مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

سورة المعارج

وتسمى سورة سأل سائل ، مكية ، أربع وأربعون آية ،

مائتان وست عشرة كلمة ، ثمانمائة وأحد وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ) أي طلب طالب عذابا هو واقع بالكافرين في الدنيا والآخرة ليس لذلك العذاب من يدفعه عنهم من جهة الله تعالى ، لأنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله.

قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث حيث قال إنكارا واستهزاء : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة ابن أبي معيط. وقال الربيع : هو أبو جهل حيث قال : أسقط علينا كسفا من السماء. وقيل : وهو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علي رضي‌الله‌عنه : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (١) ، قال : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء ، فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر ، فوقع على دماغه ، فخرج من دبره ، فمات من ساعته ، فنزلت هذه الآية.

وقال الحسن وقتادة : لما بعث الله محمدا وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض : سلوا محمد لمن هذا العذاب ، وبمن يقع؟ فأخبره الله عنهم بقوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) أي عن عذاب ، فعلى هذا فقوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) حكاية لسؤالهم المعتاد على طريقه قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [الأعراف : ١٨٧] وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يس : ٤٨].

قال أبو السعود : ولعل هذا القول أقرب وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف محضة. وقرأ ابن عباس : «سال سيل بعذاب واقع للكافرين» أي اندفع عليهم واد من أودية جهنم بعذاب واقع ،

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٨٤ ، ١١٨) ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : في فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٦١

وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد. وقرأ أبي «على الكافرين». (ذِي الْمَعارِجِ) (٣) أي ذي السموات فهو خالقها كما قاله ابن عباس ، وسميت معارج ، لأن الملائكة يعرجون فيها.

وقال قتادة أي ذي الفواضل والنعم وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة. وقيل : أي ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة ، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) وهو جبريل (إِلَيْهِ) أي إلى انتهاء موضع كرامته تعالى وهو الموضع الذي لا يجري لأحد سواه تعالى فيه حكم. وقيل : إلى عرشه.

وقرأ الكسائي «يعرج» بالياء التحتية (فِي يَوْمٍ) من أيامكم (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) من سني الدنيا أي يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان إلى خمسين ألف سنة لو فرض ذلك. وقال وهب : ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة ، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى.

وقال محمد بن إسحاق : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقوله تعالى : (فِي يَوْمٍ) متعلق بتعرج كما عليه الأكثرون.

وقال مقاتل : هو متعلق بـ «واقع» وقيل : متعلق بـ «سال» بغير همزة وهو الذي من السيلان ، وعلى هذا فالمراد بذلك اليوم يوم القيامة ، والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. قال بعضهم : وهذه المدة واقعة في الآخرة لكن على سبيل التقدير ، والمعنى : لو اشتغل بتلك الحكومة والمحاسبة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ، ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحساب في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) أي فاصبر صبرا بلا جزع على استهزاء النضر وأمثاله بك ، وعلى تكذيب الوحي ، وعلى تعنت كفار مكة في السؤال عليك ، فهذا متعلق بقوله تعالى : (سَأَلَ) ومن قرأ «سال» بألف محضة فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه ، فاصبر ، فقد جاء وقت الانتقام ، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) أي إن الكفار يستبعدون اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة من الإمكان على جهة الإحالة ، ونعلمه قريبا من الإمكان هينا في قدرتنا غير متعذر علينا ، ويقال : إن كفار مكة يعتقدون العذاب غير واقع يوم القيامة ، ونعلمه واقعا لا بد من وقوعه ، وهذا تعليل للأمر بالصبر ، (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٨) أي تصير السماء كدردي الزيت ، وهذا الظرف متعلق بـ «ليس له دافع» أو بما في معناه كيقع ، أي يقع العذاب يوم تكون إلخ ، أو متعلق بـ «قريبا» إذا كان الضمير في نراه للعذاب ، (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٩) أي تصير الجبال كالصوف المصبوغ ألوانا ، وإنما وقع التشبيه به ، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش

٥٦٢

إذا طيرته الريح ، (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١٠) أي لا يسأل قريب قريبه عن أحواله كيف حالك ، ولا يكلمه ، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام ، أو لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته فلا يقال : لحميم أين حميمك؟ (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه.

وقرئ «يبصرونهم» أي يرونهم ولا يعرفونهم اشتغالا بأنفسهم ، (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، أي يتمنى المشرك أن يفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأولاده وزوجته وأخيه ، وأقاربه الأقربين الذين فصل عنهم ، وينتهي إليهم التي تضمه في النسب وتحميه في النوائب ومن في الأرض جميعا من الخلائق وقرأ نافع والكسائي «يومئذ» بفتح الميم على البناء لإضافة يوم إلى مبني. والباقون بكسرها على الإعراب على الأصل في الأسماء. وقرئ «من عذاب يومئذ» بتنوين «عذاب» ونصب «يومئذ» بـ «عذاب» لأنه في معنى تعذيب ، (ثُمَّ يُنْجِيهِ) (١٤) معطوف على يفتدي ، أي يتمنى الكافر أن يفتدي نفسه بهذه الأشياء ثم أن ينجيه ذلك الافتداء ، (كَلَّا) وهذا هنا إما بمعنى حقا ، فحينئذ كان الوقف على «ينجيه» وهو وقف تام. وإما بمعنى لا فحينئذ كان الوقف على «كلا» وهو وقف تام ، وهذا أولى ، ولا يجمع بينهما في الوقف بل الوقف في أحدهما فقط أي لا ينفعه ذلك الافتداء ولا ينجيه من العذاب ، (إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١٦).

وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص ، أو على حال مؤكدة ، والكناية عائدة على النار لدلالة لفظ العذاب عليها ، وقرأ الباقون بالرفع فتجعل الكناية حرف عماد و «لظى» اسم «إن» و «نزاعة» خبرها ، كأنه قيل : إن لظى نزاعة ، أو تجعل ضمير القصة وهو اسم إن و «لظى» مبتدأ و «نزاعة» خبرا ، والجملة خبر عن «إن» والتقدير : أن القصة لظى نزاعة للشوى أي قلاعة للأعضاء التي في أطراف الجسد ، ثم تعود كما كانت وهكذا أبدا فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) عن الطاعة (وَتَوَلَّى) (١٧) عن الإيمان (وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨) أي جمع المال فجعله في وعاء ولم يؤد حقوقه ، أي إن النار تدعوهم بلسان الحال أو أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا : إلي يا كافر إلي يا منافق ، ثم تلتقطهم الحب فقوله تعالى : أدبر وتولى ، إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله تعالى وطاعته وقوله : (وَجَمَعَ) إشارة إلى الحرص وقوله : (فَأَوْعى) إشارة إلى طول الأمل وهذه مجامع آفات الدين. (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (١٩) أي جبل جبلة هو فيها قلة الصبر وشدة الحرص (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) ، أي إذا أصابه الفقر والمرض ونحوهما صار جازعا شاكيا ، وإذا أصابه السعة والصحة صار مانع المعروف شحيحا بماله ، غير ملتفت إلى الناس ، وإنما ذم الله الإنسان على ذلك ، لأنه قاصر النظر عن الأحوال الجسمانية العاجلة ، فالواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال

٥٦٣

الآخرة ، فإذا وقف في مرض أو فقر كان راضيا به لعلمه أنه فعل الله تعالى ، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية ، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) بأن لا يتركوها في وقت من الأوقات ولا يشغلهم عنا شاغل ، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٢٤) أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس ، (لِلسَّائِلِ) أي الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) (٢٥) أي الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا ، فيحرم ، (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٢٦) حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية والمالية طمعا في التوبة الأخروية ، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء ، (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٢٧) أي خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استعظاما لجنابه تعالى واستقصارا لأعمالهم الحسنة. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) (٢٨) فلا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى وإن بالغ في الطاعة ، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي الأربع (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الولائد بغير عدد ، (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٣٠) بالاستمتاع بهن (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي فمن ، طلب لنفسه وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٣١) أي المجاوزون للحدود ، فدخل في هذا حرمة وطء الذكور والبهائم والزنا ، (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أي لما ائتمنوا عليه من أمر الدين والدنيا ، (وَعَهْدِهِمْ) فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين الناس (راعُونَ) (٣٢) ، أي حافظون بالوفاء.

وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٣٣). وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع. والباقون على التوحيد ، أي يقومون بالشهادات بالحق عند الحكام ولا يكتمونها ، وهذا الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إظهارا لفضلها ، لأن في إقامتها إحياء الحقوق ، وفي تركها تضييعها.

وروى عطاء عن ابن عباس قال : والمراد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له ، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٣٤) أي يهتمون بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفات الثمانية (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣٥) بالثواب والتحف (فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) (٣٦) أي أيّ شيء ثبت لكفار مكة مسرعين جهتك ، مادي أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) (٣٧) ، أي مجتمعين فهذه الأربعة أحوال من الموصول.

روي أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون منه ويستهزئون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد : فلندخلنها قبلهم فنزلت هذه الآية ، (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨) كما يدخلها المسلمون (كَلَّا) أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلا ، لأن ذلك تمن فارغ (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩) وهو النطفة المذرة فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم؟ ويقولون : لندخلن الجنة قبلهم فكيف يليق دخولهم الجنة لو

٥٦٤

لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة؟ (فَلا أُقْسِمُ) ، أي إذا كان الأمر كما ذكر من أنا خلقناهم مما يعلمون فأقسم (بِرَبِّ الْمَشارِقِ) أي مشارق الشتاء والصيف ، (وَالْمَغارِبِ) أي مغارب الشتاء والصيف فلمشرق الشتاء والصيف مائة وثمانون منزلا ، وكذلك للمغربين (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) ، أي بطريق الإهلاك ولم يحصل ذلك وإنما هدد الله تعالى القوم بهذا لكي يؤمنوا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٤١) أي بعاجزين على أن نبدل خيرا منهم ، وليس تأخير عقابهم لعجز بل لحكمة داعية إليه ، (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم فيما هم فيه من الأباطيل (يَخُوضُوا) في باطلهم ، (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم،أو يهزئوا في كفرهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٤٢) وهو يوم البعث عند النفخة الثانية ، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور بدل من يومهم بدل كل من كل. وقرئ «يخرجون» على البناء للمفعول (سِراعاً) إلى جهة صوت الداعي (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ). وقرأه ابن عامر وحفص بضم النون والصاد وهي التي تنصب فتعبد من دون الله تعالى ، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد ، وهي رواية وقرأ أبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتين أي منصوب كالعلم. وقرأ الحسن وقتادة بضمة فسكون وهو الصنم المنصوب للعبادة (يُوفِضُونَ) (٤٣) أي يسرعون (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) فلا يرفعونها ولا يرون خيرا (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يعلوهم سواد الوجوه ، (ذلِكَ) أي وقوع الأحوال الهائلة (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤) في الدنيا إن لهم فيه العذاب ، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه.

٥٦٥

سورة نوح

مكية ، ثمان وعشرون آية ، مائتان وأربع وعشرون كلمة ، تسعمائة وتسعمائة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وكانوا جميع أهل الأرض أهل عصره (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) وأن حرف مصدري والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له : «أنذر» أي أرسلناه بالأمر بالإنذار ، ويجوز أن تكون مفسرة. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول والتقدير : أنا أرسلناه وقلنا له : أنذر ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة ، فلما جاءهم (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢) أي موضح لحقيقة الأمر بلغة تعلمونها ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح ، والأمر بالتقوى ، ويتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات ، (وَأَطِيعُونِ) (٣) فالأمر بطاعة نوح يتناول أداء جميع المأمورات وترك جميع المنهيات ، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فالإسلام يجبه ، (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أمد قدره الله تعالى لهم بشرط الإيمان أي إن الله قضى على قوم نوح مثلا إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم الله على رأس تسعمائة سنة ، (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي إن ما قدر الله لكم على تقدير بقائكم على الكفر (إِذا جاءَ) وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه ، (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤) شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به ، فلما أيس نوح منهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمنوا ولم يقبلوا نصيحته. (قالَ) أي نوح : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلى الإيمان والطاعة (لَيْلاً وَنَهاراً) (٥) أي دائما ، من غير فتور (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٦) مما دعوتهم إليه (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان والتوبة (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بسببهما ، (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدوا مسامعهم لكيلا يسمعوا دعوتي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا صوتي ولا يروني ، (وَأَصَرُّوا) على الكفر والمعاصي (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان والتوبة (اسْتِكْباراً) (٧) عظيما بالغا إلى النهاية القصوى ، (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ) إلى التوحيد والتوبة (جِهاراً) (٨) أي بأعلى صوتي ، (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ

٥٦٦

إِسْراراً) (٩) ، فمراتب دعوة نوح عليه‌السلام ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر ، فجازوه بالأمور الأربعة ، ثم ثنى بالمجاهرة ، وهي أشد من الإسرار ، ثم جمع بين الإعلان والإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد (فَقُلْتُ) لهم : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بالتوبة عن الكفر والمعاصي (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١٠) في حق كل من استغفره (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) أي مطرا دائما ، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) ، أي يعطكم أموالا إبلا وبقرا وغنما وبنين ذكورا وإناثا ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١٢) تجري لمنافعكم. قيل : لما كذبوا نوحا عليه‌السلام حبس الله عنهم المطر أربعين سنة ، وقطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة وأهلك جناتهم ، وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا أن يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) ، أي والحال أن الله خلقكم على حالات شتى نطفا ، ثم علقا ثم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر وهو إلقاء الروح فيه ويقال : والحال أنه تعالى خلقكم أصنافا مختلفين يخالف بعضكم بعضا ، (أَلَمْ تَرَوْا) أي ألم تخبروا يا كفار مكة (كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (١٥) أي متوازية بعضها فوق بعض مثل القبة ، ملتزقة أطرافها ، (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ونسبته للكل مع أنه في السماء الدنيا ، لأن كل واحدة من سبع سموات شفافة لا يحجب ما وراءها ، فيرى الكل كأنها سماء واحدة ، (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١٦) يزيل الظلمة ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره. (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) أي أنبتكم من الأرض ، فنبتم نباتا عجيبا ، والمعنى : والله أنشأكم منها فنشأتم نشأة عجيبة ، فإنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات ، المتولد من الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بالدفن عند موتكم ، (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث والحشر ، (إِخْراجاً) (١٨) محققا لا ريب فيه ، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠) أي لتأخذوا فيها طرقا واسعة. (قالَ نُوحٌ) مناجيا له تعالى : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به من التوحيد والتوبة ، (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) (٢١) وهم رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى الكفر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ولده» بفتح الواو واللام. والباقون بضم الواو وإسكان اللام (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) معطوف على صلة من أي واتبعوا من مكروا إلخ ، أي كأن الرؤساء قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح لا يعطيه شيئا ، لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح أو قالوا لأتباعهم هذه الأصنام آلهة لكم ، وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك. وهذه

٥٦٧

الإشارة صارفة لهم عن الدين وقرأ العامة كبارا بضم الكاف وتشديد. الباء وقرأ عيسى وأبو السماك وابن محيصن بالضم والتخفيف. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضا بكسر الكاف وتخفيف الباء. (وَقالُوا) أي الرؤساء للسفلة معطوف على الصلة أيضا ، أي واتبعوا من قالوا : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركوا عبادتها إلى عبادة رب نوح ، (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (٢٣) أي ولا تتركن عبادة هؤلاء. وقرأ نافع «ودا» بضم الواو والباقون بفتحها وقرأ العامة «يغوث ويعوق» بغير تنوين للعلمية والوزن ، أو للعلمية والعجمة. وقرأهما الأعمش مصروفين للتناسب أو على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ولعل هذه الأسماء الخمسة أسماء أولاد آدم ، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم حتى بعث الله نوحا عليه‌السلام ، ولهذا السبب نهى الرسول عن زيارة القبور أولا ، ثم أذن فيها وقال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن زيارتها تذكرة ، (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) معطوف على صلة من أي واتبعوا من قد أضلوا خلقا كثيرا وهم الرؤساء ، أو الأصنام أجريت مجرى الآدميين كقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ). (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي المشركين (إِلَّا ضَلالاً) (٢٤) أي عذابا أو ضلالا في أمر دنياهم ، وهذا معطوف على قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) على حكاية كلام نوح بعد «قال» ، وبعد «الواو» النائبة عنه ، قالوا : وليست من كلام نوح لئلا يعطف الإنشاء على الإخبار لكن الظاهر أن المراد بالأخبار طلب للنصرة عليهم ، فيجوز أن تكون الواو من كلام نوح ، أي قال نوح : رب إنهم عصوني وقد عجزت وأيست عنهم فانصرني عليهم وقال : لا تزد الظالمين إلا ضلالا ، (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) و «ما» صلة و «من» تعليلية أي من أجل خطيئاتهم وبسببها أغرقوا بالطوفان لا بسبب آخر ، وقرأ أبو عمرو «خطاياهم». وقرأ ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» فأخّر كلمة «ما» فعلى هذه القراءة فـ «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر. وقرئ «خطياتهم» بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «خطيئتهم» بالتوحيد على إرادة الجنس ، أو إرادة الكفر فقط والخطيئات والخطايا كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع سلامة ، والثاني جميع تكسير (فَأُدْخِلُوا ناراً) في القبر فإن عذاب القبر عقب الإغراق وإن كانوا في الماء ، لأن الفاء تدل على أن إدخالهم في النار حصل عقب الإغراق فلا يمكن حمل النار على عذاب جهنم في الآخرة.

قال الضحاك : إنهم كانوا في حالة واحدة يغرقون من جانب ويحرقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى ، (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٢٥). وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم ، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، وما قدرت هي على دفع عذاب الله تعالى عنهم. (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) أي أحدا (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) عن دينك من آمن بك ومن أراد أن

٥٦٨

يؤمن بك ، (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧) أي إلا من سيفجر ويكفر ، (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) أي أبوي لمك وشمخا بنت أنوش ، فإنهما كانا مؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم أن المراد : والده وجده ، فاسم أبيه لمك واسم جده متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام بعدها خاء معجمة. وقرأ الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما ، ويحيى ابن يعمر والنخعي ولولدي ، أي ابني سام وحام. وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال ، أي أبي فيحتمل أن يريد عليه‌السلام أباه الأقرب الذي ولده وأن يريد جميع من ولده ، من لدن آدم إلى من ولده وكان بينه وبين آدم عشرة آباء ولم يكن منهم كافر كما قاله عطاء ، (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي منزلي ، أو مسجدي أو سفينتي. وقيل : لمن دخل دخولا مع تصديق القلب (مُؤْمِناً) خرجت بهذا القيد امرأته وابنه كنعان ، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين يكونون من بعدي إلى يوم القيامة (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي الكافرين (إِلَّا تَباراً) (٢٨) أي إلّا هلاكا فاستجاب الله دعاءه عليه‌السلام فأهلكهم بالكلية.

٥٦٩

سورة الجن

وتسمى قل أوحى ، مكية ، ثمان وعشرون آية ومائتان

وخمس وثمانون كلمة ، ثمانمائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ) يا أشرف الخلق : (أُوحِيَ إِلَيَ) وقرأ أبو عمرو في رواية يونس وهارون وحي بضم الواو بغير ألف. وقرئ «أحي» بالهمزة من غير واو ، أي أنزل إلى جبريل فأخبرني (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، أي أن الشأن استمع القرآن تسعة نفر من جن نصيبين باليمن ، (فَقالُوا) بعد ما آمنوا ورجعوا إلى قومهم : يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) أي كتابا مقروءا (عَجَباً) (١) ، أي خارجا عن عادة أمثاله من الكتب الإلهية مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي إلى الصواب وهو لا إله إلا الله ، (فَآمَنَّا بِهِ) أي بذلك القرآن ، أو بالرشد الذي في القرآن ـ وهو التوحيد ـ (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (٢) ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وذكر الحسن أن منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين ، (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي وأن الحديث ارتفع عظمة ربنا ، أي عظم سلطانه ، أو ارتفع غناه ، أي وصفه بالاستغناء عن الزوجة والولد ، أو تعالى حقيقته عن جميع جهات التعلق بالغير. وقرئ «جد ربنا» بكسر الجيم أي تعالى صدق ربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد. وقرئ «جدا ربنا» بنصب «جدا» على التمييز (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) (٣). هذه الجملة مفسرة لما قبلها وبعضهم جعل «ما» مصدرية متعلقة بتعالى ، فحينئذ تكون «لا» زائدة ، أي تعالى صفة ربنا ما اتخذ زوجة وولدا كما نسبه الكفار ، (وَأَنَّهُ) أي الحديث (كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) أي جاهل منا وهو إبليس (عَلَى اللهِ شَطَطاً) (٤) أي قولا مجاوزا للحد بعيدا عن الصدق وهو وصفة تعالى بإثبات الشريك والصاحبة والولد ، (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) (٥) أي كنا نظن أنه لن يكذب على الله تعالى أحد أبدا ، ولذلك اتبعنا قوله. وهذا اعتذار منهم تقليدهم لسفيههم إبليس ، (وَأَنَّهُ) أي الحديث (كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) في الجاهلية (يَعُوذُونَ) أي يلتجئون (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٦) أي ظلما وذلك أنهم إذا سافروا سفرا ، أو اصطادوا صيدا ، أو نزلوا واديا خافوا من الجن لأنها تعبث بهم في بعض الأحيان فقالوا : نعوذ

٥٧٠

بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيأمنون بذلك ولا يرون إلا خيرا فتزيد الجن والإنس إضلالهم حتى استعاذوا بهم ، (وَأَنَّهُمْ) أي الإنس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧) بعد الموت أو أنه لن يبعث الله أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة ، (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٨) وأنا قبل أن آمنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فصادفناها قد ملئت من جهة الحراس الأقوياء ، وهم الملائكة الذين يمنعون من الاستماع ومن شعل منقضة من نار الكواكب ، (وَأَنَّا كُنَّا) قبل مبعث محمد (نَقْعُدُ مِنْها) أي السماء (مَقْعَدِ) خالية من الحرس (لِلسَّمْعِ) أي لأجل الاستماع ، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) أي بعد مبعث محمد في مقعد من المقاعد (يَجِدْ لَهُ) أي لأجله (شِهاباً رَصَداً) (٩) أي شهابا قد أرصد له ليرجم به ، (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠) أي وأنا لا نعلم أشر أريد بمن في الأرض حين منعنا عن الاستماع ، أم أراد بهم ربهم خيرا ، أي ولما سمعوا قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علموا أنهم منعوا من صعود السماء حراسة للوحي ، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي المتقون ، (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي ومنا قوم غير صالحين (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١). أي كنا قبل هذا ذوي مذاهب مختلفة.

قال السدي : الجن أمثالكم فيهم مرجئة ، وقدرية ، وروافض ، وخوارج (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي وأنا علمنا الآن أن الشأن لن نعجز الله أينما كنا من أقطار الأرض ، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١٢) أي هاربين من الأرض إلى السماء ، فليس لنا مهرب إلا في قبضته ، (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) أي القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) (١٣) ، أي فمن يؤمن بربه فهو لا يخاف نقصا في جزاء حسناته ، ولا ظلما بزيادة جزاء سيئاته ، وهذا دليل على أن من حق من آمن بالله تعالى أن يجتنب المظالم. وقرأ الأعمش «فلا يخف» ، (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي وأنا بعد سماع القرآن مختلفون ، فمنا المخلصون في صفة الإسلام ، ومنا المائلون عن طريق الحق ، (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي أخلص بالتوحيد (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (١٤) أي وقصدوا طريق صواب ، (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) أي المائلون عن سنن الإسلام ، (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١٥). والجن وإن خلقوا من النار توقد نار جهنم بهم ، كما توقد بكفرة الإنس فإن النار القوية تأكل النار الضعيفة. وقيل : هاهنا آخر كلام الجن ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) و «أن» مخففة من الثقيلة ، والجملة معطوفة على أنه استمع والمعنى وأوحى إلى أن الحديث لو استقام الجن والإنس (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي على ملة الإسلام (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (١٦) أي ولوسعنا عليهم الرزق. وقرأ الأعمش بضم واو لو تشبيها بواو الضمير ، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي في ذلك الماء الذي هو كناية عن العيش الواسع فإن من آمن بالله فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام اختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا؟ وهل ينفق تلك النعم في طلب مراضي الله أو في مراضي الشيطان؟ (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي عن طاعته وعن كتاب ربه القرآن (يَسْلُكْهُ عَذاباً

٥٧١

صَعَداً) (١٧) أي يدخله في عذاب شديد. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية لإعادة الضمير على الله. والباقون بالنون.

روى عكرمة عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، أن «صعدا» جبل في جهنم وهو صخرة ملساء ، أو نحاس ، فيكلف الكافر صعودها ، ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، فإذا أعلاها جذب إلى أسفلها ، ثم يكلف الصعود مرة أخرى فهذا دأبه أبدا ، (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي وأوحي إلي أن المساجد لله (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) ، أي فلا تعبدوا مع الله أحد أحدا غيره ، والمراد بالمساجد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة ، فيدخل فيها الكنائس والبيع ، ومساجد المسلمين ، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس ، فأمر الله المسلمين بالتوحيد والإخلاص ، (وَأَنَّهُ) أي وأوحى إلى أن الحديث (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) ، أي لما قام النبي يعبد الله لصلاة الفجر ببطن نخل كاد الجن يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته ومن اقتداء أصحابه به قائما ، وراكعا ، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله ، وقرأ نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف بناء على أن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى ، والمعنى : وأنه لما أقام النبي يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمين ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله ، فأبى الله إلا أن ينصره على من عاداه ، وقرأ هشام «لبدا» بضم اللام. والباقون بكسرها.

واعلم أن «أن» المشددة في هذه السورة ستة عشرة ، ثنتان منها يجب فيهما الفتح «أنه استمع» و «أن المساجد لله». وواحدة يجب فيها الكسر «إنا سمعنا». وثلاثة عشر يجوز فيها الوجهان فالاثنتا عشرة فتحها الأخوان وابن عامر ، وحفص ، وكسرها الباقون وهي : و «أنه تعالى جد ربنا» و «أنه كان يقول» و «أنا ظننا» ، و «أنه كان رجال» و «أنهم ظنوا» ، و «أنا لمسنا السماء» ، و «أنا منا» و «أنا لا ندري» ، و «أنا منا الصالحون» و «أنا ظننا» و «أنا لما سمعنا» ، و «أنا منا المسلمون». والواحدة كسرها ابن عامر وأبو بكر ، وفتحها الباقون وهي : و «أنه لما قام عبد الله» (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أي أعبده وأدعو الخلق إليه ، (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) (٢٠) أي ولا أشرك بربي في العبادة أحدا. قرأ العامة «قال» على الغيبة. وقرأ عاصم وحمزة «قل» ليكون نظير لما بعده ، وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا ، ونحن نجيرك. فنزلت. وهذا حجة لعاصم وحمزة ، ومن قرأ «قال» حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إنما أدعو ربي» ، فحكى الله ذلك عنه بقوله قال : أو يكون ذلك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم ، (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك : (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) (٢١) ، أي إني لا أقدر أن

٥٧٢

أدفع عنكم ضرا وكفرا ، ولا أسوق إليكم نفعا ولا هدى. وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة. ومعنى الكلام أن النافع والضار ، والمرشد والمغوي هو الله وأن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه ، وقرأ أبيّ «غيا ولا رشدا». (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن عصيته (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٢) أي ملجأ ، وموضع الاختفاء إن أرادني بضر ، (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ). وهذا استثناء من قوله : (لا أَمْلِكُ) وقوله : (وَرِسالاتِهِ) عطف على بلاغا ومن الله صفته لا صلته ، أي لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني بها ، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالتوحيد (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) العامة على كسر همزة إن لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ، ولذلك حمل سيبويه ومن عاد فينتقم الله منه ، ومن كفر فأمتعه ، ومن يؤمن بربه فلا يخاف ، على أن المبتدأ فيها مضمر. وقرأ طلحة بفتحها على أنها مع ما في حيزها في تأويل مصدر واقع خبرا لمبتدأ مضمر تقديره : فجزاؤه أن له نار جهنم ، أو فحكمه أن له نار جهنم كقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١] أي فحكمه أن لله خمسه ، (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢٣) بلا نهاية (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من فنون العذاب في الآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) (٢٤) ، أي أعوانا ، فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين ، أو في جانب الكفار ، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) (٢٥) ، أي أجلا بعيدا لما سمع المشركون ذلك قال النضر بن الحرث إنكارا له واستهزاء به : متى يكون ذلك الموعود؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية : (قُلْ) لمن تعجلوا بالعذاب (إِنْ أَدْرِي) فإن وقوعه متيقن ، أما وقت وقوعه فغير معلوم ، (عالِمُ الْغَيْبِ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم بنزول العذاب. وقرئ بالنصب على المدح. وقرأ السدي «علم الغيب» بصيغة الماضي ونصب «الغيب» ، (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) (٢٦) أي لا يطلع الله على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين أحدا من خلقه ، (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، أي إلا رسولا ارتضاه لاطلاعه على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. وقرأ الحسن «يظهر» بفتح الياء والهاء و «أحد» فاعل به ، (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٢٧) أي فإن الله تعالى يجعل من جميع جوانب ذلك الرسول عند اطلاعه على غيبه حرسا من الملائكة يحفظونه من الجن لئلا يستمعوا قراءة جبريل ، فيلقوها إلى النكهة قبل الرسول ، حتى يبلغ جبريل ما أطلعه الله عليه من بعض الغيوب.

وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره ، فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين عنه ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان ، فيحذره ، فإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) واللام متعلق بـ «يسلك» ، وضمير «أبلغوا» إما للرصد فالمعنى أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتضى ليعلم الله أن الشأن قد أبلغ الرصد رسالات ربهم سالمة عن

٥٧٣

الاختطاف والتخليط علما حاصلا بالفعل ، وإما لمن ارتضى فالمعنى : ليعلم أنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعد ما أبلغها الرصد إليهم كذلك ، (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) حال من فاعل «يسلك» ، أي يسلكهم ليترتب على السلك علمه تعالى بما ذكر والحال أنه تعالى قد أحاط بما عند الرصد ، أو عند الرسل من الأحوال جميعا ، (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) مما كان وما سيكون (عَدَداً) (٢٨) أي فردا فردا. وهو تمييز منقول من المفعول به. وقرئ «ليعلم» بالبناء للمفعول.

٥٧٤

سورة المزمل

وهي عشرون آية ، مائتان وخمس وثمانون كلمة ، ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهجينا لما كان عليه من الحالة حيث كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متلففا بقطيفة ، مستعد للنوم كما يفعله من لا يهمه أمر ، فأمر بأن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة ، والهجود إلى التهجد. وقرئ «يا أيها المتزمل». (قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى صلاة الليل (إِلَّا قَلِيلاً) (٢) (نِصْفَهُ) بدل من الليل ، (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) (٣) أي أو انقص القيام من النصف نقصا قليلا إلى نصف النصف ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي أو زد القيام على النصف إلى الثلثين ، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) أي بين القرآن في أثناء القيام تبيينا بأن يبين جميع الحروف ، ويوفي حقها (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) ، أي سنوحي قرآنا منطويا على تكاليف شاقة على المكلفين ، (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) بفتح الواو وسكون الطاء عند الجمهور. وقرأ قتادة وشبل بكسر الواو وسكون الطاء ، والمعنى : أن قيام الليل بالصلاة هي أشد نشاطا وثبات قدم.

وقرأ أبو عمرو وابن عامر «وطاء» بكسر الواو وفتح الطاء ، أي موافقة للخشوع والإخلاص (وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦) أي أصوب قراءة ، وأحسن لفظا من النهار لسكون الأصوات ، (إِنَّ لَكَ) يا سيد الرسل (فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) ، أي تقلبا طويلا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل. وقرئ «سبخا» بالخاء المنقطة من فوق ، أي تفرق قلب بالشواغل ويقال المعنى : إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه ، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي دم على ذكر اسم ربك ليلا ونهارا على أيّ وجه كان من تسبيح وتهليل ، وتحميد ، ودعاء ، وصلاة ، وقراءة قرآن ، ودراسة علم.

قال سهل : أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك توصلك ببركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه اه. أي سواء قرأت في الصلاة أو في خارجها ، وهذا إذا قرأ من أول سورة ، وأما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة سن له أن يبسمل وإن كان فيها لم تسن له البسملة ، لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة ، (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) أي انقطع إلى الله تعالى عن الدنيا بإخلاص العبادة ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالجر على البدل من ربك ، أو على القسم بإضمار حرف

٥٧٥

القسم ، وعند ابن عباس ، لكن قراءته «رب المشارق والمغارب». والباقون بالرفع على المدح وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير : هو أو على الابتداء وخبره جملة ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩) فالإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة فيكون في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين. وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين. وقوله : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) إشارة إلى مقدم التفويض وهو أن يرفع الاختيار ويفوض الأمر بالكلية إليه تعالى ، فإن أراد الله أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل ، وإن أراد له عدم التبتل رضي الله به لا من حيث ذلك بل من حيث ذلك مراد الله تعالى وهاهنا آخر الدرجات ، (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) مما لا خير فيه فمن أراد المخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير ، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠) بأن يجانبهم بقلبه ويخالفهم في الأفعال مع المداراة ، وترك المكافأة وهذا هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يأتي النسخ بمثله ، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) أي اتركني وأرباب التنعم وكل أمرهم إلي ، وهم صناديد قريش ، وهذا بفتح النون فهو بمعنى الترفه ، إما بكسرها فهي بمعنى الأنعام وإما بضمها فهي بمعنى المسرة ، (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (١١) أي زمانا قليلا أيام الحياة الدنيا فقتلوا ببدر ، (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي إن لهم عندنا في الآخرة أمورا مضادة لتنعمهم قيودا تقيد بها أرجلهم وأغلالا تغل بها إيمانهم إلى أعناقهم وسلاسل توضع في أعناقهم ، (وَجَحِيماً) (١٢) أي نارا عظيمة يدخلونها (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) ، أي تمسك في الحلوق وهو الزقوم والضريع (وَعَذاباً أَلِيماً) (١٣) وهو أنواع العذاب (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا ، أي استقر لهم عندنا ما ذكر يوم تزلزل الأرض وأوتادها ، وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول ، (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (١٤) ، أي وصارت الجبال ترابا متناثرا بعضه على بعض لرخاوته ، وسمي الكثيب كثيبا ، لأن ترابه دقاق ، (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) يا أهل مكة (رَسُولاً) ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر التكذيب ، (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ) ملك مصر (رَسُولاً) (١٥) ـ وهو موسى عليه‌السلام ـ (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) الذي أرسلناه إليه ، (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) (١٦) أي فعاقبناه عقوبة شديدة ـ وهي الغرق ـ (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (١٧) أي فكيف تقون أنفسكم إن بقيتم على الكفر في الدنيا عذاب يوم يصير ذلك اليوم الولدان شمطا ، إذا سمعوا حيث يقول الله لآدم : ابعث بعثا من ذريتك إلى النار. قال آدم : يا رب ، من كم؟ قال الله تعالى : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. وقرأ زيد بن علي «يوم يجعل» بإضافة الظرف للجملة والفاعل ضمير راجع إلى الله تعالى ، أي فكيف لكم يا أهل مكة بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ، (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ، أي منشق بذلك

٥٧٦

اليوم لشدة هوله وهذه الجملة صفة ثانية لـ «يوما» وقرئ «متفطر» أي متشقق ، (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (١٨) والمصدر إما مضاف للمفعول أي كان وعد ذلك اليوم مفعولا ، أي كان الوعد المسند إلى ذلك اليوم واجب الوقوع ، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه ، وإما مضاف إلى الفاعل أي كان وعد الله لمجيء ذلك اليوم واقعا لا محالة ، لأنه تعالى منزه عن الكذب ، (إِنَّ هذِهِ) أي الآيات (تَذْكِرَةٌ) أي موعظة مشتملة على أنواع الإرشاد (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩) أي فمن شاء النجاة اشتغل بالطاعة واحترز عن المعصية ، فإن ذلك هو المنهاج الموصل إلى مرضاته تعالى ، (إِنَّ رَبَّكَ) يا أشرف الخلق (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).

قرأهما ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصبهما معطوفين على «أدنى» ، أي أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف والثلث. والباقون بجرهما معطوفين على «ثلثي الليل» ، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من النصف والثلث ، (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) معطوف على ضمير «تقوم» ، أي ويقوم معك جماعة من أصحابك ، (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فلا يعلم مقادير أجزاء الليل والنهار إلا الله تعالى (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي علم الله إن الحديث لن تقدروا على تقدير الأوقات ، ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدا ، فالضمير عائد إلى مصدر الفعل ، أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة ، ولا يمكنكم تحصيل تلك المقادير على سبيل الظن إلا مع المشقة التامة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي فرجع الله بكم إلى ترخيص ترك القيام المقدر ، (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ولو ركعتين. والصحيح أن أول ما فرض عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الدعاء إلى التوحيد : التهجد على التخيير المذكور أول السورة فعسر عليهم القيام به ، فنسخ بما تيسر من التجهد ، ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس ، (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) أي علم الله أنه سيوجد منكم مرضى لا يستطيعون الصلاة بالليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، أي وسيوجد آخرون يسافرون في الأرض يطلبون رزق الله يشق عليهم صلاة الليل ، (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وسيوجد آخرون يجاهدون في طاعة الله ، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم ، لأنهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ، أي فصلوا ما تيسر لكم من التهجد. وهذا تأكيد للأول ، فالأول مفرع على قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) إلخ. وهذا مفرع على قوله : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) إلخ فكل واحد من المؤكد والمؤكد مفرع على حكمة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي المفروضة (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوا زكاة أموالكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بأن تنفقوا سائر الإنفاقات في سبيل الخيرات عن طيب قلب (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي خير كان من عبادات البدن والمال (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت كما قاله ابن عباس.

وقرأ أبو السمال «هو خير وأعظم أجرا» بالرفع على الابتداء والخبر ، (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في كافة أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لجميع الذنوب (رَحِيمٌ) (٢٠) للمؤمنين.

٥٧٧

سورة المدّثّر

ست وخمسون آية ، مائتان وخمس وخمسون كلمة ، ألف وعشرة أحرف.

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) أي يا من لبس الدثار وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد.

روى جابر بن عبد الله أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنت على جبل حراء فنوديت : يا محمد ، إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا ، فنظرت فوقي ، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض ، فخفت ، ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني دثروني دثروني وصبوا علي ماء باردا فنزل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)»(١)

وعن الزهري : إن أول ما نزل سورة : (اقْرَأْ) [العلق : ١] إلى قوله تعالى : (ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٥] ، ثم انقطع الوحي ، فحزن رسول الله وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبريل عليه‌السلام وقال : إنك نبي الله ، فرجع إلى خديجة فقال : «دثروني وصبوا علي ماء باردا» (٢) فنزل جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ). (قُمْ فَأَنْذِرْ) (٢) أي قم من مضجعك ، فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) أي عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان ، (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) عن النجاسات ويقال : و «ثيابك فقصر» ، لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم ، فكانت ثيابهم تتنجس ، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والتكبير ، فنهى الرسول عن ذلك.

وقال أكثر المفسرين : أي وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة. وقال الحسن : وخلقك فحسن ، (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٥).

قرأ عاصم في رواية حفص بضم الراء في هذه السورة ، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر. قال أبو العالية : «الرجز» بضم الراء : الصنم ، وبالكسر النجاسة والمعصية.

وقال ابن عباس : أي المأتم فاترك ولا تقربنه أي دم على تركه ، (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) مرفوع منصوب المحل على الحال ، أي ولا تعط طالبا للكثير ، (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧).

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٣٩٢) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب : سورة المدّثّر.

(٢) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٣٩٢) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب : سورة المدّثّر.

٥٧٨

روي أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام الوليد ودخل داره ، فقال القوم : إن الوليد قد صبا ، فدخل عليه أبو جهل وقال : إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك ، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره ، فقيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الوليد بقي على دينه الباطل لأجل المال ، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق ، لا لشيء غيره ، وهذا الأمر كله تعريض بالمشركين كأنه قيل لرسول الله : وربك فكبر ، لا الأوثان ، وثيابك فطهر ولا تكن كالمشركين فهم نجس البدن والثياب ، والرجز فاهجر ولا تقربه كما تقربه الكفار ، ولا تمنن تستكثر كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال ، وكانوا يستكثرون ذلك القليل ، أي كانوا رائين لما يعطونه كثيرا ، ولربك فاصبر على هذه الطاعات لا للأعراض العاجلة من المال والجاه ، (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٩) أي فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فوقت النقر يوم إذ نقر يوم عسير على الكل من المؤمنين والكافرين ، كما روي أن الأنبياء يومئذ يفزعون ، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد وذلك قوله تعالى. (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) وعلى المؤمنين يسير ، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١) منصوب على الذم والتقدير : أعني وحيدا أو حال من العائد المحذوف ، أي اتركني ومن خلقته منفرد ، أي بلا أب فهو زنيم ، أو منفردا في الشرارة وهو الوليد بن المغيرة المخزومي ، لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه لرئاسته ويساره وتقدمه في الدنيا ، وكان يلقب بالوحيد وكان يقول : أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير ، (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) (١٢) أي مبسوطا.

قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل والبقرة ، والغنم ، والحجور ، والجنان ، والعبيد ، والجواري.

وقال مقاتل : كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا ، (وَبَنِينَ) ثلاثة عشر كما قاله أبو مالك وسعيد بن جبير ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهو سيف الله وسيف رسوله وهشام وعمارة ، (شُهُوداً) (١٣) أي حضورا معه بمكة لا يفارقونه ألبتة لأنهم كانوا أغنياء ، (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١٤) أي وبسطت له الجاه والرياسة في قومه حتى لقب ريحانة قريش ووحيدا ، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (١٥) على ما أوتيه. قيل : إنه كان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة الأولى (كَلَّا) ، أي لا تكون له زيادة على ذلك أصلا فليرتدع من هذا الطمع ، فلم يزل الوليد بعد قوله تعالى : (كَلَّا) في نقصان ماله حتى افتقر ومات فقيرا ، (إِنَّهُ) أي الوليد بن المغيرة (كانَ لِآياتِنا) الدالة على التوحيد والقدرة والعدل ، وصحة النبوة ، وصحة البعث (عَنِيداً) (١٦) أي رادا وهو يعرفها بقلبه وينكرها بلسانه ، وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١٧) أي سأكلفه مشقة من العذاب. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت ، فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت ، فإذا رفعها عادت وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصعود جبل من نار

٥٧٩

يصعد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي فيه كذلك أبدا ، (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (١٨) أي إن العنيد فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقوله ، (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (١٩) أي فلعن في دنياه على أي كيفية أوقع تقديره ، (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٢٠) أي ثم لعن فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة على أي حال كان تقديره ، وهذا تعجيب من قوة خاطره ، (ثُمَّ نَظَرَ) (٢١) في ذلك المقدر في القرآن مرة بعد مرة (ثُمَّ عَبَسَ) أي قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا ، ولم يدر ماذا يقول ، (وَبَسَرَ) (٢٢) أي قبض جبينه ، (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحق (وَاسْتَكْبَرَ) (٢٣) أي تعظم عن اتباعه ، (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢٤) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقل عن أهل بابل ، (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) أي ما هذا الذي أتى به محمد إلا قول البشر جبر ويسار.

روي أن الوليد مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ (حم) السجدة ، فلما وصل إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال لهم : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو ولا يعلى عليه ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبا الوليد ولو صبا لصبأت قريش كلها ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، ثم دخل عليه محزونا فقال : مالك يا بن أخي؟ فقال : إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه ، وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد. فقال : والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا! ولكني تفكرت في أمره كثيرا فلا أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر ، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم : تزعمون أن محمد مجنون فهل رأيتموه يخنق قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهن؟ فقالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا : اللهم لا ثم قالوا : فما هو؟ ففكر ، فقال : ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن أهل بابل ، فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله ، متعجبين منه ، فلما أقر الوليد بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله في الآخر من أن القرآن سحر وقول البشر إنما ذكره على سبيل العناد لا على سبيل الاعتقاد ، فإن السحر يتعلق بالجن ، (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٢٦) أي سأدخله في الطبقة السادسة من جهنم المسماة بسقر (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) (٢٧) أي أيّ شيء أعلمك ما هي في وصفها ، (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (٢٨) أي لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا إلا أكلته ، فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبدا ، وهذه رواية عطاء عن ابن عباس. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) (٢٩) أي ظاهرة للبشر من مسيرة خمسمائة عام. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة وزيد بن علي ، وعطية «لواحة» بالنصب على الاختصاص ، أو على الحال المؤكدة ، أي مغيرة للأبشار (عَلَيْها) أي النار ، (تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) ملكا.

٥٨٠