مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

وحكى الواحدي عن المفسرين أن خزنة النار تسعة عشر مالك ومعه ثمانية عشر ، أعينهم كالبرق ، وأنيابهم كالصياصي ، وأشعارهم تمس أقدامهم ، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت منه الرحمة والرأفة ، يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه ، ويرميهم حيث أراد من جهنم ، وحكمة هذا العدد أن أبواب جهنم سبعة ، فستة منها للكفار ، وواحد للفساق ، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، والمجموع ثمانية عشر ، وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول بل بسبب ترك العمل فقط ، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة ، فالمجموع تسعة عشر. ويقال : إن الساعات أربعة وعشرون وخمسة منها مشغولة بالصلوات الخمسة ، فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فحقا صار عدد الزبانية تسعة عشر ، (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أي القائمين بتعذيب أهل النار ، (إِلَّا مَلائِكَةً) فلا تقاس الملائكة بالسجانين.

روي أنه لما نزل قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ، قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم. قال ابن أبي كبشة : إن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فنزلت وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم فتغالبونهم ، (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فإنهم يقولون : هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام القيامة ، (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لأن هذا العدد موجود في التوراة والإنجيل ، فلما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وفق ذلك من غير سابقة تعلم ، علموا أن ذلك حصل بسبب الوحي من السماء ، فالذين آمنوا بمحمد استيقنوا أن ذلك العدد هو الصدق. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) بما رأوا من تصديق أهل الكتاب ذلك ، وعلموا أن في كتابنا مثل ما في التوراة ، (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، إذ لم يكن العدد خلاف ما في كتابهم ، (وَالْمُؤْمِنُونَ) لانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل ، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، أي شك في صدق القرآن (وَالْكافِرُونَ) القاطعون بكذبه : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي أيّ شيء أراد الله بهذا العدد القليل حال كونه عددا عجيبا (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء بهذا المثل إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي إن الخزنة تسعة عشر ولهم جنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، خلقوا لتعذيب أهل النار (وَما هِيَ) أي سقر (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١) ، أي إلا عظة للخلق ليتذكروا كمال قدرة الله تعالى وأنه لا يحتاج إلى أعوان. (كَلَّا) أي حقا أو تنبهوا إلى ما سيلقى إليكم. (وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٣٣).

٥٨١

قرأ نافع وحفص وحمزة بسكون الذال المعجمة ، والدال المهملة ، وبينهما همزة مفتوحة ، أي وقت ذهب. والباقون بفتح الذال المعجمة والدال بينهما ألف. أي إذا جاء. (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٣٤) أي أضاء. وقرأ عيسى بن الفضل ، وابن السميقع سفر ثلاثيا ، أي طرح الظلمة (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) (٣٥) أي إن سقر لإحدى دركات جهنم (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٣٦) تمييز من «إحدى» أي إنها لإحدى الدواهي انذارا للبشر وفي قراءة أبي نذير بالرفع (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣٧) وقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ) بدل من قوله تعالى : (لِلْبَشَرِ) أي نذير لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير فيهديه الله تعالى ، أو يتأخر عن خير فيضله الله ، (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) أي كل نفس مرهونة عند الله بكسبها غير مفكوكة ، (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) فإنهم فأكون رقابهم بأعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق ، (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١) أي يسأل أصحاب اليمين حال كونهم في جنات الكافرين عن أحوالهم حال كونهم في النار قائلين ، (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) أي أيّ شيء أدخلكم في هذه الدركة من النار ، (قالُوا) مجيبين للسائلين : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٤٣) الصلوات الواجبة (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٤٤) أي لم نك نعطي المسكين ما يجب علينا إعطاؤه له كنذر وكفارة وزكاة ، (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) (٤٥) أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه ، (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤٦) أي بيوم الجزاء (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٤٧) ، أي الموت ، أي إنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) أي لا تنالهم شفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين ، (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) ، أي فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (٥٠).

قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء ، أي مذعورة ذعرها القناص. والباقون بكسرها أي نافرة من صوت الناس ، أو من ظلمة الليل (فَرَّتْ) أي الحمر (مِنْ قَسْوَرَةٍ) (٥١) أي أسد سمي بذلك لأنه يقهر السباع ، (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٥٢) أي طرية لم تطو بأن تأتيهم وقت كتابتها ، فإن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين ، إلا فلان ابن فلان ونؤمر فيه باتباعك. وعن ابن عباس كانوا يقولون : إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته من النار ، (كَلَّا) أي لا يؤتون الصحف فلا تقترحوا ذلك ، (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) (٥٣) في زمن من الأزمان ، فلذلك يعرضون عن التذكرة (كَلَّا) أي حقا (إِنَّهُ) أي القرآن ، (تَذْكِرَةٌ) (٥٤) أي عظمة عظيمة من الله توجب اتباعه ، (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٥٥) أي فمن شاء أن يتعظ بالقرآن اتعظ به وجعله نصب عينيه ، (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي ولا يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن يشاء الله ذلك. وقرأ نافع بتاء الخطاب. وقرئ بالياء والتاء مشددا (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦) أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ، ويطيعوه وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.

٥٨٢

سورة القيامة

مكية ، تسع وثلاثون آية ، مائة وسبع وتسعون كلمة ، ستمائة واثنان وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٢) أي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا والآخرة ، فإذا اجتهدت في الطاعة تلوم نفسها على عدم الزيادة ، وإذا قصرت تلوم نفسها على التقصير والمعنى : لا أقسم عليك بذلك اليوم ولا بتلك النفس ، ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت ، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وذلك قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أي المكذب بالبعث ، (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) أي أن الحديث لن نقدر على أن نجمع عظامه بعد تفريقها. وقرأ قتادة «أن لن تجمع عظامه» على البناء للمفعول.

روي أن عدي بن أبي ربيعة ـ ختن الأخنس بن شريق ـ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره ، فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ، ولم أومن بك ، أو يجمع الله العظام بعد صيرورتها ترابا ، فنزلت هذه الآية.

وقال ابن عباس : المراد بالإنسان هاهنا أبو جهل فإنه أنكر البعث بعد الموت. قال تعالى في جوابه : (بَلى) فهذه الكلمة أثبتت ما بعد النفي ـ وهو الجمع ـ أي بلى نجمعها والوقف هنا تام. وقال أبو عمرو : كاف (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) أي كنا قادرين أن نخلق أطراف أصابعه في الابتداء ، فوجب أن نبقى قادرين على الإعادة في الانتهاء. وقرأ ابن أبي عبلة «قادرون» بالرفع ، أي ونحن قادرون. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) (٥) أي بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة ، وهو أمامه فمن كذب حقا كان فاجرا ، (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٦) أي يسأل الإنسان سؤال متعنت ومستبعد متى يوم القيامة ، (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) (٧).

قرأ نافع بفتح الراء أي شخص البصر عند معاينة أسباب الموت والملائكة. والباقون بالكسر أي تحير البصر فزعا فلم يطرف. وقرأ أبو السمال «بلق» بمعنى انفتح ، (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (٨) أي ذهب ضوءه. وقرئ و «خسف القمر» على البناء للمفعول ، أي ذهب بنفسه ،

٥٨٣

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٩) بأن يطلعهما الله تعالى من المغرب ، (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكرللقيامة (يَوْمَئِذٍ) أي إذا عاين هذه الأحوال : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) (١٠) أي أين الفرار من النار ، وقرئ بكسر الفاء ، أي أين موضع الفرار؟ (كَلَّا) أي حقا أو لا تتمن الفرار ، (لا وَزَرَ) (١١) أي لا ملجأ ، أي فلا جبل يواريه من النار (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١٢) ، أي موضع قرارهم يوم إذ كانت هذه الأمور مفوضة إلى مشيئته تعالى ، فإنه تعالى يدخل من يشاء الجنة ، ومن يشاء النار ، (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١٣) أي يخبر كل امرئ عند وزن الأعمال بما عمل وبما ترك من عمل خيرا كان ، أو شرا (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤) ، أي بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله ، شاهد على نفسه ، لأن جوارحه تنطق بذلك ، (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥) أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه ، فإنه لا ينفعه ذلك ، لأنه شاهد على نفسه (لا تُحَرِّكْ بِهِ) أي بالقرآن (لِسانَكَ) قبل فراغ جبريل من قراءته عليك (لِتَعْجَلَ بِهِ) (١٦) ، أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك (وَقُرْآنَهُ) (١٧) أي إثبات قراءته في لسانك ، (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي أتممنا قراءته ، عليك بلسان جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١٨) أي فاقرأ أنت بعد فراغنا من قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراء جبريل ، فإذا سكت جبريل فاشرع أنت في القراءة ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) أي بيان ما أشكل عليك من معاليه وأحكامه على سبيل التفضل ، (كَلَّا) أي لا تعجل يا أشرف الخلق وكن على أناة (بَلْ) أنتم يا بني آدم ، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ، ولذلك (تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) (٢٠) أي الدنيا ، (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة ، أي إنهم يحبون العمل للدنيا ويتركون العمل لثواب الآخرة ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) فـ «وجوه» مبتدأ و «ناضرة» نعت له ، ويومئذ منصوب بـ «ناضرة» و «ناظرة» خبره ، و «إلى ربها» متعلق بالخبر والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة وهي وجوه المؤمنين ناظرة إلى الله تعالى لا يحجبون عنه ، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥) أي ووجوه شديدة العبوس يوم القيامة وهي وجوه الكفرة ، توقن أن يفعل بها أنواع العذاب في النار ، (كَلَّا) أي تنبهوا لما أمامكم من الموت الذي ينقطع عنده المحبة بينكم وبين الدنيا ، (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠) أي إذا بلغت الروح أعالي الصدر ، وهي العظام المكتنفة بثغرة النحر عن يمين وشمال ، وقال : من حول المشرف على الموت على سبيل الطلب ، أو على سبيل الإنكار من ينجيه مما هو فيه ، وهل من طبيب فيداويه أو قال ملك الموت للملائكة : أيكم يرقى بروحه إلى السماء؟ وأيقن ذلك المحتضر أن ما نزل به فراق الدنيا واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ، فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا ويساق في ذلك اليوم إلى حكم الله تعالى إذ إليه مرجع الخلائق ، (فَلا صَدَّقَ) وهو معطوف على قوله تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ).

٥٨٤

قال مجاهد وغيره : نزلت هذه الآيات في أبي جهل ، أي فهو ما صدق بالدين ، (وَلا صَلَّى) (٣١) أي ما صلى أبو جهل صلاة شرعية ، (وَلكِنْ كَذَّبَ) ما يجب تصديقه من الرسول والقرآن ، (وَتَوَلَّى) (٣٢) أي أعرض عن الطاعة ، (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣) أي يتمدد ويختال في مشيته ، لأن المتبختر يمد خطاه ، فاستقبله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذه ، فهزه هزة أو هزتين وقال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٤) ، أي ويل لك يا أبا جهل وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه ، (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) ، أي وعيدا لك يا أبا جهل ، احذر يا أبا جهل فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه.

وقال القاضي : المعنى : بعدا لك ، بعدا لك ، أي بعدا في أمر دنياك ، وبعدا في أمر أخراك.

قال قتادة ومقاتل : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد أبي جهل بالبطحاء وقال له : «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» (١). فقال أبو جهل بأيّ شيء تهددني يا محمد؟ فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني والله لأعز أهل هذا الوادي ، وأعز من مشى بين جبليها. ثم انسل ذاهبا. فأنزل الله تعالى مثل ذلك : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٣٦) أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ، ولا يحاسب بعمله في الآخرة ، (أَلَمْ يَكُ) أي الإنسان (نُطْفَةً) أي ماء قليلا في صلب الرجل ، وترائب المرأة (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٣٧) أي يصب في الرحم ، (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) أي ثم صار المني دما عبيطا بقدرة الله تعالى ، (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) ، أي فنفخ الله في ذلك الإنسان الروح فكمل أعضاءه. وهذا قول ابن عباس ومقاتل ، (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ) أي فجعل الله من الإنسان الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) ، يجتمعان تارة في الرحم ، وينفرد كل منهما عن الآخر تارة ، وكان لأبي جهل ابن اسمه عكرمة وبنت اسمها جويرية. (أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي أنشأ هذه الأشياء (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) للبعث ، فالإعادة أهون من البدء في قياس العقل.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال : «سبحانك اللهم بلى» (٢). رواه أبو داود والحاكم.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] إماما كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى آخرها فليقل : سبحانك اللهم بلى. إماما كان أو غيره.

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (٢٥ : ٨٠).

(٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى (٧ : ٢٣٥) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢١٦٥٣).

٥٨٥

سورة الإنسان

وتسمى سورة هل أتى ، وسورة الأمشاج ، وسورة الدهر ، مكية ، إحدى

وثلاثون آية ، مائتان وأربعون كلمة ، ألف وأربعة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) أي قد أتى بني آدم طائفة محدودة من الزمن الطويل غير مقدر في نفسه ، غير مذكور بالإنسانية أصلا ، وهي مدة الحمل. وقيل : وقد مرت على آدم أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض ، بل كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ، ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي ولد آدم (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي من نطفة قد امتزج فيها الماءان : ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما علا كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم وقوة ، فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة.

وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء. (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره بالخير والشر كما قاله الكلبي. وقال الحسن : أي نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء. (فَجَعَلْناهُ) أي الإنسان (سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية ، (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل ، (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) ، أي ليكون الإنسان إما مؤمنا وإما كافرا. ويقال : إنا هديناه السبيل ، ثم جعلناه تارة شاكرا وتارة كفورا. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في «أما» على حذف الجواب أي إما شاكرا فبتوفيقنا وإما كفورا فبسوء اختياره لا بمجرد إجبارنا من غير اختيار من قبله ، (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤) أي إنا هيّأنا للكافرين سلاسل تشد بها أرجلهم ، ويقادون بها ، وأغلالا تشد بها أيديهم إلى رقابهم ، ونارا موقدة يحرقون بها. وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي «سلاسلا» بالتنوين. (إِنَّ الْأَبْرارَ) أي الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ، الموفين بنذرهم (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) أي إناء فيه خمر (كانَ مِزاجُها

٥٨٦

كافُوراً) (٥) ، أي كانت تلك الخمر ممزوجة بماء عين كافور ، فإن الكافور : اسم عين في الجنة ، ماؤها في بياض الكافور ، ورائحته ، وبرده ، ولكن لا يكون فيه طعمه ، ولا مضرته ، ويبدل من «كافورا» قوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أي يشرب عباد الله بماء تلك العين الخمر ، لكونها ممزوجة بها ، فالباء متعلقة بمحذوف حال من مفعول محذوف ، أي يشرب المؤمنون الخمر ممزوجة بتلك العين ، أو متعلقة بـ «يشرب» والضمير يعود على «الكأس» ، أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق ، أو مزيدة ويدل له قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله ، (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٦) أي يقودون العين حيث شاءوا من منازلهم ، وتتبعهم ، فحيث مالوا مالت معهم أي إن الرجل منهم يمشي في بيوته ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجزي معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ويتبعه حيثما صعد إلى أعلا قصوره ، (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي بما أوجبوه على أنفسهم لوجه الله تعالى فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم ، (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ) أي شدائده (مُسْتَطِيراً) (٧) ، أي سريع الوصول إلى أهله من العصاة ، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) ، أي مع حاجتهم إلى الطعام.

وقال الفضيل بن عياض : أي على حب إطعام الطعام ، أي بأن يكون ذلك مع طيب النفس (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٨) ، أي مسجونا مسلما وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير قائلين بلسان الحال : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لطلب ثواب الله ، (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) أي مكافأة (وَلا شُكُوراً) (٩) ، أي محمدة بقول أو بفعل.

روي أن عائشة كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ، ثم تسأل المبعوث ما قالوا ، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى ، (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) أي تعبس فيه الوجوه (قَمْطَرِيراً) (١٠) أي شديدا.

روي أن الكافر يعبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي شدائده بسبب خوفهم عنه ، (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (١١) أي وأعطاهم بسبب طلب رضا الله حسنا في وجوههم ، وفرحا في قلوبهم ، (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (١٢) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانا فيه مأكل هني ، وحريرا فيه ملبس بهي ، (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي جالسين في الجنة على السرر في الحجال ، (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣) ، أي لا يصيبهم في الجنة حر محم ، ولا برد مؤذ ، لأن هواءها معتدل في الحر والبرد. ويقال : إن في الجنة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر ، فإن الزمهرير القمر في لغة طيئ ـ كما رواه ثعلب ـ ونورها من نور العرش (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) معطوف على محل «لا يرون» وهو في محل نصب حال من الضمير المستكن في «متكئين» ، أي بعداء عن الحر والبرد ، وقريبة ظلال شجرها منهم. وقرئ «ودانية» بالرفع على أنه خبر لـ «ظلالهما» ، والجملة

٥٨٧

موضع الحال والمعنى : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. والحال أن ظلالها دانية عليهم ، أي أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم ، بمعنى أنه لو هناك شمس مؤذية لكانت أشجارها مظلة عليهم (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤) أي أدنيت منهم عناقيد ثمارها ، فهم يتناولون منها كيف شاءوا ، (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي بصحاف من فضة ، (وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي وبكيزان تكونت جامعة بين صفاء الزجاج وشفوفه ، وبياض الفضة ، ولينها ، فنسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا ، كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا ، لأن أصل القوارير في الدنيا : الرمل ، وأصل قوارير الجنة هو فضة شفافة. وقرئ «قوارير» الثاني بالرفع ، أي هي قوارير (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) (١٦) أي قدروا القوارير في أنفسهم وأرادوا أن تكون على أشكال معينة موافقة لشهواتهم ، فجاءت حسبما قدروها ، وقيل : الضمير للطائفين بها ، أي قدر الطائفون الشراب فيها على قدر اشتهائهم. وقرئ «قدروها» بالبناء للمفعول ، أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، (وَيُسْقَوْنَ فِيها) أي الجنة (كَأْساً) أي خمرا (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (١٧) ، أي ما يشبه الزنجبيل (عَيْناً فِيها) أي الجنة (تُسَمَّى) أي تلك العين (سَلْسَبِيلاً) (١٨).

قال مقاتل وابن حبان : سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرض من جنة عدن إلى أهل الجنان. ويقال : معناها سل الله سبيلا إليها. وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح. وقرأ طلحة سلسبيل بغير تنوين للعلمية والتأنيث ، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء. وقيل : أي محلون كما رواء نفطويه عن ابن الأعرابي أو مسورون كما رواه الفراء وهم خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور ، ولم يخلقوا عن ولادة على الصحيح ، (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (١٩) لصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض ، وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم ، (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) أي في أي مكان كان في الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (٢٠) وفي الحديث : «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه» (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) وهو ما لطف من الديباج.

قرأ نافع وحمزة «عاليهم» بإسكان الياء مبتدأ ، و «ثياب» خبره أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. والباقون بفتح الياء على أنه ظرف خبر مقدم ، و «ثياب» مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ثانية لـ «ولدان» ، أي يطوف عليهم ولدان فوقهم ثياب سندس إلخ. وقيل : «عاليهم» حال من ضمير «عليهم» أي ويطوف على الأبرار ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب إلخ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس ، (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو ما ثخن من الديباج.

قرأ نافع وعاصم «كلاهما» بالرفع. وقرأ الكسائي وحمزة «كلاهما» بالخفض. وقرأ ابن كثير «خضر» بالخفض ، و «إستبرق» بالرفع. وقرأ أبو عمرو ، وعبد الله بن عامر «خضر» بالرفع ،

٥٨٨

و «إستبرق» بالخفض (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وهذا معطوف على يطوف عليهم ، فإن حلي أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم ، وأيضا إن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. وقيل : إنما تكون الأسورة من الفضة للولدان الذين هم الخدم ، (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢١) أي يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق ، فيتجرد لمطالعة جماله ، ملتذا بلقائه ، باقيا ببقائه ، وهي غاية منازل الصديقين ، ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار.

وقال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش ، وحسد ، وما كان في جوفه من قذر وأذى ، (إِنَّ هذا) أي الذي ذكر من الطعام والشراب واللباس (كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي ثوابا من الله بمقابلة أعمالكم الحسنة. وهذا إخبار من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأن الله تعالى بيّن ثواب أهل الجنة إن هذا كان في حكمي جزاء لكم يا معشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.

وقال ابن عباس : المعنى : إنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها ليزداد سرورهم : إن هذا كان لكم جزاء ، (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢) أي مرضيا ، وكان الله راضيا عنهم بالقليل من الطاعات ، ومعطيهم عليه ثوابا كثيرا ، ومنتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه ، فقوله : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) إشارة إلى الأمر الذي تصير النفس به راضية من ربه. وقوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) إشارة إلى كون النفس مرضية لربه. وهذه الحالة أعلى الدرجات وآخر المقامات ، ولذلك وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣) أي متفرقا آية وآيتين ، وسورة وهذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في تأخير الأذان في القتال أو في أداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك ، (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) أي مقدما على المعاصي ، أيّ معصية كانت ، (أَوْ كَفُوراً) (٢٤) أي جاحدا للنعمة ، فـ «آثم» هو الوليد بن المغيرة ، و «الكفور» هو عتبة بن ربيعة ، كما قاله القفال وغيره ، واختاره الرازي. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك بنتي وأسوقها من غير مهر فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا وأرجع عن هذا الأمر ، أي عن ذكر النبوة ، فقرأ عليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات من أول (حم) السجدة إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣]. فانصرفا عنه وقال أحدهما : ظنت أن الكعبة ستقع علي (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥) أي صل الفجر والظهر والعصر ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وبعض الليل فصل لربك صلاة المغرب والعشاء ، (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦) أي صل له صلاة التهجد في جزء من ليل طويل. قال بعضهم : كان

٥٨٩

ذلك من الواجبات على الرسول ، ثم نسخ ، فالأمر للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة ، (إِنَّ هؤُلاءِ) أي الكفرة من أهل مكة ، (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) وينهمكون في لذاتها الفانية ، (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧) ، أي ويتركون وراءهم مصالح يوم ثقيل ، أي شديد هو له وعذابه ، (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ، أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب ، (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) (٢٨) ، أي وإذا شئنا أهلكنا هؤلاء الكفرة وأتينا بأشباههم في الخلقة ، فجعلناهم بدلا منهم ، (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن هذه السورة عظة للخلق من الله ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٩) ، أي فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة تقرب إلى الله بالعمل بما في هذه السورة ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي وما تقدرون على تحصيل اتخاذ السبيل إلى الله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تحصيله لكم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «وما يشاءون» بالياء التحتية. وقرأ ابن مسعود «إلا ما يشاء الله». (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣٠) أي إنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته ، (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بأن يوفقه للإيمان المؤدي إلى دخول الجنة (وَالظَّالِمِينَ) وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى غير اتخاذ السبيل إلى الله ، (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١) ، أي متناهيا في الإيلام وقرأ عبد الله بن الزبير «والظالمون» بالرفع على الابتداء.

٥٩٠

سورة المرسلات

مكية ، خمسون آية ومائة وإحدى وثمانون كلمة ، ثمانمائة وستة عشر حرفا قال

ابن مسعود : نزلت والمراسلات عرفا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير

حتى أوينا إلى غار منى ، فنزلت ، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها ، إذ

وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها ، فذهبت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وقيتم شرها كما وقيت شركم»

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥). وهذا إقسام من الله تعالى بطوائف من الملائكة أرسلهم بأوامره متتابعين ، فهم عصفوا في طيرانهم عصف الرياح ، ونشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، ففرقوا بين الحق والباطل ، فألقوا ذكرا إلى الأنبياء ويقال : أقسم الله برياح عذاب أرسلها متتابعة كعرف الفرس ، فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بعض أجزائه عن بعض ، فإن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع ، وتهدم الجبال ، وترفع الأمواج تمسّك بذكر الله ، والتجأ إلى إعانة الله ، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب ، ويمكن حمل هذه الكلمات الخمس على القرآن ، أي والآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد ، النازلة بكل عرف ، أي خير ، فعصفت سائر الملل ، فقهرت سائر الأديان ، وجعلتها باطلة ، ونشرت تلك الآيات آثار الهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا ، ففرقت بين الحق والباطل. (عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦) ، وهذا إما بدل من «ذكرا» ، أي فأقسم بالملائكة المنزلات وحيا أمرا أو نهيا. ويقال : وعدا أو وعيدا ، وإما مفعول لأجله ، أي إزالة أعذار المخلوقين وتخويفا لهم ، (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧) أي إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن ، ثم إنه تعالى ذكر علامات وقوع هذا اليوم فقال : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) أي محقت ذواتها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٩) أي فتحت فكانت أبوابا ، (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (١٠) أي قلعت بسرعة من أماكنها ، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (١١).

وقرأ أبو عمرو بالواو على الأصل أي حصل لهم الوقت وهو إما وقت يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وإما وقت يجتمعون فيه للفوز بالثواب ، وإما وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به ،

٥٩١

وسؤال الأمم عما أجابوهم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) (١٢). أي يقال : لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل؟ وهذا القول المقدر إما جواب لإذا ، وإما حال من مرفوع أقتت ، أي مقولا فيهم ، لأي يوم أخرت إليه أمور الرسل ، وهو تعذيب الكفرة وتعظيم المؤمنين ، وظهور ما كانت الرسل تذكر من أحوال الآخرة وأهوالها ، وعلى هذا فجواب إذا مقدر وتقديره : فإذا طمست النجوم إلخ وقع ما توعدون أو بان الأمر ، (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (١٣) بدل من «لأي» ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بني الخلائق ويجوز أن يؤخذ من هذا جواب «إذا» ، أي وقع الفصل بين الخلائق ، أو فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة ، (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (١٤) أي وما علمك يا أشرف الخلق بيوم الفصل وشدته ، فالاستفهام الأول : للاستبعاد والإنكار. والاستفهام الثاني : للتعظيم والتهويل والمعنى : أنت الآن في الدنيا لا تعلم ما يوم الفصل أي لا تعلم عظمه وأهواله على سبيل التفصيل ، وإن كنت تعلمها جمالا ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) أي واد في جهنم من قيح ودم يوم إذ يفصل بين الخلائق للمكذبين بذلك اليوم وبكل ما أخبر الأنبياء عنه ، و «ويل» مبتدأ سوغ الابتداء به كونه دعاء ونحوه ، سلام عليكم وفائدة العدول إلى الرفع دلالة على دوام الهلاك للمدعو عليهم (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (١٦) ، وهم جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوقف هنا كاف ، ثم استأنف الله بقوله : (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١٧) ممن كذبوا الحق من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإماتة بالتعذيب ، وقد وقع ذلك في حق كفار قريش يوم بدر ، واستعقبه اللعن في الدنيا والعقوبة الأخروية سرمدا ، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله ، ثم سنتبعهم بسين التنفيس ، أما قراءة الأعمش والأعرج عن أبي عمرو ، ثم نتبعهم بتسكين العين فهو تسكين للتخفيف لا للجزم ، فهو مستأنف كالمرفوع لفظا ، (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١٨) أي مثل ذلك الفعل الشنيع نفعل بكل من أشرك بالله ، فيما يستقبل إما بالسيف وإما بالهلاك فسنتنا جارية على ذلك ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩) أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى معدة لهم يوم القيامة. وقيل : هذا الويل لعذاب الدنيا ، فالمعنى : شدة عذاب يوم إذ أهلكناهم للمكذبين بآيات الله وأنبيائه ، (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢٠) أي من نطفة قذرة منتنة. (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٢١) أي في مكان حريز رحم المرأة ، (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢٢) لله تعالى أي وقت الولادة ، (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٢٣) أي قدرنا خلقه في رحم المرأة تقديرا فنعم المقدرون له نحن ، فإن إيقاع الخلق على هذا التحديد نعمة من المحدد على المخلوق ، أو فقدرنا على تصويره كيف شئنا ، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الهيئات.

قرأ نافع والكسائي «فقدرنا» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف. وقال علي كرم الله وجهه : «ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحد لأن العرب تقول : قدر وقدر عليه الموت». أي فقدرنا بالتخفيف يكون بمعنى قدرنا بالتشديد ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهلال : «إذا

٥٩٢

غم عليكم فاقدروا له». أي قدروا له السير في المنازل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤) بقدرتنا على البدء والإعادة بعد الموت ، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦) ، أي ألم نجعل الأرض موضعا يضم أحياء كثيرة على ظهره ، وأمواتا غير محصورة في بطنه ، فالأحياء يسكنون في منازلهم ، والأموات يدفنون في قبورهم.

ونقل القفال عن ربيعة : أنه قال : دلت هذه الآية على وجوب قطع النباش ، لأن الأرض كانت حرزا للميت. (وَجَعَلْنا فِيها) أي على ظهر الأرض (رَواسِيَ) ، أي جبالا ثوابت لا تزول (شامِخاتٍ) أي عاليات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) ، أي غاية في العذوبة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨) بأمثال هذه النعم العظيمة وتقول لهم الزبانية بعد الفراغ من الحساب : (انْطَلِقُوا) يا معشر المكذبين (إِلى ما كُنْتُمْ) في الدنيا (بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩) من العذاب.

روي أن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ، ولا كنان ، فتلفحهم الشمس ، وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم ، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله تعالى ، فهناك يقولون : فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتقول : خزنة النار للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عقاب الله ، (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) أي إلى دخان جهنم. وقرأ يعقوب «انطلقوا» على لفظ الماضي ، أي فانقادوا للأمر لأجل أنهم لا يستطيعون امتناعا منه ، (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (٣٠) أي فرق ، وهي كون النار من فوقهم ومن تحث أرجلهم ومحيطة بهم (لا ظَلِيلٍ) ، أي لا يمنع حر الشمس ، (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١) أي ولا يدفع من لهب النار شيئا ، أو ولا يبعد من العطش ـ كما قاله قطرب ـ (إِنَّها) أي النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ) وهو ما يتطاير من النار (كَالْقَصْرِ) (٣٢) من البناء في عظمه (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ) أي إبل (صُفْرٌ) (٣٣) ، أي في الحركة واللون ، فإن الشرار لما فيه من النار يكون أصفر ، وهذا تنبيه على أن في كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة ، فكأنه قيل : تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء.

قرأ حمزة والكسائي وحفص «جمالة» بغير ألف بعد اللام. والباقون بالألف (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤) بهذه الأمور ، (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) فيه بحجة تنفعهم والسؤال قد انقضى قبل ذلك. وقرأ الأعمش بنصب «يوم» ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يوم ينطقون ، (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) ، أي أنهم لم يؤذنوا في العذر ، وهم لم يعتذروا أيضا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٧) بهذا اليوم (هذا) ، أي اليوم (يَوْمُ الْفَصْلِ) أي فصل حكومات جميع المكلفين (جَمَعْناكُمْ) يا معشر المكذبين من جميع هذه الأمة (وَالْأَوَّلِينَ) (٣٨) من المكذبين ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٣٩) ، أي فإن كان لكم حيلة في دفع الحقوق عن أنفسكم فافعلوها وغالبوني ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠) بالبعث (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ) أي في ظلال شجرة ، (وَعُيُونٍ) (٤١) أي ماء ظاهر جار.

٥٩٣

وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين. والباقون بكسرها ، (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٤٢) فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت ، كما في أنواع فاكهة الدنيا ، فيقول الله تعالى لهم : (كُلُوا) من الثمار (وَاشْرَبُوا) من الأنهار (هَنِيئاً) أي سائغا بلا داء ولا تعب (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) في الدنيا من الخيرات ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من النعم في مقابلة ثلاث شعب من النار ، كأنه قيل : ظلال المكذبين ما كانت ظليلة ، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش ، أما المتقون فظلالهم ظليلة حاجزة بينهم وبين اللهب ، ومغنية لهم عن العطش ومعهم الفواكه التي يتمنونها في مقابلة شرار النار التي يخافها المكذبون ، ولما قال تعالى للكفار : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) قال المؤمنين : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً). (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤٤) أي إنا نجزي المحسنين في العقيدة مثل ذلك الجزاء (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٥) يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين ، (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) أي كلوا يا معشر المكذبين وعيشوا يسيرا في الدنيا ، (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (٤٦) أي مشركون ، مصيركم النار في الآخرة.

وقال أبو السعود : وهذا مقدر بقول هو حال من المكذبين ، أي الويل ثابت لهم مقولا لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا ، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد ، وعلّل ذلك بإجرامهم دلالة على أن كل مجرم مآله هذا ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٧) بما يجب تصديقه. وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (٤٨) ، أي وإذا قيل للمجرمين في الدنيا : اخضعوا لله بالتوحيدة ، وأطيعوا ، لا يقبلون ذلك. ويقال : نزلت هذه الآية في ثقيف حيث قالوا : لا نحني ظهورنا بالركوع والسجود. ويقال : هذا في الآخرة وذلك لما يقول الكفار : والله ربنا ما كنا مشركين. قال الله تعالى لهم : اسجدوا إن كنتم صادقين فيما تقولون ، فلم يقدروا على السجود وبقيت أصلابهم كالصياصي. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٩) بمن يرشدهم إلى المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة ، وهذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع وضوحها ، فبأي كلام بعدها يؤمنون ، لأن القرآن مصدّق للكتب القديمة ، موافق لها في أصول الدين ، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب ، لأن ما في غيره موجود فيه ، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه.

٥٩٤

سورة النبأ

وتسمى سورة التساؤل ، وسورة عم ، مكية ، أربعون آية ،

مائة وثلاث وسبعون كلمة ، سبعمائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (١) أي عن أيّ شيء يتساءل أهل مكة فيما بينهم إنكارا واستهزاء (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) سؤال ، وقوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) جواب. فالسائل والمجيب هو الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦]. (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) والخبر العظيم هو يوم القيامة ، فمنهم من جزم باستحالته فيقول : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، وما نحن بمبعوثين. ومنهم من شك في وقوعه فيقول : ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين. وقيل : الخبر العظيم هو القرآن فإن بعضهم جعله سحرا ، وبعضهم جعله شعرا ، وبعضهم قال : إنه أساطير الأولين.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم إلى التوحيد ، وأخبرهم بالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن ، جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم! ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء. وقيل : النبأ العظيم هو نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمدا إليهم. وقرأ عكرمة وعيسى بن عمر عما بالألف على الأصل. وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بها السكت. (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٥) ، أي ليرتدعوا عمّا هم عليه ، فإنهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال ، إذا حل بهم العذاب والنكال ، وسيعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له ، واقع لا ريب فيه. وقال القاضي : سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة ، وسيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه. وقال الضحاك : أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم ، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وروي عن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء المنقطة من فوق ، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٦) أي فراشا. وقرئ «مهدا» أي مناما ، (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) للأرض حتى لا تميد بأهلها (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) ذكورا وإناثا ، وقبيحا ، وحسنا ، وطويلا ، وقصيرا. (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (٩) أي قطعا للتعب ، أو نوما منقطعا ، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء ، أما

٥٩٥

دوامه فمن أضر الأشياء ، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (١٠) فإن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو ، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه ، وأيضا بسبب ما يحصل فيه من النوم يندفع عنه أذى التعب الجسماني ، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية ، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة ، (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١) أي وقت معاش تتقلبون فيه في مكاسبكم ، (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (١٢) أي خلقنا فوق رؤوسكم سبع سموات غلاظا قوية الخلق ، محكمة البناء ، لا يؤثر فيها مر الدهور ، (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (١٣) أي شمسا مضيئة لبني آدم ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) ، أي السحائب بالرياح (ماءً ثَجَّاجاً) (١٤) أي صبابا. ويروي عن عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعكرمة أنهم قرءوا «وأنزلنا بالمعصرات» أي بالرياح المثيرة للسحاب ، (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي بذلك الماء (حَبًّا) يقتات ، كالحنطة والشعير والأرز ، (وَنَباتاً) (١٥) لا يكون له كمام كالحشيش ، (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦) أي مجتمعة تداخل بعضها في بعض ، (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (١٧) أي إن يوم فصل الله بين الخلائق كان في تقدير الله تعالى ميعاد الاجتماع كل الخلائق في قطع الخصومات ، وميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب ، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) نفخة البعث ، أي تنفخ الأرواح في الأجساد ، (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١٨) ، أي فتبعثون من قبوركم ، فتأتون إلى الموقف أمما ، كل أمة مع إمامها حتى يتكامل اجتماعهم ، (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) لنزول الملائكة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي خفيفة التاء. والباقون بتشديدها (فَكانَتْ أَبْواباً) (١٩) أي فصارت السماء ذات أبواب ، (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها ، (فَكانَتْ سَراباً) (٢٠) أي فصارت بعد تسييرها مثل السراب إذ ترى على صورة الجبال ، ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها ، (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (٢١) أي طريقا ، فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم يرصدون الكفار (لِلطَّاغِينَ) ، أي للمتكبرين على الله (مَآباً) (٢٢) أي مرجعا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (٢٣) ، أي حقبا بعد حقب. وقرأ حمزة «لبثين» بغير ألف (لا يَذُوقُونَ فِيها) ، أي الأحقاب (بَرْداً) أي هواء باردا ، ولا ماء باردا. وقال الأخفش والكسائي ، والفراء ، وقطرب ، والعتبي : أي نوما ، سمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش ، (وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً) أي ماء حارا جدا ، (وَغَسَّاقاً) (٢٥) باردا منتنا لا يطاق ، وهو المسمى بالزمهرير.

قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه بتشديد السين ، (جَزاءً وِفاقاً) (٢٦) أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم ، (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) (٢٧) ، أي كانوا لا يخافون ، أي يحاسبوا بأعمالهم أو إنهم كانوا غير مؤمنين وذلك لأن المؤمن لا بدّ وأن يرجو رحمة الله ، لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر ، (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد (كِذَّاباً) (٢٨).

وقرئ بتخفيف الذال. وقرئ «كذابا» بضم الكاف وتشديد الذال جمع كاذب ، أي كذبوا

٥٩٦

بالقرآن والشرائع كاذبين ، فكل من يكذب بالحق فهو كاذب ، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) أي ضبطناه (كِتاباً) (٢٩) أي حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ ، أو كل شيء من أعمال بني آدم حفظناه مكتوبا في صحف الحفظة. وقرأ أبو السمال «وكل» بالرفع على الابتداء ، (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم : ذوقوا جزاءكم فلن نزيدكم إلا عذابا ، أي كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ، وكلما خبت زدناهم سعيرا ، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) (٣١) أي فوزا بالمطلوب (حَدائِقَ) أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة ، (وَأَعْناباً) (٣٢) أي كروما (وَكَواعِبَ) ، أي نساء تكعبت ثديهن (أَتْراباً) (٣٣) ، أي مستويات في السن على ثلاث وثلاثين سنة (وَكَأْساً دِهاقاً) (٣٤) ، أي ممتلئة ، (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) (٣٥) أي لا يجري بين المتقين كلام باطل وتكذيب من واحد لغيره بسبب الكأس التي يشربون منها. وقرأ الكسائي بالتخفيف (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٣٦) أي جازى الله المتقين بمفاز جزاء كائنا منه تفضلا منه بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف ، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه : وجه منها على عشرة أضعاف ، ووجه على سبعمائة ضعف ، ووجه على ما لا نهاية ، والمعنى : راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع فيه نقصان. وقرأ ابن قطيب «حسابا» بالتشديد بمعنى محسب. (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ). وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو برفع «رب» و «الرحمن». وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر بجرهما. وقرأ حمزة والكسائي بجر الأول مع رفع الثاني. (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٣٧) أي لا يملك أهل السموات والأرض أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم خطابا ما ، في شيء ما ، والوقف هنا كاف. (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ).

قال الضحاك والشعبي : هو جبريل وعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال. وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا ، (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) منهم في التكلم ، (وَقالَ صَواباً) (٣٨) أي وقال ذلك المأذون له بعد ورود الأذن له قولا صادقا حقا. وقيل : المعنى : لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته ، وذلك الشخص كان ممن قال صوابا ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، و «يوم» ظرف لقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ). (ذلِكَ) أي يوم قيامهم على الوجه المذكور ، (الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الثابت من غير صارف (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) أي فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه فعل ذلك بالإيمان والطاعة ، (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) أي خوّفناكم يا أهل مكة بالقوارع الواردة في القرآن ، (عَذاباً قَرِيباً) هو عذاب الآخرة ، وكل ما هو آت قريب. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) و «ما» استفهامية ، أي يوم يبصر كل امرئ أيّ شيء قدّمت يداه ، مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا وإما موصولة ، أي يوم ينظر كل امرئ إلى الذي قدمته يداه ، (وَيَقُولُ الْكافِرُ) لما قطع بالعقاب (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠) أي ليتني لم أبعث للحساب في هذا اليوم ، وبقيت ترابا كما كنت أوليتني

٥٩٧

كنت ترابا في الدنيا ، فلم أخلق ولم أكلف ، وقيل : يقول الكافر عند ما يقول الله للبهائم بعد محاسبته بينها كوني ترابا ، يا ليتني أصير ترابا مثل تلك البهائم لأتخلص من عذاب الله تعالى. وقيل : ويقول إبليس لما عاين ما في آدم من الثواب والراحة يوم القيامة : ليتني كنت مكان آدم ، وذلك لأن إبليس عاب آدم بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار. وقال مقاتل : نزل قوله تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) في أبي سلمة ، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وقوله : (وَيَقُولُ الْكافِرُ) في أخيه الأسد بن عبد الأسد.

٥٩٨

سورة النازعات

مكية. خمس وأربعون آية ، مائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وثلاثة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (١) أي والملائكة الذين ينزعون روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافر ، وأصول القدمين كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل ، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء. (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) أي والملائكة التي تحل نفس المؤمن حلا رفيقا ، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير ، وتنشط روح المؤمن بالخروج إلى الجنة. (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) (٣) أي والملائكة الذين ينزعون نفس الصالح يسلونها سلا رفيقا رويدا ، ثم يتركونها حتى تستريح ، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة لئلا يصل إليه ألم وشدة ، (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) (٤) أي والملائكة الذين يسبقون بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، وبأرواح الكافرين إلى النار ، (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) ، أي فالملائكة الذين يدبرون أمور العباد ، قال عبد الرحمن بن سابط : يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل.

فأما جبريل : فهو موكل بالرياح والجنود.

وأما ميكائيل : فهو موكل بالقطر والنبات.

وأما عزرائيل : فهو موكل بقبض الأرواح.

وأما إسرافيل : فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى وليس في الملائكة أقرب منه. (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) و «يوم» منصوب بجواب القسم المضمر ، أي لتبعثن يا كفار مكة يوم تتحرك النفخة الأولى مع ظهور الصوت ، وسميت النفخة : بالراجفة ، لأن الدنيا تتزلزل عندها وتصوت فإن تلك النفخة هي المحركة لكل شيء ، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧) أي النفخة الثانية والرادفة : رجفة أخرى تتبع الأولى ، فتضطرب الأرض لإحياء الموتى ، كما اضطربت في الأولى لموت الإحياء. ويروى عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بين النفختين أربعين عاما ، ويروى أن في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف ، وأن ذلك كالسبب للإحياء ، ولله أن يفعل ما يشاء

٥٩٩

ويحكم ما يريد. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) أي قلوب كثيرة وهي قلوب الكفار يوم إذ يقع النفختان شديدة الاضطراب ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٩) أي أبصار أصحاب هذه القلوب ذليلة ، (يَقُولُونَ) منكرين للبعث متعجبين منه : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) بعد موتنا (فِي الْحافِرَةِ) (١٠) ، أي في الحالة الأولى. وقرأ أبو حيوة «في الحفرة» ، أي أنرد إلى ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا ، (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (١١) أي متفتتة ، نرد ونبعث مع كون تلك العظام أبعد شيء من الحياة. وقرأ حمزة وعاصم «ناخرة» بألف أي فارغة تمر بها الريح ، فيسمع لها صوت. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «إذا» على الخبر ، (قالُوا تِلْكَ) أي الرجعة إلى الحياة (إِذاً) أي إن رددنا إلى الحالة الأولى وصحّ ذلك (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (١٢) ، أي رجعة ذات هلاك أي إن الرجعة إن صحت ، فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاء منهم (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) ، أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله بل هي سهلة هينة في قدرته ، لأنها حاصلة بصيحة واحدة من إسرافيل ، (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤) أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض البيضاء المستوية من أرض الآخرة بعد ما كانوا أمواتا في جوف أرض الدنيا ، (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (١٥) أي أليس قد أتاك يا أشرف الخلق حديث موسى هذا إن اعتبر إتيانه قبل هذا الكلام ، وإلا فالمعنى : هل أتاك يا أكرم الرسل حديثه؟ أنا أخبرك به : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) ظرف لـ «حديث» (طُوىً) (١٦) وهو اسم واد بالشام ، وهو عند الطور بين أيلة ومصر ، وإنما سميت «طوى» لكثرة ما مشت عليه الأنبياء.

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون. وقرأ الباقون بضم الطاء منونا.

وروي عن أبي عمرو بكسر الطاء. (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ). عن الحسن قال : كان فرعون علجا من همدان ، وعنه أيضا كان من أصبهان ، طوله أربعة أشبار ، وهو أول من اتخذ القبقاب ليمشي فيه خوفا من أن يمشي على لحيته. وقال مجاهد : كان من أهل إصطخر. وقرأ عبد الله «أن اذهب» لأن في النداء معنى القول ، (إِنَّهُ طَغى) (١٧) أي تجاوز الحد على الخالق ، وعلى الخلق ، فكفر بالله ، وتكبر على بني إسرائيل ، فاستعبدهم ، (فَقُلْ) بعد ما أتيته : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١٨)؟ أي هل لك يا فرعون سبيل إلى أن تصلح فتوحد بالله؟ وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي ، (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي وهل أدعوك إلى معرفة ربك بالبرهان فتعرفه ، (فَتَخْشى) (١٩) فإن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة فمن خشي الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شر (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) أي فذهب موسى إلى فرعون ، فأراه قلب العصاحية ، (فَكَذَّبَ) فرعون موسى بالقلب واللسان وسمى معجزته سحرا ، (وَعَصى) (٢١) الله تعالى بإظهار التمرد بعد ما علم صحة الأمر حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين ، (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي انصرف عن موسى وأعرض عن الإيمان ، (يَسْعى) (٢٢) أي يجتهد في مكايدة موسى ، وفي معارضة الآية ، (فَحَشَرَ) ، أي فجمع السحرة بالشرط للمعارضة (فَنادى) (٢٣) في المجمع بنفسه ، أو بواسطة المنادي (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤)

٦٠٠