مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

أي لا رب فوقي ، (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥) أي فعذبه الله في الآخرة بالإحراق بالنار ، وفي الدنيا بالإغراق بالماء. وقيل : فعاقبه الله بكلمته الآخرة وهي قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وبكلمته الأولى وهي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وكان بينهما أربعون سنة ، فالله تعالى يمهل ولا يهمل ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في قصة فرعون (لَعِبْرَةً) أي لعظة (لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) ، وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى ، والتكذيب لأنبيائه خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون ، وعلما بأن الله تعالى ينصر رسله ، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه ، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) ، أي أأنتم يا أهل مكة في خلقكم بعد موتكم أصعب في تقديركم أم خلق السماء على عظمها والوقف هنا تام ، (بَناها) (٢٧) وهذا تفصيل لكيفية خلقها ، (رَفَعَ سَمْكَها) أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض ، ومقدار ذهابها في سمت العلو مسافة خمسمائة عام.

واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقا ، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكا ، (فَسَوَّاها) (٢٨) أي فجعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع ، ولا انخفاض ، ولا تفاوت ، ولا فطور ، (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي جعل الليل مظلما (وَأَخْرَجَ ضُحاها) (٢٩) أي وأبرز نهارها ، وإنما عبر عن النهار بالضحى ، لأنها أكمل أجزاء النهار في الضوء ، (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) بألفي سنة (دَحاها) (٣٠) ، أي بسطها على الماء ، (أَخْرَجَ مِنْها) أي الأرض (ماءَها) ، أي عيونها المنفجرة بالماء وأنهارها الجاري ماؤها ، (وَمَرْعاها) (٣١) أي نباتها من العشب والشجر ، والثمر ، والحب ، والعصف ، والحطب ، واللباس ، والدواء حتى النار والملح ، فإن النار من العيدان والملح من الماء ، وإذا تأملت علمت أن جميع ما يتلذذ الناس به في الدنيا أصله الماء والنبات ، (وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣٢) ، أي أثبتها على وجه الأرض لتسكن ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) أي إنا خلقنا هذه الأشياء منفعة لكم ولأنعامكم ، (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٣٤) أي الداهية العظمى أعني (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) (٣٥) ، أي يوم يتذكر كل أحد فيه ما عمله في الدنيا من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة ، وطول الأمد ويجوز أن يكون يوم بدلا من الطامة الكبرى مبنيا على الفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) عطف على جاءت ، أي أظهرت الجحيم إظهارا بينا (لِمَنْ يَرى) (٣٦) فيراها كل ذي بصر من المؤمنين والكفار. وقرأ أبو نهيك و «برزت» بالتخفيف. وقرأ ابن مسعود «لمن رأى» فعلا ماضيا. وقرأ زيد ابن علي وعائشة وعكرمة «برزت» مبنيا للفاعل مخففا ، و «ترى» بالتاء وهي إما للتأنيث فالضمير لـ «الجحيم» ، وإما للخطاب أي لمن ترى أنت يا محمد من الكفار الذين يؤذونك ، وجواب «إذا» محذوف تقديره انقسم الناس قسمين ، (فَأَمَّا مَنْ طَغى) (٣٧) أي تمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٣٨) أي انهمك فيها ، ولم يستعد للحياة الأخروية بالطاعة ، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٣٩) له ، ويقال : التقدير فإن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان

٦٠١

موصوفا بهذه الصفات. قيل : نزلت هذه الآية في النضر وأبيه الحرث ، (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي مقام حضرة ربه (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (٤٠) أي عن الميل إلى الحرام الذي يشتهيه (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٤١) له ، قيل : نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير ، ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ، ووقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه حتى استشهد رضي‌الله‌عنه.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) فهو أخو مصعب بن عمير ، أسر يوم بدر وأخذته الأنصار ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق وأكرموه وبيّتوه عندهم ، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه فقال : ما هو بأخ له ، شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا ، فأوثقوه حتى تبعث أمه فداءه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متشحطا في دمه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عند الله أحتسبك» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب»(١). (يَسْئَلُونَكَ) يا أشرف الخلق (عَنِ السَّاعَةِ) على سبيل الاستهزاء حين سمع المشركون وصفها بالأوصاف الهائلة مثل طامة وصاخة ، وقارعة : (أَيَّانَ مُرْساها) (٤٢) أي متى إقامتها ، أي في أيّ وقت يوجدها الله تعالى ، (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (٤٣) أي في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) (٤٤) ، أي إلى ربك يرجع منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه ، (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) أي إنما أنت مخوف من يخاف هولها ، فالإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها. وقرأ عمر بن عبد العزيز ، وأبو جعفر ، وطلحة ، وابن محيصن «منذر» بالتنوين ، وهو الأصل وحذف التنوين للتخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦). وهذا إما تأكيد لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به ، أي كأن كفار قريش يوم يعاينون الساعة لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشية يوم واحد أو ضحاه ، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عن الساعة بطريق الاستبطاء مستعجلين بها ، ويقولون : متى هذا الوعد؟ فالمعنى : كأنهم يوم يرون قيام الساعة لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية هي من الزوال إلى الغروب ، أو ضحى يومها واعتبار كون اللبث بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم.

__________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٤٦) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦ : ٣٠١).

٦٠٢

سورة عبس

وتسمى سورة الأعمى ، وسورة السفرة. مكية ، إحدى وأربعون

آية ، مائة وثلاث وثلاثون كلمة ، خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(عَبَسَ) أي كلح النبي وجهه. وقرئ بالتشديد للمبالغة ، (وَتَوَلَّى) (١) أي أعرض بوجهه لأجل (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) اسمه عبد الله ابن أم مكتوم ، وهو عبد الله بن شريح بن مالك الفهري ، وأم مكتوم كانت أم أبيه ، واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي ، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد ، أسلم قديما بمكة ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صناديد قريش : عتبة ، وشيبة ـ ابنا ربيعة ـ وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال له : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه ، وعبس ، وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه ويقول إذ رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له : «هل لك من حاجة؟» (١) (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (٤) أي أيّ شيء يجعلك يا أشرف الخلق داريا حال هذا الأعمى حتى تعرض عنه ، لعله يتطهر بما يقتبس منك من الإثم ، أو يتعظ ، فتنفعه موعظتك ، إن لم يبلغ درجة التطهر التام.

وقرأ عاصم بنصب «فتنفعه» على جواب «لعل» ، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) (٥) عن الإيمان والقرآن بماله من المال (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (٦) أي تقبل عليه بوجهك وتميل إلى كلامه.

وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الضاد وقرأ أبو جعفر بضم التاء ، أي فأنت يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (٧) و «ما» إما نافية ، والجملة حال من ضمير «تصدى» ، أي والحال أنه ليس عليك بأس في عدم تطهره من الشرك بالإسلام ، وإما استفهامية للإنكار أي وأيّ شيء عليك في كونه لا يتطهر من دنس الكفر ، (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) (٨)

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : ذكر البعث.

٦٠٣

أي حال كونه يسرع في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) (٩) من الله ، أي وهو مسلم (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١٠) أي تتشاغل بصناديد قريش. وقرأ طلحة بن مصرف «تتلهى». وقرأ أبو جعفر «تلهى» ، أي يلهيك شأن الصناديد (كَلَّا) أي لا تفعل مثل ذلك ، أي وذلك محمول على ترك الأولى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) أي إن القرآن موعظة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (١٢) أي فمن رغب في القرآن اتعظ به ، ومن لم يرده فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره (فِي صُحُفٍ) أي ذلك القرآن مثبت في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ (مُكَرَّمَةٍ) (١٣) عند الله تعالى ، (مَرْفُوعَةٍ) في السماء السابعة ، (مُطَهَّرَةٍ) (١٤) أي منزهة عن مساس أيدي الشياطين ، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) (١٥) أي ملائكة يكشفون الوحي بين الله ورسله ، أو يكتبون الكتب ناقلين من اللوح المحفوظ (كِرامٍ) أي عند الله تعالى (بَرَرَةٍ) (١٦) أي صادقين لله في أعمالهم. وقال القرطبي : إن المراد بما في قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] هؤلاء السفرة الكرام البررة ، وقوله : (بِأَيْدِي) متعلق بـ «مطهرة».

قال القفال : لما لم يمس الصحف إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهر إليها لطهارة من يمسها. (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي لعن الكافر (ما أَكْفَرَهُ) (١٧) أي أيّ شيء أكفره ، وهو تعجب من إفراطه في الكفران ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرناه بعد هذا ، (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١٨) وهذا استفهام تقرير في التحقير ، أي فليتفكر الإنسان في نفسه من أيّ شيء خلقه الله ، ثم بيّن الله له فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ) أي ماء حقير ، (خَلَقَهُ) فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير ، فالتكبر لا يكون لائقا به (فَقَدَّرَهُ) (١٩) أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء ، أو فقدره أطوارا نطفة ، ثم علقة إلى أن تم خلقه ، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٢٠) أي ثم سهل الله خروجه من بطن أمه وكان رأس المولود في بطن أمه ، من فوق ورجلاه من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب ، فخروجه حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب ، أو ثم بين طريق الخير والشر التي تتعلق بالدنيا ، والتي تتعلق بالدين ، (ثُمَّ أَماتَهُ) بعد ذلك ، (فَأَقْبَرَهُ) (٢١) أي جعله الله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له ، (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (٢٢) أي بعثه من القبر (كَلَّا) ، أي لا تتكبر ، ولا تصر على إنكار التوحيد ، وعلى إنكار البعث ، أو حقا يا محمد (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣) ، أي لم يعمل الإنسان الكافر بما أمره الله به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته ، (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٢٤) الذي جعله الله سببا لحياته كيف دبر الله أمره ، (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) أي الغيث على الأرض ، (صَبًّا) (٢٥).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا» بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال من طعامه ، لأن الماء سبب لحدوث الطعام ، فهو مشتمل عليه. والباقون بالكسر على الاستئناف. وقرئ «إني» بالإمالة ، أي كيف صببنا الماء صبا عجيبا! (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) بالنبات (شَقًّا) (٢٦) بديعا لائقا به (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي الأرض (حَبًّا) (٢٧) ، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما ،

٦٠٤

(وَعِنَباً) وهو غذاء من وجه وفاكهة من وجه ، (وَقَضْباً) (٢٨). قيل : هو كل ما يقطع من البقول.

وقال الحسن : هو العلف للدواب. وقال ابن عباس : هو الرطب فإنه يقطع من النخل ، (وَزَيْتُوناً) وفيه إصلاح المزاج ، (وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً) (٣٠) أي بساتين ملتفة الأشجار ، أو طوال الأشجار ، (وَفاكِهَةً) وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار ، (وَأَبًّا) (٣١) وهو ما تأكله الدواب من الكلأ ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢) أي فعل الله ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم ، (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) (٣٣) أي صيحة النفخة الثانية التي تصم الآذان لشدتها ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٣٤) و «يوم» إما منصوب بأعني تفسيرا لـ «الصّاخة» ، أو بدل منها مبني على الفتح بالإضافة إلى الفعل على رأي الكوفيين ، أي يعرض عن أخيه (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٣٦) وفائدة هذا الترتيب كأنه قيل يوم يعرض المرء عن أخيه ، بل عن أبويه اللذين هما أقرب من الأخ ، بل عن الزوجة والولد اللذين تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين ، وجواب «إذا» محذوف تقديره : اشتغل كل امرئ بحال نفسه ، ويدل عليه قوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تكون هذه الداهية (شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) ، أي شغل يكفيه في الاهتمام به ، أو عمل يصرفه عن قرابته كما قاله ابن قتيبة. وقرئ «يعنيه» بالياء المفتوحة والعين المهملة ، أي يهمه ، أي يوقعه في الهم ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (٣٨) أي مضيئة من صلاة الليل ـ كما قاله ابن عباس ـ أو من آثار الوضوء ـ كما قاله الضحاك ـ أو بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بالرحمة ومنازل الرضوان ـ كما قاله الرازي ـ (ضاحِكَةٌ) أي معجبة بكرامة الله أو مسرورة بالفراغ من الحساب ، (مُسْتَبْشِرَةٌ) (٣٩) أي فرحة بما تشاهد من النعيم الدائم والثواب الجسيم ، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (٤٠) أي كدورة (تَرْهَقُها) أي تدركها عن قرب ، (قَتَرَةٌ) (٤١) أي سواد كالدخان (أُولئِكَ) أي أصحاب هذه الوجوه (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢) أي الجامعون بين الكفر بالله والكذب على الله.

٦٠٥

سورة التكوير

مكية ، تسع وعشرون آية ، مائة وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) أي لفت أي صارت مختفية عن الأعين. وقيل : أي رميت عن الفلك. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما «تكويرها» إدخالها في العرش ، (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (٢) ، أي تساقطت على وجه الأرض. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور ، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت من أيديهم. (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (٣) عن وجه الأرض بالرجفة ، (وَإِذَا الْعِشارُ) أي النوق الحوامل التي هي أنفس ما يكون عند أهلها ، (عُطِّلَتْ) (٤) أي تركت من غير راع لاشتغال أربابها بأنفسهم. وقيل : أي وإذا السحب تعطلت عن الماء. وقرئ «عطلت» بالتخفيف ، (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٥) أي جمعت من كل جانب لا للقصاص. وقيل : بعثت للقصاص إظهارا للعدل.

قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، فإذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. وقرئ «حشرت» بالتشديد ، (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) أي ملئت من الماء ، فيفيض بعضها إلى بعض ، فتصير شيئا واحدا ، ثم تيبس البحار من الماء ، ثم تقلب نارا.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم ، وهذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة وهي ما ذكر بقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٧) أي ردت الأرواح إلى أجسادها.

وقال ابن عباس : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين.

وقال الزجاج : قرنت النفوس بأعمالها ، (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) (٨) أي وإذا البنت المدفونة حية سئلت تبكيتا لمن دفنها في القبر وهي حية (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) ، أي هي وذلك كأن قيل

٦٠٦

للموءودة إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم ، فما ذنبك أيتها البنت ، فكان جوابها : إني قتلت بغير ذنب ، فيفتضح القاتل. وقرئ «قتلت» بكسر التاء للمخاطبة مع قراءة «سئلت» بقراءة الجمهور. وقرئ «سألت» بالبناء للفاعل ، أي خاصمت أباها ، أو سألت الله تعالى. وهذه القراءة مع قراءة «قتلت» بضم التاء للمتكلم ، وبسكونها على التأنيث فالقراءات الشاذة ثلاثة ، (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (١٠) أي وإذا صحف الأعمال فرقت بين أصحابها عند الحساب ، وتطايرت في الأكف.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين. والباقون بتشديدها ، (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) (١١) أي أزيلت عما فوقها ، وهي الجنة وعرش الله. وقرأ ابن مسعود «قشطت» ، (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (١٢) أي أوقدت إيقادا شديدا. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين. والباقون بتخفيفها (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (١٣) ، أي قربت من المتقين.

وقال عبد الله بن زيد : أي زينت (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤) أي ما قدمت من خير أو شر فإن الأعمال لما عملتها النفس فكأنها أحضرتها في الموقف ، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١٦) «لا» زائدة ، أي فأقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله التي تجري مع الشمس والقمر التي تختفي تحت ضوء الشمس. وهي هذه الأنجم الخمسة : بهرام ، وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري ، ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (١٧) ، أي ذهب ، (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) أي أضاء (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩) أي إن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ، ولا ظن ، ولا افتعال ، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى أو أن القرآن لقول جبريل نزل به إلى محمد من جهة الله تعالى ، فهو رسول الله إلى الأنبياء ، وهو كريم لأنه يعطي أفضل العطايا وهو الهداية (ذِي قُوَّةٍ) أي شدة.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل : «ذكر الله قوتك فماذا بلغت؟» قال : رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذ سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها. وذكر مقاتل أن الأبيض ـ وهو شيطان ـ قصد أن يفتن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعه جبريل دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند ، (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (٢٠) أي ذي جاه عند الله تعالى ، فإنه يعطي ما يسأل ، وهذه العندية عندية إكرام وتشريف ، لا عندية مكان وجهة ، (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السموات فتطيعه الملائكة ، فإنهم يصدرون عن أمره ، ويرجعون إلى رأيه (أَمِينٍ) (٢١) على وحي الله ورسالته ، قد عصمه الله من الخيانة والزلل ، (وَما صاحِبُكُمْ) أي نبيكم محمد يا معشر قريش (بِمَجْنُونٍ) (٢٢) ، كما زعمتم. والمقصود : من عدّ فضائل جبريل واقتصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفي الجنون ردّ قول الكفرة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما يعلمه بشر افترى على الله كذبا ، أم به جنة لا الموازنة بينهما ولا تفضيل جبريل على النبي ، ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا

٦٠٧

المقام ادماج لتعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ من علو المنزلة عند الله تعالى بجعل السفير بينه وبينه تعالى ، مثل هذا الملك المقرب ، فهذه الصفات التي لجبريل رفع منزلة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) أي وبالله لقد رأى رسول الله جبريل عليهما الصلاة والسلام بمطلع الشمس الأعلى على صورته التي خلق عليها ، (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة أي وما محمد بمتهم في القرآن ، بل هو ثقة فيما يؤدى عن الله تعالى. وقرأ الباقون بالضاد أي وما محمد ببخيل بالقرآن ، بل يخبر بما في القرآن من أخبار الغيب ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا ، (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) أي وما القرآن بقول مسترق للسمع اسمه مرمى ، فيلقيه على محمد ، وهذا نفي لقول أهل مكة ، إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسان محمد وأنه كهانة وسحر ، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) أي فمن أيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن أمن نسبته للجنون أو الكهانة ، أو السحر ، أو الشعر ، وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أين تذهب؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٢٧) ، أي ما القرآن إلا عظة للإنس والجن ، (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب ، فإن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ، أي إلا أن يشاء الله أن يعطيه تلك المشيئة ، ففعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة ، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة ، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله.

٦٠٨

سورة الانفطار

مكية ، تسع عشرة آية ، ثمانون كلمة ، ثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) أي انشقت لنزول الملائكة ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) أي تساقطت متفرقة على وجه الأرض ، (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٣) أي فتح بعضها إلى بعض ، فاختلط العذب بالأجاج ، وصارت البحار بحرا واحدا.

وقرأ مجاهد «فجرت» على البناء للفاعل والتخفيف ، أي تجاوز بعضها إلى بعض. وقرأ مجاهد أيضا ، والربيع بن خثيم ، والزعفراني والثوري «فجرت» مبنيا للمفعول ومخففا ، أي غير بعضها ببعض لزوال البرزخ ، (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٤) أي قلب أسفلها أعلاها وأخرج ما فيها من الموتى أحياء (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) أي أدت من طاعة ، (وَأَخَّرَتْ) (٥) أي ضيعت ، وذلك عند نشر الصحف. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦) أي ما الذي خدعك وسوّل لك الباطل ، حتى تركت الواجبات ، وأتيت بالمحرمات.

وقرأ سعيد بن جبير والأعمش «ما أغرّك» رباعيا ، فاحتمل أن تكون «ما» استفهامية ، وأن تكون تعجبية ، أي أيّ شيء جعلك آمنا من عقاب ربك ، أو شيء عظيم يتعجب منه أدخلك في غرة ، أي أمن من العذاب؟ (الَّذِي خَلَقَكَ) نسمة من نطفة (فَسَوَّاكَ) أي جعلك سالم الأعضاء مهيأة لمنافعها (فَعَدَلَكَ) (٧).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت ـ كما قاله أبو علي الفارسي ـ أو فصرفك إلى أي صورة شاء. وقرأ الباقون بالتشديد أي صيّرك متناسب الأعضاء ، فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع.

وقال عطاء عن ابن عباس : أي جعلك معتدل القامة حسن الصورة ، لا كالبهيمة المنحنية (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) و «ما» زائدة ، و «شاء» صفة لـ «صورة» ، و «ركبك» بيان لقوله تعالى : (فَعَدَلَكَ) أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح ، وطول ، وقصر ، وذكورة ، وأنوثة (كَلَّا) ، أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله ، وإنكم لا ترتدعون عن ذلك ، (بَلْ

٦٠٩

تُكَذِّبُونَ) يا معشر قريش (بِالدِّينِ) (٩) ، أي بالجزاء على الأعمال ، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (١٠) حال من فاعل تكذبون ، أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم ، (كِراماً) عندنا (كاتِبِينَ) (١١) لهذه الأعمال في الصحف ، كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التقويم ، (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) من الأفعال ، قليلا وكثيرا ، ويضبطونه نقيرا وقطميرا لتجازوا بذلك ، (إِنَّ الْأَبْرارَ) أي الصادقين في إيمانهم (لَفِي نَعِيمٍ) (١٣) ، أي لفي جنة دائم نعيمها ، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) أي الكافرين المكذبين بيوم الدين (لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) أي في نار عظيمة ، (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (يَوْمَ الدِّينِ) (١٥) أي يوم الحساب ، (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١٦) طرفة عين حتى قبل الدخول فيها فإنهم يجدون سمومها في قبورهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (١). (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٨) أي أيّ شيء عجيب هو في الهول والفظاعة جعلك داريا يوم الدين ، و «ما» الاستفهامية خبر لـ «يوم الدين» ، فإن مدار الإفادة هو الخبر ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» وقرأ أبو عمرو في رواية «يوم» مرفوعا منونا على جعل الجملة بعده نعتا له ، والعائد محذوف أي لا تملك فيه. وقرأ الباقون يوم بالفتح ، وهي إما فتحة إعراب بإضمار اذكر ، أو فتحة بناء وإنما بني لإضافته للفعل ، وإن كان معربا على رأي الكوفيين ويكون خبرا لمبتدأ مضمر.

وقال أبو علي : إن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا فاترك على حالة الأكثرية ، ومما يقوى النصب قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) [القارعة : ٢ ، ٣] وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٢ ، ١٣].

قال الواحدي : والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا ، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩).

قال الواسطي : قوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) إشارة إلى فناء غير الله تعالى وهناك تذهب الرسالات والكلمات. وقوله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) إشارة إلى أن البقاء لله والأمر كذلك في الأزل ، وفي اليوم وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر لا إلى أحوال المنظور إليه ، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٢٥) ، بما معناه.

٦١٠

سورة التطفيف

وتسمى سورة المطففين ، نزلت بين مكة والمدينة في مهاجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فاستتمت بالمدينة ،

هي ست وثلاثون آية ، مائة وتسع وتسعون كلمة ، سبعمائة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) أي شدة العذاب للناقصين في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة ، وكان أهلها من أخبث الناس كيلا ، فنزلت هذه الآية ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

قال الفراء : فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا ، وقال قوم : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة واسمه عمرو كان له صاعان ، يأخذ بواحد ويعطي بآخر فنزلت : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (٢) أي إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه ، يأخذونه وافيا وافرا حسب ما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل ، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال ، والاحتيال في ملئه. (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) ، أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم للبيع ونحوه ينقصون في الكيل والوزن. ويروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدا لما في كالوا ووزنوا ، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا ، أي إذا كالوا هم لغيرهم ، أو وزنوا هم لغيرهم ينقصون ، وإثبات الألف قبل هم لو لم يكن معتادا في زمان الصحابة لمنع من إثباتها في سائر الأعصار ، (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) أي ألا يوقن أولئك المطففون بالكيل والوزن (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (٤) (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥) أي شديد هوله ، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) ، أي لحكمه.

روي عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وقرئ «يوم» بالنصب والجر ، فالنصب منصوب بقوله تعالى : (مَبْعُوثُونَ) ، أو بإضمار أعني والجر بدل من «يوم عظيم» ، أو هو حالة النصب مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين ، فهو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر ، أو مجرور المحل بدلا من «يوم

٦١١

عظيم» ويؤيده القراءة بالرفع والجر (كَلَّا) أي ارتدعوا عن التطفيف والغفلة عن ذكر البعث ، وعلى هذا المعنى يوقف على «كلا» أو «كلا» بمعنى حقا فلا يوقف عليه ، وكذا جميع ما يأتي من «كلا» في هذه السورة (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٧) ، أي إن كتابة أعمال الكفار لفي سجين ، وهو موضع في الأرض السابعة السفلى ، (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) (٨) وهذا تعظيم لأمر سجين ، (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩) أي إن كتاب الفجار كتاب معلم فيعلم من رآه أنه لا خير فيه ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١١) أي الجزاء ، (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) أي بذلك اليوم (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي متجاوز عن المنهج الحق ، (أَثِيمٍ) (١٢) أي مبالغ في ارتكاب الإثم (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) ، أي هذه إخبار الأولين فإن محمدا أخذ عنهم لا من الله تعالى فينكر النبوة ، (كَلَّا) أي حقا (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) أي ليس الأمر كما يقوله الكافر من أن ذلك أساطير الأولين ، بل غطى على قلوبهم أفعالهم الماضية من الكفر والمعاصي قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه» (١). (كَلَّا) أي حقا يا محمد (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) أي إن المكذبين بيوم الدين لممنوعون يوم القيامة عن النظر إلى ربهم ، والمؤمنون لا يحجبون عن النظر إلى ربهم ، (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) (١٦) أي لداخلو النار العظيمة ، (ثُمَ) إذا دخلوها (يُقالُ) لهم من جهة الزبانية (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧) أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، والآن قد عاينتموه فذوقوه ، (كَلَّا) أي لا تكذبوا البعث وكتاب الله أو حقا ، (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨) أي إن كتابة أعمال الصادقين في إيمانهم لفي عليين ، (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) (١٩) وهذا تنبيه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه معلوم له ، (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٢٠) أي إن كتاب أعمالهم موضوع في عليين مكتوب في لوح من زبرجد أخضر ، معلق تحت عرش الرحمن ، (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١) أي يشهد الملائكة المقربون ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين كرامة للمؤمنين ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه ، (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٢٢) أي في جنة دائم نعيمها (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرة في الحجال ، (يَنْظُرُونَ) (٢٣) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من أنواع النعيم والعذاب للكفار ، (تَعْرِفُ) يا من يتأتى منك المعرفة (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) أي بهجة التنعم ورونقه من النور والضحك.

وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق ، وشيبة ، وطلحة ، ويعقوب ، والزعفراني تعرف مبنيا للمفعول ورفع نضرة وعلي بن زيد كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء التحتية ، (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي شراب خالص (مَخْتُومٍ) (٢٥) ، أي يختم رأس قارورة ذلك الرحيق أوله ختام أي عاقبة

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : مثل الدنيا ، ومسلم في كتاب الزهد ، باب : ١ ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٩٧).

٦١٢

(خِتامُهُ مِسْكٌ) أي الذي يختم به رأس الإناء هو المسك ، أو عاقبته المسك أي يختم له برائحة المسك. وقرأ الكسائي «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف. وروي عنه أيضا كسر التاء ، والمعنى : خاتم رائحة ذلك الشراب مسك ، (وَفِي ذلِكَ) أي الرحيق (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى ، (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) (٢٧) أي وما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. سميت هذه العين بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) ، وهم أفضل أهل الجنة ، كما أن التسنيم هو أفضل أنهار الجنة.

قال ابن عباس : أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم ، لأنه يشربه المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين ، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢٩) أي إن أكابر المشركين كأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهمي ، كانوا يضحكون من أجل فقراء المؤمنين كعمار ، وصهيب ، وبلال ، وخباب ، (وَإِذا مَرُّوا) أي فقراء المؤمنين يأتون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِهِمْ) ، أي بالمشركين وهم في أنديتهم (يَتَغامَزُونَ) (٣٠) ، أي يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ، ويعيبونهم ويقولون : انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها ، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه. قيل : جاء علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا ، وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١) أي وإذا رجع الكفار من مجالسهم إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الشرك والتنعم بالدنيا ، أو ملتذين بذكر المسلمين بالسوء. وقرأ عاصم في رواية حفص عنه «فكهين» بغير ألف في هذا الموضع وحده والباقون بالألف ، (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) (٣٣) أي وإذا رأى المجرمون المؤمنين أينما كانوا قالوا : إن هؤلاء المؤمنين على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا؟ والحال أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم ، (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣٤) أي فيوم القيامة يضحك المؤمنون على الكفار حين يرونهم مغلولين أذلاء (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٣٥) ، وهذا حال من فاعل «يضحكون» ، أي يضحك المؤمنون على الكفار ناظرين حال كونهم على سرر الحجال إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر ، (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)؟ وهذا على سبيل التهكم ، والمعنى : كأنه تعالى يقول للمؤمنين : هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بشريعتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائدا في سرورهم.

٦١٣

سورة الانشقاق

مكية ، خمس وعشرون آية ، مائة وتسع كلمات ، سبعمائة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) من المجرة بالغمام ، والمجرة : هي البياض المعترض في السماء (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي انقادت لتأثير قدرته ، (وَحُقَّتْ) (٢) أي وهي حقيقة بأن تنقاد ، (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (٣) مد الأديم العكاظي وزيدت في سعتها ، (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز ، (وَتَخَلَّتْ) (٤) أي وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في باطنها شيء ، (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي انقادت له في الإلقاء والتخلي ، (وَحُقَّتْ) (٥) أي وهي حقيقة بذلك وقوله تعالى : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) يدل على نفوذ القدرة في شق السماء وبسط الأرض ، وإخلاء ما فيها من غير ممانعة أصلا ، وجواب «إذا» محذوف تقديره : علمت نفس عملها ، أو ليذهب الوهم إلى كل شيء ، وإن جعلت غير شرطية فهو منصوب باذكر مقدرا. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) أي يا ابن آدم إنك متعب النفس في العمل في دنياك تعبا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة فملاق ذلك العمل خيرا كان أو شرا في الكتاب الذي فيه بيانه ، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٩) أي فأما من أعطى كتاب عمله الذي كتبه الملائكة بيمينه من أمامه ، فسوف يحاسب حسابا هينا ، وهو العرض ويرجع إلى عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا : هاؤم اقرؤا كتابي. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) (١١) أي وأما من أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره فسوف يتمنى الهلاك ويناديه بقوله : يا ثبوراه تعال وهذا أوانك (وَيَصْلى سَعِيراً) (١٢) ، أي ويدخل نارا وقودا. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. وقيل : قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بضم الياء وسكون الصاد. والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أي فيما بين عشيرته في الدنيا (مَسْرُوراً) (١٣) بما هو عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن بالله وصدق بالحساب. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١). (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) (١٤) أي إنه ظن أنه لن يرجع في الآخرة إلى خلاف ما

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد ، باب : ٧٣.

٦١٤

هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم (بَلى) إن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا يزول ، (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥) أي إن ربه كان عالما بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يهمله بأن لا يعاقبه على سوء أعماله. وقيل : نزلت هاتان الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأسد وأخيه الأسود ، (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) (١٦) وهو حمرة المغرب بعد غروب الشمس ، وهي الأثر الباقي في الأفق من الشمس والفاء في جواب شرط مقدر ، و «لا» زائدة أو نفي وهو رد لكلام قبل القسم ، أي إذا عرفت هذا فلا تظن عدم الرجوع إلى الله في الآخرة ، (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) (١٧) أي جمع فإذا ستر الليل بظلمته الجبال والبحار والأشجار والحيوانات فقد جمعها وحملها ، (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (١٨) أي تكامل وذلك في ثلاث ليال : ليلة ثلاثة عشر ، وليلة أربعة عشر ، وليلة خمسة عشر. (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) أي لتحولن يا أيها الإنسان حالا بعد حال ، وذلك من حين خلقهم الله إلى أن يموتوا ومن حين موتهم إلى أن يدخلوا الجنة ، أو النار.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان في «يا أيها الإنسان». والمعنى : كخطاب الجنس في قراءة العامة أو على خطاب الرسول ، والمعنى : لتصعدن يا أشرف الرسل طبقا مجاوزا لطبق في ليلة المعراج أي من سماء إلى سماء ، أو لتركبن حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة. وقرئ بكسر الباء على خطاب النفس ، أي لتركبن أيها النفس طريقة أمة من الناس بعد أمة. وقرئ «ليركبن» بالياء على المغايبة ، وفتح الباء ، أي ليركبن هذا المكذب بيوم الدين حالا بعد حال من حين يموت إلى أن يدخل النار ، (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) أي إذا كان حالهم كما ذكر فأي شيء ثبت لكفار مكة حال كونهم غير مؤمنين ويقال : فأيّ شيء لبني عبد ياليل الثقفي يمنعهم من الإيمان ، وكانوا ثلاثة مسعود ، وحبيب ، وربيعة. فأسلم منهم بعد ذلك حبيب وربيعة. (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٢١) أي لا يخضعون بأن يؤمنوا به ، ولا يسجدون لتلاوته عند آيات مخصوصة.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ ذات يوم (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩]. فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر ، فنزلت هذه الآية ، واحتج أبو حنيفة بهذه على وجوب السجدة. وعن الحسن هي غير واجبة ، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) (٢٢) بالقرآن الناطق بأحوال القيامة ، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته إما للحسد وإما لتقليد الأسلاف ، وإما لخوف فوت مناصب الدنيا ومنافعها ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) (٢٣) أي بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب ، فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة ، (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أخبر يا أشرف الخلق من لا يؤمن بعذاب مؤلم إلا من تاب منهم (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥) ، أي غير منقوص ، ولا مكدر ولا مقطوع ويقال : غير منقوص حسناتهم بعد الهرم والموت.

٦١٥

سورة البروج

مكية ، ثنتان وعشرون آية ، مائة وتسع كلمات ، أربعمائة وثمانية وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) أي ذات المحال الاثني عشر ، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (٢) ، وهو يوم القيامة فإن الله تعالى وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه ، (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (٣) فالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق ، والمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب. (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (٤) وهذا دليل جواب قسم محذوف ، والتقدير : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وقيل : إن الجواب قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢]. والأخدود شق مستطيل في الأرض كالنهر ، وذكر أن طوله أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا. وأصحاب الأخدود هم أناس كانوا بمدارع اليمن كما قاله قتادة عن علي ، أو هم الحبشة كما قاله الحسن عن علي أيضا. (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) (٥) من النفط ، والزفت ، والحطب.

وقرئ بضم الواو بمعنى الاتقاد وقوله : «النار» بدل اشتمال من الأخدود ، ثم إن أصحاب الأخدود إما الجبابرة الذين قتلوا المؤمنين ، فحينئذ إن قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) إما خبر فالمعنى : أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على القول بأن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم فهم في تلك الحالة كانوا ملعونين ، فالمعنى : أنهم خسروا الدنيا والآخرة ، أو دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ، وإما المؤمنون المقتولون بالإحراق بالنار. فيكون قوله تعالى : لعن أصحاب الأخدود خبرا لا دعاء. (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) (٦) ظرف لـ «قتل» أي لعنوا حين كانوا جالسين على شفير النار يعذبون المؤمنين ، فإن النار ارتفعت إليهم فهلكوا ، أو يقال لعنوا إذ المؤمنون مطرحون على النار ، (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) (٧) أي وهؤلاء الكفار مع ما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حضور لم تحصل في قلوبهم ، شفقة ولا رأفة لغاية قسوة قلوبهم والوقف هنا تام إن جعل جواب القسم (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) بتقدير لقد وجائزا لطول الكلام إن جعل جواب القسم (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢].

روى مسلم عن صهيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان الملك فيمن قبلكم ساحر فلما كبر قال

٦١٦

للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما ليعلمه ، وكان في سلوك طريقه راهب فسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه فشكى ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتل هذه الحية بواسطة رمي الحجر إليها ، ثم رمى الحجر فقتلها ، ومضى الناس فاشتغل بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : هذا لك إن شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحد إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله تعالى ، فأتى الملك فجلس كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي قال : أولك رب غيري؟ قال : ربي وربك الله ، فغضب فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فأحضر الراهب ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى فقد بالمنشار من مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك ، فقال له :ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فقال لأصحابه : اذهبوا به فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فاطرحوه إن لم يرجع عن دينه ، فذهبوا به وصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل ، فسقطوا وهلكوا ونجا ومشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ، فقال : كفانيهم الله ، فقال لأصحابه اذهبوا به إلى البحر فاحملوه في قرقورة (١) فتوسطوا به البحر فاقذفوه إن لم يرجع عن دينه ، فذهبوا به فلججوا به ليغرقوه فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ومشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك فقال : كفانيهم الله ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ، وتقول : باسم الله رب هذا الغلام ، ثم ترميني به ففعل الملك ذلك فرماه بالسهم فوقع في صدغه فوضع يده عليه ، ومات ، فقال الناس آمنا برب هذا الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذره ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه ، اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» (٢). وعن ابن عباس قال : كان بنجران بلد باليمن ملك من ملوك

__________________

(١) القرقورة : وهي السبغة الطويلة [القاموس المحيط ، مادة : قرقر].

(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الصيام ، باب : صيام العشر ، وأحمد في (م ١ / ص ١٥٦).

٦١٧

حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرجيل في الفترة قبل أن يولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه ، فجعل يتردد إلى المعلم ، وكان في طريقه راهب حسن الصوت ، فأعجبه ذلك ، فقعد إليه ، وسمع كلامه ذاهبا ، وراجعا فدعا الناس إلى دين عيسى عليه‌السلام ، فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيره بين النار واليهودية ، فأبى إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول ، قال : فكيف أقتلك؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي ، ففعل الملك ، فقتله ، فقال الناس : لا إله إلا إله عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وجعله أخدودا وملأه نارا فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه ، وكان في مملكته امرأة فأسلمت ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها : ارجعي فأبت ، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت أخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها : ارجعي فأبت ، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي : يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ، ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار وألقيت أمه عقبه. وعن وهب بن منبه : أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد ، ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا واقتحم البحر بفرسه ، فغرق. وقال محمد ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر : إن خربة احترقت في زمن عمر ، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها أنبعت دما وإذا تركت رجعت إلى مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله فبلغ ذلك عمر ، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.

وروي عن علي أنه قال : حين اختلفوا في أحكام المجوس : هم أهل كتاب ، وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم ، فسكر ، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول يا أيها الناس إن الله تعالى قد أحل لكم نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن الله قد حرمه ، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك ، فقالت : أبسط فيهم السوط ، ففعل فلم يقبلوا ، فقالت : أبسط فيهم السيف ففعل ، فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ)، (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) أي وما عابوا من المؤمنين إلا إيمانهم (بِاللهِ الْعَزِيزِ) أي القادر الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يدفع (الْحَمِيدِ) (٨) أي الذي يستحق الثناء على ألسنة عباده المؤمنين (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وخزائن المطر ، والنبات (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٩) وهذا وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إن الذين أحرقوهم بالنار كما قاله

٦١٨

ابن عباس ، ومقاتل أو أن الذين محنوهم في دينهم بالأذية والتعذيب ليرجعوا عنه ، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) عن كفرهم وفتنتهم (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) (١٠) أي فلهم في الآخرة عذاب بسبب كفرهم ، وعذاب زائد على عذاب الكفر بسبب إحراق المؤمنين بالنار ، أو عذاب برد ، وعذاب إحراق ، أو فلهم في الآخرة عذاب جهنم ، وفي الدنيا عذاب الحريق حيث ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها ، وكان هؤلاء قوما من نجران ، وقيل : من أهل الموصل ، وكان ملكهم يسمى يوسف ، ويقال له ذو نواس (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من المفتونين وغيرهم (لَهُمْ) بسبب الإيمان والعمل الصالح (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يتلذذون ببردها ويزول عنهم برؤية ذلك مع رؤية الأشجار جميع الأحزان والمضار (ذلِكَ) أي حيازتهم للجنات (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (١١) وهو رضا الله تعالى (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أي أن أخذه بالعذاب لمن لا يؤمن به (لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (١٣) أي أنه تعالى يخلق خلقه ، ثم يفنيهم ، ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة ، فذلك الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال ومن كان قادرا على الإيجاد والإعادة كان بطشه في غاية الشدة ، (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب من الكفر (الْوَدُودُ) (١٤) أي المحب لمن أطاع. (ذُو الْعَرْشِ) أي خالقه ومالكه.

وقرئ «ذي العرش» على أنه صفة لربك. (الْمَجِيدُ) (١٥) قرأ حمزة ، والكسائي بالجر على أنه صفة للعرش أو لربك ، والباقون بالرفع على أنه خبر بعد خبر. قال العلماء : إن مجد الله عظمته بحسب الجود الذاتي ، وكمال القدرة ، والعلم ، والحكمة ، ومجد العرش : علوه في الجهة ، وعظمة مقداره ، وحسن صورته ، وتركيبه. (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦) يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء ، ومن غيرها ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض ، ولا يغلبه غالب. قال الرازي : «فعال» خبر مبتدأ محذوف وقال الطبري : رفع «فعال» وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود». (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (١٨) أي قد أتاك يا أشرف الرسل خبر الجموع فرعون وقومه ، وثمود ، وعرفت ما فعلوا من الكفر والضلال ، وما فعل بهم من العذاب ، والنكال ، فأنذر قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ، «وفرعون» ، «وثمود» بدل من «الجنود» فذكر الله تعالى من المتقدمين ثمود ومن المتأخرين فرعون لأن ثمود كانوا في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة ، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم فدل بهما على أمثالهما (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٢٠) أي ليست جناية قومك مجرد عدم الاتعاظ بما سمعوا من حديث أولئك ، بل هم مع ذلك في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك في أنه قرآن من عند الله تعالى مع ظهور حاله بالبينات الباهرة ، والحال أن الله تعالى قادر على

٦١٩

إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم بالقرآن والنبوة وهم في قبضته تعالى كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهربا ، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) أي ليس الأمر كما قالوا ، بل هذا القرآن الذي يقرؤه محمد كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى مكتوب في لوح محفوظ من وصول الشياطين إليه ، ومن التحريف.

وقرأ نافع «محفوظ» بالرفع على أنه نعت لـ «قرآن» ، والباقون بالجر على أنه نعت لـ «لوح» ، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد ، وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن السميقع «في لوح» بضم اللام وهو الهواء الذي فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح بفتح اللام ، وهو عن يمين العرش مكتوب في صدره لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله ، وصدق بوعده ، واتبع رسله أدخله جنته ، وكونه محفوظا إما محفوظ عن أن يمسه إلا المطهرون ، أو عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ، أو عن أن يجري عليه تغيير وتبديل ، فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به.

٦٢٠