مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

إن ملة الإسلام وهي التوحيد ، هي ملتكم أيها الناس ، حال كونها غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم‌السلام ، أي يجب عليكم أن تكونوا عليها ، لا تنحرفوا عنها.

وقرأ الحسن «أمتكم» بالنصب على البدل من هذه ، أو عطف بيان ، و «أمة» بالرفع خبران ، وبرفعهما معا خبرين. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢) أي وحّدوني واعرفوني أيها الكفار أو داوموا على عبادتي أيها المؤمنون. (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي تفرقوا في أمرهم بأن آمنوا بالبعض ، وكفروا بالبعض ، (كُلٌ) ، من الثابت على الدين الحق ، والزائغ عنه إلى غيره ، (إِلَيْنا راجِعُونَ) (٩٣). فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي الفرائض والنوافل ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ورسله (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) ، أي لا حرمان لثواب عمله ، (وَإِنَّا لَهُ) أي لسعيه ، (كاتِبُونَ) (٩٤) أي مثبّتون في صحائف أعمالهم. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٩٥). أي ممتنع على أهل قرية قدّرنا هلاكهم بالموت ، عدم رجوعهم إلينا للجزاء ، بأن يذهبوا تحت التراب باطلا من غير إحباس بالنعمة ، أو بالعذاب. أو المعنى : واجب على أهل قرية أهلكناها بالموت ، عدم رجوعهم عن الشرك ، وعن الدنيا ، فإن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب كقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١] وترك الشرك واجب وليس بمحرّم. (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) ، أي يستمرون على الهلاك ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون : يا ويلنا إلخ. أو لا يرجعون عن الكفر ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع ، ويأجوج ومأجوج ، قبيلتان من الإنس ، والمراد حتى إذا فتحت سدّهما وذلك بعد نزول عيسى إلى الأرض ، وبين موت عيسى والنفخة الأولى ، قدر اثنتي عشرة سنة من السنين المعتادة.

وقرأ ابن عامر بتشديد التاء. (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦) أي والحال أن يأجوج ومأجوج من مكان مرتفع يخرجون.

وقرأ ابن عباس «من كل جدث» أي والناس يخرجون من قبورهم ، فيحشرون إلى موقف الحساب. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) ، أي وهو البعث والحساب والجزاء (فَإِذا هِيَ) ، «فإذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء ، فإذا دخلتها الفاء ، تعاونت على وصل الجزاء بالشرط ، وتأكدت ، والضمير للقصة ، وما بعده خبر مقدم أي فالقصة (شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي أن القيامة إذا قامت ارتفعت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال ، فلا تكاد تطرف من شدة ما يخافونه قائلين : (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا ، تعال فهذا أوان حضورك ، (قَدْ كُنَّا) في الدنيا ، (فِي غَفْلَةٍ) تامة (مِنْ هذا) ، أي الذي أصابنا من البعث والجزاء ولم نعلم أنه حق ، (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٩٧). أي لم نكن غافلين عنه ، بل كنا ظالمين أنفسنا بتعمّد الكفر والإعراض عن الإيمان حيث كذبنا الرسل وعبدنا الأوثان. (إِنَّكُمْ) يا اهل مكة ، (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير

٦١

الله من الأوثان وغيرها ، (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي حطب جهنم يرمون فيها ، (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) أي داخلون فيها.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تلا هذه الآية وقال له ابن الزبعري ـ والد عبد الله القرشي ـ : خصمتك ورب الكعبة ، أليست اليهود عبدوا عزيرا ، والنصارى المسيح ، وبنو مليح الملائكة؟ رد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «ما أجهلك بلغة قومك ، أما فهمت أن «ما» لما لا يعقل؟» وقد أسلم ابن الزبعري بعد هذه القصة. (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) أي أصنامهم (آلِهَةً) كما يزعمون (ما وَرَدُوها) ، أي ما دخلوا النار ، (وَكُلٌ) من العبدة والمعبودين ، (فِيها خالِدُونَ) (٩٩) أي لا خلاص لهم عنها. (لَهُمْ) أي للعبدة (فِيها زَفِيرٌ) ، أي أنين وتنفّس شديد ، (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠) أصوات المعذّبين لشدة الهول وفظاعة العذاب.

وقد جرت عادة الله تعالى ، أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ، أي الذين سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة ، (أُولئِكَ عَنْها) ، أي جهنم (مُبْعَدُونَ) (١٠١). عن ألمها فإنهم في الجنة. وشتان بينها وبين النار. (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ، أي صوت جهنم وحركة تلهّبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وهذه الجملة بدل من «مبعدون» ، أو حال من ضميره ، أو خبر ثان ، وهي مذكورة للمبالغة في إنقاذهم منها. (وَهُمْ) أي من تقدم لهم الوعد بالثواب ، (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) ، أي تمنت نعيم الجنة ، (خالِدُونَ) (١٠٢) أي دائمون في غاية النعم. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) ، حين تغلق النار على أهلها وييأسون من الخروج منها ، وحين يذبح الموت في صورة كبش أملح بين الجنة والنار ، وينادى : يا أهل النار خلود بلا موت ، فييأس أهل النار من الخروج منها ، وحين يؤمر بالكافر إلى الذهاب إلى النار. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، أي الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ، على أبواب الجنة بالبشرى قائلين (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١٠٣). أي هذا الوقت وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا بفنون المثوبات ، وبجميع ما يسركم بإيمانكم وطاعاتكم. (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) بنون العظمة.

وقرئ «يطوي» بالياء والتاء على البناء للمفعول ، فالظرف منصوب بـ «أذكر» أو بـ «تتلقاهم». (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، أي يوم نطوي السماء طيا ، كطيّ الطومار للمكتوبات. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بصيغة الجمع. والباقون بصيغة الإفراد ، واللام متعلقة بمحذوف وهو حال من السجل ، ومعنى طي الطومار للمكتوب ، كون الطومار ساترا لتلك الكتابة ، ومخفيا لها لأن الطيّ ضد النشر الذي يكشف. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، أي نعيد ما خلقناه أو لا إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجادا بعد عدم ، أو جمعا للأجزاء المتبددة ، فهو تشبيه للإعادة بالابتداء في تناول قدرة الله تعالى لهما على السواء (وَعْداً عَلَيْنا) أي وعدنا

٦٢

بالإعادة ، وعدا حقا علينا إنجازه بسبب الإخبار عن ذلك ، وتعلق العلم بوقوعه. (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤) أي إنا سنفعل ذلك لا بد فوقوع ما علم الله وقوعه واجب. (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داود بعد ما كتبنا في التوراة ، أو لقد كتبنا في جميع كتب الأنبياء بعد ما أثبتنا في اللوح المحفوظ ، (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥). أي أن أرض الكفار يفتحها المسلمون ، وهذا حكم من الله بإظهار الدين ، وإعزاز المسلمين. (إِنَّ فِي هذا) أي في المذكور هذه السورة من البراهين الدالّة على التوحيد وصحة النبوة ، (لَبَلاغاً) أي لكفاية ، (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (١٠٦) أي عاملين بعلومهم وهم أهل الصلوات الخمس ، وشهر رمضان. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) أي وما أرسلناك يا أشرف الخلق بالشرائع ، إلّا رحمة للعالمين أي إلّا لأجل رحمتنا للعالمين قاطبة في الدين والدنيا.

فإن الناس في ضلالة وحيرة ، فبعث الله سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيل الثواب وأظهر الأحكام ، وميّز الحلال من الحرام. وإن كل نبيّ قبل نبيّنا إذا كذّبه قومه ، أهلكم الله بالخسف ، والمسخ ، والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذب نبينا إلى الموت ، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (قُلْ) يا أكرم الرسل ، (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، أي إنما يوحى إليّ وحدانية إلهكم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٨) أي يا أهل مكة خصّصوا العبادة بإلهكم الواحد وهو الله تعالى ، فالاستفهام بمعنى الأمر. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١٠٩) أي فإن أعرضوا عن توحيد المعبود ، فقل يا سيّد الرسل : إني أعلمتكم بأني محارب لكم على إعلان ، ولكن لا أدري متى يأذن الله لي محاربتكم. فتبيّن بهذا أن السورة مكية ، فإن الأمر بالجهاد كان بعد الهجرة (إِنَّهُ) تعالى ، (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) (١١٠) ، من الأحقاد للمسلمين ، ومن النفاق ، فيجازيكم عليه. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١١١) أي ما أدري لعلّ تأخير الجهاد استدراج وضرر لكم ، وتمتع لكم إلى انقضاء آجالكم. (قالَ) أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ حفص بصيغة الماضي. والباقون بصيغة الأمر : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي احكم بيننا وبين أهل مكة بالعدل المستلزم لتعجيل العذاب وقد استجيب دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث عذّبوا في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) أي كثير الرحمة على عباده ، (الْمُسْتَعانُ) أي المطلوب منه المعونة (عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢) أي تقولون : إن الشوكة تكون لهم ، وإن راية الإسلام تخفق ثم تركد. فكذب الله ظنونهم وخذلهم ، ونصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

٦٣

سورة الحج

مختلطة بين مكي ومدني ست وسبعون آية ، ألف ومائتان وإحدى

وتسعون كلمة خمسة آلاف ومائة وخمسة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بأن تطيعوه بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١). أي إن شدة حركة الأرض في قرب الساعة في نصف رمضان ، معها طلوع الشمس من مغربها ، أمر حادث ، جليل ، لا تدرك العقول كنهه.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الصور : «أنه قرن عظيم ، ينفخ فيه ثلاث نفخات ، نفخة الفزع ، ونفخة الصعقة ، ونفخة القيام ، لرب العالمين ، وأن عند نفخة الفزع ، يسيّر الله الجبال ، و (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) «وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج ، أو كالقناديل المعلّق ترجرجه الرياح» (١). (يَوْمَ تَرَوْنَها) ، منصوب بـ «تذهّل» ، أو بدل اشتمال من «زلزلة» ، أي وقت رؤيتكم الزلزلة (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ، أي تغفل مع دهشة عن طفلها الذي ألقمته ثديها ، بحيث لا يخطر ببالها أنه ما ذا ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) ، أي تلقي الحوامل جنينها لغير تمام ، (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) ، فالخطاب لكلّ أحد ، أي يراهم كلّ أحد برؤية الزلزلة ، كأنهم سكارى ، وما هم بسكارى حقيقة. وقال ابن عباس ، والحسن : أي وتراهم سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب.

وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» بفتح السين ، وسكون الكاف. وقرئ : «ترى الناس» بالبناء للمجهول ، والضمير للمخاطب ، والناس بالنصب ، أي تظنهم سكارى ، وبالرفع نائب الفاعل على تأويله بالجماعة. وقرئ «تري» ، بضم التاء وكسر الراء ، أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢) أي ولكن ما أزهقهم من هول عذاب الله

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة ، باب : ٨ ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب : في نفخ الصور ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٦٢ ، ١٩٢)

٦٤

تعالى ، هو الذي أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم. (وَمِنَ النَّاسِ) ، أي وبعض الناس ، كالنضر بن الحرث ، وأبي جهل ، وأبيّ بن خلف ، (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) ، أي في دين الله وكتابه وقدرته ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ملتبسا بغير علم ، فإنهم ينكرون البعث ، وقالوا : إن الله لا يقدر على إحياء من صار ترابا ، ويكذّبون القرآن ويقولون : ما يأتيكم به محمد ، كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية ، فهو أساطير الأولين. (وَيَتَّبِعُ) في جداله ، (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (٣) أي عات متجرد للفساد ، والمراد : إما شياطين الإنس ، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر ، وإما إبليس وجنوده. (كُتِبَ عَلَيْهِ) مبني للمفعول صفة ثانية ، أي قد كتب على الشيطان في أمّ الكتاب لظهور ذلك من حاله ، (أَنَّهُ) أي الشأن ، (مَنْ تَوَلَّاهُ) أي من اتخذه وليا وأطاعه ، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي من يقبل الشيطان بقوله فشأنه أن الشيطان يضلّه عن طريق الجنة. (وَيَهْدِيهِ) أي يدعوه (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤) أي إلى ما يؤدي إلى عذاب النار الوقود ، من السيئات. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة ، (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) ، أي خلقنا كلّ فرد منكم ، (مِنْ تُرابٍ) ، لأن المني ودم الطمث ، يتولدان من الأغذية وهي من النبات ، وهو يتولّد من الأرض والماء ، (ثُمَ) خلقناكم ، (مِنْ نُطْفَةٍ) ، أي مني (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي دم جامد ، (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ ، (مُخَلَّقَةٍ) ، أي تامة الصور ، والحواس ، والتخاطيط ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي وناقصة في هذه الأمور. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ، أي أخبرناكم في القرآن ، بدء خلقكم لنبيّن لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم ، فإن القادر على هذه الأشياء ، كيف يكون عاجزا عن الإعادة (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي ونحن نقر بعد ذلك في الأرحام ما نشاء أن نقره فيها من الولد إلى وقت الوضع. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها ، عند تمام الوقت المقدر بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية ، (طِفْلاً) أي حال كونكم صغارا ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، أي ثم نسهل في تربيتكم أمورا لتبلغوا كما لكم في القوة والعقل والتمييز ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) على كماله في ذلك ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى أخسه ، وهو الهرم والخرف. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من ضعف البدن ، وسخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر ما عرفه ، ويعجز عما قدّر عليه. (وَتَرَى) أيها المجادل (الْأَرْضَ هامِدَةً) أي يابسة خالية من النبات ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) أي ماء المطر والعيون ، والأنهار ، (اهْتَزَّتْ) أي تحرّكت في رأي العين بسبب حركة النبات ، (وَرَبَتْ) أي انتفخت للنبات ، (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥) أي وأخرجت بالماء كل نوع من أنواع النبات حسن ، يسّر ناظره. (ذلِكَ) ، أي الصنع البديع في الإنسان ، والأرض حاصل (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الموجود الثابت ، المتحقق في

٦٥

الألوهية فهذه الموجودات دالة على وجود الصانع ، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) ، أي شأنه إحياء الموتى كما أحيى الأرض الميتة ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) فإذا دلّت المشاهدة على قدرته تعالى على إحياء بعض الأموات ، لزم اقتداره تعالى على إحياء جميع الأموات ، فلا بدّ وأن يكون قادرا على إعادة الموتى إلى الحياة ، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧).

وهذا كناية عن كونه تعالى حكيما ، لأنه من روادف الحكمة ، فالمعنى ذلك أي خلق الإنسان ، وإحياء النبات ، حاصل بسبب أنه تعالى قادر على إحياء الموتى ، وأنه تعالى حكيم لا يخلف وعده وقد وعد بإتيان الساعة ، والبعث ، فلا بد أن يفي بما وعد. (وَمِنَ النَّاسِ) وهو أبو جهل بن هشام ، (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في شأنه تعالى ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي كائنا بغير علم ضروري ، (وَلا هُدىً) أي نظر صحيح هاد إلى المعرفة. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨) أي وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه من غير تمسّك بقياس ضروري ولا بحجة نظرية ، ولا ببرهان سمعي. (ثانِيَ عِطْفِهِ) حال ثانية من فاعل «يجادل» ، أي معرضا بجانبه عن الحق متكبّر.

وقرأ الحسن بفتح العين أي مانعا لتعطّفه قاسيا. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، متعلق بـ «يجادل» أي فإن المجادل أظهر التكبّر لكي يتبعه غيره ، فيضلّه عن طريق الحق بالتمويهات ، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بفتح الياء ، فتكون اللام للعاقبة ، أي فإن المجادل أظهر التكبّر فيستمر ضلاله عن دين الله ، أو يزيد ضلاله عنه في عاقبة أمره ، فلا هداية له بعده. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وهو ما أصابه يوم بدر من القتل والإهانة. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (٩) أي عذاب النار المحرقة. (ذلِكَ) ، أي العذاب الدنيوي والأخروي ، (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠) ومحل «أن» رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين ، لا في وسطه ، وعلى ضعيف يقين ، والجار والمجرور حال من فاعل يعبد أي متزلزلا. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) ، دنيوي وهو ما يوافق الطبع ، (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي ثبت على ذلك الدين ، بسبب ذلك الخير الذي يوافق هواه ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) وهو ما يثقل على طبعه (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي رجع إلى دينه الأول ، وهو الشرك بالله ولما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شر لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شرا في نفسه ، بل هو سبب القرب بشرط التسليم والرضا بالقضاء.

نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ في المدينة جسمه ، ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما ، وكثر ماله ، قال : هذا دين حسن واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض ، وولدت امرأته جارية ، أو أجهضت

٦٦

رماكه ، ولم تلد فرسه ، وذهب ماله ، وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين ، فينقلب عن دينه ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والكلبي رضي‌الله‌عنه. (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ).

قرأ العامة «خسر» فعلا ماضيا وهو استئناف أو حال من فاعل «انقلب» ، أو بدل من «انقلب». وقرأ مجاهد «خاسر» بصيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. وقرئ بالرفع على الفاعلية ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وذلك لأنه يذهب في الدنيا الكرامة ، وإصابة الغنيمة ، وأهلية الشهادة ، والإمامة ، والقضاء ، وعصمة ماله ودمه ، ويفوت في الآخرة الثواب الدائم ، ويحصل له العقاب الدائم. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١) أي الواضح إذ لا خسران مثله (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) استئناف مبين لعظم الخسران ، وهي واردة في المشركين الذين قدموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى وجه النفاق وهم : بنو الحلاف ، منافقو بني أسد وغطفان ، أي أيعبد من ذكروهم بنو الحلاف متجاوزا عبادة الله تعالى ، جمادا لا يضرّه إذا لم يعبده ، ولا ينفعه إن عبده (ذلِكَ) العبادة (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٢) عن الصواب ، وهو الكفر العظيم. (يَدْعُوا) بالقول (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، استئناف مذكور لبيان عاقبة عبادته المذكورة ، فالدعاء بمعنى القول ، واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا له ، و «من» مبتدأ ، و «ضره» مبتدأ ثان ، خبر «أقرب» ، والجملة صلة للمبتدأ الأول. أي يقول ذلك الكافر يوم القيامة بصراخ حين يرى تضرّره بمعبوده ودخوله النار بسببه ، لمن ضرّه أقرب من نفعه والله ، (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي الناصر هو ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣) أي الصاحب هو (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لأن عبادتهم حقيقية ، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١٤) بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١٥).

أي من ظن أن لن ينصر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته ، وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ، فليطلب سببا يصل به إلى سماء الدنيا فليقطع نصر الله لنبيه ، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة ، وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله ، فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة ، وهذا زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه ، فإن أعداءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا يتمنون أن لا ينصره الله ، وأن لا يعليه على أعدائه ، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك. (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فآيات حال من الهاء (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦) هدايته ، بأن يخلق له المعرفة ومحل الجملة ، إما الجر على حذف الجار المتعلق بمحذوف مؤخر ، أي ولأن الله يهدي من يريد أنزله كذلك ، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والأمر أن الله يهدي

٦٧

من يريد هدايته ، ثم بيّن من يهديه ومن لا يهديه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، بكل ما يجب أن يؤمن به ، (وَالَّذِينَ هادُوا) : أي تدينوا بدين اليهودية ، (وَالصَّابِئِينَ) : وهم شعبة من النصارى ـ قيل : سمّيت بذلك لنسبتها إلى صابئ عم نوح عليه‌السلام ـ (وَالنَّصارى) : وهم الذين انتحلوا دين النصرانية ، (وَالْمَجُوسَ) : عبدة الشمس والنيران ، (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) : هم عبدة الأوثان ، (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، في الأحوال والأماكن فيظهر المحق ، من المبطل ، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ، ولا يجمعهم في موطن واحد ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١٧). أي فهو عالم بما يستحقه كلّ منهم ، فلا يجري في ذلك الفصل حيف ، ولا يغيب عن علمه شيء.

والأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء ستة ، فمن الناس من يعترفون بوجود الأنبياء ، ومن لا ، فالمعترفون بذلك : فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا أو لمن كان متنبيا ، فاتباع الأنبياء هم المسلمون ، واليهود ، والنصارى ، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى ، وهم الصابئون : فهم مختلفون في نبوة محمد ، وموسى ، وعيسى ، فاليهود : نفوا نبوّة محمد وعيسى. والنصارى : نفوا نبوّة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والصابئون ، تارة يوافقون النصارى في أصول دينهم ، فتحلّ لنا مناكحتهم ، وتارة يخالفونهم فلا تحلّ مناكحتهم ، ويطلق الصابئون أيضا على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ، ويضيفون الآثار إليها ، وينفون الصانع المختار ، فهؤلاء لا تحلّ مناكحتهم وأتباع المتنبي هم المجوس ، قيل : هم قوم يستعملون النجاسات. والمنكرون للأنبياء على الإطلاق : هم عبدة الأصنام ، وهم المسمّون بالمشركين ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم.

وقال قتادة : ومقاتل الأديان ستة ، واحد لله تعالى وهو الإسلام ، وخمسة للشيطان ، وهي ما عداه. وقرأ نافع «الصابين» بالياء التحتية بعد الباء الموحدة. وقال الزجّاج : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) خير لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كما نقول : إن أخاك إن الدين عليه لكثير ، وأدخلت «إن» على واحد من جزء ، أي الجملة لزيادة التأكيد. (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق بخبر الله تعالى لك (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ) أي ينقاد (لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) فهؤلاء ينقادون لتدبيره تعالى انقيادا تاما يقبلون لما أحدثه الله تعالى فيهم من غير امتناع (وَ) يسجد له تعالى (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) سجود طاعة وعبادة وهم المؤمنون. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بامتناعه من السجود وهو من لا يوحد الله تعالى.

وقرئ «حق» بالرفع ، و «حقا» بالنصب أي حق عليه العذاب حقا (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بالشقاوة (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) بالسعادة أي إن الذين وجب عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم بطريق الشفاعة لهم. وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر

٦٨

ميمي أي فما له من إكرام (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨) من الإكرام بالثواب والإهانة بالعقاب (هذانِ خَصْمانِ) أي طائفة المؤمنين وطائفة الكفار المنقسمة إلى الفرق الخمس فريقان مختصمان.

وقرأ ابن كثير «هذان» بتشديد النون.

وروي عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في شأنه قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في المسلمين وأهل الكتاب حيث قال أهل الكتاب : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المسلمون : نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. فهذه خصومتهم في ربهم فحكم الله بينهم فقال : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي قدرت على مقادير جثثهم نيران تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها. فالمراد بالثياب إحاطة النار بهم أي جعلت النار محيطة بهم كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] ، كما روي عن أنس ، وقال سعيد ابن جبير : أي قطعت قمص وجباب من نحاس أذيب بالنار كقوله تعالى : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠]. فليس شيء حمى بالنار أشد حرارة منه (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩) أي الماء الحار (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (٢٠) أي يذاب بالماء الحار إذا يصب على رؤوسهم ظاهرهم وباطنهم من الجلود والأمعاء. وفي الحديث الذي رواه الترمذي : «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه ـ وهو الصهر ـ ثم يعاد كما كان»(١). (وَلَهُمْ) أي للكفرة (مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) أي مطارق من حديد فـ «اللام» للاستحقاق (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار (مِنْ غَمٍ) شديد (أُعِيدُوا فِيها) بالمقامع.

روي عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا (وَ) قيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢) أي عذاب الغليظ من النار لعظيم الإهلاك (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها) بالبناء للمفعول وبتشديد اللام أي يزينون. وقرئ بسكون الحاء أي يبلسون في الجنة أي تحليهم الملائكة بأمره تعالى. وقرئ «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء أي يلبسون حليهم (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) بالجر في قراءة الجمهور عطفا على ذهب بناء على أن الأساور مركبة منهما بأن يرصع الذهب باللؤلؤ وفي سورة الكهف ليس فيها ذكر لؤلؤ وفي سورة هل أتى لم يذكر فيها اللؤلؤ ولا الذهب وهنا قد ذكرا فيجتمع لهم التزين بهذه الأمور بالذهب

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٣٧٤).

٦٩

وحده وبالفضة وحدها وبالذهب واللؤلؤ وبالنصب في قراءة نافع وعاصم عطفا على محل من أساور ، لأنه يقدر ويحلون حليا من أساور ويحلون لؤلؤا فمن ذهب بيان للأساور (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي الجنة (حَرِيرٌ) (٢٣) أي أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة فلا يمكن عراؤهم منه (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة الآية كما قاله ابن عباس في رواية عطاء (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤) أي أرشدوا إلى الطريق إلى الله تعالى وهو دين الإسلام فالحميد هو الله فهو محمود في أفعاله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يصرفون الناس عن دين الله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي وعن دخوله (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ) أي المقيم (فِيهِ وَالْبادِ) أي الطارئ. وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب «سواء» بالنصب مفعول ثان لـ «جعلناه» و «العاكف» مرفوع به على الفاعلية وللناس متعلق «بسواء» ظرف له. والباقون «سواء» بالرفع على أنه خبر مقدم و «العاكف» مبتدأ والجملة مفعول ثان لـ «جعلناه». وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥) فبإلحاد وبظلم حالان مترادفان ومفعول «يرد» متروك ليتناول كل متناول أي ومن يرد في مكة مرادا ، مائلا عن الاعتدال ظالما أحدا نذقه من عذاب أليم فإن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق العدل في جميع ما يقصده. وقرئ «يرد» بفتح الياء أي من أتى فيه بإلحاد كاحتكار الطعام ، وكدخول مكة بغير إحرام (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مرجعا له بأن يكون موحدا بقلبه لرب البيت عن الشريك ومشتغلا بجسده بتنظيف البيت عن الأوثان (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) فـ «أن» مفسرة لـ «بوأنا» أي لا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت ولا تجعل في العبادة لي شريكا وكان البيت قد رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله ، فبناه على أسه الأول ، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأوثان والأقذار (لِلطَّائِفِينَ) حوله (وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٦) أي المصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي ناد فيهم بالأمر بالحج زوي أن سيدنا إبراهيم صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابه يومئذ بالتلبية من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ فمن لبى مرة حج مرة ، ومن لبى مرتين حج مرتين ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته (يَأْتُوكَ) أي يأتوا البيت الذي بنيته (رِجالاً) أي مشاة على أرجلهم. وقرئ بضم الراء وتخفيف الجيم وتشديدها. وقرئ «رجالي» كعجالي عن ابن عباس (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي وركبانا على كل بعير مهزول لطول سفره (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧) أي تأتي جماعة الإبل من كل طريق بعيد. وقرئ «يأتون» أي الناس (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ

٧٠

لَهُمْ) أي ليحضروا منافع مختصة بهذه العبادة كائنة لهم دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة كحصول المغفرة والأموال وقوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا) متعلق بـ «يأتوك» (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وهي أيام عشر ذي الحجة كما اختاره الشافعي وأبو حنيفة لأنه معلوم عند الناس لحرصهم على علمه من أجل أن وقت الحج في آخره. وقال ابن عباس في رواية عطاء : إن أياما معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، كما اختاره أبو مسلم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم‌الله تعالى. والمراد بالذكر ما وقع عند الذبح كان يقول الذابح باسم الله ، والله أكبر اللهم منك وإليك ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي لأجل ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته (فَكُلُوا مِنْها) أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨).

قال ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه. والفقير الذي تكون ثيابه نقية ووجهه وجه غناء. قال الشافعي : لا يأكل من الواجب شيئا وذلك مثل دم التمتع والقرآن وجزاء الصيد والنذر وغير ذلك. وقال ابن عمر وأحمد وإسحاق : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك. وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدى وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر. وعن أصحاب أبي حنيفة أنه يأكل من التمتع ودم القرآن ولا يأكل من واجب سواهما (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي ثم بعد خروجهم من الإحرام ليقطعوا أدرانهم كالشارب والأظفار والإبط والعانة (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي ما أوجبوه على أنفسهم ما لم يكن الحج يقتضي وجوب ذلك من الضحايا وغيرها.

وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء أي ليتموا ذلك (وَلْيَطَّوَّفُوا) الطواف الذي يتم به التحلل (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) أي القديم ، لأنه أول بيت بني وقد أعتق من غرق الطوفان زمن نوح ومن تسلط كل جبار دخل فيه ليهدمه ، وهو بيت كريم لم يملك قط. وفي قراءة أبي عمر وتحريك اللامات الثلاثة بالكسر. وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين. وفي قراءة الباقين بإسكان الكل (ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ويذكر للفصل بين كلامين أي الشأن ، ذلك المذكور من قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا) إلى هنا أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الأمر لازم لكم أو مفعول لمحذوف أي احفظوا ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعظم جميع تكاليف الله تعالى من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه فتعظيمه قربة عند الله يثاب عليها في الآخرة (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي رخصت لكم حال الإحرام ذبيحة الأنعام وأكل لحومها (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه مما حرم منها لعارض كالميتة

٧١

وما أهل به لغير الله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان فعبادة الأوثان قذر معنوي (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠) أي القول المنحرف عن الواقع كالافتراء على الله تعالى بأنه حكم بتحريم البحائر والسوائب ونحوهما. (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) شيئا من الأشياء وهذان حالان من واو «فاجتنبوا» فالأولى مؤسسة والثانية مؤكدة. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١) أي إن بعد من أشرك بالله عن الحق كبعد من سقط من السماء فذهب كالطير حيث تشاء فإن الأهواء المردية توزع أفكاره أو قذفت به الريح في مكان بعيد ، فإن الشيطان قد طرحه في وادي الضلالة. أو المعنى من أشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا شبيها باستلاب الطير لحمه وتفرق أجزائه في حواصلها أو بسقوطه في المكان البعيد بعصف الريح به (ذلِكَ) أي الأمر ذلك التباعد لمن أشرك بالله أو امتثلوا ذلك أمر الله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي معالم الحج وهي الهدايا (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢) أي فإن تعظيمها من أفعال دوي تقوى القلوب وتعظيمها اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات وأن يختارها حسانا سمانا غالية الأثمان. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وسميت الهدايا شعائر لتعليمها بعلامة يعرف بها أنها هدايا كطعن حديدة في سنامها وتعليق النعال في أعناقها وتعليق آذان القرب في آذان الغنم (لَكُمْ فِيها) أي الشعائر واجبة أو مندوبة (مَنافِعُ) مع تسمية الأنعام هدايا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وتركبوها لغيركم بلا أجرة ، فإن كان إركابها بأجرة حرم وإن تشربوا ألبانها الفاضلة عن ولدها إذا اضطررتم إليها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أن تنحروها ولا تسمى الأنعام شعارا قبل أن تسمى هديا ، كما اختاره الشافعي. وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اركبها ويلك»(١). (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣) أي ثم أعظم هذه المنافع وقت وجوب نحر الهدايا منتهية إلى الحزم كله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل فجاج منى منحر» (٢). (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه‌السلام إلى من بعده (جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي قربانا يتقربون إلى الله تعالى.

وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما «منسكا» بكسر السين ، أي مذبحا وهو موضع ذبح القربان. وقرأ الباقون بالفتح وهو إراقة الدم لوجه الله تعالى وهو ذبح القرابين (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك ، باب : ركوب البدنة وأبو داود في كتاب المناسك ، باب : في ركوب البدن ، والنسائي في كتاب مناسك الحج ، باب : ركوب البدنة ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٥٤).

(٢) رواه أحمد في (م ٤ / ص ٨٢).

٧٢

أي عند ذبحها وفي هذا تنبيه على أن المقصود الأصلي من طلب الذبائح تذكر المعبود وعلى أن القربان يجب أن يكون من الأنعام (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله وفي هذا بيان أن الله تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته لكل الخلق (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي فإذا كان إلهكم إلها واحدا فأخلصوا له الذكر بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة وانقادوا له تعالى في جميع تكاليفه (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤) أي المتواضعين فالحج من صفات المتواضعين كالتجرد عن اللباس ، وكشف الرأس ، والغربة من الأوطان (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من مشاق التكليف والمصائب ، فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها.

وقرأ الحسن «والمقيمي الصلاة» بنصب «الصلاة» على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود «والمقيمين الصلاة» على الأصل (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٥) في وجوه الخيرات وأمر الله تعالى رسوله أن يبشر بالجنة المتواضعين المتصفين بوجل القلوب إذا أمروا بأمر من الله تعالى وبالصبر إذا أصابهم البلاء من الله تعالى وبإقامة الصلاة في وقت السفر للحج وبصدقة التطوع ، أي لذلك الوجل أثران الصبر على البلايا التي من قبل الله تعالى والاشتغال بالخدمة بالنفس وبالمال وهما أعز الأشياء عند الإنسان ، فالخدمة بالنفس : هي الصلاة. والخدمة بالنفس وبالمال : هي إنفاقه في وجوه الخيرات (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي أعلام دينه وهو مفعول ثان و «لكم» متعلق به «والبدن» عند الشافعي خاصة بالإبل ، وعند أبي حنيفة الإبل والبقر (لَكُمْ فِيها) أي البدن (خَيْرٌ) أي منافع دينية ودنيوية هي درها ونسلها وصوفها وظهرها (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) أي على نحرها (صَوافَ) أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى ويد أخرى معقولة فينحرها كذلك بأن تقولوا عند الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك.

وقرئ «صوافن» بضم النون. وقرئ «صوافي» أي خوالص لوجه الله تعالى ، لا تشركوا بالله في التسمية أحدا على نحرها وخوالص من العيوب. وعن عمرو بن عبيد «صوافيا» بالتنوين عوضا عن حرف الإطلاق عند الوقف (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها (فَكُلُوا مِنْها) إن شئتم إذا كانت الأضاحي تطوعا (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) أي الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال (وَالْمُعْتَرَّ) أي الذي يعتر بالسلام ولا يسأل بل يري نفسه للناس كالزائر (كَذلِكَ) مع كمال عظمها ونهاية قوتها ، أي فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدنيا والدين (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦) أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالإخلاص (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن يصل إلى الله تعالى أي إلى مرضاته لحوم القرابين ولا دماؤها ، ولكن يقبل

٧٣

الله الأعمال الطاهرة منكم فمنها التصديق باللحم : وهو من عمل العبد فيرفع إلى الله وأما نفس اللحم المتصدق به : فلا يرفع إلى الله. والمعنى : إن الله لا يثيبكم على لحمها إلا إذا وقع موقعا من وجوه الخير وهو امتثال أمره تعالى وتعظيمه والإخلاص له تعالى.

وروي أنهم كانوا في الجاهلية يضربون لحم الأضاحي على حائط الكعبة ويلطخونها بدمها فأراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة وتضميخ الكعبة بالدم تقربا إلى الله تعالى فنزلت هذه الآية : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي إنما سخّر الله تعالى البدن لكم هكذا لتشكروا الله تعالى على إرشادكم إلى أعلام دينكم وإلى كيفية التقرب بها ، وإلى طريق تذليلها ولتقولوا : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧) أي المخلصين في كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال مع الألف وكسر الفاء أي يبالغ في دفع ضرر المشركين عن الذين آمنوا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانات الله تعالى وهي أوامره ونواهيه (كَفُورٍ) (٣٨) لنعمته وهم المشركون فإنهم أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ).

قرأ أهل المدنية والبصرة وعاصم في رواية حفص «أذن» بالبناء للمجهول. والباقون بالبناء للفاعل. وقرأ أهل المدنية وعاصم «يقاتلون» بالبناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ببناء الفعلين للفاعل وأبو عمرو وأبو بكر بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل. وابن عامر عكس هذا أي أذن الله بعد الهجرة للذين يريدون قتال المشركين في أن يقاتلوا (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قيل : نزلت هذه الآية في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدنية فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة بسبب أنهم مظلمون بالإيذاء. وقيل : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذى شديدا ، وكانوا يأتونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين مضروب ومشجوج يشكون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ) أي نصر المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون عليهم (لَقَدِيرٌ) (٣٩) وعد الله للمؤمنين بالنصر على طريق الكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) مكة المعظمة فالموصول إما نعت للموصول الأول أو الثاني ، أو بيان له أو بدل منه ، وإما منصوب على المدح أو مرفوع بإضمار مبتدأ على المدح (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ). وهذا بدل من حق أي أنهم أخرجوا من مكة بغير سبب إلا بقولهم : ربنا الله وحده ومحمد رسوله إلينا ، فالتوحيد هو الذي ينبغي أن يكون سبب التمكين في مكة لا سبب الإخراج فالإخراج به إخراج بغير حق (وَلَوْ لا دَفْعُ

٧٤

اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل زمان (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) للرهبانية (وَبِيَعٌ) للنصارى (وَصَلَواتٌ) أي كنائس لليهود (وَمَساجِدُ) للمسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا) أي في هذه المواضع الأربعة (اسْمُ اللهِ كَثِيراً).

قال الزجاج : أي ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين بالإذن لهم في جهادهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا مواضع عبادات المؤمنين منهم فهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلى فيه ، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه. وهي المسماة بالصلوات ، وهي كلمة معربة أصلها بالعبرانية : «صلوثا» بفتح الصاد والثاء المثلثة والقصر وبه قرئ في الشواذ. ومعناه في لغتهم «مصلى» ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وهما للنصارى. لكن الصوامع هي التي يبنونها في الصحارى والبيع هي التي يبنونها في البلدان ، وفي زمن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد.

وقرأ نافع «دفاع» بكسر الدال وفتح الفاء مع الألف وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» بتخفيف الدال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي من ينصر دينه وأولياءه بأن يظفرهم بأعدائهم بالتجلد في القتال ، وبإيضاح الأدلة وبالإعانة على الطاعات (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على هذه النصرة التي وعدها للمؤمنين (عَزِيزٌ) (٤٠) أي لا يمنعه شيء وقد أنجز الله وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب ، وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم ، أرضهم وديارهم. (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أي المأذون لهم في القتال المخرجون من ديارهم هم الذين إن أعطيناهم السلطنة ونفاذ القول على الخلق أتوا بالأمور الأربعة هي : إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهذا دليل على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأن الله تعالى لم يعط نفاذ الأمر غيرهم من المهاجرين. أما الأنصار فلم يخرجوا من ديارهم وفي هذه الآية إخبار من الله تعالى بالغيب عما تكون عليه سيرة المهاجرين إن أعطاهم السلطنة على الأرض وثناء منه تعالى عليهم قبل إحداثهم الخير (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١) وفي هذه إشارة إلى حضور سلطنة من أخرجهم كفار مكة ووقوع ملكه مع السيرة العادلة ـ وهم الخلفاء الراشدون ـ ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى في العاقبة فإنه تعالى هو الذي لا يزول ملكه أبدا ، وفي هذا تأكيد للوعد بإعلاء دينه تعالى وإظهار أوليائه (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى) أي وإن تحزن يا أشرف الخلق على تكذيب قومك إياك فأنت يا أكرم الرسل لست بأوحدي في التكذيب ، فتسل بهم فإنه قد كذب سائر الأمم أنبياءهم قبل تكذيب قومك إياك. كذب قوم نوح الذين هم من أشد الناس نوحا عليه‌السلام ، وكذب قوم هود الذين هم ذوو الأبدان الشداد هودا عليه‌السلام ، وكذب قوم صالح الذين هم أولوا الأبنية الطوال في الجبال والسهول صالحا

٧٥

عليه‌السلام ، وكذب قوم إبراهيم المتكبرون إبراهيم عليه‌السلام ، وكذب قوم لوط الأنجاس لوطا عليه‌السلام ، وكذب قوم شعيب أرباب الأموال المجموعة شعيبا عليه‌السلام ، وكذب أهل مصر وهم القبط موسى عليه‌السلام ، (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بعذاب الاستئصال (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٤) أي فانظر يا سيد الرسل كيف كان تغييري عليهم ، فإن الله غيّر حياتهم بإهلاكهم بعذاب الاستئصال وعمارتهم بالخراب (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها).

وقرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» على وفق «فأمليت» ثم «أخذتهم» ، أي فأهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها ، (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي كافرا أهلها. وهذه جملة حالية من مفعول أهلكنا (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي فهي ساقطة حيطانها على سقوفها ، بأن خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، أو فهي خالية عن الناس مع بقاء عروشها ، وهذه معطوفة على «أهلكناها» فلا محل لها من الاعراب إن جعلت أهلكناها مفسرة لمضمر ناصب لـ «كائن» ، ومحلها رفع إن جعل خبرا لـ «كأين» (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي وكم بئر عامرة كثيرة الماء متروكة لا يستسقى منها لهلاك أهلها. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) أي مرفوع البنيان أو مجصص أخليناه عن ساكنه.

روى أبو هريرة أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم بـ «حضرموت» وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات. ثمّ وثمّ بلدة عند البئر اسمها «حاضورا» بناها قوم صالح ، وأمّروا عليها حاسر بن جلاس ، وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله تعالى وعطّل بئرهم ، وخرّب قصورهم. وعلى هذا فالمراد بالبئر بئر بسفح جبل بحضرموت وبالقصر مشرف على قلته (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أغفل أهل مكة فلم يسافروا في تجاراتهم (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما يجب أن يعقل من التوحيد بسبب ما شاهدوه من مواد الاعتبار (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ما يجب أن يسمع من أخبار الرسول (فَإِنَّها) الضمير للقصة يفسره ما بعده (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) أي ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم ، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة ، والاعتماد في التقليد (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي تطلب قريش كالنضر بن الحرث أن تأتيهم بالعذاب عاجلا استهزاء بك وتعجيزا لك على زعمهم. وكان رسول الله يهددهم بنقمات الله دنيا وأخرى ، وهم يقولون : إن ما حذرتنا به لا يقع ، وإنه لا بعث ، فذكر الله تعالى نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة بقوله تعالى : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) في إنزال العذاب بكم في الدنيا ، وقد أنجز الله وعده يوم بدر ، فقتل منهم سبعون ، وأسر منهم سبعون (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) أي وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا في كثرة الآلام وشدتها ، فلو عرفوا حال عذاب الآخرة أنه بهذا الوصف لما استعجلوه.

٧٦

وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي بالياء التحتية فيكون مناسبا لقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ).

وقرأ الباقون بالتاء فيكون التفاتا (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وكم من أهل قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخر (ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨) أي ثم عاقبت أهل تلك القرية في الدنيا ، بأن أنزلت العذاب بهم ، ومع ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة فإذا رجعوا إليّ بهم ما يليق بأعمالهم (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٩) أي إنما أنذركم إنذارا بينا بما أوحي إلي من أنباء الأمم المهلكة وليس بي تعجيل للعذاب ولا تأخير ، وإنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الذنوب الصغائر والكبائر (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٥٠) أي ثواب حسن في الجنة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي الذين اجتهدوا في إبطال آياتنا حيث قالوا : شعر أو سحر أو أساطير الأولين ، (مُعاجِزِينَ) أي معارضين المؤمنين ، فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. أو ظانين عجزنا عنهم بأن لا يدركهم عذابنا!

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم بعد العين المفتوحة ، أي مثبطين الناس عن الإيمان ، أو طامعين في عجز الرسول بالمكايد ظانين ذلك. (أُولئِكَ) الموصوفون بالسعي في إبطال القرآن واعتقاد العجز لله أو للرسول ، أو للمؤمنين. (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١) أي ملازمو النار الموقدة. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي إذا قرأ النبي أو الرسول (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، أي في قراءة ذلك النبي أو الرسول. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتّل قراءته للقرآن ، فارتصد الشيطان سكتته ، ونطق بقوله :

وإن شفاعتهن لترتجي

 

«تلك الغرانيق العلا

محاكيا نغمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه ، فظنها من قول النبي وأشاعها وفي هذا إخبار من الله تعالى بأن رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه محاكيا صوتهم ، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن نبينا قاله لأنه معصوم. وفي هذه الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قد حزن بذلك ، وشبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طيور الماء ، التي تعلوا في السماء ، وترتفع لاعتقاد الكفار أنها تقرّبهم من الله تعالى وتشفع لهم ، وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها ، وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى به (فَيَنْسَخُ اللهُ) أي يزيل (ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يثبت الله القرآن لنبيه لكي يعمل بها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده المخلصين (حَكِيمٌ) (٥٢) فيما يجري عليهم من الأعمال والأحوال ، ومن حكمته تعالى فيما يلقي الشيطان (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ـ وهم المنافقون ـ (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) ، وهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرا وباطنا ، فيرون الباطل حقا فأثبتوه ونفوا الحق فأبعدهم الله بهذا الامتحان عن حضرته (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي هؤلاء المنافقين والمشركين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) أي عداوة شديدة.

٧٧

قالت قريش : ندم محمد على ذكر منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك ، وكانت الكلمتان اللتان زادهما الشيطان في قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وقعتا في فم كل مشرك ، فازدادوا شرا على ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي الذين رزقوا حسن بصيرة الذين يميزون بها بين الحق والباطل ، (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي أن القرآن هو الحق النازل من عند ربك (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي فيثبتوا على الإيمان بالقرآن ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي فتنقاد قلوبهم بالقبول لما في القرآن من الأوامر والنواهي. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) في الأمور الدينية (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤) أي إلى نظر صحيح موصل إلى الحق الصريح (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من القرآن (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة نفسها (بَغْتَةً) أي فجأة من دون أن يشعروا (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥) أي عذاب يوم لا يوم بعده فيستمر ذلك اليوم كاستمرار المرأة على تعطل الولادة. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم عقيم (لِلَّهِ) وحده فلا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجازا ولا صورة لأحد ولا معنى كما في الدنيا ، فإنه تعالى ملك فيها الأمور غيره صورة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، أي بين المؤمنين بالقرآن والممارين فيه ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا) امتثالا بما أمروا فيه (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٥٦) يكرمون بالتحف فضلا من الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي أصروا على ذلك (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧) ، أي شديد بسبب معاصيهم. أما إعطاء الثواب فبفضل الله لا بأعمالهم كما هو حكمة ذكر الفاء وتركه في الجانبين (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي هاجروا إلى المدينة لنصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللتقرب إلى الله تعالى (ثُمَّ قُتِلُوا) أي قتلهم العدو.

وقرأ ابن عامر بتشديد التاء (أَوْ ماتُوا) في سفر أو حضر من غير قتل (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة لاستواء النوعين في القصد وأصل العمل.

وروي أن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك ، كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك! فنزلت هذه الآية : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٥٨) فإن ما يرزقه لا يقدر عليه أحد غيره والرزق الصادر منه لمحض الإحسان وإن غيره إنما يدفع الرزق من يده ليد غيره ولا يفعل نفس الرزق ، ويرزق لانتفاعه إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق بالإعطاء ثناء أو عوضا ، أو لأجل الرقة الجنسية. وأما الله تعالى فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من أحد كمالا زائدا فهو يرزق بغير حساب (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) بأن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم إدخالا فوق ما يتمنونه ومدخلا فوق الذي يهوونه.

وقيل : هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، لها سبعون ألف مصراع. وقال ابن عباس : إنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا.

٧٨

وقرأ نافع «مدخلا» بفتح الميم أي مكانا. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بما يرضونه وبما يستحقونه فيعطيهم ذلك في الجنة ويزيدهم. (حَلِيمٌ) (٥٩) فلا يعجل من عصاه بالعقوبة لتقع التوبة منه فيستحق الجنة. (ذلِكَ) أي الأمر ذلك الذي قصصناه عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي والذي قاتل من كان يقاتله من الكفار ، ثم إن القاتل ظلم عليه بأن ألجئ إلى مفارقة الوطن ، وابتدئ بالقتال لينصرن الله المظلوم على الظالم. قوله : (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) الباء الأولى : للآلة ، والثانية : للسببية. والعقاب مأخوذ من التعاقب. وهي مجيء الشيء بعد غيره.

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم. فقال بعضهم لبعض : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام ، فاحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا ، وقاتلوهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم فحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) عن هذه الإساءة (غَفُورٌ) (٦٠) لهم ما صدر عنهم من ترجيح الانتقام على العفو والصبر المطلوب إليهما وإنما عفا عنهم ذلك مع كونه محرما إذ ذاك ، لأنهم فعلوه دفعا للصائل فكان من نوع الواجب عليهم. وهذا تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة ، إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده (ذلِكَ) أي النصر بسبب أنه تعالى قادر ، ومن آيات قدرته كونه خالق الليل والنهار فذلك قوله تعالى : (بِأَنَّ اللهَ) تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي بسبب أن الله تعالى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات أو يحصل ظلمة أحدهما في مكان ضياء الآخر وعكسه ، (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بكل المسموعات (بَصِيرٌ) (٦١) بجميع المبصرات أي أن الله كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، فكذلك يدوم الاتصاف بالسمع والبصر فلا يحتاج لسمعه إلى سكون الليل ولا لبصره إلى ضياء النهار (ذلِكَ) أي الإنصاف بكمال القدرة والعلم (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الثابت الذي يمتنع عليه التغير في ذاته وصفاته فعبادته هو الحق (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي وأن ما يعبده المشركون من غير الله هو الباطل ألوهيته ، وأنه معدوم في حد ذاته.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ، وشعبة بالتاء على خطاب المشركين. وقرئ بالبناء للمفعول على أن «الواو» عائد لـ «ما» فإنه كناية عن الآلهة (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢) أي وأن الله هو القاهر الذي لا يغلب القادر على الضر والنفع العظيم في سلطانه الذي لا تدرك حقيقته (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي فتصير الأرض نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي رحيم بعباده في إخراج النبات (خَبِيرٌ) (٦٣) أي عالم بمقادير مصالحهم ، وبما في قلوبهم (لَهُ ما فِي

٧٩

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل ذلك منقاد له. وهو تعالى غير ممتنع من التصرف فيه (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦٤) أي الغني عن الأشياء كلها ، لأنه كامل لذاته والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور ، ولكنه لما خلق الحيوان خلق الأشياء رحمة للحيوانات ، لا لحاجة إلى ذلك وكان إنعامه تعالى خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا (أَلَمْ تَرَ) أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ) تعالى (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي جعل ما فيها معدا لمنافعكم فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد ولا أهيب من النار وهي مذللة لكم ، وذلل لكم الحيوانات حتى تنتفعوا بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها ، والانتفاع بالنظر إليها فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر والخيل لما انتفع بها أحد (وَالْفُلْكَ) معطوف على ما أو على اسم «أن» (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) حال من الفلك أو خبر (بِأَمْرِهِ) أي بإذنه فلولا أن الله سخر السفن بالماء والرياح لجريها لكانت تغوص أو تقف (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي ويمنع السماء من أن تقع على الأرض (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة ، لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بإمساك السماء من السقوط ، لأنه جرم ثقيل مسكن الملائكة لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه وهو القدرة ، فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦٥) حيث هيأ لهم أسباب معاشهم ، وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم نطفا ، بعد أن كنتم معدومين (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة للثواب والعقاب (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي المشرك كبديل بن ورقاء الخزاعي والأسود بن عبد الأسد ، وأبي جهل ، والعاص بن وائل ، وأبيّ بن خلف. (لَكَفُورٌ) (٦٦) أي جحود لنعم الله مع ظهورها حيث ترك توحيده تعالى (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي لكل أمة معينة وضعنا شريعة خاصة تلك الأمة المعينة عاملون بها ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث نبينا منسكهم الإنجيل ، هم عاملون به لا غيرهم. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي ومن بعدهم إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم الفرقان ليس إلا (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي يجب على أرباب الملأ أن يتبعوك وأن يتركوا مخالفتك في أمر الدين وقد استقر الأمر الآن على شرعك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي ادعهم إلى شريعتك ولا تخص بالدعاء إلى توحيد ربك أمة دون أمة فكلهم أمتك. (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٦٧) أي على أدلة دين واضحة موصلة إلى الله تعالى ، (وَإِنْ جادَلُوكَ) أي إن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريق المجادلة والتمسك بالعادة (فَقُلِ) لهم على سبيل التحذير من حكم يوم القيامة ، الذي يتردد بين جنة لمن قبل ونار لمن أنكر : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (٦٨) من المجادلة الباطلة وغيرها. (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالثواب والعقاب (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٦٩) من أمر الدين ، فتعرفون حينئذ

٨٠