مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الطارق

مكية ، سبع عشرة آية ، اثنتان وسبعون كلمة ، مائتان وواحد وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) أي الظاهر في الليل (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) (٢) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما الطارق قال سفيان بن عيينة : كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الله الرسول به ، وكل شيء فيه وما يدريك لم يخبره به (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (٣) خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام أي هو النجم المضيء في الغاية كأنه يثقب الأفلاك بضوئه ، وينفذ فيها قيل : هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح ، وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ، ويوقف به على أوقات الأمطار ، أو هو جنس الشهب الذي يرجم بها ، ووصف النجم بكونه طارقا لأنه يبدو بالليل أو لأنه يطرق الجني أن يصكه ، وقال محمد بن الحسين ، والفراء : إنه زحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات ، وقال ابن زيد : هو الثريا ، وقال ابن عباس : هو الجدي ، وقال علي : هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل ، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد ، وقال آخرون : إنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠] روي أن أبا طالب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأت الأرض نورا ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله» فعجب أبو طالب ، فنزلت هذه السورة (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) ، وهذا جواب للقسم ، و «إن» نافية و «لما» بمعنى إلا ، أي ما كل نفس إلا عليها رقيب ، وهو الله تعالى وهذا بالتشديد على قراءة عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، والنخعي أما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، والكسائي ، وهي بتخفيف الميم فـ «إن» مخففة من الثقيلة واللام في «لما» مخلصة من «إن» النافية وما صلة أي إن الشأن كل نفس برة أو فاجرة لعليها من يحصي عليها ما تكسب من خير وشر وهم الملائكة. (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أبو طالب وغيره (مِمَّ خُلِقَ) (٥) أي من أي شيء خلق نفسه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) ، وهو استئناف وقع جوابا عن استفهام أي خلق الإنسان من ماء ذي سيلان بسرعة في رحم المرأة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧)

٦٢١

أي من صلب ماء الرجل ، ومن عظام صدر المرأة ، وقال الحسن : يخرج من صلب الرجل وترائبه ، ومن صلب المرأة وترائبها ، وحكى القرطبي أن ماء الرجل ينزل من الدماغ ، ثم يتجمع في الأنثيين (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (٨) أي إن الذي خلق الإنسان ابتداء قادر على رده حيا بعد موته. (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٩) أي يظهر ما أخفي من الأعمال ، وما أسر في القلوب من العقائد ، والنيات ، وهو يوم القيامة. قال ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه هذا إن أريد برجعه نشر الإنسان يوم القيامة ، فـ «يوم» ظرف نرجعه فلا يوقف على قوله تعالى : (لَقادِرٌ) وإن أريد برجعه رد الماء إلى الإحليل كما قاله مجاهد ، أو إلى الصلب كما قاله عكرمة ، والضحاك ، أورد الإنسان ماء كما كان قبل كما قاله الضحاك أيضا فـ «يوم» منصوب بمضمر أي واذكر «يوم» فالوقف على «لقادر» كاف كالوقف على «السرائر» إلا إذا جرينا على قول الرازي : إن «يوم» منصوب بقوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) فلا وقف على السرائر (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠) أي فما للإنسان شيء من قوة يدفع به عن نفسه ما جاء من عذاب الله ، ولا أحد من الأنصار ينصره في دفعه ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١١) أي ذات المطر بعد المطر حينا بعد حين ، (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) أي ذات النبات لأن الأرض تنصدع بالنبات كما قاله الليث. (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) (١٣) أي إن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى سرائركم فيه لقول حق ، (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤) أي ليس ذلك الخبر بالباطل وهذا كما قاله القفال ، لكن أكثر المفسرين قالوا : أي أن القرآن الذي أخبر بمبدأ حال الإنسان ومعاده لقول مبين ، حق ، وقاطع شر ، وليس في شيء منه لعب ، بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة. (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) (١٥) أي إن أهل مكة يمكرون في إبطال أمر القرآن وإطفاء نوره ، (وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦) أي أقابلهم بكيد قوي لا يمكن رده حيث أمهلهم على كفرهم حتى آخذهم على غرة (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجل يا أشرف الخلق بالدعاء عليهم بإهلاكهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧) أي أمهلهم على مهلة قريبة إلى يوم القيامة أو أمهلهم إمهالا قليلا إلى يوم بدر فـ «رويدا» إما مصدر مؤكد لمعنى العامل ، أو نعت لمصدره المحذوف.

٦٢٢

سورة الأعلى

مكية ، تسع عشرة آية ، اثنتان وسبعون كلمة ، مائتان وأربعة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) أي نزه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة ، وعن إطلاقه على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيه ، فلا يجوز تفسير أسمائه تعالى بما لا يصح ثبوته في حقه تعالى نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان ، والاستواء بالاستقرار ، بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار ، والاستواء بالاستيلاء ، ولا يجوز أن يذكر العبد ربه إلا بالأسماء التي ورد الإذن بها من الشرع قال الواحدي : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) أي نزه الاسم من السوء ومعنى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) نزه الله تعالى بذكر اسمه الدال على تنزيهه تعالى وعلوه عما يقول المبطلون ، ومعنى الأعلى أن جلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا وأصناف آلائه ونعمائه أعلا من حمدنا وشكرنا ، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا.

وقرأ علي ، وابن عمر «سبحان ربي الأعلى» (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) أي الذي خلق كل ذي روح فكمل خلقه باليدين ، والرجلين ، والعينين ، والأذنين ، وسائر الأعضاء ، (وَالَّذِي قَدَّرَ) قرأه الجمهور مشددا أي أوقع تقديره في كل شيء ، فقدر خلقه حسنا أو دميما ، طويلا أو قصيرا ، وقدر أرزاقهم وآجالهم ، وقرأه الكسائي على التخفيف أي تصرف في خلقه كيف أراد (فَهَدى) (٣) أي لمنافع الخلق ومصالحه فألهم كيف يأتي الذكر الأنثى ، ويروى أن الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى أن تحك عينها بورق الرازيانج فيرد الله إليها بصرها ، ويروى أن التمساح لا يكون له دبر وإنما يخرج فضلات ما يأكله من فمه حيث قيض الله له طائرا قدر غذاءه من ذلك فإذا رآه التمساح يفتح فمه فيدخله الطائر فيأكل ما فيه ، وقد خلق الله تعالى له من فوق منقاره ومن تحته قرنين لئلا يطبق عليه التمساح فمه (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) (٤) أي أنبت النبات والزروع ، وقال ابن عباس : أي الكلأ الأخضر (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته (غُثاءً أَحْوى) (٥) أي درينا أسود بأن ألصق السيل أجزاء كدورة به فيسود (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) أي نجعلك قارئا للقرآن فتقرؤه فلا تنسى أي إنّا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ القرآن حفظا لا تنساه. قال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى ، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي. فقال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سنعلمك

٦٢٣

هذا القرآن حتى تحفظه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن ينسى النبي شيئا من القرآن ، وهذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير النبي ناسيا لذلك لقدر عليه ، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة الله حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله لا من قوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الزجاج : أي إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك فلا ينسى ، نسيانا كليا دائما ، وقال مقاتل : إلا ما شاء الله أن ينسيه فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها ، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به فيصير ذلك سببا لنسيانه وزواله من الصدور. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) (٧) أي أنه تعالى عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه‌السلام ، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه ، (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) أي نوفقك للطريقة اليسرى في كل أبواب من باب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية ، (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩) أي عظ يا أشرف الرسل الناس بالقرآن واهدهم إلى ما فيه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله إن نفعت الموعظة ، فالتذكير العام واجب في أول الأمر ، فأما التكرير فإنما يجب عند رجاء حصول المقصود ، فلهذا المعنى قيد التذكير بهذا الشرط وقيل «إن» بمعنى إذ كقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، [آل عمران : ١٣٩] (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (١٠) وهو من قطع بصحة المعاد ، ومن جوز وجوده بخلاف من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون. قيل : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وقيل : نزلت في ابن أم مكتوم ، (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (١١) أي ويتباعد عن الموعظة بالقرآن الأشقى ، وهو المعاند الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغي إليها فالفرق ثلاثة : العارف بصحة المعاد ، والمتوقف فيه ، والمعاند. فالعارف هو السعيد ، والمتوقف له بعض الشقاء ، والمعاند هو الأشقى ، قيل : نزلت هذه الآية في الوليد ، وعتبة ، وأبي (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) أي الذي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار ، (ثُمَ) بعد دخوله النار (لا يَمُوتُ فِيها) حتى يستريح (وَلا يَحْيى) (١٣) حياة تنفعه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) أي تطهر من دنس الشرك ، كما قال ابن عباس أي من قال : لا إله إلا الله ، وقال الزجاج : أي من تكثر من التقوى ، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه (فَصَلَّى) (١٥) فمراتب أعمال المكلف ثلاثة : إزالة العقائد الفاسدة عن القلب ، واستحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه ، والاشتغال بخدمته ، وقال بعضهم أي قد فاز من تصدق بصدقة الفطر قبل خروجه إلى المصلى ، وكبر الله تعالى ، ثم صلى صلاة العيد مع الإيمان فأثنى الله على من فعل ذلك ، وإن لم يكن في مكة عيد ولا زكاة فطر لأن ذلك في علم الله سيكون ، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٦) أي أنتم يا كفار مكة لا تفعلون ذلك ، بل أنتم ترضون اللذات الفانية وتطمئنون بها وتعرضون عن الآخرة بالكلية ، أو أنتم أيها المسلمون لا تكثرون من التقوى ، بل تستكثرون من الدنيا الدنية على الاستكثار من الثواب ، وقرأ أبو عمرو «يؤثرون» بالياء أي الأشقون ، (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) أي والحال أن الآخرة خير في نفسها وأدوم لأنها مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ولذاتها خالصة عن الغائلة (إِنَّ هذا) أي قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ) ، (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٨) أي لثابت معناه فيها (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩).

٦٢٤

سورة الغاشية

مكية ، ست وعشرون آية ، اثنتان وتسعون كلمة ، ثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) أي خبر القيامة التي تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين بشدائدها ، و «هل» استفهام أريد به التعجب مما في ذلك الحديث ، والتشويق إلى استماعه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ غشيت (خاشِعَةٌ) (٢) أي ذليلة بالعذاب (عامِلَةٌ) أعمالا شاقة (ناصِبَةٌ) (٣) أي ذات تعب فيها ، وهي جر السلاسل ، والأغلال ، وخوضهم في النار خوض الإبل في الوحل ، وصعودهم في تلال النار وهبوطهم في وهادها وهم الرهبان وأصحاب الصوامع كما قاله ابن عباس ، أو هم الخوارج كما قاله علي (تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٤) أي تدخل نارا متناهية في الحر.

وقرأ أبو عمرو ، وعاصم بضم التاء الفوقية وقوله تعالى : (وُجُوهٌ) مبتدأ و (خاشِعَةٌ) وما بعده خبره ، وقيل خبره «تصلى» وما قبله صفات لـ «وجوه» ولا يوقف قبل الخبر ، وقرئ «عاملة» ناصبة على الشتم (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) أي متناهية في الحر (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٦) وهو ما يبس من الشبرق وهو نبت يكون في طريق مكة إذا كان رطبا تأكل منه الإبل ، وإذا يبس صار كأظفار الهرة ، وهو سم قاتل ، وهذا طعام لبعض أهل النار ، والزقوم ، والغسلين لآخرين (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧) أي غير مسمن وغير مشبع لأنه ليس من جنس ضريع الدنيا. روي أن كفار قريش قالت : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت هذه الآية ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (٨) أي ذات حسن وجمال (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) (٩) أي لثواب عملها الذي عملته في الدنيا راضية حين رأت ذلك الثواب حتى لا تريد أكثر منه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (١٠) مكانا ومنقبة (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١١). قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص بفتح التاء ونصب «لاغية» أي لا تسمع أنت يا أكرم الرسل ، أو يا مخاطب ، أو لا تسمع الوجوه في الجنة كلمة ذات لغو ، فإنما يتكلمون بالحكمة ، وحمد الله على النعم ، وقرأ نافع بضم التاء الفوقية ورفع «لاغية» ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضم الياء التحتية ورفع «لاغية» ، وقرأ المفضل ، والجحدري بفتح الياء التحتية ونصب «لاغية» أي لا يسمع فيها أحد يمينا لا برة ولا فاجرة (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) (١٢) أي في الجنة عين شراب جارية على

٦٢٥

وجه الأرض في غير أخدود ، وتجري لهم كما أرادوا. (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١٣) في الهواء لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم ، والملك. قال ابن عباس : هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء (وَأَكْوابٌ) أي كيزان (مَوْضُوعَةٌ) (١٤) بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب ، أو فضة ، أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها (وَنَمارِقُ) أي وسائد (مَصْفُوفَةٌ) (١٥) بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى (وَزَرابِيُ) أي بسط فاخرة (مَبْثُوثَةٌ) (١٦) أي منشورة مفرقة في المجالس ، فلما أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك قال كفار مكة : ائتنا بآية بأن الله أرسلك إلينا رسولا فقال الله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) أي أينكر كفار مكة البعث ، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله فلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت بشدة قوتها ، وعجيب هيئتها ، وصبرها على الجوع ، والعطش ، واحتمال المداومة على السير ، (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (١٨) فوق الأرض بلا عماد ولا إمساك (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) نصبا رضيا على الأرض لا يتزلزل (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) أي بسطت على الماء.

وقرئ «سطحت» مشددا ، وقرأ علي رضي‌الله‌عنه وكرم وجهه «خلقت» و «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» على البناء للفاعل وبتاء المتكلم ، (فَذَكِّرْ) أي فاقتصر على التذكير والحمل على النظر في هذه الأدلة (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٢١) فلا بأس عليك في أن لا ينظروا بالاعتبار ولا يتذكروا بالافتكار إنما عليك البلاغ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) أي لست يا أشرف الخلق بمتسلط عليهم بأن تجبرهم على الإيمان ، وقرأ هشام بالسين ، وحمزة بإشمام الصاد كالزاي ، والباقون بالصاد الخالصة ، وقرئ بفتح الطاء (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) (٢٣) ، وفي هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : إنه استثناء حقيقي وفي هذا احتمالان : إما أن يكون مستثنى من المفعول أي فذكر عبادي إلا من أعرض عن الإيمان وكفر بالقرآن فاستحق العذاب الأكبر ، وإما أن يكون مستثنى من الضمير في «عليهم» أي لست عليهم بمسيطر إلا على من انقطع طمعك من إيمانه وتولى عنك وكفر بالله ، فإن لله القهر ، وسيأمرك بقتالهم ، فإن جهاد الكفار وقتلهم تسليط ، فكأنه تعالى أوعدهم بالجهاد في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة.

ثانيهما : إن هذا الاستثناء منقطع عما قبله والتقدير لست بمستول عليهم ، لكن من تولى منهم فإن الله تعالى يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم ، وعلامة كون الاستثناء منقطعا حسن دخول «أن» في المستثنى به وإذا كان الاستثناء متصلا لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول : عندي مائتان إلا درهما ، فلا يحسن عليه دخول أن ، وهاهنا يحسن دخول أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر ، (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) (٢٤) وسمي العذاب بالأكبر لأنه قد بلغ حد عذاب

٦٢٦

الكفر ، فإن ما عداه من عذاب الفسق دونه ، وقرئ «ألا من تولى» بفتح الهمزة على التنبيه ، وهذا مما يقوي القول بأن الاستثناء منقطع ، وفي قراءة ابن مسعود «فإنه يعذبه الله». (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) (٢٥) أي رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الياء ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) في المحشر على النقير والقمطير لا على غيرنا ، والحساب واجب عليه تعالى بحكم الوعد الذي يمتنع الخلف فيه ، وفي الحكمة فإنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم تعالى الله تعالى عنه ، وذكر تعالى هذه الآية ليزيل بها عن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزنه على كفرهم.

٦٢٧

سورة الفجر

مكية ، تسع وعشرون آية ، مائة وتسع وثلاثون كلمة ، خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْفَجْرِ) (١) وهو صبح النهار أقسم الله به لحصول انتشار الناس وسائر الحيوانات به في طلب الرزق ، فهو مشاكل لنشور الموتى من قبورهم وفيه عبرة لمن تأمل ، (وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) من أول ذي الحجة وفي الخبر : «ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر»(١) ، وذلك لأنها أيام الاشتغال بالحج في الجملة ، وقرئ و «ليال عشر» بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام ، (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) فالشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسرهما بيوم النحر ، ويوم عرفة ، وقال أبو بكر الوراق «الشفع» صفات الخلق كالعلم والجهل ، والقدرة ، والعجز ، والبصر ، والعمى ، والحياة ، والموت ، والوتر صفات الله تعالى وهي وجود بلا عدم ، حياة بلا موت ، علم بلا جهل ، قدرة بلا عجز ، عز بلا ذل ، وقال مقاتل : «الشفع» : هو الليالي والأيام ، و «الوتر» هو اليوم الذي لا ليل بعده ، وهو يوم القيامة ، وقرأ حمزة والكسائي «والوتر» بكسر الواو ، والباقون بفتحها ، والكسر قراءة الحسن ، والأعمش ، وابن عباس ، وهي لغة تميم ، والفتح قراءة أهل المدينة ، وهي لغة حجازية ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) أي يذهب وهي ليلة المزدلفة ، فإنه يذهب ويجيء فيه الناس ، وقال مقاتل : أي إذا يسار في ذلك الليل وهي ليلة المزدلفة ، وقرأ نافع : وأبو عمرو بحذف ياء يسر وقفا وبإثباتها وصلا ، وأثبتها ابن كثير في الحالين ، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم ، وقرئ «يسر» بالتنوين كما قرئ به «والفجر» «والوتر» وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥) أي هل في هذه الأشياء المذكورة مقسم به لذي عقل ، والمراد من هذا الاستفهام التأكيد والتحقيق والمعنى : أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى بهذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية ، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه ، وجواب القسم محذوف لدلالة المعنى عليه أي لنجازين كل أحد بما عمل بدليل تعديد ما فعل بالقرون الخالية ، فالوقف هنا تام

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٢٠ : ٨٨).

٦٢٨

كما قاله أبو حاتم وغيره ، وقال ابن الأنباري : جواب القسم قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي وإنما أجازوا الوقف هنا لطول الكلام ، لكن ينبغي حينئذ أن يقال وقف صالح أو نحوه لا تام للفصل بين القسم وجوابه (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق علما يقينا كيف أهلك الله قوم هود عند التكذيب (إِرَمَ) عطف بيان لـ «عاد» للإعلام بأنهم عاد الأولى القديمة إن جعلنا إرم اسما للقبيلة بتقدير مضاف أي سبط إرم فإرم جد عاد فإن عادا هو ابن عوص بن إرم ابن سام بن نوح عليه‌السلام وإن جعلناه اسم البلدة كان التقدير بعاد أهل إرم ويدل عليه قراءة ابن الزبير «بعاد إرم» على الإضافة وقرأ الحسن «بعاد إرم» مفتوحتين (ذاتِ الْعِمادِ) (٧) أي ذات الأساطين من ذهب وفضة أي ذات القدود الطوال (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها) أي مثل تلك المدينة في الحسن ، والجمال ، أو مثل عاد في عظم الجثة وشدة القوة (فِي الْبِلادِ) (٨) أي في جميع بلاد الدنيا.

وقرأ ابن الزبير و «لم يخلق مثلها» بالبناء للفاعل أي لم يخلق الله مثل إرم مدينة شداد. روي أنه كان لعاد ابنان شداد ، وشديد فملكا بعده وقهرا البلاد والعباد ، ثم مات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له الدنيا ، وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها ودعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى فبنى مدينة إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب ، والفضة ، وأساطينها من الزبرجد ، والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ، فروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب المدينة ، فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح الباب ودخل ، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة وأحجار اللؤلؤ والياقوت ، وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران فلما عاين ذلك ، ولم ير أحدا هاله ذلك ، ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة وتحت تلك الأشجار أنهار يجري ماؤها في قنوات من فضة ، فقال الرجل في نفسه : هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق مسكها وزعفرانها ، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدث بما رأى ، فبلغ ذلك معاوية فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه وقال له : يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال : نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد ابن عاد ، قال : فحدثني حديثها ، فقال : لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف

٦٢٩

من الأعوان ، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوهم بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صخرة نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا : هذه الأرض التي أمر الملك أن يبني فيها ، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة ، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال : انطلقوا فاجعلوا حصنا أي سوار واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ، ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ، ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا ، ولم يبق منهم أحد ، ثم قال كعب : وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة ، فقال : هذا والله هو ذلك الرجل ، (وَثَمُودَ) أي وكيف أهلك الله قوم صالح ، وثمود قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس ، وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وكانوا يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك يعبدون الأصنام كعاد (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (٩) أي الذين نقبوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتا بوادي القرى ، وهو موضع بقرب المدينة قيل : هم أول من نحت الجبال والصخور والرخام وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) (١٠) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس ويشهدهم بأربعة أوتاد مطروحين على الأرض إلى أن يموتوا ، وقيل : لكثرة جنوده وخيامهم التي ينصبونها في منازلهم ، وقال ابن عباس أي ذي الجنود والعساكر التي تشد ملكه (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) (١١) والموصول منصوب على الذم أو مرفوع كذلك أي الذين تجبر كل واحد من عاد ، وثمود ، وفرعون في بلادهم على أنبياء الله والمؤمنين (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) بالقتل وعبادة الأوثان وسائر المعاصي (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (١٣) أي فأنزل الله إنزالا شديدا عقب طغيانهم وفسادهم على كل طائفة من أولئك الطوائف جزء عذاب فأهلك عادا بالريح ، وثمود بالصيحة ، وفرعون بالغرق ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أنزله الله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به (إِنَّ رَبَّكَ) يا أشرف الخلق (لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) أي لفي الطريق عليه تعالى ممر سائر الخلق كما قاله ابن عباس أو إن إليه المصير كما قاله الفراء وهذا عام للمؤمنين والكافرين (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي إذا امتحنه ربه بالنعمة (فَأَكْرَمَهُ) بالمال والجاه والولد (وَنَعَّمَهُ) أي وسع عليه معيشته (فَيَقُولُ رَبِّي) أي فضلني بما أعطاني (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي وأما هو إذا اختبره ربه بالفقر (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي فضيق عليه معيشته (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١٦) قوله تعالى : فأما الإنسان متصل من حيث المعنى بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فكأنه قيل : إن

٦٣٠

الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة التي تنفعه في الآخرة ، فإنه يراقب أحواله ويجازيه بأعماله خيرا وشرا في الآخرة ، فأما الإنسان فلا يريد إلا الدنيا ولذاتها فإن وجد الراحة في الدنيا يقول : ربي أكرمني ، وإن لم يجدها يقول : ربي أهانني وأما هنا لمجرد التأكيد لا لتفصيل المجمل مع التأكيد ، و «الإنسان» مبتدأ خبره «فيقول» والظرف وهو «إذا» منصوب بالخبر لأن الظرف في نية التأخير ودخول الفاء في الخبر لما في أما من معنى الشرط ، وما زائدة ، والفاء في قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ) تفسيرية ، والوقف في «أكرمن» مفهوم وفي «أهانن» حسن. وقال أبو عمرو والوقف فيهما كاف ، وقيل : تام ، وقال الكلبي : إن المراد من الإنسان أبي بن خلف ، وقال مقاتل ، وابن جرير : نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وروي عن ابن عباس أن المراد بالإنسان عتبة بن ربيعة ، وأبو حذيفة بن المغيرة ، وقيل : إنه كافر جاحد ليوم الجزاء.

وقرأ نافع «أكرمن» و «أهانن» بإثبات الياء فيهما وصلا وحذفها وقفا ، وقرأهما البزي عن ابن كثير بإثباتها في الحالين ، وعن أبي عمرو : إن الحذف في الوصل أعدل ، والباقون بالحذف في الحالين ، وقرأ ابن عامر «فقدر عليه رزقه» بتشديد الدال أي جعله على مقدار البلغة (كَلَّا) رد على من ظن ذلك المذكور ، والمعنى : ليس إكرامي بالمال والغنى ، بالفقر ، وقلة المال ، ولكن إكرامي بالمعرفة والتوفيق وإهانتي بالنكرة والخذلان ، والوقف هنا حسن وهو أحسن من الوقف على «أهانن» ، (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١٧) أي قل يا محمد لهم : بل لكم أحوال أشد شرا من ذلك القول ، وهو أن الله تعالى يكرمكم بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه ، فإنكم لا تحسنون إلى اليتيم ولا تعرفون حقه ، (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١٨) بحذف إحدى التاءين ، وهو قراءة الكوفيين أي لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين ، وقرئ «ولا تحضوا» أي لا تأمرون بإطعامه ، وفي قراءة ابن مسعود «ولا تحاضون» بضم التاء أي لا يحض كل واحد منكم صاحبه ، وهذا إشارة إلى ترك بر اليتيم. (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) (١٩) أي وتأكلون تراث اليتامى أكلا جامعا فإنكم تجمعون نصيبهم إلى نصيبكم ، وهذا إشارة إلى دفع اليتيم عن حقه الثابت له في الميراث ، وأكل ماله. (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠) أي كثيرا وهذا إشارة إلى أخذ مال اليتيم منه ، وقرأ أبو عمرو يكرمون وما بعده بالياء التحتية (كَلَّا) أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا حتى (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (٢١) أي إذا انكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل ، وشجر ، وبناء حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء حتى صارت ملساء ، (وَجاءَ رَبُّكَ) أي جاء ظهوره وقهره أي حصل تجليه تعالى على الخلائق أي زالت الشبهة ، وارتفعت الشكوك وظهر سلطان قهره ، (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢٢) أي وتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب مراتبهم محدقين بالجن والإنس فيكونون سبعة صفوف ، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها إلى

٦٣١

المحشر ويكشف عنها حتى رآها الخلق ، وعلم الكافر أن مصيره إليها (يَوْمَئِذٍ) بدل من «إذا دكت». (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ما فرط فيه ويتعظ الكافر ، فيقول : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ، وهذا جواب «إذا» ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) (٢٣) أي ومن أين له العظة وقد فاته أوانها (يَقُولُ) أي الإنسان الكافر (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢٤) فيا للتنبيه أي ليتني قدمت عملا يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء ، (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يقول الإنسان ذلك (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) (٢٥) أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل تعذيب الكافر ، (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦) أي ولا يوثق أحد من الزبانية بالسلاسل والأغلال مثل إيثاق الكافر لتناهيه في كفره وفساده.

وقرأ الكسائي «لا يعذب ولا يوثق» بفتح الذال والثاء أي لا يعذب أحد مثل عذاب الكافر ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاق الكافر. (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٢٧) بذكر الله وطاعته ، وقرأ أبي بن كعب «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة» وهي التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع البشارة من الملائكة وتحصل عند البعث وعند دخول الجنة بلا شك أي يقول الله للمؤمن إكراما له أو على لسان ملك يا أيتها النفس المطمئنة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى ثواب ربك (راضِيَةً) بما أوتيت من النعيم المقيم (مَرْضِيَّةً) (٢٨) عند الله عزوجل في الأعمال التي عملتها في الدنيا ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (٢٩) أي في زمرة عبادي الصالحين المختصين بي ، (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) معهم ، وقرئ «فادخلي في عبدي» وقرئ في «جسد عبدي» وهذا يؤيد كون الخطاب عند البعث. قيل : نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب ، وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة ، وقيل نزلت في خبيب بن عبد الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

٦٣٢

سورة البلد

مكية ، هي عشرون آية ، اثنتان وثمانون كلمة ، ثلاثمائة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لا) قال الأخفش هي مزيدة (أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١) وهو مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) أي أنت نازل في هذا البلد ، أو أنت في حل مما صنعت في هذا البلد ، فإن الله فتح مكة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فتحت على أحد قبله ، ولا أحلت له فأحل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ما شاء وحرم ما شاء. قتل عبد الله بن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان ، ثم قال : إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الإذخر (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) (٣) فالوالد آدم وما ولد بنوه ، وقيل كل والد وولده (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) أي في اعتدال القامة ، أو في تعب فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها ، وما وراءه ، وليس في هذه الدنيا لذة ألبتة فالذي يظن الإنسان أنه لذة فهو خلاص عن الألم ، وما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عن ألم الجوع ، وما يتخيل من اللذة عند اللبس ، فهو خلاص عن ألم الحر والبرد ، فليس للإنسان إلا ألم ، أو خلاص عن ألم ، فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى لتكون تلك الدار دار اللذات والسعادات والكرامات (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (٥) أي أيحسب الإنسان بقوته أنه لن يقدر على بعثه ومجازاته ، أو على تغيير أحواله أحد وهو الله تعالى (يَقُولُ) أي الإنسان كلدة بن أسيد أو الوليد بن المغيرة (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) (٦) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فلم ينفعني ذلك شيئا.

وقرأ أبو جعفر بتشديد الباء مفتوحة ، وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا ، والباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا ، (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧) أي أيحسب هذا الإنسان أنه لم يره أحد ، وهو الله تعالى حين كان ينفق وأنه تعالى لا يسأله عن إنفاقه ولا يجازيه

٦٣٣

عليه. (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) (٨) ينظر بهما (وَلِساناً) ينطق به (وَشَفَتَيْنِ) (٩) يستر بهما فاه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) أي بيّنا له الطريقين : طريق الخير ، والشر ، أو دللناه على الثديين لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه ، فإن الله تعالى هدى الطفل الصغير إلى الثديين حتى ارتضعهما (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) أي فهلا تلبس من أنفق ماله بمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، أو فلم يشكر تلك النعم الجليلة بتحصيل الأعمال الصالحة ، (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) (١٢) أي أي شيء أعلمك ما الدخول في صعاب الطريق (فَكُّ رَقَبَةٍ) (١٣) أي هي إعتاق رقبة ، أو إعطاء مكاتب ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه ، أو تخليص شخص من قود ، أو غرم ، أو فك المرء رقبة نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات التي يصير بها إلى الجنة ويتخلص بها من النار ، فهذه هي الحرية الكبرى (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١٤) أي مجاعة (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١٥) أي ذا قرابة (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) أي ذا افتقار كأنه لصق بالتراب من ضره ، فليس فوقه ما يستره ، ولا تحته ما يفرشه.

قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بصيغة المصدر في «فك» و «إطعام» وهو خبر مبتدأ محذوف ، والباقون بصيغة الفعل فيهما على الإبدال من «اقتحم» المنفي بلا كأنه قيل : فلا فك رقبة ولا أطعم فلا مكررة في المعنى ، فلا يقال : إن لا لا تدخل على الماضي إلا مكررة ، (ثُمَّ كانَ) أي مكتسب الطاعات داخل الأمور الصعاب (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الطاعات وعلى المرازي ، (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (١٧) أي بالرحمة على عباده فقوله : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله : (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين فإن الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفة (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨) أي الجانب الذي فيه البركة والنجاة من كل هلكة ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) (١٩) أي الخصلة المكسبة للحرمان (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠) أي مطبقة فلا يخرجون منها أبدا. قرأ أبو عمرو ، وحفص ، وحمزة بالهمزة ، والباقون بواو ساكنة.

٦٣٤

سورة الشمس

مكية ، خمس عشرة آية ، أربع وخمسون كلمة ، مائتان وسبعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) أي ضوئها إذا ارتفعت وقام سلطانها ، (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٢) أي تبع الشمس بأن طلع بعد غروبها وذلك في النصف الأول من الشهر ، (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (٣) أي إذا أظهر الشمس فإنها تنكشف عند انبساط النهار فكأنه أظهرها مع أنها هي التي تبسطه ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٤) أي يغطي ضوء الشمس بظلمته (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) أي والذي خلقها وهو الله تعالى أقسم بنفسه ، (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٦) أي بسطها على الماء ، (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (٧) أي وجسد كثير والذي أنشأها متناسبة الأعضاء ، أو وقوة مدبرة ، والذي أعطاها قوى كثيرة كالقوة السامعة ، والباصرة ، والمفكرة ، والمذكرة (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) أي أفهمها حالاهما من الحسن والقبيح ، وقيل : ألهم الله الكافر فجوره ، وألهم المؤمن المتقي تقواه. (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) أي قد أدرك من طهر نفسه من الذنوب مطلوبه بفعل الطاعة ومجانية المعصية ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) أي وقد خسر من أخفى نفسه في المعاصي حتى انغمس فيها (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) أي فعلت ثمود تكذيب الرسول بسبب مجاوزتها الحد في العصيان ، أو كذبت ثمود بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به العذاب فالطغوى على هذا اسم للعذاب الذي أهلكوا به (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢) أي حين قام أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف ومصدع بن دهو لعقر الناقة برضاهم ، (فَقالَ لَهُمْ) أي لثمود (رَسُولُ اللهِ) صالح لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقر الناقة (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) (١٣) أي ذروا عقر الناقة التي هي آية الله الدالة على توحيده وعلى نبوتي واحذروا شربها فلا تمنعوها عنه في نوبتها ، (فَكَذَّبُوهُ) أي رسول الله صالحا في وعيده بالعذاب ، (فَعَقَرُوها) قال الفراء : عقر الناقة اثنان ، وقال قتادة : ذكر لنا إن قدار أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم ، (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي أهلكهم ربهم (بِذَنْبِهِمْ) أي بسبب قتلهم الناقة وتكذيبهم صالحا عليه‌السلام ، (فَسَوَّاها) (١٤) أي سوى هذه الطائفة في إنزال العذاب بهم صغيرهم ، وكبيرهم ، ووضيعهم ، وشريفهم ، وذكرهم ، وأنثاهم.

وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين ، (وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥) أي ولا يخاف الله عاقبة

٦٣٥

هذه الفعلة كما تخاف الملوك عاقبة ما تفعله ، وهذه إشارة إلى أنهم أذلاء عند الله تعالى ، وقيل : لا يخاف رسول الله صالح عقبى هذه العقوبة ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم ، وقيل : قام الأشقى لعقر الناقة والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء أي فهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه ، ففعل مع هذا الخوف الشديد فعل من لا يخاف ألبتة فنسب في ذلك إلى الحمق. وقرأ نافع ، وابن عامر «فلا يخاف» بالفاء ، والباقون بالواو ، وهي للحال ، أو للاستئناف الإخباري ، وقرئ «ولم يخف» وهو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٣٦

سورة والليل

مكية ، إحدى وعشرون آية ، إحدى وسبعون كلمة ، ثلاثمائة وعشرون حرفا ،

قال القفال رحمه‌الله : نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين

وفي أمية ابن خلف وبخله وكفره بالله ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) أي حين يغشى الشمس (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢) أي ظهر بزوال ظلمة الليل (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) أي والذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل ما له توالد. قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذكر والأنثى» ، وقرأ ابن مسعود «والذي خلق الذكر والأنثى» ، وعن الكسائي «وما خلق الذكر» بالجر والمعنى : وما خلقه الله تعالى أي ومخلوق الله ، ثم يجعل الذكر بدلا منه أي ومخلوق الله الذكر والأنثى. (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤) أي أن عملكم لمختلف في الجزاء لأن بعضه ضلال يوجب النيران وبعضه هدى يوجب الجنان ، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) أي فأما من أعطى من ماله في سبيل الله واجتنب المحارم وصدق بالشرائع فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى راحة ، كدخول الجنة ، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) أي وأما من بخل بماله فلم يبذله في سبيل الخير واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وكذب بعدة الله من الخلف الحسن ، فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى الشدة كدخول النار ، (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١١) أي ولا ينفعه ماله الذي جمعه في الدنيا إذا مات ، أو أي شيء ينفعه ماله الذي بخل به ، ولم يصحبه معه إلى آخرته إذا سقط في حفرة قبر أو في جهنم. (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذ خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد فقد فعلنا ما كان فعله واجبا علينا في الحكمة ، (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (١٣) أي إن لنا ملك الدارين نعطي من نشاء ما نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق فليطلب سعادتهما منا (فَأَنْذَرْتُكُمْ) أي خوفتكم يا أهل مكة (ناراً تَلَظَّى) (١٤) أي تتوقد.

وقرئ شاذا بالتاءين (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (١٦) أي لا يدخلها دخولا لازما مؤبدا إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله ، وأعرض عن طاعة الله. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أمية بن خلف ، وأمثاله الذين كذبوا محمدا والأنبياء قبله (وَسَيُجَنَّبُهَا

٦٣٧

الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨) أي وسيبعد عنها المبالغ في اتقاء المعاصي الذي يعطي ماله ويصرفه في وجوه الحسنات طالبا أن يكون ناميا عند الله تعالى لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ، وروى الضحاك عن ابن عباس : عذب المشركون بلال بن رباح واسم أمه حمامة ، وبلال يقول : أحد أحد ، فمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أحد ينجيك» ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله» (١) فعرف أبو بكر ما يريده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف ، فقال له : أتبيعني بلالا قال : نعم ، فاشتراه ، فأعتقه ، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله تعالى قوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ) أي الأتقى (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٢٠) أي لم يفعل أبو بكر ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده ، لكن فعله ابتغاء وجه الله تعالى.

وقرأ يحيى بن وثاب برفع «الابتغاء» على البدل من محل «نعمة» ، فإنه رفع إما على الفاعلية ، أو على الابتداء و «من» مزيدة ، ويجوز أن يكون مفعولا له لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة ، (وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١) أي ما أنفق أبو بكر إلا لطلب رضوان الله ، وبالله لسوف يرضى الله عنه ، ولم يكن للنبي ولا لغيره عليه نعمة دنيوية ، بل كان أبو بكر هو الذي ينفق على رسول الله ، وإنما كان للنبي عليه نعمة الهداية إلى الدين إلا أن هذه نعمة لا يجزى الإنسان بها قال ابن الزبير : كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم ، فقال له أبوه : يا بني لو كنت تشتري من يمنع ظهرك ، فقال : منع ظهري أريد ، فأنزل الله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) إلى آخر السورة ، وقرئ «يرضى» مبنيا للمفعول.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٦١) ، والقرطبي في التفسير (٢٠ : ٩٣) وفيه : «في بيت رسول الله».

٦٣٨

سورة الضحى

مكية ، إحدى عشرة آية ، أربعون كلمة ، مائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالضُّحى) (١) وهو أول النهار حين ترفع الشمس وتلقي شعاعها وتخصيصه بالإقسام به لأنه الساعة التي كلم الله موسى فيها ، وألقي السحرة فيها سجدا (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) (٢) أي أظلم واسود ، ونقل عن قتادة ، ومقاتل ، وجعفر الصادق أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه‌السلام ، وبالليل ليلة المعراج ، وقيل : إنما ذكر ساعة من النهار ، وذكر الليل بكليته لأن النهار وقت السرور ، والراحة ، والليل وقت الوحشة ، والغم ، فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها ، فإن الضحى ساعة والليل ساعات (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أي ما قطعك ربك قطع المودع ، والمفارق.

وقرأ عروة بن الزبير ، وابنه هشام ، وابن أبي عبلة بتخفيف الدال أي ما تركك ربك يا أشرف الرسل منذ أوحى إليك تركا تحصل به فرقة كفرقة المودع (وَما قَلى) (٣) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. روى البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلتين أو ثلاثا ، فجاءت أم جمل امرأة أبي لهب فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فنزلت هذه الآية ، وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير ، فمات فمكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خولة ما حدث في بيتي إن جبريل عليه‌السلام لا يأتيني» (١). قالت خولة : فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعد لحياه ، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة ، فقال : «يا خولة دثريني» (٢). فأنزل الله تعالى هذه السورة ولما نزل جبريل عليه‌السلام سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التأخر فقال : أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ، وروي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لزجره سائلا ملحا ، فقال

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٦١) ، والقرطبي في التفسير (٢ : ٩٣).

(٢) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٦٢٥٣) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٩٩).

٦٣٩

المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ، وروي أن سبب احتباس جبريل عليه‌السلام لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) (٤) أي وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيد كل يوم عزا إلى عز ، ومنصبا إلى منصب ، فيقول : لا تظن أني قليتك ، بل إني أزيدك منصبا وجلالا ، ثم إن هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم ، أو وللآخرة خير لك من الدنيا لأن الكفار في الدنيا يطعنون فيك ، أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم ، وأجعلك شهيدا على الأنبياء ، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٨ ، ٢٩] (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) من خيرات الدنيا والآخرة (فَتَرْضى) (٥).

روي عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة كما يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية قال : إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار ، وعن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه أنه قال : رضي جدي أن لا يدخل النار موحد ،وهذا أيضا وعده تعالى رسوله على أحوال الدنيا ، فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ، ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة ، والنضير وإجلائهم وبث عساكره في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، وما هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وما وهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب ، وتهيب الإسلام وفشو الدعوة (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) (٦) بمد الهمزة أي ضمك إلى من يكفلك ، وقرأ أبو الأشهب «فأوى» ثلاثيا أي فرحمك ، روي أن عبد الله بن عبد المطلب توفي وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر ، ثم ولد رسول الله فكان مع عبد المطلب ، ومع أمه آمنة ، فماتت وهو ابن ست سنين فكان مع جده ، ثم مات بعد آمنة بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين ، وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به فكان هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة ، فقام بنصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم توفي أبو طالب فذكره الله هذه النعمة روي أن أبا طالب قال يوما لأخيه العباس : ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه ، فقال : بلى ، فقال : إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحدا حتى إني كنت أنومه في فراشي ، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه ، لكنه كره أن يخالفني ، وقال : «يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي» ، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه في الفراش إذ بيني وبينه ثوب في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك ، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكنت أفتقده من فراشي مرارا فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت أسمع منه مرارا كلاما يعجبني ، وذلك عند مضي بعض الليل وكان يقول في أول الطعام : «باسم الله الأحد» ، فإذا فرغ من طعامه قال : «الحمد لله» ، فتعجبت

٦٤٠