟ فقال : «إلى الله تعالى» قال : صفه لنا أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة ، وأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة ، وعامر بن الطفيل بالطاعون وقيل : نزلت بسبب سؤال النصارى.

روي عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران فقالوا : صف لنا ربك ، أمن زبرجد ، أو ياقوت ، أو ذهب ، أو فضة؟ فقال : «إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء» فنزل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قالوا : هو واحد ، وأنت واحد ، فقال : ليس كمثله شيء ، زدنا من الصفة ، فقال : «(اللهُ

٦٧٨

الصَّمَدُ)» فقالوا : وما الصمد؟ فقال : «الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج». فقالوا : زدنا ، فنزل (لَمْ يَلِدْ) كما ولدت مريم (وَلَمْ يُولَدْ) كما ولد عيسى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له نظير من خلقه.

وقال الضحاك وقتادة ومقاتل : جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فإن الله تعالى أنزل صفته في التوراة ، فأخبرنا من أيّ شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ ومن ورث؟ ومن يرثه؟ فنزلت هذه السورة وصفات الله تعالى إما أن تكون إضافية ، وإما أن تكون سلبية.

أما الإضافية : فكقولنا : عالم قادر مريد خلاق.

وأما السلبية : فكقولنا : ليس بجسم ولا بجوهر ، ولا بعرض ، وقولنا : الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وقولنا : أحد يدل على مجامع الصفات السلبية ، وذلك لأن الله تعالى هو الذي يستحق العبادة ، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يستبد بالإيجاد فالاستبداد بالإيجاد ، لا يحصل إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة ، والإرادة النافذة ، والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، والمراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التراكيب. (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) أي السيد المصمود إليه في الحوائج.

وقال ابن مسعود والضحاك : الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده. وقيل : الصمد هو الذي ليس فوقه أحد فلا يخاف من فوقه ، ولا يرجو من تحته ، ترفع الحوائج إليه. وقال قتادة : الصمد الباقي بعد فناء خلقه ، والذي لا يأكل ولا يشرب ، وهو يطعم ولا يطعم.

وقال أبيّ بن كعب : هو الذي لا يموت ولا يورث ، وله ميراث السموات والأرض.

وقال ابن كيسان : هو الذي لا يوصف بصفة أحد.

قال مقاتل بن حبان : هو الذي لا عيب فيه (لَمْ يَلِدْ) أي لم يصدر عنه ولد لأنه لم يجانسه شيء ، (وَلَمْ يُولَدْ) (٣) أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه تعالى سابقا ولاحقا. ويقال : لم يلد ، أي ليس له ولد فيرث ملكه ، ولم يولد أي ليس له والد فيرث عنه الملك ، فلم يرث ولم يورث ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) أي لم يشاكله أحد من صاحبة وغيرها ، فيمتنع أن يكون شيء من الموجودات مساويا له تعالى في شيء من صفات الجلال والعظمة ، ثم الآية الأولى : تبطل مذهب الثنوية القائلين : بالنور والظلمة ، والنصارى : في التثليث. والصائبين : في الأفلاك والنجوم.

والآية الثانية : تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى الله ، لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات.

٦٧٩

والآية الثالثة : تبطل مذهب اليهود في عزير ، والنصارى في المسيح والمشركين في أن الملائكة بنات الله.

والآية الرابعة : تبطل مذهب المشركين حين جعلوا الأصنام شركاء له تعالى. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء نورا ونور القرآن (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)».

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد ، فسمع رجلا يدعو ويقول : أسألك يا الله يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال : «غفر لك ، غفر لك ، غفر لك» (١) ، ثلاث مرات.

وعن سهل بن سعد جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا إليه الفقر فقال : «إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة» (٢). ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه.

وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الصبح اثنتي عشر مرة فكأنما قرأ القرآن أربع مرات وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى»(٣).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه ، لم يفنن في قبره وأمن من ضغطة القبر وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة»(٤).

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الصغير (٢ : ٢٠) ، وابن حجر في لسان الميزان (٤ : ٥٥٧) ، وابن كثير في التفسير (٦ : ٩٥) ، والبخاري في التاريخ الكبير (١ : ٢٦٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٦) ، والعقيلي في الضعفاء (٣ : ٢٢٤).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ : ١٤٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٤١٥).

(٣) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ : ١٤٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٤١٢) ، والقرطبي في التفسير (٢٠ : ٢٤٩) ، والألباني في السلسلة الضعيفة (٣٠١).

(٤) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (٦ : ٢٤١٦).

٦٨٠