مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

بالرشد ومكارم الأخلاق ولما قال : «ولا تعصينني في معروف» فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي لا تحبوا اليهود فإنهم قوم غضب الله عليهم.

روي أن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم من إصابة ثمارهم ، فنهوا عن ذلك بهذه الآية ، (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي قد حرموا من ثواب الآخرة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣) أي كما حرم من ذلك الذين ماتوا منهم.

وقال أبو إسحاق : يئس اليهود الذين عاندوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم.

__________________

ـ التفسير (٨ : ١٢٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٢١٠) والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٧٣.

٥٢١

سورة الصف

مدنية ، أربع عشرة آية ، مائتان وإحدى وعشرون كلمة ، تسعمائة وستة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي شهد له تعالى بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات السنية جميع ما في السموات والأرض ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي يغلب على غيره ، (الْحَكِيمُ) (١) أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢).

روي أن المسلمين قالوا : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فلما نزل الجهاد كرهوه ، فنزلت هذه الآية ، أي لم تعدون ما لا توفون. وقيل : إنها نزلت فيمن يتمدح كاذبا حيث كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وهذا أي لم تتكلمون بما لا تعملون. (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣).

قال الزجاج : أي كبر قولكم ما لا تفعلون بغضا عند الله ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) ، أي في طاعته تعالى (صَفًّا) في القتال.

قرأ زيد بن علي «يقاتلون» بفتح التاء. وقرئ «يقتلون» ، أي يصفون وصفا حال من فاعل «يقاتلون» ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤) أي مشبهين ببنيان ألصق بعضه على بعض حتى صار شيئا واحدا ، (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل ، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا بأمره ، (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) أي بالمخالفة فيما أمرتكم به ، (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة ، وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والمسارعة إلى الطاعة ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي لما مالوا عن الحق وكذبوا موسى زاد الله زيغ قلوبهم حتى صرفها عن قبول الحق.

وقال مقاتل : أي لما عدلوا عن الحق بأبدانهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء ما عملوا ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥) ، أي لا يهدي من سبق في علمه تعالى أنه خارج عن منهاج الحق

٥٢٢

مصر على الغواية ، (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) ، أي مصدقا لما قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) ، ومن كتب الله ومن أنبيائه جميعا (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).

قرأ نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وشعبة بفتح الياء على الأصل وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين. والباقون بالسكون وهو حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين ، وهما الياء والسين كما قاله المبرد وأبو علي ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦) أي فلما جاء عيسى بني إسرائيل بالمعجزات الظاهرة قالوا : هذا المأتي به سحر بيّن وقرأ حمزة والكسائي «ساحر» بفتح السين مع الألف ، ويقال : فلما جاءهم أحمد بالتي تبين أن الذي أتى به عند الله قالوا : هذا الآتي بالبينات ساحر بين ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي أيّ الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله من نسبة الولد إليه ووصف أنبيائه بالسحرة ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٧) أي لا يوفقهم الله للطاعة عقوبة لهم ، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريدون رد رسالة الرسول ليبطلوا دين الله بقولهم : إن الرسول ساحر ، وليبطلوا كتاب الله بقولهم : إنه سحر ، (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) بالإضافة وتركها ، أي والله مبلغ نوره إلى غايته بنشره في الآفاق ، (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٨) أي ولو كره المشركون واليهود والنصارى إتمام النور.

وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، واتصل الوحي بعدها (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ). وقرئ «نبيه» أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى) أي بالقرآن ، (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعليه على جميع الأديان المخالفة له (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩) إعلاءه عليها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (١٠) وهي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى.

وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم. قال مقاتل : نزلت هذه الآية في عثمان بن مظعون ، وذلك أنه قال لرسول الله : لو أذنت لي فطلقت خولة ، وترهبت ، واختصيت ، وحرمت اللحم ، ولا أنام الليل أبدا ، ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من سنتي النكاح ، ولا رهبانية في الإسلام ، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله ، وخصاء أمتي الصوم ، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ومن سنتي أنام ، وأقوم ، وأفطر ، وأصوم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١). فقال

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ : ٢٨٦) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١١٨.

٥٢٣

عثمان : والله لوددت يا رسول الله أن أعلم أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها ، فنزلت : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وهذا استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال تعالى : تؤمنون أي تدومون على الإيمان ، (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي بنفقة أموالكم وبخروج أنفسكم. والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة : جهاد فيما بينه وبين نفسه وهو قهر النفس ومنعها عن اللذات والشهوات ، وجهاد فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يدع الطمع منهم ، ويشفق عليهم ، ويرحمهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا ، وهو أن يتخذها زادا لمعاده ، فيكون الجهاد على خمسة أوجه. وقرئ «آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا». وقرئ «تؤمنوا وتجاهدوا» على إضمار لام الأمر (ذلِكُمْ) أي الذي أمرتم به من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من أن تتبعوا أهواءكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١) ، أي إن كنتم تنتفعون بما علمتم فهو خير لكم ، (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). وهذا جواب قوله : (تُؤْمِنُونَ) إلخ لما فيه من معنى الأمر وهو بمنزلة الثمن الذين يدفعه المشتري ، وقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ) إلخ بمنزلة المبيع الذي يأخذه المشتري من البائع في مقابلة الثمن المدفوع له ، (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهي قصبة الجنان والمساكن الطيبة ، قصر من لؤلؤة في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا في كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ، فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله. (ذلِكَ) أي الجزاء الذي هو المغفرة وإدخال الجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢) ، أي الذي لا فوز وراءه (وَأُخْرى) وهو إما مرفوع أي ولكم تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل ، أو منصوب بفعل مضمر إما من نوع الاشتغال أي وتحبون خصلة أخرى في الدنيا مع ثواب الآخرة ، أو من نوع معطوف على الجوابين ، أي ويعطكم نعمة أخرى ، أو مخفوض عطفا على تجارة ، (تُحِبُّونَها) أي تشتهون أن تكون لكم (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) بمحمد على كفار قريش ، (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل وهو فتح مكة. وقرئ «نصرا من الله وفتحا قريبا». وقوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) إلخ مفسر لأخرى وهو ربح للتجارة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣) عطف على «تؤمنون» ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر المؤمنين يا رسول الله بذلك. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أنصارا» منونا و «لله» جارا ومجرورا. والباقون «أنصار الله» مضافا للجلالة. وقرأ ابن مسعود «كونوا أنتم أنصار الله». (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والتشبيه باعتبار المعنى ، أي كونوا أنصار دين الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى : من أنصاري إلى الله؟ أي من أعواني مع الله على أعدائه ، أو المعنى : قل لهم كونوا أنصار دين الله كما قال عيسى لأصفيائه وهم أول من

٥٢٤

آمن به وكانوا اثني عشر رجلا (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى ابن مريم (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) وهم الذين أضلهم بولس ، أي لما رفع عيسى إلى السماء تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالت كان عيسى الله فارتفع. وفرقة قالت : كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالت : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه. فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظهرت الفرقة المؤمنة على الفرقة الكافرة ، فذلك قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي فأعنا الذين لم يخالفوا دين عيسى على الذين خالفوه ، (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤) أي فصاروا غالبين على أهل الأديان بالحجة.

٥٢٥

سورة الجمعة

مدنية ، إحدى عشرة آية ، مائة وثمانون كلمة ، سبعمائة وثمانية وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ) أي يذكر الله بالتنزيه (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ما في جهة العلو والسفل من الخلق ، (الْمَلِكِ) فكلهم تحت تصرفه وفي قبضة قدرته ، (الْقُدُّوسِ) أي المنزه عما يخطر ببال أوليائه ـ كما نقل عن الغزالي ـ وقيل : أي المبارك أو الطاهر بلا ولد ولا شريك ، (الْعَزِيزِ) أي الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمِ) (١) أي الذي يضع الأشياء مواضعها وقد قرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي هو الذي أرسل إلى العرب رسولا من جملتهم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو من جنسهم.

قال ابن عباس : المراد بالأميين الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) التي تبين رسالته ، وتظهر نبوته مع كونه أميا مثلهم ، لم يعتد منه قراءة ، ولا تعلم ، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي ، وتكون حاله مشابهة لحال أمته الذين بعث فيهم ، (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأقوال والأفعال ، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي آيات القرآن ، (وَالْحِكْمَةَ) أي وجه التمسك بها.

وقيل : الكتاب : هو الآيات نصا ، والحكمة : ما أودع فيها من المعاني. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) أي والحال أنهم كانوا من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن لفي ضلال ظاهر ، لأنهم كانوا عبدة الأصنام. (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) «وآخرين» معطوف على الأميين ، ولما يلحقوا الآخرين ، أي وبعثه إلى غير العرب من أي طائفة كانت ، لم يلحقوا بالعرب الأول وهم كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المنصوب في «ويعلمهم» أي ويعلم آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم وهم كل من يعلم شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر الزمان ، فرسول الله معلمهم بالقوة ، أي في المعنى والحكم لأنه أصل الخير والفضل ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الفقر إليه ، وجعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته ، (ذلِكَ) أي تفضيل رسول الله على غيره وإلحاق أبناء العجم الذين آمنوا وشاهدوا الرسول بقريش في درجة الفضل ، (فَضْلُ اللهِ) وهو ما لم يكن مستحقا

٥٢٦

(يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، وهم رسول الله والأميون والآخرون (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤) على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة ، وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) ، أي صفة الذين أمروا بأن يعملوا بما في التوراة ، ثم لم يعملوا بما أمروا فيها كصفة الحمار يحمل كتبا كبارا في عدم انتفاعه بها.

وقال أهل المعاني : هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ، ولم يعمل به ، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي بئس صفة القوم الذين كذبوا بالتوراة حين تركوا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥) لأنفسهم بتكذيب الأنبياء. (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي الذين تهودوا وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أي إن قلتم أنكم أحباء لله من دون محمد وأصحابه فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم سريعا من دار البلية إلى دار الكرامة التي أعدها الله لأحبابه. وقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) جواب الشرط ، والعامة بضم الواو. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها. وقرأ ابن السميقع أيضا بفتحها للتخفيف ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦) في زعمكم فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها وطريقها الموت ، (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ويأبون التمني للموت بسبب ما عملوا من الكفر وتحريف الآيات الموجب لدخول النار ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧) أي بظلم الظالمين من تحريف الآيات وعنادهم لها ، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي إن الموت الذي تخافون من أن تتمنوه بلسانكم بسبب ما قدمتموه تحريف الآيات وغيره ملاقيكم ألبتة ، والفاء في فإنه لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. وقرأ زيد بن علي أنه بدون فاء ، وفي قراءة ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» من غير «فإنه» ، (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فالله تعالى عالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته ، (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) إما عيانا مقرونا بلقائكم يوم القيامة ، أو بالجزاء إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي إذا نودي لوقت الصلاة من يوم الجمعة ، فاذهبوا إلى الخطبة والصلاة ، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي اتركوا المعاملة ، (ذلِكُمْ) أي الذهاب إلى ذكر الله وترك المعاملة (خَيْرٌ لَكُمْ) في الآخرة من التكسب في ذلك الوقت ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩) أي إن كنتم أهل العلم فأنتم ترون ذلك خيرا (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي إذا أديت الصلاة فاخرجوا من المسجد إن شئتم لإقامة مصالحكم ، واطلبوا الرزق إن شئتم ، فهذه رخصة بعد النهي بقوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ).

وعن عراك بن مالك : أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد قال :

٥٢٧

أللهم أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ، (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) على كل حال بالقلب واللسان.

قال مجاهد : لا يكون من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا. وعن عمر رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أتيتم السوق فقولوا : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة». (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠) أي كي تفوزوا بخير الدارين ، أي لما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته ، فجمعت الجماعات له ، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة ، وهي ما أنعم الله تعالى به عليهم من نعمة الوجود والعقل وغير ذلك مما لا يحصى ، ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع ، (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) وهو الطبل ، أي وإذا سمعوا صوتا يدل على قدوم التجارة (انْفَضُّوا إِلَيْها) أي تفرقوا إلى التجارة. وقرئ «إليهما» (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر تخطب.

قال مقاتل : إن دحية بن خليفة الكلبي قبل أن يسلم أقبل بتجارة من الشام ، وكان معه من أنواع التجارة ، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق ، وكان ذلك في يوم الجمعة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر يخطب ، فخرج الناس إليه وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق إلا اثنا عشر رجلا أو أقل ، كثمانية أو أكثر كأربعين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة» (١). ونزلت هذه الآية وكان من الذين معه أبو بكر وعمر.

قال قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرات. وقال مقاتل بن حبان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين فلما خرج الناس لقدوم دحية بتجارة وظنوا أنه ليس في ترك الخطبة شيء من الإثم أنزل الله تعالى هذه الآية فقدّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخطبة وأخر الصلاة. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمؤمنين زجرا عن العود لمثل ذلك الفعل : (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي ما عند الله من ثواب الثبات مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١) أي أفضل المعطلين فمنه اطلبوا الرزق.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٢٢١).

٥٢٨

سورة المنافقون

مدنية ، إحدى عشرة آية ، مائة وثمانون كلمة ، سبعمائة وستة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) أي إذا حضر مجلسك منافقو أهل المدينة عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، وجد بن قيس ، وكانوا بني عم (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وقولهم : «نشهد» نفي للنفاق عن أنفسهم.

روى زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل رسولا إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوه ، فصدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبني ، فأصابني همّ لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي ، فأنزل الله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) إلى قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) إلى قوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : إن الله قد صدقك. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا. وهذه جملة معترضة بين قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وبين قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ) إلخ لإماطة توهم توجه التكذيب إلى منطوق كلامهم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) من إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون ، فإن ضمير قلوبهم على غير تلك الشهادة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الكاذبة (جُنَّةً) أي سترة عما خافوا على أنفسهم من القتل.

وقرأ الحسن بكسر همزة «إيمانهم» (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله وقد منعوا الضعفة عن اتباع رسول الله في السر وعن الإنفاق في سبيل الله ،

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا (ذلِكَ) أي سوء أعمالهم ، (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) في الظاهر وشابهوا المسلمين في نطق كلمة الشهادة وفي الأفعال ، (ثُمَّ كَفَرُوا) أي ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن حمير. وبقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات

٥٢٩

(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) لسوء أفعالهم وقصدهم الإعراض عن الحق. وقرئ على البناء للفاعل. وقرئ «فطبع الله» أي تركهم الله في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣) شيئا ، فلا يميزون صوابا من خطأ ولا حقا من باطل ، (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها ، ولصباحة وجوههم ، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق ، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم. وقرئ «يسمع» على البناء للمفعول (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) ، أي مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والخير ، (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي واقعة عليهم والوقف هنا تام فقوله : (عَلَيْهِمْ) مفعول ثان.

قال مقاتل : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة ، أو نشدت ضالة مثلا ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب ، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم ، (هُمُ الْعَدُوُّ) أي هم الكاملون في العداوة ، (فَاحْذَرْهُمْ) أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإن أعدى الأعادي العدو المكاشر الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ، (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي أهلكهم الله ، فإن أصل المعنى أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر يهلكه ، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند فإذا قاتلهم أهلكهم ، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الكفر والضلال؟ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) إلى رسول الله وتوبوا من الكفر والنفاق ، (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي حركوها إعراضا وإباء.

روي أنه لما نزل القرآن في فضيحة المنافقين أتاهم عشائرهم من المؤمنين ، وقالوا لهم : ويلكم افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم ، فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم ، فأبوا ذلك ، فنزلت هذه الآية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يعرضون عن الاعتذار ، (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥) عن استغفار الرسول لهم ، (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي استغفارك لهم وعدمه سواء ، والسبعة بهمزة قطع مفتوحة من غير مد ووصلها قوم على حذف حرف الاستفهام ، لأن أم المعادلة تدل عليه. وقرئ شاذا «أاستغفرت» بهمزة ثم ألف ، (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لرسوخهم في الكفر (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٦) أي الذين سبق ذكرهم ، وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون ، (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) والقائل عبد الله بن أبي لأصحابه المؤمنين الأنصار في غزوة تبوك : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وهم فقراء المهاجرين ، (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي لأجل أن يتفرقوا عنه. وقرئ «حتى ينفضوا» بضم الياء وسكون النون ، أي لأجل أن تفنى أزوادهم ، (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٧) أن الله يرزقهم وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، (يَقُولُونَ) في تبوك : (لَئِنْ رَجَعْنا) من غزوة بني المصطلق (إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

قال المفسرون : اختلف أجير عمر وهو جهجاه بن سعيد مع أجير عبد الله بن أبي ، وهو

٥٣٠

سنان الجهني في بعض الغزوات ، فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه ، واشتد عليه لسانه ، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال : أما والله لئن رجعنا من غزوتنا هذه إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وأراد عبد الله بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله والمؤمنين ، ثم أقبل على قومه فقال : لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فنزلت هذه الآية ، وسبب غزوة بني المصطلق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن بني المصطلق ـ وهم حي من هذيل ـ يجتمعون لحربه ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المر يسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فوقع القتال ، فهزم الله بني المصطلق وكان سبيهم سبعمائة ، فلما أخذ النبي جويرية من السبي لنفسه أعتقها وتزوجها فقال المسلمون : صار بنو المصطلق أصهار رسول الله فأطلقوا ما بأيديهم من السبي إكراما لرسول الله ، ولهذا قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : وما أعظم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية ولقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق اه. وإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي القوة (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فعزة الله قهره لأعدائه ، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨) أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه ، ولو علموه ما قالوا مقالتهم.

روي أن عبد الله بن أبي لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا وقال : لئن لم تقر لله ولرسوله بالعز لأضربن عنقك ، فلما رأى منه الجد قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنه : «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا». (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا يشغلكم الاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي ومن ألهاه ماله وولده عن طاعة الله تعالى (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٩) أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني ، (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي بعض ما أعطيناكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي مقدمات الموت (فَيَقُولَ) عند تيقنه بحلول الموت : (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي هلا أمهلتني إلى أمد قصير بقدر ما استدرك فيه ما فاتني (فَأَصَّدَّقَ) من مالي بتشديد الصاد والدال. وقرأ أبي «فأتصدق» على الأصل. (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠) أي أكن من الحاجين.

عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل إلا سأل الله الرجعة عند الموت. وقرأ أبو عمرو «وأكون» بالنصب عطفا على لفظ جواب التمني. والباقون «وأكن» بالجزم عطفا على محله. وقرئ «وأكون» بالرفع «وأنا أكون». (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) أي عن الموت (إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١) فمجاز لكم عليه. وقرأ شعبة بالياء التحتية.

٥٣١

سورة التغابن

مدنية. أو مكية ، ثماني عشرة آية ، مائتان وإحدى وأربعون كلمة ، ألف وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه تعالى جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا ، (لَهُ الْمُلْكُ) فهو متصرف في ملكه ، (وَلَهُ الْحَمْدُ) على أهل السموات والأرض ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أمر الدنيا والآخرة (قَدِيرٌ) (١) ، لأن نسبة الكل إلى قدرته تعالى سواء ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) ، أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، أي وبعض منكم مختار للإيمان كاسب له.

وقال عطاء والزجاج : أي فمنكم جاحد بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية ، ومنكم مصدق بأنه تعالى خلقه ، والمعنى : أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فانظروا النظر الصحيح ، وكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين فما فعلتم ذلك بل تفرقتم فرقا ، فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) من الكفر والإيمان فيجازيكم على ذلك ، (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة (وَصَوَّرَكُمْ) في الأرحام (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فمن نظر في قد الإنسان ومناسبته بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة ، وقد وجد فيه القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) أي المرجع (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية ، (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤) أي بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الكفرة (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبلكم ، كقوم نوح ومن بعدهم (فَذاقُوا) من غير مهلة (وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي شدة أمرهم في الدنيا ، (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ) أي العذاب في الدنيا والآخرة (بِأَنَّهُ) أي الشأن (كانَتْ) أي القصة (تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الظاهرات ، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا) بالرسل ، (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان ، (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي أظهر الله

٥٣٢

تعالى غناه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم ولم يلجئهم إلى ذلك (وَاللهُ غَنِيٌ) عن عبادتهم من الأزل (حَمِيدٌ) (٦) ، أي مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده أحد (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي أنهم لن يبعثوا بعد موتهم أبدا ، (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (بَلى) تبعثون (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتحاسبن ولتجزون على أعمالكم ، (وَذلِكَ) أي البعث والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧) لثبوت قدرته التامة فلا يصرفه صارف ، (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي إذا كان الأمر كذلك ، فآمنوا بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن ، فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات ، وذلك لئلا ينزل بك ما نزل بالكفار الماضية من العقوبة ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٨) فمجاز لكم عليه (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي لأجل ما في يوم القيامة من الحساب والجزاء. وسمي بالجمع لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض ، و «يوم» ظرف لـ «لتنبؤن». وقرئ «نجمعكم» بنون العظمة (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، وفي الحديث «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكر ، أو ما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة». (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) مع ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة وغير ذلك. (وَيَعْمَلْ صالِحاً) إلى أن يموت في إيمانه (يُكَفِّرْ) ، أي الله (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ) أي تكفير السيئات وإدخال الجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) الذي لا فوز وراءه.

وقرأ نافع وابن عامر «نكفر عنه» و «ندخله» بالنون فيهما. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بوحدانية الله وبقدرته (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠) النار (ما أَصابَ) أحدا (مِنْ مُصِيبَةٍ) دينية أو دنيوية في بدن وأهل ومال ، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بتقديره وإرادته و «من مصيبة» فاعل بزيادة من قيل : وسبب نزول هذه الآية أن الكتاب قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بأن يرى المصيبة من الله (يَهْدِ قَلْبَهُ) عند المصيبة للتسليم لأمر الله فيسترجع.

وقرئ «يهد قلبه» على البناء للمفعول ورفع «قلبه». وقرئ بنصبه على نهج سفه نفسه وقرئ «يهدأ» بالهمزة على وزن يقطع ويخضع ، أي يسكن فيسلم لقضاء الله تعالى ويصبر على المصيبة ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١) فيعلم اطمئنان القلب عند المصيبة ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي هونوا المصائب على أنفسكم ، واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه ، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٢) أي فإن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ الظاهر ، وقد فعل ذلك. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الله المستحق للمعبودية لا مستحقا للمعبودية يصح أن يوجد إلا هو وجملة «لا إله إلا

٥٣٣

هو» خبر لاسم الجلالة ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣) في كل باب لأنه لا مقصود إلا هو ، فإن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤).

قال عطاء بن يسار : نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، فأراد أن يغزو ، فبكوا إليه ، ورققوه وقالوا له : إلى من تدعنا؟ فرق عليهم وأقام في البلد وترك الغزو ، وسئل ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن هذه الآية فقال : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا لهم : صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم ، فأطاعوهم ، وتركوا الهجرة ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا المهاجرين الأولين قد تفقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم وإن لحقوا بهم في دار الهجرة لم ينفقوا عليهم ولم يصيبوهم بخير ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم (وَتَصْفَحُوا) بترك التثريب والتعيير (وَتَغْفِرُوا) بإخفائها بعد ما هاجروا من مكة إلى المدينة فإن الله يعاملكم بمثل ما عملتم ، وهذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإسلام فإنهم من الكفار ، أما أزواجهم وأولادهم المؤمنون فلا يكونون عدوا لهم (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي بلاء وشغل عن الآخرة إذ منعوكم عن الهجرة والجهاد فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى ، (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥) لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا في تقوى الله غاية طاقتكم. وهذا مثل قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] فإنه لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعونه فوق الطاقة ، (وَاسْمَعُوا) مواعظه (وَأَطِيعُوا) أوامره ، (وَأَنْفِقُوا) مما رزقكم في الوجوه التي أمركم (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) ، أي وأتوا خيرا لأنفسكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦) أي من يكفه الله بخل نفسه فيفعل في ماله جميع ما أمر به مطمئنا إليه حتى ترتفع عن قلبه الأخطار ، فأولئك هم الفائزون بكل مرام (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي إن تنفقوا في طاعة الله تعالى من حلال بطيب نفس متقربين إليه يجزكم بالضعف إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرئ «يضعفه» بتشديد العين. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما فرط منكم من بعض الذنوب ببركة الإنفاق (وَاللهُ شَكُورٌ) يشكر اليسير ويجزي الجزيل من صدقاتكم ، (حَلِيمٌ) (١٧) لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته ، أو يمتنع من التصدق (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) لا يخفى عليه شيء من الخشية والمن (الْعَزِيزُ) ، أي الذي لا يعجزه شيء ، (الْحَكِيمُ) (١٨) أي الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، فالعزيز يدل على القدرة ، والحكيم يدل على الحكمة.

٥٣٤

سورة الطلاق

مدنية ، ثنتا عشرة آية ، مائتان وتسع وأربعون كلمة ، ألف ومائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي إذا أردتم تطليق النساء فطلقوهن مستقبلات لزمان ـ عدتهن وهو الطهر ـ (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي احفظوا القروء للعدة لتعرفوا زمان الرجعة ، والنفقة ، والسكنى ، وحل النكاح لأخت المطلقة ونحو ذلك من الفوائد (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في الإضرار بهن (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن (وَلا يَخْرُجْنَ) ولو بإذن منكم لأن في العدة حقا لله تعالى فلا يسقط بتراضيهما ، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي إلا في حال كونهن آتيات بزنا ظاهر ، أو مشهود عليه بأربعة شهود فيخرجن لإقامة الحد عليهن ، ثم يرددن إلى منزلهن كما قاله ابن مسعود ، أو إلا في حال أن يبذون على الأزواج أو على أهلهم فيحل لهم حينئذ إخراجهن لسوء خلقهن كما قاله ابن عباس ويؤيده قراءة إلا أن يفحش عليكم.

وقال ابن عمر : الفاحشة : خروجهن قبل انقضاء العدة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بفتح الياء التحتية. والباقون بكسرها (وَتِلْكَ) أي الأحكام (حُدُودُ اللهِ) وهي الموانع عن المجاوزة (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي من يتجاوز الحدود فقد ضر نفسه لأنه وضعها في غير موضعها (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) أي فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك التعدي أمرا يقتضي الرجعة بأن يبدل الله ببغض المرأة محبة ، وبالإعراض عنها إقبالا إليها ، فإن العدة إذا لم تكن مضبوطة أو انتقلت المرأة من منزل زوجها أشكل أمر الرجعة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي قاربن انقضاء أجل العدة فأنتم بالخيار (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إن شئتم فراجعوهن بحسن معاشرة وإنفاق لائق (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي وإن شئتم فاتركوهن من غير مراجعة بإيفاء بالحق واتقاء الضرار ، وهو أن يراجعها في آخر العدة ، ثم يطلقها تطويلا للعدة وتعذيبا لها ، (وَأَشْهِدُوا) يا أيها الأزواج (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند التطليق وعند الرجعة قطعا للنزاع ، فهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة وهو عند الشافعي واجب في

٥٣٥

الرجعة مندوب إليه في الفرقة ، (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي أدوا الشهادة التي تحملتموها عند الحكام يا أيها الشهود لوجه الله تعالى (ذلِكُمْ) أي الإشهاد وإقامة الشهادة (يُوعَظُ بِهِ) أي يؤمر به ، (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، يقال : نزلت الآيات من أول السورة إلى هاهنا في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين طلق حفصة ، وفي ستة نفر من أصحابه طلقوا نساءهم غير طواهر ، فنهاهم الله عن ذلك ، لأنه لغير السنة ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي يصبر على المصيبة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢) من الشدة.

وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية فقال : «مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة». نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له يسمى سالما ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال : «اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ، ففعل ذلك، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه سالم ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فذلك قوله تعالى : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من وجه لا يخطر بباله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يثق بالله فيما ناله فهو كافيه في جميع أموره ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

وقرأ حفص بالإضافة أي منفذ أمره. والباقون بالتنوين ونصب أمره أي يبلغ مراده في جميع خلقه. وقرئ برفع أمره أي نافذ تدبيره. وقرأ المفضل «بالغا» أمره على أن قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ) خبران و «بالغا» حال من اسم الجلالة (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ) من الشدة والرخاء (قَدْراً) (٣) أي أجلا ينتهي إليه.

وروي أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض فما عدة التي لم تحض فنزل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) لكبرهم ، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إن أشكل عليكم حملهن في العدة ، أو إن جهلتم بمقدار عدتهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فقام رجل فقال : يا رسول الله فما عدة الصغير التي لم تحض فنزل ، (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) لصغرهن هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست ، وهذه معطوفة على «واللائي يئسن» عطف المفردات فقام رجل آخر وقال : وما عدة الحوامل يا رسول الله فنزل (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي والحبالى منتهى عدتهن وأجل انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن لخبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتزوج فإباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر دليل على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال ، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن فلا تنقضي العدة بوضع بعض حملهن. وقرئ أحمالهن ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في شأن أحكامه (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤) أي ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح.

وقال عطاء : يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة (ذلِكَ) أي الذي ذكر من الأحكام (أَمْرُ

٥٣٦

اللهِ) ، أي فرائضه (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي بينه لكم في القرآن ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعته ويعمل بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٥) في الآخرة بالمضاعفة ، (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا المعتدات مسكنا من بعض مكان سكناكم على قدر طاقتكم ووجدكم بضم الواو باتفاق القراء السبعة. وقرئ بفتح الواو وكسرها. (وَلا تُضآرُّوهُنَ) في السكنى والنفقة (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) بهما حتى تلجئوهن إلى الخروج من المسكن أو إلى تفتدي الرجعية نفسها منكم ، (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) أي وإن كن المطلقات حبالى ، (فَأَنْفِقُوا) أيها الأزواج (عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فيخرجن من العدة. وهذا بيان حكم المطلقة البائنة ، أما الحوامل المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن ، وأما الرجعية فإنها تستحق النفقة ، وإن لم تكن حاملا ومذهب مالك والشافعي أنه ليس للمبتوتة إلا السكنى ، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا. وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله : «لا سكنى لك ولا نفقة» ،وأما عند الحنفية فلكل مطلقة حق النفقة والسكنى لأن عمر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في شأن المطلقة : «لها النفقة والسكنى» ، ولأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين المبتوتة وغيرها ، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به ، ونحن معشر الشافعية نقول : إن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل ، فأثبت لها النفقة ليعلم أن غيرها بطريق الأولى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهن بعد انقضاء علقة النكاح ، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على ذلك الإرضاع ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه للرجل استئجار امرأته للرضاع إذا كان الولد منها ما لم تبن ، ويجوز عند الشافعي مطلقا وفي هذه الآية دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والتربية على الزوجات ، وفيها دليل على أن اللبن ملك لها (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي تشاوروا بتراضي الأب والأم ، ولا يكن من الأب مماكسة ، ولا من الأم معاسرة ، ولا من الرجل تقصير في حق المرأة ونفقتها ولا من المرأة في حق الولد ورضاعه ، (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) كأن أبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضع الولد مجانا (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦) ، أي فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر الأب للصبي مرضعا غير أمه (لِيُنْفِقْ) على المرضعات المطلقات وعلى خلافها ، (ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي ذو غني على قدر غناه (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، أي ومن ضيق عليه معيشته فلينفق على الزوجة والولد الصغير على قدر ما أعطاه الله من المال وإن قل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي إلا بقدر ما أعطاها من الرزق جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) أي بعد ضيق سعة وبعد شدة رخاء عاجلا أو آجلا (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أي وكم من أهل قرية أبوا عن قبول أمر

٥٣٧

ربهم وعن إجابة أمر رسله ، (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي فحاسبناهم في الآخرة على أعمالها بالمناقشة في كل نقير وقطمير ، (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (٨) أي وعذبناهم عذابا عظيما وهو عذاب نار جهنم ، (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي فذاقوا عقوبة كفرهم ، (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٩) أي وكان عاقبة عتوها هلاكا بعذاب الدنيا وعذاب النار ، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) في الآخرة (عَذاباً شَدِيداً) لونا بعد لون (فَاتَّقُوا اللهَ) عن أن تكفروا به وبرسوله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا ذوي العقول من الناس ، (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً) والوقف على «ذكرا» تام إن نصب «رسولا» بالإغراء أي عليكم رسولا ، أو بفعل مقدر ، أي وأرسل رسولا فحينئذ فالذكر هو القرآن والرسول هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا وقف على «ذكرا» إن جعل «رسولا» بدلا منه فحينئذ فالذكر الرسول هو جبريل عليه‌السلام ، سمي بالذكر لأنه مذكور في السموات أو في الأمم ، أو لشرفه ، ويؤيده قراءة رسول بالرفع ، أي هو رسول (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) أي القرآن (مُبَيِّناتٍ).

وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء ، لأن الآيات تبين الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام. والباقون بالفتح لأن الله تعالى أوضح الآيات وبين أنها من عنده ، (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة ، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقوله تعالى : (لِيُخْرِجَ) إما متعلق بأنزل والضمير فيه راجع إلى اسم الجلالة ، أو بـ «يتلو» فالضمير فيه راجع للرسول ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه (يُدْخِلْهُ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١).

قال الزجاج : أي قد رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل : قدر رزقه الله طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة ، وجملة «قد أحسن الله» إلخ حال ثانية من مفعول «يدخله». (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) بعضها فوق بعض مثل القبة ، (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي في العدد لكنها منبسطة ، والعامة بنصب مثلهن عطفا على سبع سموات. وقرأ عاصم في رواية برفعه على الابتداء وخبره من الأرض.

روى البخاري وغيره أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : «اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» (١). (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي ينفذ تصرفه فيهن ، ويجري قضاؤه بينهن.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١ : ٤٤٦) ، والقرطبي في التفسير (٨ : ١٧٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ : ٢٢٤).

٥٣٨

قال عطاء : أي يتنزل الوحي إلى الخلق في كل أرض ، وفي كل سماء ، وقال مقاتل : يتنزل الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى ، وقال مجاهد : يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت بعض ، وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلا. وقرئ «ينزل الأمر بينهن» ، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية ، لا يعجزه شيء عما أراده وقوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا) متعلق بـ «خلق» أو بـ «يتنزل» ، وقرئ «ليعلموا» بالياء (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الكليات والجزئيات (عِلْماً) (١٢) لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ، ولا في السماء ، فتبارك الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٥٣٩

سورة التحريم

وتسمى سورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مدينة ، ثنتا عشرة آية ، مائتان وتسع وأربعون كلمة ، ألف وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أي لم تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله تعالى لك من ملك اليمين أو من العسل.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا بمارية في يوم حفصة وعلمت بذلك عائشة فقال لها : «اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقين فطلق حفصة ، واعتزل نساءه ، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية.

وروي أن عمر قال لها : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله طلقك ، فنزل جبريل عليه‌السلام وقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وهذا قول الحسن ومجاهد ، وقتادة ، والشعبي ، ومسروق ، ورواية ثابت عن أنس ورواية البزار من حديث ابن عباس ، ورواية الطبراني من حديث هريرة ، ورواية الضياء من حديث عمرو الذي في الصحيحين أن الذي حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه هو شرب العسل ، فقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة ، فحرم العسل على نفسه فنزلت هذه الآية (تَبْتَغِي) أي تطلب بتحريم مارية أو العسل ، (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) عائشة وحفصة (وَاللهُ غَفُورٌ) قد غفر لك هذه الزلة (رَحِيمٌ) (١) قد رحمك في تلك اليمين. وقد نقل جماعة من المفسرين : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف أن لا يطأ جاريته ، فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين ، وأيضا أن أبا حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء ، فإذا حرم شخص طعاما فقد حلف على أكله أو أمة ، فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها ، إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وإن نوى عددا كأن نوى ثنتين أو ثلاثا ، فكما نوى ، وإن قال : كل حلال علي حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يمينا ، ولكن سببا في الكفارة في النساء فقط وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده ، (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي أوجب الله عليكم كفارة ككفارة أيمانكم أو قد بيّن الله

٥٤٠