مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

يتحدثون فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني : يعلم البعض دون البعض. وقال الثالث : إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. وفي مصحف عبد الله : «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم ، إذا أخذوا في التناجي» ، أي فالله تعالى عالم بكلامهم وضميرهم ، وسرهم وعلنهم ، فكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم.

قرأ ابن عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار «يتناجون». وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع إما معطوف على محل «نجوى» ، أو هو مبتدأ لعطفه على مبتدأ وهو أدنى ، وجملة «إلا هو معهم» خبره. وقرئ «ولا أكبر» بالباء المنقوطة من تحت. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يحاسب على ذلك ويجازى على قدر الاستحقاق. وقرأ بعضهم «ينبئهم» بسكون النون. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧). وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات ، (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تنظر يا أشرف الخلق (إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ) أي بما هو إثم في نفسه كالكذب ، (وَالْعُدْوانِ) للمؤمنين (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي مخالفته نزلت في اليهود ، كانوا ينتاجون فيما بينهم ، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يحزنهم ، فلما أكثروا وذلك شكا المؤمنون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ حمزة وحده «ينتجون» ، أي ويخص اليهود المنافقين بمناجاتهم. وقرئ «والعدوان» بكسر العين. وقرئ «ومعصيات الرسول» ، (وَإِذا جاؤُكَ) يا أشرف الخلق (حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي أنهم كانوا يجيئون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقولون في تحيتهم إياك : السام عليك يا محمد وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليك فيرد النبي عليهم : وعليكم. والسام بلغتهم : الموت والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٤١] و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) [الأنفال : ٦٤] (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي ويقولون : فيما بينهم إذا خرجوا من عند رسول الله أن محمدا لو كان رسولا ، فلم لا يعذبنا الله بما نقول لنبيه على هذا الاستخفاف. وقيل : إنهم قالوا : إن محمدا يرد علينا ويقول : وعليكم السام ، فلو كان نبيا كما يزعم لكان دعاؤه علينا مستجابا ولمتنا ، وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب يعلمون أن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب فأنزل الله فيهم ، (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨) جهنم أي إن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة فإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب في الدنيا ، فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) فيما بينكم (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ) وهو ما يقبح ، (وَالْعُدْوانِ) وهو ما يؤدي إلى ظلم الغير ،

٥٠١

(وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) وهو ما يكون خلافا عليه. وقرئ «فلا تنتجوا» وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين ، (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) وهو الذي يضاد العدوان ، (وَالتَّقْوى) وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩) ، أي اتقوا الله في أن تتناجوا دون المؤمنين الذي تجمعون بقهر إليه تعالى يوم القيامة ، أي إلى مكان المحاسبة والمجازاة (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي إنما النجوى السابقة ـ وهي نجوى المنافقين ـ مع اليهود ممتدة من الشيطان ، أي إن الشيطان يأمرهم بأن يقدموا عل تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين ، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين قالوا : ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا ، وهزموا ، يقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له. وقرأ نافع «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي ، فحينئذ ففاعله ضمير يعود على «الشيطان» ، أي ليحزن الشيطان المؤمنين بتوهمهم أن النجوى في نكبة أصابتهم ، (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي وليس مناجاة المنافقين بضارة المؤمنين شيئا من الضرر إلا بمشيئة الله ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠) ، فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) أي إذا قيل لكم : ليتوسع بعضكم عن بعض فتوسعوا (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) في كل ما تريدون التوسع فيه من المكان ، والرزق ، والصدر ، والقبر ، والجنة. وهذه الآية تدل على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. والمراد : من هذا التوسيع إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند «تفاسحوا». وقرأ عاصم «في المجالس» بصيغة الجمع ، لأن لكل جالس موضع جلوس على حدة. والباقون «في المجلس» بالتوحيد على أن المراد به الجنس. وقرئ «في المجالس» يفتح اللام. قيل : نزلت هذه الآية في نفر من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان النبي جالسا في صفة صفية يوم الجمعة ، فلم يجدوا مكانا يجلسون فيه ، فقاموا على رأس المجلس. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن لم يكن من أهل بدر : «يا فلان قم ، ويا فلان قم مكانك ليجلس فيه من كان من أهل بدر». وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهية لمن أقامه من المجلس ، فأنزل الله فيهم هذه الآية يوم الجمعة.

وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ضايقه بعضهم ، وجرى بينه وبينهم كلام وذكر للرسول محبة القرب منه ، ليسمع منه وأن فلانا لم يفسح له ، فأمر القوم بأن يوسعوا ، ولا يقوم أحد لأحد ، فنزلت هذه الآية.

٥٠٢

مسألة : إذا أمر إنسان أن يبكر الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ، أما إذا أرسل سجادة لتفرش له في المسجد حتى يحضر هو ، فيجلس عليها فذلك حرام لما فيه من تحجير المسجد بلا فائدة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي وإذا قيل : ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقوموا إلى الموضع الذي تؤمرون به. وقرئ «انشزوا» بكسر الشين وبضمها ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع الله المؤمنين منكم أيها المأمورون بالتفسح والعالمين منه خاصة درجات بامتثال أوامره تعالى ، وأوامر رسوله والموصول الثاني معطوف على الموصول الأول إما من عطف الخاص على العام ، أو من عطف الصفات و «درجات» مفعول ثان كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات.

وقال ابن عباس : تم الكلام عند قوله تعالى : (مِنْكُمْ) وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر ، أي ويخص الذين أوتوا العلم بدرجات أو يرفعهم إلى درجات.

قال ابن مسعود : مدح الله العلماء في هذه الآية ، والمعنى أن الله تعالى يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذ فعلوا بما أمروا به. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١) وهذا تهديد لمن لم يمتثل الأمر. وقرئ «يعملون» بالياء التحتية. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي إذا أردتم مناجاة الرسول في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصدقوا قبل النجاة ، وفائدة هذا التقديم تعظيم مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره ، ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة على المناجاة ، وتمييز محب الآخرة عن محب الدنيا بتلك الصدقة ، فإن المال محك الدواعي. وقال أبو مسلم : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا ، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه الأصلي ، وهذا التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا منسوخا. وقيل : نزلت هذه الآية في أهل الميسرة فإن منهم من كانوا يكثرون المناجاة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون الفقراء حتى تأذى بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفقراء ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصدقة قبل أن يتناجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرهم على الفقراء بكل كلمة (ذلِكَ) أي التصدق (خَيْرٌ لَكُمْ) في دينكم من الإمساك (وَأَطْهَرُ) لذنوبكم ولقلوبكم من حب المال ، لأن الصدقة طهرة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدقون به يا أهل الفقر ، فتكلموا مع رسول الله بما شئتم بغير التصدق ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) أي فطن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه ، (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أخفتم تقديم الصدقات لما يخوفكم الشيطان به من الفقر وبخلتم يا أهل الميسرة ، (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به من إعطاء الصدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن أرخص

٥٠٣

لكم في أن لا تفعلوه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات ، أي إذا كنتم راجعين إلى الله تعالى وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، وأطعتم الله ورسوله في سائر الأوامر ، فقد كفاكم هذا التكليف ، (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٣) ظاهرا وباطنا ، فهو محيط بأعمالكم ونياتكم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي ليس المنافقون منكم أيها المسلمون في السر ، ولا من اليهود في العلانية ، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك ، (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي ويقولون : والله إنا لمسلمون ، أو إنا لا يشتمون الله ورسوله ولا يكيدون المسلمين. يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرته إذ قال : يدخل عليكم اليوم رجل ينظر بعيني شيطان ، فدخل رجل عيناه زرقاوان ، وهو عبد الله بن نبتل ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تسبني أنت وأصحابك؟» فحلف بالله ما فعل ، فانطلق وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فأنزل الله هذه الآية قيل : نزلت في شأن عبد الله بن أبي وأصحابه بولايتهم مع اليهود ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤) أنهم كاذبون في حلفهم فيمينهم يمين غموس لا عذر لهم فيها (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي للمنافقين بسبب ذلك (عَذاباً شَدِيداً) أي متفاقما لا طاقة لهم به في القبر ، (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥) في نفاقهم فيما مضى من الزمان المتطاول ، فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي حلفهم الكاذبة (جُنَّةً) أي سترة عن دمائهم وأموالهم. وقرأ الحسن «إيمانهم» بكسر الهمزة أي اتخذوا إظهار إيمانهم لأهل الإسلام وقاية عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين ، وسترة عن أن يقتلهم المسلمون ، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام وذلك قوله تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي صرفوا الناس في السر عن دين الله (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٦) ، أي يهانون به في الآخرة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا من الدفع ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملاقوها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٧) أي لا يخرجون منها أبدا.

روي أن واحدا منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزلت هذه الآية. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) قيل : هو ظرف لقوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ، (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي بين يدي الله ما كنا كافرين ولا منافقين ، (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا (وَيَحْسَبُونَ) في الآخرة (أَنَّهُمْ) بتلك الأيمان الفاجرة (عَلى شَيْءٍ) من جلب منفعة ، أو دفع مضرة ، كما كانوا عليه في الدنيا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٨) ، عند الله في حلفهم أي أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب ، فكأن هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبدا ، (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب على أمور المنافقين الشيطان ، (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فلا

٥٠٤

يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، (أُولئِكَ) أي المنافقون (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي جنده ، (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩) ، أي المغبونون بذهاب الدنيا والآخرة (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (٢٠) ، أي إن الذين يخالفون الله ورسوله في الدين أولئك في جملة الكفار الخلص أو مع الأسفلين في النار وهم المنافقون. (كَتَبَ اللهُ) أي أثبت الله في اللوح المحفوظ وقال : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) محمد عليه الصلاة والسلام بالحجة والسيف على فارس والروم واليهود والمنافقين ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر أنبيائه ، (عَزِيزٌ) (٢١) بنقمة أعدائه لا يغلب عليه في مراده.

قال مقاتل : إن المسلمين قالوا : إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم. قال عبد الله بن أبي سلول لهم : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم ، فيكون لكم فتح فارس والروم كلا والله أنهم أكثر جمعا وعدة!؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثم نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة رجل من أهل اليمن الذي كتب كتابا إلى أهل مكة بسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أخبر أهل مكة بمسير النبي إليهم لما أراد فتح مكة وكان هو بدريا. قال الله تعالى : (لا تَجِدُ) يا أشرف الخلق (قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يناصحون من خالف الله ورسوله في الدين بإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم ، ولا منع فيما عدا ذلك ، لأن الأمة أجمعت على جواز مخالفتهم ومعاملتهم. والمعنى : لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله ، فإن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه ، (وَلَوْ كانُوا) أي من خالف الله ورسوله (آباءَهُمْ) أي آباء المتحابين (أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي جماعتهم من قوم شتى.

قال سعيد : نزلت هذه الآية في شأن أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر. وعن عمر بن الخطاب قال : لو كان أبو عبيد حيا لاستخلفته.

روى نطيس عن ابن عباس وروى غيره عن جماعة أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة ، فإن عبيدة بن جراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم بدر ، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وأبا بكر دعا ابنه للبراز يوم بدر ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقعود ، وقال : متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟ وروي أنه صك أباه أبا قحافة صكة أسقطت أسنانه حين سمعه يسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومصعب بن عمير قتل أخاه أبا عزيز عبيد بن عمير يوم أحد ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري قتل أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير وعليا وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم ، عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة وقد أخبر الله تعالى : إن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضبا لله تعالى ولدينه ، (أُولئِكَ) أي الذين لا يوادون الكفار (كَتَبَ) أي أثبت

٥٠٥

الله (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، وشرح الله صدورهم بالإلطاف. وروي المفضل عن عاصم كتب على البناء للمفعول (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي قواهم بنور القلب من عند الله تعالى. وقيل : بنصر من الله على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحا ، لأن بها يحيا أمرهم كما قاله ابن عباس والحسن ، وقال السدي. الضمير في قوله : (مِنْهُ) عائد إلى الإيمان. والمعنى : أعانهم بروح من الإيمان وسمى روحا لحياة القلوب به (وَيُدْخِلُهُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ونعمة الرضوان هي أعظم النعم وأجل المراتب ، (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنده (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) ، أي الفائزون بسعادة الدارين الناجون من العذاب والسخط.

٥٠٦

سورة الحشر

وتسمى سورة النضير ، مدنية ، أربع وعشرون آية ، سبعمائة

وخمس وأربعون كلمة ، ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غزا بدرا وظهر على المشركين قالوا : هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر ، فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة وحالفوا أبا سفيان وأصحابه أربعين رجلا عند الكعبة على قتاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة ، ثم صبحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتائب ، وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : «اخرجوا من المدينة». فقالوا : الموت أحب إلينا من ذلك ، ثم تنادوا بالحرب ، فبعث إليهم خفية عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وقالوا : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ، ولننصرنكم ، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم ، فحصنوا الأزقة ، فحاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح ، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، وللنبي ما بقي ، فجعلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم بنو النضير من اليهود (مِنْ دِيارِهِمْ) أي مساكنهم بالمدينة (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي عند أول إخراج الجمع من مكان إلى مكان وهم أول من أخرجوا من جزيرة العرب إلى الشام لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك ، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، (ما ظَنَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم بهذا الذل لعزتهم وقوتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله ، أي كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها

٥٠٧

تمنعهم من رسول الله و «حصونهم» إما مبتدأ و «مانعتهم» خبر مقدم ، والجملة خبر «أن» وإما فاعل لمانعتهم وهي خبر «أن». (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فأتى أمر الله اليهود باذلا لهم من حيث لم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة. وقرئ «فآتاهم الله» بمد الهمزة ، أي فأعطاهم الله الهلاك. وقيل : الضمير للمؤمنين ، أي فآتاهم نصر الله من حيث لم يرجوا وهو إخراج بني النضير من قرية يقال لها : زهرة إلى الشام وكان بين زهرة والمدينة ميلان (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي أثبت في قلوبهم الخوف من محمد وأصحابه ، وكانوا قبل ذلك لا يخافون (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمون بعض بيوتهم بأيديهم من داخل الحصون ليسدوا بالخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين ، ولينقلوا معهم بعض آلاتها مما يقبل النقل ويهدم المؤمنون بعض بيوت بني النضير من خارج توسيعا لمجال القتال ، ونكاية لهم ، ومنعا لتحصنهم بها. وقرأ أبو عمرو وحده «يخرجون» بفتح الخاء وتشديد الراء ، وقال : الأخراب ترك الموضع خرابا ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. (يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) أي فاتعظوا بحالهم ولا تعتمدوا على شيء غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على حصونهم ، وعلى قوتهم وعلى المنافقين فليس للزاهد أن يعتمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام ، وليس للعالم أن يعتمد علمه. انظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار فلا ينبغي لأحد أن يعتمد إلا على فضل الله ورحمته ، (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي ولولا أن قضى الله على بني النضير الخروج عن أوطانهم على الوجه الفظيع (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل بإخوانهم بني قريظة من اليهود ، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) (٣) وهذا استئناف غير متعلق بجواب لولا أي ولهم على كل حال سواء أجلوا أم لا عذاب النار في الآخرة ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ذلك المذكور من العذابين بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله في الدين ، (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤) أي ومن يخالف الله يعاقبه الله في الدنيا والآخرة ، فإن الله شديد العقاب.

وقرئ «ومن يشاقق الله» كما في الأنفال. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل ببني النضير وقد تحصنوا بحصونهم أمر أصحابه بقطع نخيلهم وإحراقها. قال بنو النضير : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها ، فكان في أنفس المؤمنين شيء من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعه ، فأنزل الله تعالى قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) أي أيّ شيء قطعتم أيها المسلمون من نخلة (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) كما كانت (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فذاك القطع والترك بإباحة الله تعالى ليعز المؤمنين ، (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٥) أي إنما جوز الله ذلك القطع ليسر المؤمنين ويزداد غيظ الكفار اليهود ويتضاعف تلهفهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم

٥٠٨

في أعز أموالهم. وقرئ «قوما» على أصلها. وقرئ أيضا «قائما» على أصوله ذهابا إلى لفظ ما ، (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي ما رده الله لرسوله من يهود بني النضير ، فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة دونكم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ، أي لأنكم ما أجريتهم إلى تحصيل ذلك خيلا ولا ركابا (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من أعدائهم ، وقد سلط الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هؤلاء اليهود من غير أن تقاسوا أيها المسلمون شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) فيفعل ما يشاء ، نزلت هذه الآية في بني النضير وقراهم ، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، وإنما كانوا في زهرة على ميلين من المدينة ، فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله ، وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلا ، فخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأموال ، ثم روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسّمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم : أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة ، وأعطى سعيد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق. ومعنى الآية : أن الصحابة طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بينهما ، وهو أن الغنيمة ما اتبعتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم الخيل والركاب والفيء ما ليس في تحصيله تعب ، فكان الأمر فيه مفوضا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعه حيث يشاء ، (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) كقريظة والنضير ، وفدك وخيبر ، وعرينة ، وينبع والصفراء ، (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

قيل : يصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة والمساجد ، ويصرف سهم رسول الله وفاته وهو أربعة أسهم إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار ، وبناء القناطر يقدم الأهم فالأهم أو إلى المجاهدين المرصدين للقتال في الثغور ، لأنهم قائمون مقام رسول الله في رباط الثغور ، (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي جعل الله الفيء لمن ذكر لأجل أن لا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء.

وقرأ هشام «تكون» بالتأنيث على خلاف عنه «دولة» بالرفع ، أي كيلا يقع دور في يد الأغنياء. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بفتح الدال فقيل : الضم والفتح بمعنى. وقيل : «الدولة» بالفتح من الملك بضم الميم ، و «الدولة» بضم من الملك بكسر الميم ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فإنه واجب الطاعة ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وهذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر من الله تعالى ، وإن كانت الآية خاصة في الفيء ، فجميع أوامره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه داخلة فيها (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) فيعاقب من يخالف أمره ونهيه (لِلْفُقَراءِ) بدل من لذي القربى ، و «ما» عطف عليه كأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء ، (الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) حيث إن كفار مكة أحوجوهم إلى

٥٠٩

الخروج منها وكانوا مائة رجل ، (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي فخرجوا منها طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بأنفسهم وأموالهم ، فإن خروجهم من بين الكفار مهاجرين إلى المدينة نصرة ، (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) في دينهم ، لأنهم هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين.

وعن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وأقسم لكم من الغنائم وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم وأقسم الغنيمة بين الفقراء المهاجرين خاصة دونكم» (١). فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ولا نشاركهم في الغنيمة فأثنى الله عليهم فقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي والذين هيئوا لدار الهجرة والإيمان وتمكنوا فيهما أشد تمكن من قبل مجيء المهاجرين إليهم ، (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمحبتهم الإيمان ، (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوبهم (حاجَةً) أي حزازة وحسدا (مِمَّا أُوتُوا) أي مما أعطي المهاجرين من الفيء وغيره دونهم ، (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ، أي ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش ، ولو كان فيهم فقر وحاجة إلى ما يقدمون به غيرهم ، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم.

روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته نوّمي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي ومن يوق بتوفيق الله تعالى حرص نفسه على المال حتى يخالفها في حب المال وبغض الإنفاق ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩) أي الظافرون بما أرادوا.

قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا أمر الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وقرئ «يوق» بالتشديد ، وشح بكسر الشين (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هجرة المهاجرين ومن بعد قوة إيمان الأنصار ، (يَقُولُونَ) أي يدعون لهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَلِإِخْوانِنَا) في الدين (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وهو جميع من تقدمهم من المسلمين لا خصوص المهاجرين والأنصار ، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حقدا.

وقرئ «غمرا». (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أيا كانوا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠) فينبغي للمؤمن أن يذكر السابقين بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) وهم عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد فإنهم كانوا من الأنصار ، ولكنهم نافقوا في دينهم (يَقُولُونَ)

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير وفيه : «إن شئتم قسمت للمهاجرين».

٥١٠

في السر (لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ وهم اليهود من بني قريظة والنضير ، فهم مشتركون في الكفر وفي عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم ، (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في شأنكم (أَحَداً) يمنعنا من الخروج معكم (أَبَداً) ، أي وإن طال الزمان. وقيل : لا نعين عليكم أحدا من أهل المدينة ، (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) من أي مقاتل كان (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) على عدوكم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١١) في تلك المقالات الثلاثة المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، (لَئِنْ أُخْرِجُوا) أي اليهود من المدينة (لا يَخْرُجُونَ) أي المنافقون (مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ، وكان الأمر كذلك ، وفي هذا دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن حيث أخبر عما سيقع فوقع الأمر كما أخبر ، (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١٢) ، أي ولئن خرج المنافقون لقصد نصر اليهود لينهز من المنافقون ، ثم يهلكهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي أن خوف المنافقين واليهود في السر من المؤمنين أشد من خوفهم من الله الذي يظهرونه للمؤمنين ، وكانوا يظهرون لهم خوفا شديدا من الله ، والمعنى : أنهم لا يقدرون على مقابلتكم ، لأنكم أشد مرهوبية في صدورهم ، وهم يظهرون خوفهم من الله ، (ذلِكَ) أي كون خوفهم من المخلوق أشد من خوفهم من الخالق ، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٣) أي بسبب أنهم قوم لا يعلمون عظمة الله فيخشوه حق خشيته ، (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) ، أي لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلتكم مجتمعين في موطن إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب ، أو إلا إذا كان بينكم وبينهم حائط ، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن نصرة الله معكم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» بكسر الجيم وفتح الدال بالإمالة في جدار كما هو قراءة أبي عمرو وبالصلة في بينهم بحيث يتولد منها واو كما هو قراءة ابن كثير والباقون «جدر» بضم الجيم والدال ، (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي قتالهم فيما بينهم شديد إذا قاتلوا قومهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تحسبهم في صورتهم مجتمعين على المحبة ، متفقين على أمر واحد. والحال أن قلوبهم مختلفة ، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة وشديدة ، (ذلِكَ) أي تشتت قلوبهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١٤) أن تشتيت قلوبهم مما يوهن قواهم إذ لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في العقائد والمقاصد ، (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي صفة بني قريظة في نقض العهد كصفة الذين من قبلهم بسنتين ، وهم بنو النضير ذاقوا عقوبة أمرهم من نقض العهد ، (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٥) (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) ، أي ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال وخذلانهم كمثل الأبيض مع برصيصا العابد ، فالأبيض هو صاحب الأنبياء والأولياء ، وهو الذي تصدّى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه

٥١١

على وجه الوحي ، فدفعه جبريل إلى أقصى أرض الهند ، (إِذْ قالَ) أي الشيطان الذي يقال له : الأبيض (لِلْإِنْسانِ) ـ أي العابد الذي يقال له برصيصا ـ (اكْفُرْ) بالله (فَلَمَّا كَفَرَ) بالله خذله و (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) ، أي ليس بيني وبينك محبة أصلا. وقرئ «أنا بريء منك».

روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال : كان راهب يقال له : برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة ، لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين ، فقال الأبيض لإبليس أنا أكفيك أمره ، فانطلق فتزيا بزي الرهبان ، وحلق وسط رأسه ، وأتى صومعة برصيصا ، فناداه ، فلم يجبه ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة ، ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة ، فأقبل الأبيض يصلي في أصل صومعة برصيصا فلم يلتفت إليه برصيصا ، أربعين يوما ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض في العبادة قال له : ما حاجتك؟ قال : حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك ، فأذن له ، فارتفع إليه في صومعته ، فأقام حولا يتعبد ، فلا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة ، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك ، فلما حال الحول ، قال الأبيض لبرصيصا : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه ، يشفي الله تعالى بها المريض ، ويعافي بها المبتلى والمجنون. قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة وإني أخاف أن يشغلني الناس عن عبادة ربي ، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه الدعوات ، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : والله قد أهلكت الرجل ، فانطلق الأبيض ، فتعرض لرجل فجننه ، ثم جاءه في صورة رجل مطبب فقال لأهله : إن لصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا : نعم ، فقال : إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه ، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب ، فانطلقوا به إليه ، فسألوه الدعاء ، فدعا له ، فذهب عنه الشيطان ، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا ، فيدعو لهم ، فيعافون ، ثم تعرض الأبيض لبنت ملك من ملوك بني إسرائيل وكان لها ثلاثة أخوة ، وكان ملك بني إسرائيل عمهم حينئذ ، ثم جاء الأبيض إليهم في صورة رجل مطبب فقال : أفأعالجها؟ قالوا : نعم ، قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تتركونها عنده إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتأخذونها منه صحيحة قالوا : ومن هو؟ قال : هو برصيصا فانطلقوا إليه ، فسألوه ذلك ، فأبى ، فبنوا صومعة ألصقوها بصومعة برصيصا ووضعوا تلك البنت في صومعتها وقالوا : يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك ، ثم انصرفوا ، فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين تلك البنت وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ، فجاءها الشيطان ، فخنقها ، فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا ، فجاءه الشيطان وقال : ويحك ، واقعها ، فلم تجد مثلها ، وستتوب بعد ذلك ، فلم يزل الشيطان به حتى واقعها ، فلم يزل على ذلك حتى حملت البنت وظهر حملها ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا فهل لك أن تقتلها وتتوب ، فقتلها ، فدفنها ليلا جانب

٥١٢

الجبل ، فجاء الشيطان وقتئذ ، فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها الذين يتعهدونها ، فلما لم يجدوها قالوا : يا برصيصا ، ما فعلت أختنا؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا ، فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك ، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ، وأنه دفنها في موضع كذا وكذا ، فقال في نفسه : هذا حلم من عمل الشيطان ، فتابع عليه ثلاث ليال ، فلم يكترث ، ففعل الشيطان بأوسطهم مثل ذلك فقال مثل قول أكبرهم ، ولم يخبر بذلك الحلم أحدا ، ففعل بأصغرهم مثل ذلك فقال : لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط : أنا والله رأيت مثل ذلك! وقال الأكبر : أنا والله رأيت مثله ، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له : ما فعلت بأختنا؟ فقال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا : والله لا نتهمك ، واستحيوا منه ، وانصرفوا ، فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم ، إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف إزارها خارج من التراب ، فانطلقوا ، فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم ، فذهبوا إلى برصيصا ومعهم غلمانهم بالفوس والمساحي ، فهدموا صومعة برصيصا ، وأنزلوه منها ، وكتفوه ، ثم أتوا به إلى الملك فأقر على نفسه ، فأمر الملك بقتله وصلبه على خشبة ، فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ، فاستجيب لك ، فلم يزل الأبيض يعيره قال برصيصا له : فكيف أصنع؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه من العذاب ، وأخرجك من مكانك. قال : وما هي؟ قال تسجد لي. قال : أفعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك ، قد صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك. (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١٦). وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «إني» بفتح الياء. (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي الشيطان والراهب (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) و «عاقبتهما» بالنصب خبر «كان» مقدم. وقرئ شاذا بالرفع. وقرأ ابن مسعود «خالدان فيها» على أنه خبر «أن» و «في النار» لغو. (وَذلِكَ) أي الخلود في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧) أي المشركين. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وما تذرون ، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ) برة أو فاجرة (ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، أي ما تريد أن تحصله ليوم القيامة فتفعله ، (وَاتَّقُوا اللهَ) بأداء الواجبات وترك المعاصي ، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) من الخير والشر ، فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى منه تعالى ، ومسمع ، فاستحيوا منه تعالى ، (وَلا تَكُونُوا) يا معشر المؤمنين (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي نسوا حق الله كالمنافقين واليهود ، فإن المنافقين تركوا طاعة الله في السر ، واليهود تركوا طاعة الله في السر والعلانية ، (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي فجعلهم الله ناسين حق أنفسهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ما ينفعهم عنده تعالى ، (أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١٩) أي الكاملون في الفسوق ، أي الخروج عن دائرة الطاعة ، (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ) الذين نسوا الله تعالى (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ)

٥١٣

الذين اتقوا الله تعالى ، لا في الدنيا ولا في الآخرة بوجه من الوجوه ـ واحتج بهذه الآية أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي ـ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) بكل مطلوب ، الناجون عن كل مكروه. (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لو جعلنا في الجبل على قساوته عقلا كما جعلنا العقل فيكم ، ثم أنزلنا عليه هذا القرآن المنطوي على فنون القوارع لخشع وتشقق خشية من الله وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن وأنتم أيها المعترفون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نبينها لهم في القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) ، أي لكي يتأملوا مواعظ القرآن فإنه لا عذر في ترك التدبر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولرأيتها ذليلة متشققة من خشية الله. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي عالم ما غاب عن العباد ، وما شاهدوه.

وقال ابن عباس : عالم السر والعلانية. وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا. وقيل : عالم ما غاب عن الوجود وهو المعدوم وعالم الموجود ، (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢٢) أي هو العاطف على العباد ، البر والفاجر بالرزق لهم ، المنعم ـ على المؤمنين خاصة ـ بالمغفرة ودخول الجنة. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو وحده ، (الْمَلِكُ) أي المتصرف بالأمر في جميع خلقه ، (الْقُدُّوسُ) أي البليغ في النزاهة في الذات ، والصفات ، والأفعال ، والأحكام ، والأسماء.

قال الحسن : أي الذي كثرت بركاته. (السَّلامُ) أي الذي لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل ، (الْمُؤْمِنُ) أي واهب الأمن ، (الْمُهَيْمِنُ) أي الحافظ لكل شيء ، (الْعَزِيزُ) أي الذي لا يوجد له نظير ، أو الغالب (الْجَبَّارُ) أي الملك العظيم ـ كما قاله ابن عباس ـ أو مصلح أحوال العباد ، أو الذي يقهرهم على ما أراد ، (الْمُتَكَبِّرُ) بربوبيته ـ كما قاله ابن عباس ـ أو المتعظم عن كل سوء ـ كما قاله قتادة ـ أو الذي تعظم عن ظلم العباد (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢٣) ، أي تنزيها له تعالى عما يشركون به. (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) أي المقدر لما يوجده ، فيرجع إلى تعلق الإرادة التنجيزي القديم ، (الْبارِئُ) أي المبرز للأعيان من العدم إلى الوجود ، فيرجع لتأثير القدرة الحادث في خصوص الأعيان ، (الْمُصَوِّرُ) أي مصور الأشياء على هيئات مختلفة مما يريد تعالى ، فالتصوير آخر ، والتقدير أولا ، والبرء بينهما.

وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بفتح الواو وبالنصب مفعول لـ «البارئ». (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي له تعالى الأسماء الدالة على معاني الصفات الحسنة ، (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ينطق ما فيهما بتنزهه تعالى عن جميع النقائص تنزها ظاهرا ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤) الجامع للكمالات كافة ، فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.

٥١٤

سورة الممتحنة

وتسمى سورة براءة والمبعثرة ، والفاضحة ، مدنية ، ثلاث عشرة آية ،

ثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة ، ألف وخمسمائة وعشرة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) في الدين (وَعَدُوَّكُمْ) في القتل ، وهم كفار مكة (أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، أي توصلون المودة بينكم وبينهم. روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة كتابا : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يغزوكم ، فخذوا حذركم ، ثم أرسله مع سار مولاة أبي عمرو بن صيفي ، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها بردا ، واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة ، فخرجت سائرة ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث عليا ، وعمارا ، وطلحة ، والزبير ، والمقداد ، وأبا مرثد وقال : انطلقوا حتى تألوا روضة خاخ ـ موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا ـ فإن فيها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها ، واتركوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة ، وسألوا عن ذلك فأنكرت وحلفت ما معها كتاب ، فسل على سيفه وقال : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخرجته من عقاص شعرها ، فخلوا سبيلها ، فجاءوا بالكتاب إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستحضر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا وقال له : «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال : نعم ، قال «ما حملك على هذا؟» (١) قال : إن لي بمكة أهلا ومالا ، فأردت أن أتقرب منهم ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، وأن الله ناصرك عليهم ، فصدقه ، وقبل عذره فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر» فقال لهم : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (٢)

__________________

(١) رواه النسائي في السنن (٨ : ٢٤٠) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ : ٧٩) ، وعبد الرزاق في المصنف (١٧٩٣٢) ، وابن حجر في المطالب العالية (٢٢٠٦) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٥ : ٣٨٧) ، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (١ : ١٠٧).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦ : ١٨٦) ، ومسلم في فضائل الصحابة ١٦٢ ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٢٠٣) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين (٧ : ١٣٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٠١٩٣).

٥١٥

ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم فنزلت هذه الآية.

وروي أن سارة عاشت إلى خلافة عمر وأسلمت وحسن إسلامها ، (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الدين الحق. وقرئ «لما جاءكم» أي كفروا لأجل ما جاءكم من الرسول والقرآن ، أي جعلوا ما هو سبب الإيمان سببا للكفر (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة إلى المدينة ، (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) وهذا تعليل للإخراج أن يخرجوكم لإيمانكم بالله (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) من مكة إلى المدينة (جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) وهذا مرتبط بلا تتخذوا ، أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، أي بالنصيحة. وهذه الجملة بدل من «تلقون إليهم» بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرا وجهرا (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي والحال إني أعلم منكم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم ، فأي فائدة لكم في إسرار النصيحة وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي؟ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١) أي ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار فقد أخطأ طريق الصواب ، هذا كله معاتبة لحاطب ، وهذا يدل على فضله وصدق إيمانه ، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب كما قال القائل من الوافر :

ويبقى الود ما بقي العتاب

 

إذا ذهب العتاد فليس ود

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي إن يغلب عليكم أهل مكة يظهروا ما في قلوبهم من غاية العداوة ، (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالشتم والطعن (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) ، أي وتمنوا كفركم بعد إيمانكم ، فحينئذ لا ينفعكم إلقاء المودة إليهم ، (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين تتقربون إلى المشركين لأجلهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) والظرف إن علق بـ «يفصل» فالوقف على «أولادكم» وقف بيان ، أو وقف تام عند أبي حاتم ، والوقف على «بينكم» وإن علق بـ «تنفعكم» فالوقف على «يوم القيامة» وهو وقف صالح. وقرأ ابن عامر «يفصل» بضم وفتح الفاء وتشديد الصاد مع فتحها ، ونائب الفاعل ظرف مبني على الفتح وحمزة والكسائي كذلك ، إلا أنهما يكسران الصاد ، أي يفرق الله بينكم وبين أقاربكم وأولادكم ، فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار ، وعاصم بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد. والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الياء وسكون الفاء ، وفتح الصاد.

وروي أن ابن كثير قرأ أيضا بالبناء للمفعول كعاصم. وقرئ «نفصل» و «نفصل» بالنون (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣) فيجازيكم عليه ، ولم يقل تعالى خبير مع أنه أبلغ في العلم ، لأن البصير أظهر من خبير في العلم ، لأنه تعالى يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر ، (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة حسنة (فِي إِبْراهِيمَ) ، أي في جميع أحواله من قول وفعل (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أصحابه المؤمنين.

٥١٦

وقرأ عاصم «أسوة» بضم الهمزة في الموضعين. والباقون بكسرها ، (إِذْ قالُوا) بدل اشتمال من «إبراهيم والذين معه» ، (لِقَوْمِهِمْ) أي لقرابتهم الكفار ، مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إنا متبرئون من قرابتكم إيانا ومن معبودكم من الأوثان (كَفَرْنا بِكُمْ) أي أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم ، (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ) أي ظهر بيننا وبينكم العداوة ، وهي المباينة في الأفعال ، (وَالْبَغْضاءُ) وهي المباينة بالقلوب (أَبَداً) أي على الدوام ، (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، وتتركوا الشرك ، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية ، والبغضاء محبة ، أمر الله تعالى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء ، (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك ، لأنه لما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياها ، لأنه ظن أنه أسلم ، فلما مات على الكفر تبرأ منه وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء ، (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهذا حال من فاعل «لأستغفرن» ، أي لأستغفرن لك والحال أني لا أدفع عنك شيئا من عذاب الله إن أشركت به ، أي وما علي إلا بذل الوسع في الاستغفار فوعده الاستغفار ، رجاء الإسلام.

وقال ابن عباس : كان من دعاء إبراهيم وأصحابه : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أي في جميع أمورنا (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا بالتوبة عن المعصية وأقبلنا إلى طاعتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٤) إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك ، (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي مفتونين بهم.

قال ابن عباس : لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق. وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك ، (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥) أي أنت الذي تغلب في ملكك الحكيم في صنعك ، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) يا أمة محمد (فِيهِمْ) أي في إبراهيم والذين معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

قال ابن عباس : كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله ، وهذا هو الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه ، (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي لمن يخاف الله ، ويخاف عذاب الآخرة وقوله : (لِمَنْ) إلخ بدل من «لكم» بدل بعض من كل ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عن الائتساء بهم ويمل إلى مودة الكفار ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن سائر خلقه ، (الْحَمِيدُ) (٦) أي المحمود في فعاله.

قال مقاتل : لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم ، وجميع أقاربهم ، فأنزل الله تعالى قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من كفار مكة (مَوَدَّةً) أي صلة بمخالطتهم مع أهل الإسلام ، (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي مبالغ في القدرة فيقدر على تسهيل أسباب المودة ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧) بهم إذا تابوا وأسلموا ، ورجعوا إلى حضرة الله

٥١٧

تعالى ، فتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام فتح مكة أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان ، واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت هي قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصّر وراودها على النصرانية ، فأبت ، وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي ، فخطبها عليه ، وساق عنه إليها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يقرع أنفه. والمراد بقوله تعالى : (الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) نفر من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم : أبو سفيان بن حرب ، وأبو سفيان بن الحرث ، والحرث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام. (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ، أي لأجل دينكم (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي تصلوهم وهو بدل من «الذين لم يقاتلوكم» (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي تفضوا إليهم بالصلة وغيرها ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٨) أي أهل البر والتواصل عن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، فإن أمها فتيلة بنت عبد العزى ، وهي مشركة قدمت عليها بهدايا ، فلم تقبلها ، ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت هذه الآية فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدخلها وتكرمها وتحسن إليها. وقيل : نزلت في خزاعة ـ قوم هلال بن عويمر ـ وخزيمة ، وبني مدلج ، فإنهم صالحوا النبي قبل عام الحديبية على أن لا يقاتلوه ، ولا يخرجوه من مكة ولا يعينوا أحدا على إخراجه. وقيل : نزلت في قوم من بني هاشم أخرجوا يوم بدر كرها ، وهذه الآية تدل على جواز الإحسان بين المشركين والمسلمين وإن كانت المناصرة منقطعة ، (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي لأجل دينكم ، (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وهم عتاة أهل مكة ، (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي عاونوا عليه من سائر أهل مكة ، (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي أن تناصروهم. هذا بدل اشتمال من «الذين قاتلوكم» (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي ومن يحبهم ويناصرهم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩) لأنفسهم بإقبالها للعذاب لوضعهم المحبة في موضع العداوة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) أي المقرات بالله (مُهاجِراتٍ) من مكة من بين الكفار ، (فَامْتَحِنُوهُنَ) أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم بالتحليف ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول للممتحنة : «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله ، ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله». (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد الله بعلمه (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، أي فإن ظننتموهن بعد الامتحان مؤمنات بالعلائم فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين ، (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) أي ليست المؤمنات حلا لأزواجهن الكفار ، وهذا بيان لزوال النكاح الأول ، (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي وليس الكفار حلا للمؤمنات. وهذا بيان لامتناع النكاح الجديد (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور ، فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها ، وقد فوتها المهاجرة فلا يجمع على الرجل خسارتان : الزوجية والمالية. وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من

٥١٨

جاءكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم ، وكتبوا بذلك العهد كتابا وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية ، مسلمة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي فقال : يا محمد ، اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف ، فنزلت هذه الآية لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء ، فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق ، ثم تزوجها عمر رضي‌الله‌عنه وأخرج الطبراني عن عبد الله أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

وعن الزهري : كانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها : عمارة والوليد ، فحبسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد أخويها. وأخرج بن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب أنها نزلت في أمية بنت بشر امرأة أبي حسان ابن الدحداحة. وعن مقاتل : أنها نزلت في سعيدة امرأة صيفي بن الواهب. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا معشر المؤمنين (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) بعد الاستبراء (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي إذا التزمتم مهورهن ، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم ، إذا تزوجهن إذ المهر أجر البضع.

قال ابن عباس : أيما امرأة أسلمت وزوجها كافر فقد انقطع ما بينها وبين زوجها من عصمة ولا عدة عليها من زوجها الكافر وجاز لها أن تتزوج إذا استبرأت ، (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي لا تأخذوا بعقود الكافرات غير أهل الكتاب.

قال ابن عباس : أيما امرأة كفرت بالله فقد انقطع ما بينها وبين زوجها المؤمن من العصمة. وقرئ في السبعة «تمسكوا» بضم التاء وسكون الميم وبفتح الميم وتشديد السين. وقرئ «تمسكوا» بفتح التاء والميم وتشديد السين ، (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي اطلبوا أيها المؤمنون من أهل مكة ما اتفقتم على أزواجكم من مهورهن إن دخلن في دينهم ، (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وليطلبوا منكم ما أنفقوا على أزواجهم من المهور إن دخلن في دينكم (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠).

روي أنه لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون مهور المؤمنات المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن انفلت منكم أحد من أزواجكم ، ورجع إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فغنمتم من العدو ، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار من الغنيمة قبل الخمس مثل ما أنفقوا عليهن من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ، ولا تعطوه زوجها الكافر ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١) ، وجميع من ارتدت من نساء المؤمنين ست نسوة : أخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، وأم كلثوم

٥١٩

بنت جرول ـ وهما تحت عمر بن الخطاب ـ وأم الحكم بنت أبي سفيان ، كانت تحت عباد بن شداد العمري ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان من بني مخزوم ، وعبدة بنت عبد العزى ، كانت تحت عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هاشم بن العاص ، فأعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهر نسائهم من الغنيمة. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) أي نساء أهل مكة بعد فتح مكة (يُبايِعْنَكَ) أي قاصدات المشارطة (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الإشراك ، (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ).

وقرئ «ولا يقتلن» بتشديد التاء ، (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ، كانت المرأة تلتقط المولود من الزنا فتقول لزوجها : هو ولدي منك كني عن هذا بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ، ومخرجه بين رجليها ، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أي فيما تأمرهن به من معروف ، وهو ما عرف حسنه من جهة الشرع. وهذا تنبيه على نفي جواز طاعة مخلوق في معصية الخالق ، وذلك كترك النوح وجز الشعر ، ونتفه ، وحلق الرأس ، وخمش الوجه ، وشق الجيوب ، وتمزيق الثياب ، وأن لا يخلون مع رجل غير محرم وأن لا يسافرن مع غير ذي محرم ، (فَبايِعْهُنَ) أي فشارطهن على ذلك ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) فيما سلف منهن في الجاهلية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) ، أي مبالغ في المغفرة والرحمة.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح مكة جلس على الصفا ، ومعه عمر أسفل منه ، فجعل يبايع النساء ، وكانت جملتهن إذ ذاك أربعمائة وسبعا وخمسين امرأة ، ولم يصافح في البيعة امرأة ، وإنما بايعهن وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء ، فغمسن يده فيه فغمس أيديهن فيه وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة ، متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت : لقد عبدنا الأصنام وأنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط ، ولما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تسرقن». قالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر ، فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة» قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك ، فلما قال : «ولا تزنين» ، فقالت : أو تزني الحرة؟ فلما قال : «ولا تقتلن أولادكن». قالت : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا وكان ابنها حنظلة قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قال : «ولا تأتين ببهتان» (١) إلخ قالت : والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٣٦٥) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٦ : ٣٨) ، وابن كثير في ـ

٥٢٠