مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

لكم تحليل أيمانكم بالكفارة ، فإذا كفر الحالف صار كمن لم يحلف. وقرئ كفارة أيمانكم ، (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي حافظكم وناصركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم (الْحَكِيمُ) (٢) أي المتقن في أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا ما تقتضيه الحكمة ، (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) أي واذكر إذ أخبر النبي حفصة في السر بكلام استكتمها ذلك.

قال ابن عباس : لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين ، تحريم مارية على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أبي بكر وأبيها عمر ، (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ).

قرأ الجمهور بتشديد الراء ، أي فلما أخبرت حفصة بسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة ظنا منها أنه لا حرج عليها في ذلك ، وأطلع الله نبيه على ما أخبرت حفصة عائشة بين النبي لحفصة بعض ما قالت لعائشة من خلافة أبي بكر وعمر وعاتبها على ذلك خوفا من أن ينشر في الناس ، فربما أثار حسد بعض المنافقين. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «ويلك ألم أقل لك اكتمي علي!» قالت : والذي بعثك بالحق نبيا ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خصّ الله تعالى بها أبي. وقرأ الكسائي بالتخفيف أي جازى على ذلك البعض بأن طلق حفصة مجازاة على بعض ما فعلت ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي وسكت عن بعض من تحريم مارية القبطية على نفسه ، ولم يلم حفصة على ذكر ذلك حياء وحسن عشرة ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي فلما أخبر النبي حفصة بما قالت لعائشة (قالَتْ) أي حفصة : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي من أخبرك بأني أفشيت السر لعائشة ، وقد ظننت أن عائشة هي التي أخبرته. (قالَ) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٣) بقولك لعائشة وبقولي لك. (إِنْ تَتُوبا) يا حفصة ويا عائشة من إيذائكما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَى اللهِ) تاب الله عليكما (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، إذ قد مالت قلوبهما عن الحق وأحبت ما كرهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو اجتنابه جاريته. وقرئ «فقد زاغت». (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي وإن تتعاونا أنتما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء لم يضره ذلك التعاون منكما ، فإن الله ناصره ، وجبريل رئيس الكروبيين وأبو بكر وعمر ، كما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس وبه قال عكرمة ومقاتل ، (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد نصر من ذكر (ظَهِيرٌ) (٤) أي أعوان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله : (جِبْرِيلُ) عطف على محل اسم «إن» قبل دخولها وكذا «وصالح المؤمنين» ، فـ «مولاه» خبر عن الكل فيقدر بعد كل واحد منهما ، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله تعالى : (مَوْلاهُ) ويكون «جبريل» مبتدأ وما بعده عطف عليه ، و «ظهير» خبرا لجميع. وقرأ الكوفيون «تظاهرا» بتخفيف الظاء وإسقاط إحدى التاءين. والباقون بتشديدها. وقرئ على الأصل أي بالتاءين ، وقرئ «تظهرا». (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ). وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال. والباقون وهم أهل الكوفة بسكونها.

٥٤١

وقال ابن عرفة : و «عسى» هنا للتخويف لا للوجوب ، وجملة «عسى» واسمها وخبرها جواب الشرط أي إن طلقكن فعسى ربه أن يبدله (مُسْلِماتٍ) أي مقرات بالألسن ، (مُؤْمِناتٍ) أي مصدقات بالقلوب بتوحيد الله تعالى ، (قانِتاتٍ) أي مطيعات لله ولأزواجهن.

وقيل : قائمات بالليل للصلاة (تائِباتٍ) من الذنوب ، (عابِداتٍ) أي كثيرات العبادات متذللات لأمر الرسول عليه‌السلام ، (سائِحاتٍ) أي صائمات كما قاله ابن عباس ، أو مهاجرات كما قاله الحسن. وقرئ «سيحات». (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٥) فالثيب : تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلا ، وأسرع حبلا غالبا ، والبكر : تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة غالبا ، وسميت الثيب ثيبا ، لأنها ثابت أي رجعت إلى بيت أبويها ، وسميت العذراء بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) أي علموا أنفسكم ونساءكم وأولادكم الخير ، وأدبوهم بأن تأمروهم بالخير وتنهوهم عن الشر تقوهم بذلك نارا ، وقرئ «وأهلوكم» عطفا على «واو قوا» فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل ، أي قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم نارا ، (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي حطبها الكفار وحجارة الكبريت. وقرئ «وقودها» بضم الواو (عَلَيْها) ، أي النار (مَلائِكَةٌ) تسعة عشر وهم الزبانية ، (غِلاظٌ) أي غلاظ القلوب لا يرحمون ، إذا استرحموا خلقوا من الغضب وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب ، (شِدادٌ) أي شداد الخلق ، أقوياء على الأفعال الشديدة ، (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) بدل اشتمال من الله ، أي لا يعصون أمره ، أو منصوب على نزع الخافض. أي فيما أمرهم به من عذاب أهل النار ، (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) أي يؤدون ما يؤمرون به من غير توان ويقولون للكفار عند ادخالهم النار : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) إذ الاعتذار هو التوبة ، وهي غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار ، (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) ، أي جزاء أعمالكم ، أي إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي بالغة في النصح بأن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة ، لا يعودون إليها ، وقرأ شعبة بضم النون وهو مصدر ، أي ذات نصوح أو تنصح نصوحا ، أو توبوا لينصح أنفسكم. والباقون بفتحها فهو صفة مشبهة ، (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي أن يغفر لكم ذنوبكم بالتوبة (وَيُدْخِلَكُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) ظرف «ليدخلكم» ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي صاحبوه في وصف الإيمان ، والموصول إما معطوف على النبي وإما مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) عند المشي على الصراط ، (وَبِأَيْمانِهِمْ) أي ويسعى عنن إيمانهم عند الحساب ، لأنهم يؤتون التاب بإيمانهم وفيه نور (يَقُولُونَ) أي المنافقين خائفين من أن يطفأ نورهم (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي أبق لنا نورنا (وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨). وقيل : الذين يمرون على الصراط حبوا وزحفا هم

٥٤٢

الذين يقولون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا). (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف والسنان (وَالْمُنْفِقِينَ) بالحجة واللسان ، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي واشدد على كلا الفريقين فيما تجاهدهما من القتال والمحاجة ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٩) مصيرهم (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفار ، (امْرَأَتَ نُوحٍ) والهة (وَامْرَأَتَ لُوطٍ) والعة (١) (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) بالكفر ، كما قاله عكرمة والضحاك. وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط. وعن ابن عباس كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون ، وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه ، (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند الله تعالى عن زوجتيهما لما عصتا من عذاب الله شيئا ، وذلك تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة ، (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠) أي وتقول لهما خزنة النار : ادخلا النار مع الداخلين في النار (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) أي جعل الله حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان ، واسمها آسية بنت مزاحم آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه ، وتلقف العصا ، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان ، فإنه أوتدها بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس ، وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت : رب نجني من فرعون ، فرقى بروحها إلى الجنة ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ، (إِذْ قالَتْ) ـ ظرف لـ «مثلا» ـ : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) أي رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك ، (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) أي من نفسه الخبيثة ، (وَعَمَلِهِ) السيئ ، وهو شركه أو جماعه ، كما قاله ابن عباس ، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١) أي من القبط التابعين له في الظلم ، (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من الفواحش فإنها قذفت بالزنا (فَنَفَخْنا فِيهِ) أي في فرجها ، كما قاله البقاعي. وقرئ فيها أي في مريم. وقال الرازي : وقوله تعالى فيه أي في عيسى ومن قرأ فيها في نفس عيسى ، (مِنْ رُوحِنا) أي من روح خلقناه بلا توسط أصلا. والمعنى : أوصلنا إلى فرجها الريح الخارج من نفس جبريل لما نفخ في جيب قميصها ، فوصل إليه ، فحملت بعيسى ، (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) أي بالصحف المنزلة على إدريس وغيره. قال مقاتل : أي بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن بكلمة ربها بالإفراد وقرئ «بكلمة الله». (وَكُتُبِهِ) ، وقرأ أبو عمرو وحفص بصيغة الجمع أي بالكتب الأربعة ، والباقون و «كتابه» بالإفراد أي وبكتابه المنزل عليه وهو الإنجيل ، وقوله تعالى : (وَصَدَّقَتْ) بالتخفيف والتشديد على أن مريم جعلت الكلمات والكتب صادقة بمعنى وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) أي من القوم المطيعين لله في الشدة والرخاء.

__________________

(١) راجع مراح لبيد ، النووي (ج ١ / ص ٥٠٦).

٥٤٣

وقال عطاء : من المصلين ، وهم رهطها ، لأنهم أهل بيت صالحين ، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى ، وضرب هذه الأمثال مشتمل على فوائد : منها : التنبيه على الثواب العظيم والعذاب الأليم. ومنها : العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد ، وفساد الغير لا يضر المصلح. ومنها : أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه. ومنها : العلم بأن إحصان المرأة مفيد غاية الإفادة. ومنها : التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب ، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب.

٥٤٤

سورة الملك

وتسمى الواقية والمنجية ، لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر. وعن ابن عباس

أنه كان يسميها المجادلة ، لأنها تجادل عن قارئها في القبر ، وتدعى في التوراة المانعة ،

مكية ، ثلاثون آية ، ثلاثمائة وخمس وثلاثون كلمة ، ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي تنزه الذي في قدرته سائر الكائنات عن أن يكون جسما أو في مكان غير ذلك من صفات الحوادث ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (قَدِيرٌ) (١) يتصرف فيه حسب ما تقتضيه مشيئته يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع ، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) فالموت صفة وجودية مضادة للحياة. والمراد به الموت الطارئ ، وبالحياة ما قبله وما بعده. وروى الكلبي عن ابن ابن عباس : أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ، ودون البغل ، لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي اهـ.

وهذا كلام وارد على منهاج التمثيل والتصوير. (لِيَبْلُوَكُمْ) وهو متعلق بخلق ، أي خلق موتكم وحياتكم ليعاملكم معاملة من يختبركم ، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أخلص عملا وأصوبه كما قاله الفضيل ابن عياض اهـ.

وقال قتادة : أي أيكم أحسن عقلا ، أي أتمكم عقلا ، وأشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا.

وقال الحسن : أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركا لها. وقال السدي : أيكم أكثر للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد خوفا وحذرا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ، (الْغَفُورُ) (٢) لمن تاب من أهل الإساءة (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي مطابقة بعضها فوق بعض ، والسماء الدنيا محيطة بالأرض إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب ، والثانية محيطة بالسماء الدنيا ، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطا بالكل ، (ما تَرى) أيها المخاطب (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ) للسموات ولغيرها (مِنْ تَفاوُتٍ) ، أي من عدم تناسب.

٥٤٥

قرأ حمزة والكسائي «من تفوت» بتشديد الواو ، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي رد بصرك إلى السماء (هَلْ تَرى) فيها (مِنْ فُطُورٍ) (٣) ، أي شقوق وعيوب ، (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي ارجع البصر إلى السماء رجعة بعد رجعة وإن كثرت (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) ، أي بعيدا من إصابة ما التمسه من العيب ، (وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤) أي كليل لكثرة المراجعة ، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي القربي من الناس (بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج ، (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي جعلنا الكواكب رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من نار الكواكب ، إذا أرادوا استراق السمع ، (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) في الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ) (٥) بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ، (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من الشياطين وغيرهم ، (عَذابُ جَهَنَّمَ).

وقرئ بالنصب على أنه عطف على عذاب السعير ، كما أن «للذين» عطف على «لهم» ، فهو عطف المفرد على المفرد وعلى هذا ، فالوقف على «السعير» جائز. وإن قرئ عذاب جهنم بالرفع كما هو قراءة الجمهور فالوقف على «السعير» تام ، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٦) جهنم (إِذا أُلْقُوا) أي الكفار (فِيها سَمِعُوا لَها) أي لجهنم (شَهِيقاً) أي صوتا كصوت الحمار ، (وَهِيَ تَفُورُ) (٧) أي والحال أن جهنم تغلي بهم غليان المرجل بما فيه ، (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تقرب جهنم تتفرق من شدة الغضب على الكفار.

وقرئ شاذا «تتميز» على الأصل ، (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي جماعة من الكفرة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) بطريق التوبيخ والتقريع ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٨) يتلو عليكم آيات ربكم وينذركم لقاء يومكم هذا؟ (قالُوا) اعترافا منهم بعدل الله وإقرارا بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) ذلك النذير في كونه نذيرا من جهة الله تعالى (وَقُلْنا) في حق ما تلاه من الآيات : (ما نَزَّلَ اللهُ) على أحد (مِنْ شَيْءٍ) أي من كتاب ، (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٩) أي ما أنتم أيها النذر ـ في ادعاء أنه تعالى نزّل عليكم آيات ـ إلا في ضلال كبير أي بعيد عن الصواب ، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار. والمعنى : ما أنتم أيها الكفار إلا في ضلال كبير في الدنيا ، وهو الشرك بالله ، وفي هلاك عظيم في العذاب. (وَقالُوا) للخزنة : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١٠) أي لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل من كان متفكرا لما كنا اليوم مع أهل الوقود في النار ، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي أقروا بتكذيبهم الرسل وبكفرهم بآيات الله ، (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١) وهو منصوب إما على المفعول به أي ألزمهم الله سحقا ، أي بعدا من رحمته أو على المصدر والتقدير : سحقهم الله سحقا أي باعدهم الله من رحمته مباعدة. وقرأ الكسائي بضم الحاء (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي حال كونهم في الخلوة حيث لا يراهم الناس ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١٢) في الجنة (وَأَسِرُّوا) أيها الناس (قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٣) ، أي عليم بالقلوب وأحوالها ، فاحذروا من المعاصي سرا

٥٤٦

كما تحترزون عنها جهرا ، فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى.

قال ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله ، فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد ، فأنزل الله هذه الآية (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد جميع الأشياء ، فمن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) ، أي والحال أنه تعالى الفاعل للأشياء اللطيفة ، العالم ببواطن الأمور (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ، أي لينة يسهل عليكم السلوك فيها ، (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي فاسلكوا في جوانبها ، (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي كلوا مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض ، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) أي المرجع بعد البعث ، فبالغوا في شكر نعمه ، (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فـ «أن يخسف» بدل اشتمال من «من» ، أي أتأمنون يا أهل مكة من قد أقررتم بأنه في السماء ، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء ، وهو متعال عن المكان أن يغور بكم الأرض بعد ما جعلها لكم لينة ، (فَإِذا هِيَ) أي الأرض (تَمُورُ) (١٦) أي تضطرب وتتقلب ، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أي بل أأمنتم أيها المكذبون من تزعمون أنه في السماء ، وهو منزه عن المكان (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي ريحا فيها حجارة ، (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) (١٧) أي فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١٨) أي إنكاري وتغييري عليكم أليس وجدوا العذاب حقا ، (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أغفلوا ولم ينظروا (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها (وَيَقْبِضْنَ) أي يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجو عند البسط والقبض (إِلَّا الرَّحْمنُ) أي الواسع رحمته كل شيء ، وهذه الجملة مستأنفة ، فالوقف على يقبضن تام كالوقف هنا (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١٩) فيكون الله رائيا لنفسه ولجميع الموجودات ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) أي بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم فـ «أم» بمعنى بل و «من» اسم استفهام مبتدأ خبره اسم الإشارة. وقرأ طلحة بتخفيف الميم هنا وتشديده ، ثم والمعنى : أهذا الذي هو جند لكم أم الذي يرزقكم ، (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) (٢٠) أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان ، فهو يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم ، أعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بمالهم وجندهم. وثانيهما : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات وقد أبطل الله عليهم الأول بقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) الآية. ورد عليهم الثاني بقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أي بل من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم بل لو كان الرزق موجودا سهل التناول ، فوضع الآكل لقمة في فيه ، فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد لعجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوا تلك اللقمة ، (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١) أي بل تمادوا في أباء عن الحق

٥٤٧

وشراد عن الإيمان ، ثم ضرب الله مثلا للمشرك والموحد فقال : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢) ، أي أفمن يمشي في مكان غير مستو فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصد ، أم من يمشي معتدلا على طريق مستو لا عوج فيه ولا انحراف سالما من العثور والخرور؟ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي أوجدكم إيجادا بديعا ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا به الآيات القرآنية ، (وَالْأَبْصارَ) لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية ، (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا بها فيما تسمعونه من الآيات التنزيلية ، وفيما تشاهدونه من الآيات التكوينية ، (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٢٣) لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه ، وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل إلى غير طلب مرضاته ، فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) ، أي خلقكم وكثركم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤) في الآخرة للجزاء ، (وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة من فرط عنادهم ، (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الحشر الموعود (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) أي إن كنتم صادقين بما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته ، (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت مجيئه (عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه غيره ، (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٦) أنذركم وقوع الموعود ، فإن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع ، فالعلم الأول كاف في الإنذار ، العلم الثاني ليس إلا الله ، (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي العذاب بعد الحشر (زُلْفَةً) أي ذا قرب (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اسودت وجوههم ، وعلتها الكآبة ، وصارت كوجه من يقاد إلى القتل ، (وَقِيلَ) أي قال لهم الخزنة توبيخا : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧) أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاء ، أو هذا الذي كنتم تدعون أنه باطل لا يأتيكم.

وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ، ويعقوب ، وأبو زيد ، وأبو بكر ، وابن أبي عبلة ، ونافع في راوية الأصمعي بسكون الدال من الدعاء وهي مؤيدة للقول بأن تدعون مثقلة من الدعاء في قراءة العامة. وقيل : من الدعوى. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) ، أي إن أماتني الله (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا ، فأيّ راحة لكم في ذلك ، وأي منفعة لكم فيه.

يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك حين خوّفهم النبي بعذاب الله ، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٨) أي من الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم أتظنون أن الأصنام تجيركم ، فإذا علمتم أن لا مجير لكم منه سواء متنا أو بقينا فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث ، (قُلْ هُوَ) أي الذي أدعوكم إلى عبادته (الرَّحْمنُ) أي معطي النعم كلها (آمَنَّا بِهِ) ولم نكفر به كما كفرتم ، (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) لا على غيره كما فعلتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم وهو لا يقبل دعاءكم ، لأنكم أهل الكفر ، (فَسَتَعْلَمُونَ) عند معاينة العذاب في الآخرة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٩) أي ظاهر ، أنحن أم أنتم.

٥٤٨

وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بالياء التحتانية. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض بالكلية أو بحيث لا تناله الدلاء ، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠) أي ظاهر ، سهل المأخذ تراه العيون فلا بدلهم ، وأن يقولوا : لا يأتينا به إلا الله فقل لهم حينئذ : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ وكان ماؤهم من بئر زمزم ، وبئر ميمون. ويستحب أن يقول القارئ عقب (مَعِينٍ) : الله رب العالمين ، كما ورد في الحديث.

٥٤٩

سورة القلم

وتسمى سورة ن ، مكية ، اثنتان وخمسون آية ، ثلاثمائة

كلمة ، ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(ن) أقسم الله بالنون ، وهي السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها ، واسمها : ليواش ، وهي في الماء تحت الأرض السفلى وتحتها الثور ، واسمه : يهموت وتحته الصخرة ، وتحتها الثرى ، ولا يعلم ما تحته إلا الله تعالى وهذا مروي عن ابن عباس. وقيل : إنه تعالى أقسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه‌السلام في بطنه ، وقيل : إنه تعالى أقسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه. والقول الثاني : وهو مروي أيضا عن ابن عباس أن النون هو الدواة ، وعلى هذا أقسم الله تعالى بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة.

عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة» (١). (وَالْقَلَمِ) أقسم الله بالقلم وهو قلم من نور ، طوله كما بين السماء والأرض ، (وَما يَسْطُرُونَ) (١) أي وما كتب الملائكة في صحفهم يكتبون فيها المقادير التي تنفع في العالم ، ينتسخون ذلك من اللوح المحفوظ ، (ما أَنْتَ) يا أكرم الخلق (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢) أي أنت بريء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرئاسة العامة.

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته ، فلم تجده ، فإذا به وجهه متغير فقالت له : ما لك؟ فذكر نزول جبريل عليه‌السلام وأنه قال له : اقرأ باسم ربك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ ، ثم توضأت ، ثم صلى وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد» فلما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لخديجة ذهبت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها ، فسألته فقال : أرسلي إلي محمدا ، فأرسلته ، فأتاه فقال : هل أمرك جبريل أن تدعو إلى الله أحد فقال : لا ، فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا ، ثم مات

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير (٥ : ٤٤٨) ، والحاكم في المستدرك (٢ : ٤٥٤) ، وابن حبيب في مسند الربيع (٣ : ١٠) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٧ : ٣١٨).

٥٥٠

قبل دعاء الرسول ، فلما دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفار قريش إلى الله قالوا : إنه لمجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، (وَإِنَّ لَكَ) يا أكرم الخلق على ما تحملت من أثقال الرسالة ومن ألوان الشدائد من جهة قومك (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣) أي غير مقطوع ، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) كانت نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع ، ومقتضى الفطرة عن عائشة قالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، وقال أنس : خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما قال لي في شيء فعلته : لم فعلت؟ ولا في شيء لم أفعله : هلا فعلت. (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) (٥) أي فستعلم يا محمد ويعلم المشركون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل ، أو فسترى يا محمد ويرون في الدنيا أنك تصير معظما في القلوب وأنهم يصيرون ذليلين ، (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) والباء إما زائدة أي أيكم الذي فتن بالجنون ، أو بمعنى في أي الفريقين المجنون ، أفي فرقة الإسلام ، أم في فرقة الكفار ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم». وقيل : إن المفتون مصدر جاء على مفعول والتقدير : بأيكم الفتون؟ أي الجنون. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) ، أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله تعالى المؤدي إلى سعادة الدارين ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧) أي وهو أعلم بالعقلاء وهو المهتدون إلى سبيله ، الفائزون بكل مطلوب ، الناجون عن كل محذور ، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨) وهم رؤساء أهل مكة الذين دعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دين آبائهم ، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) أي تمنوا إن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك وإن يتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك ، و «لو» مصدرية ، أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك ، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي كثير الحلف في الحق والباطل ، (مَهِينٍ) (١٠) أي ضعيف في دين الله ، حقير في التدبير والتمييز ، (هَمَّازٍ) أي عياب طعان ، (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (١١) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم ، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال ، أو مناع للناس من الدخول في دين الإسلام (مُعْتَدٍ) أي ظلوم (أَثِيمٍ) (١٢) ، أي مبالغ في الإثم ، (عُتُلٍ) أي شديد الخصومة أو واسع البطن (بَعْدَ ذلِكَ) ، أي مع تلك المثالب (زَنِيمٍ) (١٣) ، أي دعي ملصق بالقوم وليس منهم ، والظرف متعلق «بزنيم»

قيل : هو الوليد ادعاه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من ولادته ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب ، ولما نزلت هذه الآية قال لأمه : إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها ، فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك. فقالت له : إن أباك أي المغيرة عنين ، فخفت على المال ، فمكنت الراعي من نفسي ، وكان للوليد عشرة من البنين ، وكان يقول لهم ولأقاربه : لئن تبع دين محمد أحد منكم لا أنفعه بشيء أبدا ، فمنعهم من الإسلام ، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وألفا ، ولا يعطي المسكين درهما واحدا. وهذه الآية عند أكثر المفسرين نزلت في

٥٥١

الوليد بن المغيرة ، وعند ابن عباس في أبي جهل ، وعند مجاهد في الأسود بن عبد يغوث ، وعند السدي في الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة. (أَنْ كانَ) أي لأجل أن كان هذا الموصوف ، (ذا مالٍ وَبَنِينَ) (١٤) ، وهذا إما متعلق بما قبله أي (لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) الآية ، لكثرة ماله وأولاده أو بما دل عليه ما بعده ، أي إنه كفر بآياتنا ، لأن كان ذا مال وبنين وفي قراءة سبعية «أأ» بهمزتين مفتوحتين أي ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه أو ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر ، وكان مال الوليد بن المغيرة نحو تسعة آلاف مثقال من فضة وبنوه عشرة ، (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٥) ، أي هي أحاديث الأولين في كذبهم ، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦) أي سنجعل له في الآخرة علامة على أنفه ، يعرف بها أهل القيامة أنه كان في عداوة الرسول وفي إنكار الدين الحق. كما قاله قتادة.

قال ابن عباس : أي سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال ، (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي أهل مكة بالقحط بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بعد يوم بدر سبع سنين (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي أهل البساتين كانت بصروان.

روي أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء ، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه وقالوا : عيالنا كثير والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان يفعل أبونا ، فأحرق الله جنتهم ، وكانوا بعد عيسى ابن مريم بزمن يسير ، (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (١٧) أي حين حلفوا بالله ليقطعن ثمر نخليهم في وقت الصباح ، (وَلا يَسْتَثْنُونَ) (١٨) أي لا يقولون : إن شاء الله أو ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعله أبوهم ، (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) (١٩) ، أي فطرقها في الليل طارق من عذاب الله.

قال الكلبي : أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون ، (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠) أي فصارت البساتين بالاحتراق شبيهة بالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق منها شيء ، أو صارت كالليل في اسودادها ، أو كالنهار في ابيضاضها من فرط اليبس (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) (٢٢) أي فنادى بعضهم بعضا عند طلوع الفجر ، أي اذهبوا إلى الثمار والزروع والأعناب ، فاصرموها إن كنتم قاصدين للصرم ولا تخبروا المساكين ، (فَانْطَلَقُوا) إلى البساتين (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) (٢٣) ، أي والحال أنهم يتسارون فيما بينهم كلاما خفيا (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (٢٤) ، و «أن» مفسرة أي لا تدخلوا مسكينا في البساتين. وقرأ ابن مسعود بطرح «أن» على إضمار القول. والمعنى : «يتخافتون» يقولون : لا تمكنوا المسكين من الدخول في البساتين حتى يدخل (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) (٢٥) أي وصاروا قاصدين إلى بساتينهم قادرين على صرامها ، ومنع منفعتها على المساكين في ظنهم ، أو أرادوا أن يحرموا المساكين وهم

٥٥٢

ظنوا أنهم قد أخطئوا الطريق فقالوا : إنا لضالون طريق بستاننا ، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا : لسنا ضالين بل نحن محرومون منفعة جنتنا بشؤم عزمنا على البخل ، ومنع الفقراء ، ويحتمل أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا : إنا لضالون في الاعتقاد حيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها ، وحيث كنا عازمين على منع الفقراء بل الأمر انقلب علينا فصرنا محرومين ، (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أفضلهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨) أي هلا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم حيث عزمتم على منع الزكاة؟ (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) عن أن يجري في ملكه ما لا يشاؤه ، (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٩) بالإقسام على جذ الجنة في الصباح ومنع المساكين وترك الاستثناء. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) (٣٠) أي يلوم بعضهم بعضا يقول واحد منهم : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر : أنت الذي خوفتنا بالفقر ويقول الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال. (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٣١) أي يا هلاكنا هذا وقت منادمتك لنا إنا كنا متجاوزين حد الله بمنعنا المساكين ، (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي أن يعطينا خيرا من جنتنا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالذنوب.

وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢) أي طالبون منه الخير ، راجون عفوه وروي أنهم قالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا ، فتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء ، فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها ، فإن الله أمر جبريل عليه‌السلام أن يقتلع تلك الجنة المحترقة ، فيجعلها بزعر من أرض الشام ، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها.

وقال ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : إن القوم أخلصوا ، وعرف الله منهم الصدق ، فأبدلهم الله جنة يقال لها : الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا واحدا كم كبره. وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة ، فرأيت فيها كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم ، (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة في صروان عذاب الدنيا لمن منع حق الله من ماله ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) لمن لا يتوب (أَكْبَرُ) من عذاب الله في الدنيا ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٣) أنه أكبر لاحترزوا عما يؤديهم إليه ، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الآخرة (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٣٤) ، أي جنات ليس لهم فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشويه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل فأقصى أمركم أن تساوونا فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (٣٥) أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين أي مساوين لهم في العطاء ، (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) أي أيّ شيء يحصل لكم يا أهل مكة ، وأيّ حال يدعوكم إلى هذا الحكم هل هو صادر عن اختلال فكر أو اعوجاج

٥٥٣

رأي ، (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) (٣٨) أي بل ألكم كتاب نازل من السماء فيه تقرأون أن لكم في ذلك الكتاب ما تشتهون في الآخرة. وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة ، وهو منصوب بـ «تدرسون» إلا أن في اسمها زيادة لام التأكيد ، (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) أي أم لكم عهود مؤكدة بالأيمان ، (بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) والجار والمجرور إما متعلق ببالغة ، أي أيمان تبلغ ذلك اليوم ، وإما بالمقدر أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، ويكون معنى بالغة مؤكدة. وقرأ زيد بن علي والحسن «بالغة» بالنصب على الحال من «أيمان» ، أو من الضمير في الظرف ، (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) (٣٩) وهذا جواب القسم ، لأن المعنى أقسمنا لكم أيمانا موثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم في الآخرة ، وهو أن تسووا بين المسلمين والكافرين ، (سَلْهُمْ) يا أشرف الرسل : (أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الحكم الخارج عن العقول (زَعِيمٌ) (٤٠) أي قائم (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي أو هل لهم ناس يساعدونهم على صحة ذلك القول (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي بمن يشاركونهم في ذلك القول ويكفلونه لهم بصحته ، (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٤١) في دعواهم ويقال : المعنى : أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب ، فليأتوا بآلهتهم إن كانوا صادقون أن لهم ما قالوا ، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي يوم يشتد الأمر.

قال أبو سعيد الضرير : أي يوم يكشف عن أصل الأمر أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها بحيث تصير عيانا. وقرئ «تكشف» بالتاء الفوقية على البناء للفاعل ، أو المفعول والفعل للحال ، أو للساعة أي يوم تشتد الحال ، أو الساعة عن أمر. وقرئ «تكشف» بالتاء المضمومة وكسر الشين ، أي يوم تدخل الحال في الكشف عن أمر كانوا في عمى منه في الدنيا. وقرئ «نكشف» بالنون (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) توبيخا على تركهم إياه في الدنيا بعد ما قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٤٢) السجود ، تبقى أصلابهم فقارة واحدة مثل حصون الحديد ، (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) حال من واو «يدعون» ، (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تلحقهم ذلة شديدة بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم ، (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي إلى الصلوات بالأذان والإقامة في الدنيا دعوة تكليف ، (وَهُمْ سالِمُونَ) (٤٣) أي أصحاء قادرون على الصلاة فلا يجيبون الداعي ، وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي خل يا أشرف الخلق بيني وبينهم فإني أكفيك أمرهم ، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي سننزلهم إلى العذاب درجة فدرجة ، (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤) أي كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار ، (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم ليزدادوا إثما (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥) أي إن ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه ، قوي لا يدفعه شيء ولا يطلع عليه أحد (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي أم تلتمس من أهل مكة أجرا دنيويا على الإيمان ، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) أي فهم لأجل ذلك مكلفون حملا ثقيلا من غرامة مالية يعطونكها ، فيعرضون عنك (أَمْ عِنْدَهُمُ

٥٥٤

الْغَيْبُ) أي أم عندهم علم ما غاب عنهم ، كأنه حضر في عقولهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧) على الله ، أي يحكمون عليه بما شاءوا (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ، (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) أي ولا يكن حالك يا أشرف الخلق كحال يونس عليه‌السلام من الضجر والمغاضبة فتبتلي ببلائه ، (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨) إذ نادى في بطن الحوت بقوله : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وهو مملوء غما ـ كما قاله ابن عباس ومجاهد ـ أو كربا ـ كما قاله عطاء وأبو مالك ـ والفرق بين الغم والكرب أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس ، (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (٤٩) أي لولا هذه النعمة التي هي توفيقه للتوبة وقبولها منه لطرح بالأرض الخالية من الأشجار مع وصف المذمومية. وقرئ «رحمة من ربه». وقرأ ابن هرمز والحسن «تداركه» بتشديد الدال. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «تداركته» ، (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي رد عليه الوحي بعد أن انقطع عنه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠) أي الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى.

روي أن هذه الآية نزلت في أحد حين حل برسول الله ما حل ، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا. وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف. (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) أي أنهم من شدة عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا ، بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك. وقرئ في السبعة «ليزلقونك» بضم الياء وفتحها. وقرئ «ليزهقونك».

روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله ، فنزلت هذه الآية. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي وقت سماعهم بالقرآن ، (وَيَقُولُونَ) لغاية حيرتهم في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُ) أي محمدا (لَمَجْنُونٌ) (٥١) فأجابهم الله تعالى بقوله : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢) ، أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عظة للجن والإنس.

٥٥٥

سورة الحاقة

مكية ، إحدى وخمسون آية ، مائتان وست وخمسون كلمة ، ألف وأربعمائة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) (٢) أي أيّ شيء هي (وَما أَدْراكَ) أي وأيّ شيء أعلمك (مَا الْحَاقَّةُ) (٣) أي إنك لا علم لك يا أشرف الخلق بكنهها ، ومدى عظمها ، والحاقة هي الساعة الثابتة الوقوع ، الواجبة المجيء ، أو التي تحق فيها الأمور ، أي تعرف على الحقيقة ، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) (٤) أي بالحالة التي تقرع قلوب الناس بالإفزاع وهي القيامة ، وقوارعها انفطار السماء ، وانشقاقها ، ودك الأرض ، ونسف الجبال ، وطمس النجوم وانكدارها ، (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٥) أي بالصيحة المجاوزة للحد في القوة ، (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) ، أي باردة (عاتِيَةٍ) (٦) ، أي مجاوزة للحد في شدة عصفها ، (سَخَّرَها) أي سلطها (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) ، أي متتابعة من صبيحة أربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر ، فكان آخرها هو اليوم الأخير منه ، (فَتَرَى الْقَوْمَ) أي قوم هود إن كنت حاضرا وقتئذ (فِيها) أي في مهاب الريح (صَرْعى) ، أي موتى مجندلين على الأرض ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٧) أي كأنهم أصول نخل ساقطة بالية ، (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨)؟ قال قوم : أي لم يبق من نسل أولئك القوم أحد.

وقال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام ، أحياء في عقاب الله من الريح ، فلما أمسوا اليوم الثاني ماتوا ، فاحتملتهم الريح ، فألقتهم في البحر ، فذلك قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ). (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء ، أي ومن عنده من أتباعه وجنوده ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وأبيّ وأبي موسى «ومن تلقاءه». وقرأ أبي أيضا ومن معه ، والباقون بفتح القاف وسكون الباء أي من تقدمه من الأمم. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي أهل القريات الخمسة المنقلبات قوم لوط ، وهي صنعة ، وصعرة ، وعمرة ، ودوما ، وسذوم (بِالْخاطِئَةِ) (٩) أي بالخطإ ، كتكذيب البعث ، وكاللواط والصفع والضراط ، وغير ذلك من أنواع المعاصي ، (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) موسى ولوطا وغيرهما ، (فَأَخَذَهُمْ) أي الله تعالى (أَخْذَةً رابِيَةً) (١٠) ، أي زائدة في

٥٥٦

الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي ارتفع الماء وزاد أعلى جبل خمسة عشر ذراعا ، وذلك في زمن نوح (حَمَلْناكُمْ) في أصلاب آبائكم (فِي الْجارِيَةِ) (١١) أي في سفينة نوح عليه‌السلام ، (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي لنجعل هذه القصة التي هي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة لكم ، تتعظون بها (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢) ، أي ليحفظها قلب حافظ ويقال : تسمع هذا الأمر أذن سامعة ، فتنتفع بما سمعت.

وقرأ نافع بسكون الذال وقرأ العامة «وتعيها» بكسر العين. وروي عن ابن كثير ساكنة العين ، وذلك مثل «ويتقه» في قراءة من سكن القاف ، (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) وهي نفخة البعث. وقرأ أبو السماك بنصب «نفخة واحدة» على المصدر وبإسناد الفعل إلى الجار والمجرور (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي وبعد خروج الناس من قبورهم رفعت الأرض والجبال من أماكنها إما بالزلزلة أو بريح ، أو بملك من الملائكة ، أو بقدرة الله من غير سبب (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤). أي ضربت إحدى الجملتين بالأخرى ضربة واحدة ، فتفتت وصارت كثيبا مهيلا (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١٥) أي قامت القيامة الكبرى. وهذا جواب «إذا» ، (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) لنزول الملائكة ، (فَهِيَ) أي السماء (يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (١٦) أي ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة شديدة ، (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة واقفون على أطراف السماء التي لم تسقط ، فهؤلاء من جملة المستثنى ممن يموتون في الصعقة الأولى.

وقيل : إنهم يقفون لحظة على أطراف السماء ثم يموتون ، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) أي حال كون العرش فوق الملائكة الواقفين على جوانب السماء (يَوْمَئِذٍ) أي يوم وقعت الواقعة ، (ثَمانِيَةٌ) (١٧) من الأملاك وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله تعالى بأربعة أخرى ، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال» (١) ، أي تيوس الجبل. وفي حديث آخر : «لكل ملك منهم وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس». قال بعضهم : واسم أحدهم روقيل ولبنان.

وقال ابن عباس : هم ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى (يَوْمَئِذٍ) أي يوم قامت القيامة (تُعْرَضُونَ) على الله ، أي تسئلون وتحاسبون.

وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات : عرض للحساب والمعاذير ، وعرض للخصومات والقصاص ، وعرض لتطاير الكتب وقراءتها. (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (١٨) أي لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا منكم في الدنيا فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم ،

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٨ : ٢٦٦).

٥٥٧

وتظهر أحوال أهل العذاب ، فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم. وقرأ حمزة والكسائي «لا يخفى» بالياء التحتية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) كأبي سلمة بن عبد الأسد. (فَيَقُولُ) لأصحابه تبجحا وابتهاجا : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١٩) أي خذوا كتابي وانظروا ما فيه من الثواب والكرامة ، (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢٠) أي إني في الدنيا تيقنت أني ألقى حسابي في الآخرة ولم أنكر البعث.

وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه ، فتكتب حسناته في ظهر كفه ، وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له : اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح ، ثم يقول : هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت عند النظرة الأولى أني ملاق حسابيه على سبيل الشدة ، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم». (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) أي منسوبة إلى الرضا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٢٢) في المكان والدرجة (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٢٣) أي ثمارها قريبة يتناولها القاعد يقول الله لهم : (كُلُوا) من الثمار (وَاشْرَبُوا) من الأنهار (هَنِيئاً) ، أي بلا تعب في تحصيل الأكل والشراب وبلا داء في تناولهما (بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤) ، أي بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي أيام الدنيا ، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) كالأسود بن عبد الأسد (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٢٥) ، أي لم أعط كتابي هذا الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة ، (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (٢٦) أي أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء ، (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (٢٧) أي ليت هذه الحالة كانت موتة انتهيت إليها ، أو ليت الموتة التي مت بها في الدنيا كانت قطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى ، (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (٢٨) ، و «ما» إما نافية و «مالية» كلمة واحدة ، أي ما دفع عني من عذاب الله مالي الذي جمعته في الدنيا أو استفهامية ، و «ما ليه» كلمتان. أي أيّ شيء نفعني مما كان لي من المال والأتباع (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (٢٩) أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا أو ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا ، فيقول الله تعالى يومئذ لخزنة النار : (خُذُوهُ) أيتها الزبانية (فَغُلُّوهُ) (٣٠) أي شدوه بالأغلال ، فيبتدر إليه مائة ألف ملك وتجمع يده إلى عنقه ورجله إلى وراء قفاه إلى ناصيته ، (ثُمَّ الْجَحِيمَ) أي النار العظمى (صَلُّوهُ) (٣١) أي شووه ، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) أي قدرها بذراع الملك (سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣٢) أي أدخلوه.

قال ابن عباس : تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه ، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه ، ثم يجعل في عنقه سائرها. وقال نوف البكالي : كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بين مكة والكوفة ، (إِنَّهُ كانَ) في الدنيا (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) (٣٣) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣٤) ، أي ولا يحث على بذل طعام المسكين. وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي! (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) (٣٥) أي فليس له في ذلك الوقت في مجمع القيامة قريب يدفع عنه ويحزن عليه ، (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦).

٥٥٨

قال الكلبي : هو ما يسيل من أهل النار إذا عذبوا من القيح والدم والصديد ، (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) (٣٧) أي المتعمدون للذنوب وهم المشركون. وقرأ الزهري ، والعتكي ، وطلحة ، والحسن «الخاطيون» بياء مضمومة بدل الهمزة. وقرأ نافع ـ في رواية ـ وشيبة بطاء مضمومة بدون همز ، أي الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ) (٣٩) ، و «لا» مزيدة أو أصلية رد لإنكارهم البعث ، أي أقسم بما تبصرون يا أهل مكة من شيء ، كالسماء والأرض ، والشمس والقمر ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما لا تبصرون من شيء ، كالجنة والنار ، والعرش ، والكرسي وجبريل عليه‌السلام ، فالأشياء لا تخرج من قسمين مبصر وغير مبصر. فالأقسام يعم جميع الأشياء على الشمول ، (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٤٠) على الله وهو النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما نسب القرآن هنا لرسول الله سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الذي أظهره للخلق ، ودعا الناس إلى الإيمان به ، وجعله حجة لنبوته ، ونسب في سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] إلى سيدنا جبريل عليه‌السلام ، لأنه الذي أنزله من السموات إلى الأرض وهو كلام الله تعالى بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ ، وهو الذي رتبه ، ولذا قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : إن القرآن قول الله نزل به جبريل على رسول كريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما هُوَ) أي القرآن (بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٤٢) أي ليس هذا القرآن قولا من رجل شاعر ، لأنه مباين لصنوف الشعر إلا أنكم لا تقصدون الإيمان به ، فلذلك تعرضون عن التدبر ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم أنه شعر ، ٣ وليس بقول رجل كاهن ، لأنه وارد بشتم الشياطين ، إلا أنكم لا تتذكرون اشتماله على سب الشياطين ، فلذلك تقولون : إنه من باب الكهانة و «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة وانتصب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي تؤمنون إيمانا قليلا وتذكرون تذكرا قليلا فإنهم قد يؤمنون في قلوبهم ويتذكرون بها ، إلا أنهم يرجعون عن ذلك سريعا ، ولا يتمون الاستدلال كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) [المدثر : ١٨] وقال في آخر الأمران : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ٢٤] ، وإما نافية فينتفي إيمانهم وتذكرهم ألبتة ، أي لا يؤمنون أصلا بأن القرآن من الله ولا يتذكرون أصلا كيفية نظم القرآن.

قال مقاتل : وسبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر.

وقال أبو جهل : شاعر.

وقال عقبة : كاهن. فرد الله تعالى عليهم بذلك. وقرأ ابن كثير وكذا ابن عامر على خلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية في «يؤمنون» ، و «يذكرون» وخفف ذال «تذكرون» حمزة والكسائي وحفص. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣) أي بل هو تنزيل من موجدهم على محمد على وجه التنجيم. وقرأ أبو السماك «تنزيلا» أي نزل تنزيلا ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) أي ولو نسب محمد إلينا قولا لم نقله ، لأخذنا يمينه ، ثم لضربنا رقبته ، فإن الوتين

٥٥٩

هو عرق متصل بالرأس من القلب ، وهذا تمثيل بما يفعله الملوك بمن يكذب عليهم ، والمراد أنه لو كذب علينا لأمتناه ويقال : لو نسب محمد إلينا قولا لم نأذن له في قوله لسلبنا عنه القوة ، ثم لقطعنا نياط قلبه بضرب عنقه ، ويقال : لو افترى محمد علينا قولا من الكذب لأخذناه بقوة منا.

وقال مقاتل : لانتقمنا منه بالحق فاليمين بمعنى الحق كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي من قبل الحق. وقرئ «ولو تقول» على البناء للمفعول (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) أي فليس منكم أيها الناس أحد يمنعنا عن محمدا وعن عقابه ، (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) لأنهم المنتفعون به ، (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ) أيها الناس (مُكَذِّبِينَ) (٤٩) بالقرآن بسبب حب الدنيا فنجازيهم على تكذيبهم ، (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَسْرَةٌ) أي ندامة (عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين يوم القيامة ، وكذا في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين.

قال مقاتل : أي وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) أي وإن القرآن لحق يقين إنه كلامي نزل به جبريل على رسول كريم. ويقال : وإن الحسرة على الكافرين يوم القيامة حق يقين ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢) أي اذكر توحيد ربك العظيم تنزيها له عن الرضا بنسبة ما هو بريء منه وشكرا على ما جعلك أهلا لإيحائه إليك.

٥٦٠