مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

منه ، ثم لم أر منه كذبة ، ولا ضحكا ، ولا جاهلية ، ولا وقف مع صبيان يلعبون (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) أي وجدك خاليا من الشريعة فهداك بإنزالها إليك ، وقيل : وجدك ضالا عن عبد المطلب فردك إليه ، كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ضللت عن جدي عبد المطلب ، وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني ، فهداني الله» وروي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي فتعلق عبد المطلب بأستار الكعبة وقال :

اردده رب واصطنع عندي يداً

 

يا رب رد ولدي محمدا

فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد بين يديه ، وهو يقول : لا تدري ماذا ترى من ابنك ، فقال عبد المطلب ولم قال : إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة ، وكانت تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي ، وقال ابن عباس : رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ، (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا كما روي أن في مصحف عبد الله «ووجدك عديما» ، وقرأ اليماني «عيلا» بكسر الياء المشددة كسيد ، (فَأَغْنى) (٨) أي أغناك بالقناعة ، فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب لا تجد في قلبك سوى ربك ، وقيل أغناك بمال أبي بكر وبهيبة عمر. روي أن عمر قال حين أسلم والأصحاب كانوا يعبدون الله سرّا : يا رسول الله ابرز أنعبد نحن اللات جهرا ونعبد الله سرا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتى تكثر الأصحاب» فقال : حسبك الله وأنا ، فقال تعالى : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] وقيل أغناه الله تعالى بتربية أبي طالب ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة ، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة ، وأغناه بإعانة الأنصار ، ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعل رزقي تحت ظل رمحي» (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩) أي لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما كما قاله مجاهد ، أو فلا تغلبه على ماله ، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس وجهك إليه ، وروي أن هذه الآية نزلت حين صاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولد خديجة وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسة في الوجه ، فكيف إذا أذل التيم أو أكل ماله؟ وروي أن موسى عليه‌السلام قال : إلهي بما نلت ما نلت قال الله تعالى : «أتذكر حيث هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك ، ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك وليا على الخلق ، فلما نال موسى عليه‌السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم ، (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) أي لا تغلظ له القول ، بل رده ردا لينا برفق والمراد من السائل. مطلق السائل. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جالسا فجاء عثمان بتمر فوضعه بين يديه ، فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال : رحم الله عبدا يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج واشتراه من السائل ، ثم رجع السائل وكان النبي يعطيه ففعل

٦٤١

ذلك ثلاث مرات ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسائل أنت أم بائع فنزل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) واختار الحسن أن المراد من السائل من يسأل العلم ، وروى الزمخشري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» (١) (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) قال مجاهد : تلك النعمة هي القرآن فالتحديث به أن يقرأه ويقرئ غيره ، وروي عنه أيضا أن تلك النعمة هي النبوة أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك ، وروي عن الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما أنه قال : إذا عملت خيرا فحدث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء ، وظن أن غيره يقتدي به ،وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآه رث الثياب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألك مال» قال :نعم ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(٢).

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان ١٤٧ ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٣٣) ، والحاكم في المستدرك (١ : ٢٦) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٢٤) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٢ : ٢١٣) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥١٠٨) ، والبغوي في شرح السنة (١٣ : ١٦٥) ، وابن حجر في المطالب العالية (٢١٧٠) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦ : ٤٩٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (١٧١٦٥) ، والسيوطي في مجمع الجوامع (٤٧٧٧) ، والقرطبي في التفسير (١ : ٦٩٦) ، والألباني في السلسلة الصحيحة (١ : ٢١١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٧٩) ، والعراقي في المغني عن محل الأسفار (٤ : ٢٩٠) ، والشجري في الأمالي (٢ : ٢١٧) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (٣ : ٥٦٧).

(٢) رواه أبو داود في السنن (٨٨٧).

٦٤٢

سورة ألم نشرح

مكية ، ثمان آيات ، وتسع وعشرون كلمة ، ومائة وثلاثة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

يروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز كانا يقولان : هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة ، وكان يقرءانهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الجمل : ولما ذكر الله تعالى بعض النعم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) [الضحى : ٣] إلخ أتبعه بما هو كالتتمة له وهو شرح الصدور فقال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) قال في نور المقياس : وهذا معطوف على قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨] أي ألم نشرح لك يا أشرف الرسل قلبك للإسلام ، ويقال ألم نوسع قلبك للنبوة ، وقال الرازي : استفهم الله عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل شرحنا لك صدرك أي بالنبوة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق. روي أن جبريل عليه‌السلام أتاه وهو عند مرضعته حليمة وهو ابن أربع سنين فشق صدره وأخرج قلبه وغسله ونقاه ، ثم ملأه علما وإيمانا ، ثم رده في صدره وشق أيضا عند بلوغه عشر سنين وعند البعثة وليلة الإسراء فمرات الشق أربع على الصحيح ، وإنما ذكر الصدر لأنه محل الوسوسة ، قال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة ، وهو الذي يقصده الشيطان فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكا نزل فيه هو وجنده وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة ، وإذا طرد العدو في الابتداء حتى لم يجد مسلكا حصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية ، وإنما قال الله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) تنبيها على أن منافع الرسالة عائدة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه تعالى قال : إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (٣) أي خففنا عنك أعباء النبوة التي تثقل ظهرك من القيام بأمرها والمحافظة على حقوقها بأن يسرها الله عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تيسرت له ، وقيل عصمناك عن الوزر الذي يثقل ظهرك ، وقيل : لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة فلقد كان فراقهما عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزرا عظيما ، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه فارتفع له الذكر فلذلك قال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤) أي رفع ذكره حيث قرن اسمه باسم الله تعالى في

٦٤٣

كلمة الشهادة والأذان والإقامة ، وجعل طاعته من طاعته تعالى وصلى عليه هو وملائكته ، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وسمي رسول الله ، ونبي الله ولو أن رجلا عبد الله تعالى وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرا ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) فـ «أل» في «العسر» الأول للعهد الحضوري وفي الثاني للعهد الذكري فالعسر واحد وهو العسر الذي كانوا فيه ، فهو هو وتنكير «يسرا» للتفخيم كأنه قيل : إن مع العسر يسرا عظيما ويسرا كاملا فتناول يسر الدارين ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه لن يغلب عسر يسرين» فقوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للتأكيد أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر ، وفي مصحف ابن مسعود جملة واحدة مرة واحدة قال الرازي : والمراد من اليسرين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يغلب عسر يسرين» يسر الدنيا ويسر الآخرة وهما استفتاح البلاد ، وثواب الجنة وهذه الآية تثبيت لما قبلها ، ووعد كريم بتيسير كل عسير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين كأنه قيل خولناك ما خولناك من جلائل النعم فكن على ثقة بفضل الله تعالى ولطفه فإن مع العسر يسرا كثيرا ، (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (٧) أي فإذا فرغت من عبادة فأتبعها بعبادة أخرى بأن تواصل بين بعض العبادات وبعض وأن لا تخلي وقتا من أوقاتك منها. قال قتادة والضحاك ومقاتل : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فاتعب في الدعاء وارغب إلى ربك في المسألة يعطك ، وقال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك ، وقال مجاهد : إذا فرغت من أمر دنياك فاتعب وصل ، وقال عبد الله بن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فاتعب في قيام الليل ، وقال ابن حبان عن الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فاتعب واستغفر لذنبك وللمؤمنين ، وقال علي بن أبي طلحة : إذا كنت صحيحا فاجعل فراغك تعبا في العبادة ، قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : إني أكره أن أرى أحدكم فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة ، (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) أي إلى ربك فارفع حوائجك واجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه ، وقرئ «فرغب» أي رغب الناس إلى طلب ما عنده تعالى.

٦٤٤

سورة التين

مكية ، ثمان آيات ، أربع وثلاثون كلمة ، مائة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) هما ثمران معلومات أقسم الله بهما لما فيهما من المصالح والمنافع ، فإن التين فاكهة طيبة لا عجم له وغذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع يلين الطبع ويحلل البلغم ، ويسمن البدن ، ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويقطع البواسير والزيتون فاكهة وآدام ودواء ، وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب أهل الكهف ، والزيتون مسجد إيليا ، وعن ابن عباس : التين مسجد نوح المبني على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقال الضحاك : التين المسجد الحرام ، والزيتون المسجد الأقصى ، وعن الربيع : هما جبلان بين همذان وحلوان ، وقال كعب : التين دمشق والزيتون بيت المقدس ، وقال شهر بن حوشب : التين الكوفة والزيتون الشام ، (وَطُورِ سِينِينَ) (٢) وهو جبل ثبير وهو جبل بمدين الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣) وهو مكة فهو أمين من أن يهاج فيه على من دخل فيه. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) أي كائنا في أحسن ما يكون من تعديل صوره ومعنى فإنه تعالى خلقه مستوي القامة متناسب الأعضاء متصفا بأكمل عقل ، وفهم ، وعلم ، وأدب إذا تكامل شبابه ، (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (٥) أي حال كونه أسفل سافلين أي حيث لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله ، فلا يكتب له وقتئذ حسنة أو رددناه مكانا أسفل سافلين ، وهو النار ، وقرأ عبد الله أسفل «السافلين» معرفا ، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والصغار فالشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٦) وهذا الاستثناء على القول الأول منقطع ، والمعنى : ثم رددناه أسفل ممن سفل بعد ذلك التحسين في أحسن الصورة حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره وضعف بصره ، وسمعه ، ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم أو فلهم أجر غير ممنون به عليهم ، أما على القول الثاني فهو متصل من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع

٦٤٥

والمعنى : ثم رددناه أسفل ممن سفل أي أقبح من كل قبيح صورة وأسفل من كل سافل من أهل الدركات ، وهم أهل النار إلا الذين كانوا صالحين فلا نردهم أسفل سافلين.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (٧) و «ما» اسم استفهام على وجه الإنكار والتعجب والخطاب للإنسان على طريقة الالتفات أي فما الذي يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث بعد ظهور هذه الدلالة الناطقة بالجزاء ، أي فإن خلق الإنسان من النطفة وتقويمه بشرا سويا وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء فمن شاهد تلك الحالة ، ثم بقي مصرا على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه وقيل الخطاب للرسول ، و «ما» إما اسم استفهام أو بمعنى من أي ، فأي شيء يجعلك كاذبا بسبب إنكار الكافر الحساب بعد هذه الدلائل ، أو فمن يكذبك بالحساب يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) يحكم على الكفار بما يستحقونه من العذاب ، أو أليس الذي فعل ما ذكر بأتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء ، فإن عدم إمكانهما يقدح في القدرة وعدم وقوعهما يقدح في الحكمة ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) [ص : ٢٧] وفي الحديث : «من قرأ والتين إلى آخرها فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» أي سواء كان في الصلاة أو خارجها.

__________________

(١) رواه مسلم صفات المنافقين (٣٨) ، وابن حجر في فتح الباري (٨ : ٧٢٤) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٧٠) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٤٤) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٨٥٦) ، والبغوي في شرح السنة (٧ : ٢٧٠) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة (٢ : ١٨٩) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٤٦١).

٦٤٦

سورة العلق

وتسمى سورة القلم ، وسورة اقرأ ، مكية ، تسع عشرة

آية ، اثنتان وسبعون كلمة ، مائتان وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله ، ثم اقرأ القرآن (الَّذِي خَلَقَ) (١) كل شيء (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (٢) أي من دم جامد (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٣) أي امض لما أمرت به ، والحال أن ربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٤) أي علم الإنسان الخط بالقلم ، وعلم ينصب مفعولين وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى ولولا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش. روى عبد الله ابن عمرو قال : «قلت يا رسول الله أأكتب ما أسمع منك من الحديث قال : «نعم فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم» وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة» أي حذرا من تطلعهن إلى الرجال ، وحذرا من الفتنة لأنهن قد يكتبن لمن يهوين (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) أي علمه بالقلم وبدونه من الأمور الجلية والخفية ما لم يخطر بباله (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) أي حقا يا محمد إن الكافر يتكبر على ربه لأن رأى نفسه مستغنيا عن الله بالمال نزلت الآيات من هاهنا إلى آخر السورة في أبي جهل. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، فنزل عليه جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٨) أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث ، فسترى حينئذ عاقبة تمردك (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى) (١٠) و «أرأيت» لحمل المخاطب وهو النبي على التعجب وهي تتعدى إلى مفعولين لأنها بمعنى أخبرني فالمفعول الأول «الذي» والمفعول الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة أي أخبرني يا محمد الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل في ملأ من طغاة قريش : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ، فقالوا : نعم قال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن

٦٤٧

على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيديه فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ، فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فأنزل الله هذه الآية : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) (١٢) ومفعولا «أرأيت» محذوفان حذف الأول لدلالة المفعول الأول من «أرأيت» الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالثة عليه وأو بمعنى الواو ، والمعنى : أخبرني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته كأنه تعالى يقول : تلهف يا مخاطب عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية ، وقنع بالمراتب الدنيئة ، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١٤) والجملة الاستفهامية تكون في موضع المفعول الثاني لـ «أرأيت» ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول ، أو اسم إشارة يشار به إليه أي أرأيته يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم يعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة أفلا ينزجر عنها (كَلَّا) أي لن يصل أبو جهل إلى ما يقول : إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه ، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره ، وهو عبد الله بن مسعود (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) أي والله لئن لم ينته أبو جهل عن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (١٥) أي لنأخذن الناصية ولنجرن بها إلى النار في الآخرة أو لنقبضن على الناصية في الدنيا روي أن أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ، وأمره جبريل عليه‌السلام بأن يقرأها على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا فقيل له : ما لك قال : إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لا لتقمني ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا»(١) وروي أنه لما نزلت سورة (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش» فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما ، فإذا جبريل عليه‌السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي» فقال : ستعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه فلما عرف عجزه ارتقى إلى صدره بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا ،

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١ : ٥٦٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٨٦).

٦٤٨

فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فقال له أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحدّ فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فلما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبريل بين يديه يضحك ، ويقول يا محمد : أذن بأذن ، لكن الرأس هاهنا مع الأذن.

وقرئ «لنسفعن» بالنون المشددة فالفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة ، وقرأ ابن مسعود لأسفعن أي يقول الله : يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) في قولها (خاطِئَةٍ) (١٦) في فعلها لأن صاحبها متمرد على الله تعالى لأنه كان كاذبا على الله تعالى في قوله : إنه تعالى لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في قوله : إن محمدا ساحر ، أو كذاب ، أو ليس بنبي ، و «ناصية» بدل من الناصية ، وقرئ «ناصية» بالرفع والتقدير هي ناصية ، وقرئ ناصية بالنصب وكلاهما على الشتم ، (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (١٧) أي أهل مجلسه الذين يجتمعون فيه للتشاور ، أو لأنه مجلس العطاء والجود (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) هم الملائكة الغلاظ الشداد كما قاله الزجاج. قال ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا فزبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو جهل : والله إنك لتعلم بأني أكثر أهل الوادي ناديا فأنزل الله تعالى (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر ، فهو عند ذلك ازداد تعززا بماله ورئاسته في مكة ، ويروى أنه قال : ليس بمكة أكرم مني ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فلما ذكر الزبانية رجع فزعا فقيل له : خشيت منه قال : لا ، ولكن رأيت عنده فارسا وهددني بالزبانية فلا أدري الزبانية ، ومال إلى الفارس فخشيت منه ، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما‌السلام على كتفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الأسد قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته معاينة ، وقرئ «ستدعى الزبانية» على المجهول أي ليجروه إلى النار (كَلَّا) أي لن يصل أبو جهل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو قومه (لا تُطِعْهُ) أي أبا جهل فيما يأمرك به من ترك الصلاة ، بل دم على ما أنت عليه من مخالفته (وَاسْجُدْ) أي صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلا وإبلاغا ، وقلل فكرك في هذا العدو ، فإن الله مقويك وناصرك (وَاقْتَرِبْ) (١٩) أي ابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك.

٦٤٩

سورة القدر

مدنية ، قال الواحدي : إنها أول سورة نزلت بالمدينة ،

خمس آيات ، ولاثون كلمة ، مائة وأحد وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) أي إنا أنزلنا القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ على كتبة ملائكة سماء الدنيا إلى بيت العزة منها ، ثم نجمته السفرة على جبريل فكان جبريل ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع ، والحاجة إليه ومعنى القدر التقدير ، وسميت ليلة القدر بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت ، والأجل ، والرزق وغير ذلك ، ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبريل عليهم‌السلام ، والجمهور على أنها مختصة برمضان واختلفوا في تعيينها ، وقال بعضهم : إنها ليلة السابع والعشرين لأن فيها أمارات ضعيفة منها : ما روي أن عمر سأل الصحابة عن ليلة القدر ، ثم قال لابن عباس : غص يا غواص ، فقال زيد بن ثابت : أحضرت أولاد المهاجرين ، وما أحضرت أولادنا فقال عمر : لعلك تقول إن هذا غلام ، ولكن عنده ما ليس عندكم ، فقال ابن عباس : أحب الإعداد إلى الله تعالى الوتر وأحب الوتر إليه السبعة فذكر السموات السبع ، والأرضين السبع ، والأسبوع ، ودركات النار ، وعدد الطواف ، والأعضاء السبعة فدل ذلك العدد على أنها السابعة والعشرون ومنها قول ابن عباس : إن هذه السورة ثلاثون كلمة ، وقوله تعالى : (هِيَ) هو سابع وعشرون ومنها ما نقل عن ابن عباس أنه قال : ليلة القدر تسعة أحرف وهو مذكور ثلاث مرات فتكون الجملة سبعة وعشرين ، ومنها ما روي أنه كان لعثمان بن أبي العاص عبد فقال : يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر ، قال : إذا كانت تلك الليلة فاعلمني فإذا هي السابعة والعشرون ، (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (٢) أي ما غاية فضلها ومنتهى علو قدرها ، ثم بين الله فضلها من ثلاثة أوجه ، أو أربعة بقوله تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر أي إن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. قال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٦٥٠

والمسلمون من ذلك ، فأنزل الله هذه الآية أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر ، وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما ، وقال الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في منامه إن بني أمية يطئون منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا بعد واحد ، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه السورة ، ثم قال القاسم بن فضل : فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر فكأن الله تعالى يقول : أعطيتك يا أشرف الخلق ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من السعادات الدنيوية في أيام ملك بني أمية ، ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة لكن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه. ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة مع أن صلاة الجماعة قد تنقص صورة فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة وأيضا فأنت إذا قلت لمن يرجم بالزنا هذا زان فلا بأس ، ولو قلته للنصراني فهو قذف يوجب التعزير ولو قلته للمحصن فهو قذف يوجب الحد ، ولو قلته في حق عائشة كان ذلك القول كفرا ، ثم القائل بقوله : هذا زان قد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال ، فثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة. (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٤) روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة ، وهم سكان سدرة المنتهى ، وجبريل ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولواء على ظهر بيت المقدس ، ولواء على ظهر المسجد الحرام ، ولواء على ظهر طور سيناء ولا يدع بيتا فيه مؤمن أو مؤمنة إلا دخله وسلم عليه يقول : يا مؤمن أو يا مؤمنة السلام يقرئكم السلام إلا على مدمن خمر ، وقاطع رحم ، وآكل لحم خنزير ، وقوله : بإذن ربهم متعلق بـ «تنزّل» أو بمحذوف هو حال من فاعله أي متلبسين بأمر ربهم فإنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بأمره ، وقوله : «من كل أمر» متعلق بـ «تنزّل» أي تنزل أولئك في تلك الليلة من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى عام قابل ، فكل واحد منهم نزل لأمر آخر.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قال : «إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة» أي وهو نصف شعبان فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها ، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان فإن الملائكة يرون في الأرض أنواع الطاعات التي لم يروها في عالم السموات. (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) فـ «سلام» خبر مقدم و «هي» مبتدأ مؤخر أي تلك الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق ، ومن كل آفة كما قاله أبو مسلم ، وابن عباس و «حتى» متعلق بـ «تنزّل» أي أن الملائكة ينزلون فوجا فوجا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة سلامهم على أهل الصوم

٦٥١

والصلاة من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الليلة ، وقيل : إن «حتى» متعلق بـ «سلام» بناء على إن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر في الجار والمجرور أي إن ليلة القدر سلام إلى طلوع الفجر أي تسليم الملائكة على المطيعين ، ويقال : إن ليلة القدر من أولها إلى طلوع الفجر سالمة من التفاوت والنقصان ، فإن العبادة في كل جزء من أجزاء أوقاتها خير من ألف شهر ، فليست ليلة القدر كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللتطوع النصف وللدعاء السحر ، بل هي متساوية الأوقات ، وقيل : إن الوقف عند قوله تعالى : (سَلامٌ) فقوله تعالى : من كل أمر متعلق به وقوله : (سَلامٌ) خبر بعد خبر كقوله : (تَنَزَّلُ) وقوله تعالى : (هِيَ) مبتدأ وخبره ما بعده ، والمعنى كما قاله ابن عباس : ليلة القدر سلامة من كل أمر مخوف ، ومن كل شرور ، وفضلها مستمر إلى طلوع الفجر ، وقرأ الكسائي «مطلع» بكسر اللام.

٦٥٢

سورة البيّنة

وتسمى سورة لم يكن وسورة القيمة ، وسورة البرية ، وسورة منفكين ،

مدنية ، ثمان آيات ، أربع وتسعون كلمة ، ثلاثمائة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) أي عبدة الأصنام (مُنْفَكِّينَ) عن كفرهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) وهي الرسول وسمي بالبينة لأن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز أي أن الكفار من الفريقين كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة ، والإنجيل وهو محمد عليه‌السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يعدون اجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، وقيل : إن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإلى أن جاءتهم البينة أي التي كانت ذاته بينة على نبوته ، وقيل : المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى أتاهم بيان ما سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى من صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرئ «والمشركون» عطفا على الموصول (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بالرفع بدل كل من كل من البينة ، وقرأ عبد الله «رسولا» بالنصب حالا من «البينة» (يَتْلُوا صُحُفاً) أي كتبا (مُطَهَّرَةً) (٢) أي منزهة عن الباطل (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٣) أي في تلك الكتب أحكام مستقيمة تبين الحق من الباطل ، (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٤) أي وما اختلفوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الموعود في كتابهم دلالة جلية ، (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) و «الواو» للحال و «اللام» بمعنى الباء أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة ، والإنجيل إلا بأن يعبدوا الله جاعلين عبادتهم خالصة له تعالى لا يريدون رياء ولا سمعة ، وقرأ عبد الله «إلا أن يعبدوا الله» بإبدال «اللام» بـ «أن» (حُنَفاءَ) أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام ، (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) أي وذلك المذكور من عبادة الله بالإخلاص وإقام الصلاة ، وإعطاء الزكاة دين المستقيم و «الهاء» هاهنا قافية السورة ، وقرئ الدين القيمة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ

٦٥٣

وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) وبدأ الله بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجنايتهم أعظم لأنهم أنكروا مع العلم به وأيضا إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقدم حق الله على حق نفسه فكأنه تعالى قال له : كما قدمت حقي على حقك فأنا أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر فأهل الكتاب طعنوا في الرسول والمشركون طعنوا في الله (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦) أي الخليقة فهم شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٧) قرأ نافع ، وابن ذكوان «البريئة» بالهمز في الموضعين ، والباقون بياء مشددة (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) معدن النبيين والمقربين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي الأربعة وهي الخمر ، والماء ، والعسل ، واللبن (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) و «خالدين» حال من مقدر فعامله محذوف أي دخلوها ، ولا يجوز أن يكون حالا من «هم» في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من «جزاؤهم» أو ظرف له و «أبدا» منصوب بـ «خالدين».

لطيفة : قال بعض الفقهاء : لو قال لفلان : علي كذا فهو إقرار بالدين ، ولو قال : لا شيء لي على فلان ، فهذا يختص بالديون ، وله أن يدعي الوديعة ، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا إذا عرفت هذا ، فقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يفيد انه وديعة والوديعة عين ، وهو أشرف من الدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بأن يعظمهم ويمدحهم فإن الرضا عن العامل غير الرضا بعمله ، (وَرَضُوا عَنْهُ) أي فرحوا بما جازاهم من الثواب وبما أعطاهم من أنواع الكرامات. (ذلِكَ) أي المذكور من الجزاء والرضوان (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨) وصاحب الخشية هو العالم بشئون الله تعالى ، فإن الخشية مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية.

٦٥٤

سورة الزلزلة

مدنية ، تسع آيات ، خمس وثلاثون كلمة ، مائة وتسعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) أي إذا تحركت الأرض حركة شديدة فانكسر ما عليها من الشجر والجبال والبنيان ، (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢) أي أحمالها من الأموال ، أو الأموات ، ثم إن كان المراد من هذه الزلزلة الزلزلة الأولى فالمعنى : أخرجت الأرض الكنوز في زمن بعد عيسى ، أو عند النفخة الأولى ، فيمتلئ ظهر الأرض ذهبا ولا يلتفت أحد إليه ، فكأن الذهب يصيح ويقول : إما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي ، وإن كان المراد منها الزلزلة الثانية عند النفخة الثانية ، فالمعنى : أخرجت الأرض الموتى أحياء كالخروج من الأم وقت الولادة ، أو لفظتهم ميتين كما دفنوا ، ثم يحييهم الله تعالى ، وذلك على الخلاف بين العلماء ، (وَقالَ الْإِنْسانُ) أي الكافر بطريق التعجب والمؤمن بطريق الاستعظام (ما لَها) (٣) أي أي شيء ثبت للأرض تزلزلت بهذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ كان ما ذكر ، وهو بدل من إذا (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) جواب إذا.

وقرأ ابن مسعود «تنبئ أخبارها» ، وقرأ سعيد بن جبير «تنبي» بسكون النون بأن يجعل الله الأرض عاقلا ناطقا ، ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) و «الباء» إما سببية متعلق بـ «تحدّث» أي تحدث الأرض أخبارها بسبب أمره تعالى إياها بالتحديث بأخبارها ، وإما تعدية لـ «تحدّث» فتكون هذه الجملة بدلا من «أخبارها» فالمعنى : تحدث الأرض بأخبارها بأن ربك أذن لها في الكلام (يَوْمَئِذٍ) منصوب بـ «يصدر» أي يوم إذ يقع ما ذكر (يَصْدُرُ النَّاسُ) من قبورهم إلى موقف الحساب (أَشْتاتاً) أي فرقا فرقا فريق يذهب إلى الموقف راكبا مع الثياب الحسنة أبيض الوجه والمنادي بين يديه ينادي هذا ولي الله ، وفريق يذهب إليه حافيا عاريا مع السلاسل والأغلال أسود الوجه والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٦) بضم الياء أي ليريهم الله تعالى أعمالهم مكتوبة في الصحائف وهي توضع بين أيديهم والمرئي هو الكتاب ، وقرئ «ليروا» بفتح الياء ، وهو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي وزن نملة صغيرة (خَيْراً يَرَهُ) (٧) قال أحمد بن

٦٥٥

كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس له فيها شيء ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه ، وماله ، وأهله ، وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي ميزان أصغر النمل (شَرًّا يَرَهُ) (٨) قال ابن عباس : ليس من مؤمن ، ولا كافر عمل خيرا ، أو شرا إلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ، ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته ، وقوله تعالى : (خَيْراً) و (شَرًّا) منصوبان على التمييز من «مثقال» أو على البدل من «مثقال» ، و «يره» جواب الشرط مجزوم بحذف الألف ، وقرأ ابن عباس ، والحسين بن علي ، وزيد بن علي ، وكذا عاصم في رواية «يره» مبنيا للمفعول ، وقرأ عكرمة «يراه» بالألف.

٦٥٦

سورة والعاديات

مكية ، إحدى عشرة آية ، أربعون كلمة ، مائة وثلاثة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (١) أي والخيل الجارية بشدة في الغزو تصوت أنفاسهن من الجري ، والضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند شدة الجري ، وليس بصهيل ، ولا حمحمة ، بل هو صوت نفس ، وقال علي رضي‌الله‌عنه وكرم وجهه : أي وإبل الحاج الجارية من عرفة إلى مزدلفة ، ومن مزدلفة إلى منى تمد أعضاءها في سيرها ، و «ضبحا» حال بمعنى اسم الفاعل ، (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) (٢) أي فالخيل التي تطأ الخصي صاكات بحوافرها ما يخرج النار كنار حباحب وهو رجل من العرب أبخل الناس الذي في العساكر لا يوقد نارا حتى ينام الناس ، ثم يوقدها فإذا انتبه أحد أطفأها لئلا ينتفع بها أحد فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ، أو يقال فالجماعة الذين يركبون الإبل وهم الحجيج الموقدون نيرانهم بالمزدلفة ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) (٣) أي فالجماعة الذين يركبون الخيل الذين يهجمون على الأعداء للنهب ، أو للقتل في وقت صبح لير ، وإما يأتون وما يذرون ، أو فالجماعة الذين يندفعون من جمع إلى منى ركبانا بإسراع السير صبيحة يوم النحر (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥) أي فهيجن في وقت الصبح ، أو بالجري غبارا ، أو فهيجن في المغار صباحا ، فتوسطن في ذلك الوقت أو بالغبار جمعا من جموع الأعداء.

وقرأ أبو حيوة «فأثرن» بالتشديد أي أظهرن بجريهن غبارا وقرئ «فوسطن» بالتشديد أي جعلن جمع الأعداء في ذلك الوقت ، أو في ذلك المكان ، أو بجريهن ، أو بالغبار في الوسط ، أو قطعن جمع الأعداء نصفين. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خيلا فمضى شهر لم يأته منهم خبر ، فنزلت هذه الآيات ، وعن محمد بن كعب قال : النقع ما بين مزدلفة ومنى الجمع مزدلفة ، فالمعنى : فتحركن وقت الصبح أو بالجري في وادي محسر فصرن بجريهن وسط مزدلفة ، أو يكون المعنى : فأظهرن في ذلك الوقت أو في جريهن صباحا بالتلبية فجعلن مزدلفة بجريهن في الوسط ويتأكد حمل الآيات على الإبل ، أو مع خيول الحجاج بما روى أبي في فضل هذه السورة مرفوعا : «من قرأها أعطي من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٦) أي إن طبع

٦٥٧

جنس الإنسان لكفور بنعمة ربه كما قاله ابن عباس وغيره ، وهذا بلسان ربيعة ومضر أو لربه لوّام فيعد المصائب ، والمحن ، وينسى النعم ، والراحات كما قاله الحسن ، ويقال : عاص بربه بلسان حضرموت ، ويقال : بخيل بلسان بني مالك بن كنانة ، وقيل : المراد بالإنسان الكافر كما قال ابن عباس : إن هذه الآية نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي ، وقيل : في أبي حباحب أي وهما كافران (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) (٧) أي وإن الرب تعالى على ذلك الصنع لشهيد حافظ ، (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي المال (لَشَدِيدٌ) (٨) أي قوي ولطلبه مطيق أو إن الإنسان وهو قرط أو أبو حباحب لأجل حب المال لبخيل ممسك ، (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩) أي أفلا يعلم الإنسان قرط ، أو أبو حباحب في الدنيا أنه تعالى يجازيه إذا أخرج ما في القبور من الأموات ، والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) ومعنى علم الله بهم يوم القيامة مجازاته لهم ، وأتى بـ «ما» لأن غير المكلفين الذين في الأرض أكثر ، (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (١٠) أي بين ما في القلوب من الكفر ، والإيمان ، والبخل والسخاوة.

وقرئ «حصل» مبنيا للفاعل ومخففا أي ظهر ما في القلوب من الأسرار الخفية. (إِنَّ رَبَّهُمْ) أي الإنسان (بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) وقوله تعالى : (بِهِمْ) و (يَوْمَئِذٍ) متعلقان بـ «خبير» وجمع الضمير العائد إلى الإنسان اعتبارا بمعناه لأنه اسم جنس أي أفلا يعلم الإنسان أن ربهم عالم بهم يجازيهم في يوم البعث فلا حاكم يروج حكمه ، ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو ، وقرأ أبو السمال «أن ربهم بهم يومئذ خبير» بفتح همزة «أن» وإسقاط اللام من «لخبير».

سورة القارعة

مكية ، عشر آيات ، ست وثلاثون كلمة ، مائة واثنان وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْقارِعَةُ) (١) أي الصيحة التي تقرع القلوب (مَا الْقارِعَةُ) (٢) أي أي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة ، (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما شأن القارعة. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) و «يوم» مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين أي هي يوم يكون الناس فيه

٦٥٨

(كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٤) أي المفرق فالله تعالى شبه الناس في وقت البعث بالفراش المنشور في الكثرة ، والتطاير إلى الداعي لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالفراش ، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) أي وتصير الجبال كالصوف الذي ينفش باليد في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو ، (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٧) أي فمن ترجحت مقادير حسناته ، فهو في عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها أي فهو في الجنة بغير حساب أما من استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حسابا يسيرا ، (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) أي وأما من طاشت حسناته فترجحت السيئات على الحسنات فأم رأسه نازلة في النار أي فيهوى في النار على هامته ، ثم إن كان مؤمنا فإما أن يعذب بقدر ذنوبه ، ثم يخرج منها إلى الجنة ، وإما أن يشفع فيه ، وإن كان كافرا فيخلد في النار. (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (١٠) أي وأي شيء أعلمك يا أكرم الرسل ما هاويه والهاء للسكت.

وقرأ حمزة في الوصل بغير هاء ووقف بها ، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا لأنها ثابتة في المصحف (نارٌ حامِيَةٌ) (١١) أي هي نار متناهية حرها فسائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حارة نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب.

سورة التكاثر

مكية ، ثمان آيات ، ثمان وعشرون كلمة ، مائة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) أي شغلكم التغالب بالمناقب وبكثرة المال وعدد الرجال والتباهي بذلك عن التدبير في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت.

روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالأشراف في الإسلام ، فقال كل من الفريقين : نحن أكثر منكم سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، فكثرهم بنو عبد مناف ، فقال بنو سهم : إن البغي أفنانا في الجاهلية ، فعدوا أحياءنا ، وأحياءكم ، وأمواتنا ، وأمواتكم ففعلوا فكثرهم بنو سهم فنزلت فيهم هذه السورة. وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ (أَلْهاكُمُ) وقال ابن آدم يقول : «مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت».

وقرئ «أألهاكم» على الاستفهام التقريري (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) أي حتى أتاكم الموت

٦٥٩

فصرتم في المقابر زوارا تسيرون عنها إلى مكان الحساب. يقال لمن مات : قد زار قبره ، وإنما يقال ذلك لأنه لا بد له من انتقال عنها إلى منزله من جنة أو نار. (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣) أي حقا سوف تعلمون عند الموت حين يقال لكم لا بشرى وفي وقت سؤال القبر ، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) عند النشور حين ينادي المنادي فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا ، وحين يقال وامتازوا اليوم. (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٥) وجواب (لَوْ) محذوف أي حقا لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وما تفاخرتم في الدنيا ، ويقال : إن المعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التفاخر عن ذكر الله. (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٦) وهذا جواب قسم محذوف أي والله لترون عذاب الجحيم فإنها يراها المؤمنون أيضا فكان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها.

وقرأ ابن عامر ، والكسائي بضم التاء أي أنهم يحشرون إلى الجحيم فيرونها ، (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) أي ثم لترون نفس الجحيم بعين اليقين فإنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير ، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية ، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى ، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى ، التقريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة ، (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ) أي يوم رؤية الجحيم (عَنِ النَّعِيمِ) (٨) في الدنيا فسؤال المؤمن سؤال تشريف وتبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة لأنه شكر النعم ، وسؤال الكافر توبيخ وتقريع لأنه ترك الشكر حيث قابل نعيم الدنيا بالكفر والعصيان ، وروى الحاكم في الحديث : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم» قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية قال : «أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» (١).

سورة والعصر

مكية ، ثلاث آيات ، أربع عشرة كلمة ، ثمانية وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعَصْرِ) (١) أي الدهر أقسم الله به لأنه مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء ، والضراء ، والصحة ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، بل فيه ما هو أعجب من كل عجيب ، أو هو

__________________

(١) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٦ : ١٧٣) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (٦ : ٣٢).

٦٦٠