مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الواقعة

مكية ، سبع وتسعون آية ، ثلاثمائة وثمان وتسعون كلمة ، ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) أي إذا قامت القيامة يعترف بها كل أحد ويبطل عناد المعاندين ولا يتمكن أحد من من إن كارها والعامل في «إذا» «ليس لوقعتها كاذبة» فاللام بمعنى في ، أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها ، أو بمعنى عندي أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذب في نفيها ، وإنما سميت القيامة واقعة لشدة صوتها يسمع القريب والبعيد ، (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣) أي هي خافضة للكافرين في دركات النار والعذاب ، ورافعة للمؤمنين في درجات الجنة والنعيم.

وقرئ «خافضة رافعة» بالنصب على الحال من «الواقعة» ، (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) (٤) ، أي إذا زلزلت الأرض زلزالا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ، و «إذا» متعلقة بـ «خافضة» رافعة أو بدل من «إذا وقعت». (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٥) أي فتتت الجبال فتا ، (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٦) أي فصارت الجبال غبارا منتشرا ، (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (٧) أي وصرتم في ذلك اليوم أيها الخلائق ثلاثة أصناف ، اثنان في الجنة وواحد في النار ، ثم بينهم الله تعالى بقوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨) أي فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم ، أيّ شيء هم في حالهم ، فهم في غاية حسن الحال في الكرامة والسرور (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩) أي وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيّ شيء هم في حالهم ، فهم في غاية سوء الحال وهم في الهوان والعذاب ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠) أي والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم ، فهم يسبقون الخلق إلى الجنة من غير حساب ، فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى ، (أُولئِكَ) أي السابقون (الْمُقَرَّبُونَ) (١١) إلى الله تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١٢) في أعلى عليين ، فلهم قرب عند الله كما يكون الجلساء الملوك فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر ، فيلتذون بالقرب ويتنعمون بالراحة ، بخلاف قرب الملائكة الذين هم للأشغال ، فهو قرب الخواص عند الملك ، فهم ليسوا في نعيم وإن كانوا في لذة عظيمة ، ولا يزالون خائفين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر

٤٨١

ولا يرتفع عنهم التكليف ، (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) أي هم أي السابقون إلى الإيمان بالأنبياء عيانا ، المجتمعون عليهم جماعة كثيرة من الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليهم‌السلام وقليل من هذه الأمة ، أي إن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به ، وهذا لا ينافي كون أمة محمد ثلثي أهل الجنة (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (١٥) أي موصولة بالذهب والفضة ، منسوجة بالدر والياقوت ويقال : أرضها من الذهب الممدود وقوائمها من الجواهر النفيسة (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي السرر ، (مُتَقابِلِينَ) (١٦) فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وهذا وصف لهم بحسن العشرة والآداب ، وتهذيب الأخلاق. ويقال : السابقون هم الذين أجسامهم أرواح نورانية وجميع جهاتهم وجه ، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي يدور حولهم للخدمة (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (١٧) أي مبقون أبدا على شكل الولدان ، لا يكبرون ولا يلتحون (بِأَكْوابٍ) ، أي بكيزان وهي أوان مستديرة الأفواه بلا عري ولا خراطيم ، (وَأَبارِيقَ) وهي : أوان لها عري وخراطيم (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (١٨) أي إناء خمر طاهرة تجري من عيون (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي لا يصيبهم صداع بسبب شربها ، (وَلا يُنْزِفُونَ) (١٩).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي ، أي لا ينفذ شرابهم.

والباقون بفتحها أي «لا يكسرون» ، أي لا ينزف عقولهم (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢٠) ، أي مما يختارونه ويأخذون أفضله ،(وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢١). وقرئ «ولحوم طير». وعن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدهما : يا ولي ، الله رعيت في مروج تحت العرش ، وشربت من عيون التنسيم فكل مني ، فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد ، فإذا شبع تجمع عظام الطير فطار يرعى في الجنة حيث شاء». فقال عمر : يا نبي الله ، إنها لناعمة. قال : «آكلها أنعم منها» (١). (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) أي نساء شديدات بياض أجسادهن وشديدات سواد العيون مع سعتها.

وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطف على «جنات النعيم» كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ، ولحم طير ، ومصاحبة حور. والباقون بالرفع عطفا على «ولدان» فلأهل الجنة حور مقصورات معظمات ، ولهن جوار وخوادم وحور تطوف مع الولدان السقاة. وقرئ «وحورا عينا» بالنصب ، أي ويعطون حورا عينا ، (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (٢٣) أي المصون الذي لم تقع عليه الشمس

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٢٣٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٥٦) ، والقرطبي في التفسير (١٧ : ٢٠٤) ، وابن مبارك في الزهد ٥٢٥ ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٤٩٨) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٤٩٨) وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (٢ : ١٨٨).

٤٨٢

والهواء. وهذا إشارة إلى غاية صفائهن (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم (لا يَسْمَعُونَ فِيها) ، أي الجنة (لَغْواً) أي شيئا لا ينفع ، (وَلا تَأْثِيماً) (٢٥) أي شيئا منسوبا إلى الإثم كالشتم ، (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) أي لكن يقولون ويسمعون قولا سلاما سلاما ، أي يسلم بعضهم على بعض وتسلم الملائكة عليهم ، ويرسل الرب السلام إليهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية. (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ) أي يتنعمون في شجر نبق (مَخْضُودٍ) (٢٨) أي غير ذي شوك ، وموقر من الحمل حتى لا يبين ساقه ، والله تعالى جعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا على اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر ـ كما في الحديث ـ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩) أي وفي موز متراكب أوراقه وثمره لا يرى له ساق من كثرة ثمره الذي أحلى من العسل ، وليس ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلا والجوز ونحوهما ، بل كله مأكول ومشروب ومشموم منظور إليه.

واعلم أن الأشجار يجمعها نوعان أوراق صغار ، وأوراق كبار ، فالسدر في غاية الصغر وشجر الموز في غاية الكبر ، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها ، كما ذكر الله النخل والرمان عند ذكر الثمار ، لأن بينهما غاية الخلاف فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها ، وكذلك النخيل والأعناب فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة ، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار ، فإن البليغ يذكر طرفي أمرين يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما ، كما يقال : فلان ملك الشرق والغرب ويفهم منه أنه ملك ما بينهما ، وكما يقال فلان أرضى الصغير والكبير ، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد. (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) أي منبسط لا تزيله الشمس أبدا ، كظل ما بين الفجر وطلوع الشمس ، (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) (٣١) أي مصبوب من ساق العرش سائل يجري على الأرض في غير أخدود ، ومثل الله حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن ، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي إعلاما بالتفاوت بين الحالين (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) (٣٢) بحسب الأنواع والأجناس (لا مَقْطُوعَةٍ) في وقت من الأوقات ، (وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) عن متناوليها بوجه من الوجوه. وقرئ و «فاكهة» بالرفع أي وهناك فاكهة إلخ. (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (٣٤) على الأسرّة كما قاله علي ، أو نساء مرفوعات على الأرائك ومرفوعات بالفضل والجمال ، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (٣٦).

روى النحاس أن أم سلمة سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) فقال : هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا ، عمشا ، رمصا ، جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء. وعن المسيب بن شريك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) : «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن

٤٨٣

وجدوهن أبكارا». فلما سمعت عائشة رضي‌الله‌عنها ذلك قالت : وا وجعاه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هناك وجع». (عُرُباً) أي حسناء محسنة لكلامها متحببات إلى أزواجهن (أَتْراباً) (٣٧) أي مستويات في السن على مقدار ثلاث وثلاثين سنة (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) (٣٨) أي على سنهم. وفي هذا الإشارة إلى الاتفاق ، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشباب يعيره ، والجار والمجرور متعلق بـ «أترابا» كقولك : هذا ترب لهذا أي مساو له في السن (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) أي هم أي أصحاب اليمين كثيرون من أوائل الأمم قبل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أواخر الأمم ، وهي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ) ، أي في ريح متعفن يتحرك من جانب إلى جانب ، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه العفوية ويقتل الإنسان (وَحَمِيمٍ) (٤٢) أي ماء حار إشارة بالأدنى إلى الأعلى ، فالهواء والماء أنفع الأشياء في الدنيا ، فهواؤهم الذي يهب عليهم سموم وماؤهم الذي يستغيثون به حميم فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أحر ، وكيف حالهم مع أحر الأشياء؟ (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣) أي من دخان جهنم أسود ، (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٤٤) أي لا بارد يطلب الظل لبرده ، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه وحفظ عن القاذورات ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي قبل سوء العذاب في الدنيا (مُتْرَفِينَ) (٤٥) ، أي منعمين بأنواع النعم ولم يشكروها (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (٤٦) أي كانوا في الدنيا يديمون على الذنب العظيم الذي هو الشرك ، (وَكانُوا يَقُولُونَ) إذا كانوا في الدنيا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا) أي صرنا (تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٤٨). وهذه الآيات الثلاثة إشارة إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) يدل على ذمهم بإنكار الرسل وعلى تكبرهم بغناهم ، وهم كانوا يقولون : أبشرا منا واحدا نتبعه. وقوله تعالى : (يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد. وقوله تعالى : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) إلخ إشارة إلى إنكار الحشر.

وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو. والباقون بفتحها أي أإنا أو آباؤنا مبعثون أي أتبعث آباؤنا الأولون الذي قد فنيت عظامهم. (قُلْ) يا أشرف الخلق لمنكري البعث : (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠) أي إنهم يساقون بعد البعث إلى عرصة الحساب ، ويجمعون في وقت يوم معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن سبيل الله وهو التوحيد ، (الْمُكَذِّبُونَ) (٥١) أي المنكرون الحشر (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) (٥٢) أي لآكلون شجرا هو الزقوم ، (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٥٣) أي كل واحد منكم يملأ بطنه من تلك الشجر ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أي عقب ذلك الأكل بلا ريث (مِنَ الْحَمِيمِ) (٥٤) أي الماء الحار ، (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (٥٥) أي لا يكون شربكم منه شربا معتادا بل يكون مثل شرب الإبل العطاش. (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦) أي ليس المذكور كل العذاب ، بل هذا أول ما يلقونه من العذاب وهو جزء منه ، وإذا كان هذا ما يعدّ لهم

٤٨٤

أول قدومهم فما ظنك بما لهم بعد استقرارهم في النار ، (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧) بالبعث (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥٩)؟ أي هل تشكون في أن الله خلقكم أولا أم لا؟ فإن لم تشكوا في ذلك فهلا تصدقون أيضا بخلقكم ثانيا ، فإن من خلقكم أولا من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانيا من أجزاء معلومة عنده ، فأخبروني أيّ شيء هو تصبون في أرحام النساء من المني إن كنتم تشكون وتقولون : الخلق لا يكون إلّا من مني وبعد الموت لا مني ، أفهذا المني أنتم تخلقونه ، أم الله فإن كنتم تعترفون بقدرة الله وإرادته وعلمه ، فذلك يلزمكم القول بجواز البعث وصحته ، (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي وقتنا موت كل أحد بوقت معين. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال أي سوّينا بينكم بالموت فتموتون كلكم ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ، ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق ، أي وما نحن عاجزون عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) أي إنا قادرون على أن نخلقكم في صور لا تعلمونها في جنسكم ، ويقال : أن نجعل أرواحكم يوم القيامة فيما لا تصدقون وهي النار. وقال بعضهم : أنجعل أرواحكم في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الزرازير كما أخرجه ابن أبي حاتم. (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي الخلق الأول في بطون الأمهات وهو من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٦٢) أي فهلا تتعظون بأن من قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الأخرى حتما.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة ، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال في «تذكرون». والباقون بالتشديد. وقرئ «تذكرون» من الثلاثي. وفي الخبر : «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور». (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٦٣) أي أخبروني يا أهل مكة ما تبذرون من الحبوب (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) ، أي أأنتم تنبتونه! بل نحن المنبتون لا أنتم ، (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي لجعلنا الزرع متكسرا يابسا بعد خضرته ، وقبل ظهور الحب ، أي إن قلتم : نحن نلقي البذر في الأرض وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا ، قال تعالى : ولو سلم لكم هذا الباطل فما تقولون في سلامة الزرع عن الآفات فيفسد قبل اشتداد الحب فهل تدفعون الآفات عنه ، أو هذا الزرع بنفسه يدفعها عن نفسه كما تقولون إنه بنفسه ينبت؟ (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (٦٥) أي فصرتم تعجبون من يبسه بعد خضرته. وقرئ «فظلتم» بكسر الظاء و «فظلتم» على الأصل بكسر اللام. وقرئ «تفكهون» أي تتندمون على ما أنفقتم عليه قائلين : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) (٦٦) أي إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع ، أو إنا لمكرهون بالغرامة. وقرأ شعبة أإنا على الاستفهام (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧) أي ممنوعون منفعة زروعنا ، (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي

٤٨٥

تَشْرَبُونَ) (٦٨) عذبا فراتا ، (أَأَنْتُمْ) يا أهل مكة (أَنْزَلْتُمُوهُ) عليكم (مِنَ الْمُزْنِ) أي السحاب الثقيل بالماء ، (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (٦٩) أي بل نحن المنزلون عليكم لا أنتم (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ) أي ذلك الماء (أُجاجاً) ، أي حارا أو مرا من شدة الملوحة ، (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة التامة ، فإن النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ، وذلك لأن الإنسان إذا كان في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل شيئا مخافة العطش. (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٧١) أي تقدحونها عن كل عود غير العناب وهو الشجر الأحمر ، (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي الشجرة التي تصلح لإيقاد النار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢) أي بل نحن المنشئون لها بقدرتنا لا أنتم؟ (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) لنار جهنم فيجب على العاقل إذا رأى النار الموقدة أن يخشى عذاب الله أو تذكرة لصحة البعث ، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت ، (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣) أي منفعة للذين ينزلون القوى وهي القفر البعيدة من العمران ، وهم الذين أوقدوا النار ، لأنهم أحوج إلى النار في الليل لتهرب السباع ويهتدي الضال ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) ولا تقل لغير الله تعالى انه إله فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة ، أي إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله ، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة في الاسم ، ونسميها آلهة والله هو الذي خلقها ، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة فقال تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم. (فَلا أُقْسِمُ) قيل : «لا» مزيدة مؤكدة. وقيل : الأصل فلانا أقسم ، فحذف المبتدأ ، وأشبعت فتحة لام الابتداء ، ويعضده قراءة من قرأ «فلأقسم» بلام التأكيد. وقيل : إن «لا» نافية ، رد لكلام يخالف المقسم عليه ، والتقدير : والله لا صحة لقول الكفار أقسم (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) أي بمواضعها في السماء في منازلها.

وقرأ حمزة والكسائي «بموقع النجوم» بسكون الواو ، أي بموضع سقوطها عند غروبها (وَإِنَّهُ) أي إن القسم بها (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) ، أي لو تعلمون عظمة القسم لعظمتم هذا القسم ، لكنكم ما عظمتونا ، لأنكم لا تعلمون ولا وقف هنا ، لأن القسم وقع على ما بعده ، (إِنَّهُ) أي إن الكلام الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) أي كثير النفع لاشتماله على إصلاح المعاش والمعاد ، (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٧٨) أي في كتاب محفوظ عن الباطل ، وهو المصحف ، الذي في أيدينا ، (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٧٩) أي لا يمس ذلك الكتاب إلّا المطهرون من الأحداث ، أي يحرم عليهم مسّه بدون الطهارة. وهذه الجملة صفة ثانية لـ «كتاب» ، فالخبر بمعنى النهي ويؤيد هذا قراءة عبد الله بن مسعود «ما يمسه» بـ «ما» النافية. وروى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم ، وهو من أهل الظاهر لا يمس القرآن إلّا طاهر.

٤٨٦

وقال ابن عمر. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمس القرآن إلّا وأنت طاهر» (١) (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٠) صفة ثالثة لـ «قرآن» أي منزل من الله تعالى ، وفي ذلك رد على قول من قال : إن القرآن شعر ، أو سحر ، أو كهانة ، وفي هذا رد على الذين يقولون : إن القرآن في كتاب ولا يمسه إلا المطهرون ـ وهم الملائكة ـ ورد على الروافض الذي يقولون : إن جبريل أنزل على علي فنزل على محمد. فقال تعالى : هو من الله ليس باختيار الملك. وقرئ «تنزيلا» بالنصب حال من قرآن ،(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) (٨١) أي أفبهذا القرآن أنتم يا أهل مكة متهاونون به. ويقال : أفبهذا الكلام الذي تتحدثون به أنتم تلينونه لأصحابكم من شأن محمد والبعث ، والحساب ، والجنة ، والنار تعلمونهم خلافه ، (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) أي تجعلون معاشكم تكذيب محمد ، لأنكم تخافون إن صدقتموه ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر أن يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل. وقرئ «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» ، أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به ، (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (٨٤) أي فلم لا تكذبون الرسل إذا بلغت الروح الحلقوم ، والحال أنكم وقت النزع تشاهدون الأمور وتعلمونها. وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) أي ونحن أقرب إلى الميت من أهله الحاضرين عنده بعلمنا وقدرتنا ، ولكن لا تدركون ذلك لجهلكم بشئوننا ، (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٨٧) ، أي فلم لا تردون الروح إلى الجسد عند بلوغها الحلقوم إن كنتم غير مجزيين وغير محاسبين إن كنتم صادقين في اعتقادكم أي إنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم كما كنتم في الدنيا التي ليست دار جزاء ، (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ) أي فأما إن كان المجزى من المقربين السابقين فله راحة. وقرأ بعضهم بضم الراء ، أي فله حياة دائمة ، أو رحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم (وَرَيْحانٌ) ، أي رزق عظيم أو زهرة فقد قيل : إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلّا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٨٩) أي بستان ذات تنعم ليس فيها غيره ، (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) أي إن مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين ، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين فكأن الله تعالى

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٣ : ٤٨٥) ، والطبراني في المعجم الكبير (٣ : ٢٣٠) ، والدار قطني في السنن (١ : ١٢٣) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (١ : ٢٧٦) ، والزيلعي في نصب الراية (١ : ١٩٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٨٢٩) ، والألباني في إرواء الغليل (١ : ١٥٩).

٤٨٧

قال : هؤلاء الذين هم أهل الجنة وإن كانوا دون الأولين ، لكن لا تنقطع بينك يا أشرف الخلق وبينهم المكالمة والتسليم ، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك ، والغائب إلى أهله وولده ، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك ، وإن كنت أعلى مرتبة منهم (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) (٩٣) ، أي وأما إن كان المجزى من المنكرين للبعث الضالين عن سبيل الله ، فله ضيافة من ماء حار يشربه بعد أكل الزقوم (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٩٤) أي وإدخال في النار واحتراق بها ، (إِنَّ هذا) أي ما ذكر في هذه السورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥) أي نهاية اليقين ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) لم بين الله تعالى الحق وامتنع الكفار قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا هو حق فإن امتنعوا ، فسبح ربك في نفسك وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك.

٤٨٨

سورة الحديد

مدنية أو مكية ، تسع وعشرون آية ، خمسمائة وأربع

وأربعون كلمة ، ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أبعد الخلق ذات الله تعالى من أن يكون محلا للإمكان وصفاته من أن تكون متغيرة ، وأفعاله من أن تكون موقوفة على مادة ومثال ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) أي وهو القادر الغالب الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف فيهما وفيما فيهما من الموجودات (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) أي هو قادر على خلق الحياة والموت ، ومنفرد بإيجادهما لا يمنعه تعالى عنهما مانع ، ولا يرده عنهما راد. (هُوَ الْأَوَّلُ) أي ليس قبله شيء ، (وَالْآخِرُ) أي ليس بعده شيء فهو الباقي بعد فناء سائر الموجودات ، (وَالظَّاهِرُ) بحسب الدلائل ، (وَالْباطِنُ) أي المحتجب عن الأبصار. وعن الحواس وعن إدراك حقيقة ذاته في الدنيا والآخرة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) لا يعزب عن علمه شيء من المظاهر ، والخفي ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا تعلما للعباد في التأني للأمور (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، أي تصرف في ملكة تصرفا تاما (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من المياه والكنوز والأموات ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات والمياه والمعادن والأموات ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والملائكة والمصائب والحر والبرد ، (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الحفظة والأعمال (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم ، فهو كونه تعالى عالما بظواهرنا وبواطننا لا بالمكان والجهة.

قال المحققون : ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله. وقال المتوسطون : ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه. وقال الظاهريون : ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) فيجازيكم به (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٥) أي جميع الأمور في الآخرة حيث لا مالك سواه. وقرأ الأخوان وابن عامر بفتح التاء وكسر الجيم (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) ، فيزيد النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ، فيزيد الليل (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٦) أي بمكنونات القلوب من

٤٨٩

نياتهم. (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وهذا خطاب مع من عرف الله ، فالمقصود من هذا الأمر معرفة صفات الله ، أما معرفة وجود الصانع فحاصلة للكل ، (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي من الأموال التي في أيديكم التي جعلكم الله بمنزلة الوكلاء فيها ، تحفظونها لمن يأتون بعدكم فلا ينبغي لكم البخل بها ، فالصواب أن تصرفوها في الوجوه التي تنفعكم في المعاد ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) أموالهم في طاعة الله (لَهُمْ) بسبب ذلك ، (أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧) لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره ، (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أيّ أي شيء يحصل لكم غير مؤمنين بالله ، والحال أن الرسول يدعوكم للإيمان به ، والحال أن الله قد نصب الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسول في العقول فقد تطابقت دلائل النقل والعقل ، وسميت الدلائل المستلزمة وجوب القبول ميثاقا ، لأنها أوكد من الحلف (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) ، أي إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل ، فما لكم لا تؤمنون الآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية ، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها. وقرأ أبو عمرو «أخذ ميثاقكم» بالبناء للمفعول ، وبرفع ميثاقكم ، أي مكن عقولكم من النظر في الأدلة ، (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام (آياتٍ بَيِّناتٍ) وهي القرآن ، (لِيُخْرِجَكُمْ) أي الله أو العبد بتلك الآيات ، (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان ، (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩) حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الأدلة العقلية ، (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وأيّ شيء يحصل لكم يا معشر المؤمنين في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة ، والحال أنه لا يبقى لكم شيء منها ، بل يبقى كله لله تعالى ، فإنكم ستموتون فتورثون ، أي وذلك لأن المال لا بد من خروجه عن اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في طاعة الله ، فإن خرج عن اليد بغير الإنفاق في طاعة الله استعقبه اللعن والعقاب ، وإن خرج عنها بالإنفاق في مرضاة الله استعقبه المدح والثواب ، (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوي منكم يا معشر المؤمنين عند الله في الفضل من أنفق من قبل فتح مكة ، وقاتل أعداء الله ، ومن أنفق وقاتل من بعد فتح مكة وقوة الإسلام. وقرئ «قبل الفتح» بغير «من» ، (أُولئِكَ) أي المنعوتون بذينك النعتين الجميلين (أَعْظَمُ دَرَجَةً) ، وأرفع منزلة عند الله (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا). وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، فإنه من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا ، أشرف به على الهلاك. قال عمر : كنت قاعدا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ، فنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره بخلال؟ فقال : «أنفق ماله علي قبل الفتح» قال : فإن الله عزوجل يقول : اقرأ عليه‌السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال : أبو بكر أأسخط على ربي! إني عن ربي راض. (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ

٤٩٠

الْحُسْنى) أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى ـ وهي الجنة ـ مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر «وكل» بالرفع على الابتداء ، أي وكل وعده الله الحسنى ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠) فيوصل الثواب إليكم بحسب استحقاقكم له (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي من ذا لذي ينفق ماله في طاعته تعالى بالصدق من قلبه رجاء أن يعوضه.

وقال بعض العلماء : لا يكون القرض حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة :

الأول : أن يكون القرض من الحلال.

والثاني : أن يكون من أكرم ما تملكه دون أن تنفق الرديء.

والثالث : أن تصدق بما تملكه وأنت تحتاج إليه بأن ترجو الحياة.

والرابع : أن تصرف صدقتك إلى الأحوج.

والخامس : أن تكتم الصدقة ما أمكنك.

والسادس : أن لا تتبعها منا ولا أذى.

والسابع : أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي.

والثامن : أن تستحقر ما تعطي وإن كثر.

والتاسع : أن يكون المعطى من أحب أموالك إليك.

والعاشر : أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل ترى نفسك تحت دين الفقير ، وترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله منك. (يُضاعَفُ لَهُمْ) أي فيعطيه الله أجره أضعافا. وقرأ عاصم بالألف والنصب ، ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالألف والرفع ، وابن كثير بالتشديد في العين والرفع ، وابن عامر بالنصب. فالرفع على العطف على «يقرض» أو على الاستئناف على تقدير مبتدأ ، أي فهو يضاعفه ، والنصب على جواب الاستفهام بالفاء. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١) أي وللقرض ثواب حسن في نفسه ، حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، وإن لم يضعّف فكيف وقد ضعّف أضعافا كثيرة إلى أكثر من سبعمائة نزلت هذه الآية في أبي دحداح ، (يَوْمَ) ظرف لقوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ) أو للاستقرار العالم في وله أجر ، أي استقر له أجر يوم (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، وهذا النور هو ما يكون سببا للنجاة وإنما قال تعالى : (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم وراء ظهورهم ، فإذا مروا على الصراط يسعى معهم نور الإيمان والأعمال المقبولة أمامهم ، ونور الإنفاق في جهة أيمانهم ، لأن الإنفاق يكون بالإيمان ومراتب الأنوار مختلفة على قدر الأعمال ، فمنهم من يضيء له نوره كما بين عدن وصنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهاميه ينطفئ مرة ويتقد أخرى ، وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما. وقرأ

٤٩١

سهل بن شعيب وأبو حيوة وبأيمانهم بكسر الهمزة أي وبسبب أيمانهم حصل سعي ذلك النور ، (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي تقول لهم الملائكة على الصراط : بشارتكم العظيمة في هذا الوقت دخولكم جنات ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وهو حال من ضمير المخاطب المقدر ، (ذلِكَ) أي ما تقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلّدة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢) الذي لا غاية وراءه. وقرئ «ذلك الفوز العظيم» بإسقاط كلمة هو. (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لما رأوهم يسرع بهم إلى الجنة و «يوم» بدل من «يوم ترى» ، أو أن العامل فيه «ذلك هو الفوز العظيم». (انْظُرُونا) أي انظروا إلينا أي ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، والنور أمامهم فيستضيئون. به وقرأ حمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وكسر الظاء أي انتظرونا لنلحق بكم ، (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي نستضيء بنوركم. (قِيلَ) أي قال لهم المؤمنون قول تنديم وتوبيخ : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور فاطلبوا نورا هناك. وقيل : ارجعوا إلى دار الدنيا ، فالتمسوا هذه الأنوار هنالك. وقال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين (ارْجِعُوا) إلخ منع المنافقين عن الاستضاءة لا أمر لهم بالرجوع أي تنحّوا عنا ، فلا سبيل لكم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة ، فيرجعون في طلب النور (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) أي بني بين الفريقين (بِسُورٍ) الباء زائدة ، أي حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة أو حجاب ، كما في سورة الأعراف ، كما قاله مجاهد. وقال : من قال : ارجعوا إلى دار الدنيا. والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا ، (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي لذلك السور باب في باطن ذلك السور الجنة التي فيها المؤمنون ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (١٣) أي وخارج السور من جهته النار ، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور ، والكافرون يبقون في العذاب ، (يُنادُونَهُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدنيا على الغزوات والعبادات؟ (قالُوا بَلى) ، أي يقول المؤمنون : بلى ، قد كنتم معنا في الظاهر ، (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي أهلكتموها بكفر السر ، واستعملتموها في المعاصي والشهوات ، (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي أخرتم أنفسكم عن التوبة من النفاق ، وانتظرتم موت رسول الله وحوادث السوء على المؤمنين ، (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في نبوة محمد ، وفي البعث ، وفي وعيد الله ، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي الأباطيل وهي ما كانوا يتمنون من نزول الحوادث بالمؤمنين ، ومن انتكاس أمر الإسلام (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي حتى جاءكم وعد الله بالموت على غير التوبة من النفاق ، أي حتى أماتكم الله وألقاكم في النار (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (١٤) ، بفتح الغين ، أي الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة. وقرأ سماك بن حرب بضم الغين ، والمعنى : وغركم عن طاعة الله سلامتكم من أباطيل الدنيا مع الاغترار بأمتعة الدنيا (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فاليوم لا يقبل منكم يا معشر المنافقين فداء ولا من الذين أظهروا الكفر. وقرأ ابن عامر «تؤخذ» بالتأنيث.

٤٩٢

(مَأْواكُمُ النَّارُ) أي منزلكم النار ، (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي هي موضعكم الذي تصلون إليه (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥) ، أي بئس المرجع هذه النار. (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ)؟ قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم بتخفيف الزاي ، والمعنى : ألم يجيء وقت أن تخشع قلوب المؤمنين لذكرهم الله ، ولما نزل من القرآن ، وينقادوا لأوامره ونواهيه انقيادا تاما. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بتشديد الزاي ، أي ولما نزّله الله من القرآن. وعن أبي عمرو «نزل» مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن البصري «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون. وقرأ الحسن «ألما يأن» ، وعن الأعمش قال : إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية ، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) ، أي هذا إما معطوف على «تخشع» ، فـ «لا» نافية ، أي وألم يأن وقت أن لا يكونوا كاليهود والنصارى من قبل ما نزل إليكم ، والمراد نهي المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب ، بعد أن وبخوا ، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، وإما جزم «بلا» الناهية ، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات ، (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم. وقيل : أي طالت أعمارهم في الغفلة. وقيل : طال عليهم الزمان بطول الأمل.

وقال ابن عباس : أي مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. وروي عن ابن كثير الأمد بتشديد الدال ، أي الوقت الأطول فزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) للمواعظ بسبب الطول (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١٦) ، أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين من أجل فرط قسوتهم. وهذا إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر ، (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي أن الله يلين القلوب بالخشوع ـ الناشئ عن الذكر وتلاوة القرآن ـ بعد قساوتها كما يحيي الله الأرض بالغيث بعد يبوستها ، كذلك يحيي الله الموتى من القبور بالمطر ، و (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على قدرتنا على إحياء الموتى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) أي لكي تكمل عقولكم فتصدقوا بالبعث بعد الموت ، (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ). وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر بتخفيف الصاد من التصديق ، أي إن الذين آمنوا من الرجال والنساء وتصدقوا صدقة واجبة ، أو تطوعا عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة يضاعف لهم إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بتشديد الصاد من التصدق. وقرأ أبي «إن المتصدقين والمتصدقات» ، والمعنى : إن الذين أعطوا الصدقة من الرجال والنساء وعملوا الصالحات إلخ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة وهو تقديم الحسنات. وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف لهم» بتشديد العين ، والجار والمجرور نائب الفاعل. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١٨) أي

٤٩٣

ثواب حسن في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) وهم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ، ولم يكذبوهم ساعة قط مثل آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون ، وأما في أمة محمد فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام ، أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب. ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نيته ـ كما قاله الضحاك ومقاتل ـ ويقال : الصدّيق هو الذي يحمل الأمر على الأشق ، ولا ينزل إلى الرخص ، ولا يميل إلى التأويلات ، (وَالشُّهَداءُ) وهذا إما معطوف على ما قبله ويجوز الوقف هنا ، وهم عدول الآخرة الذين تقبل شهادتهم.

وقال الضحاك : هم التسعة الذين سميناهم رضي‌الله‌عنهم. وقال مقاتل ومحمد بن جرير : هم الذين استشهدوا في سبيل الله. وقال الفراء والزجاج هم الأنبياء. فـ «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» مبتدأ ثالث ، و «الصديقون» خبر «هم» ، وهو مع خبره خبر للثاني ، وهو مع خبره خبر للأول ، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء بعلو الرتبة ورفعة المحل. وإما مبتدأ وخبره إما (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وإما (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وعلى هذا فالوقف على الصدّيقون تام. والأظهر أن جملة لهم أجرهم من مبتدأ وخبر محلها رفع على أنه خبر ثان للموصول والضمير الأول للموصول والأخيران للصدّيقين والشهداء. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال ، أي للذين آمنوا مثل أجر الصدّيقين والشهداء ونورهم ، المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال ، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف ، وبين ما للآخرين من الأصل بدون الأضعاف ، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد ، ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفة القبيحة ، (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٩) بحيث لا يفارقونها أبدا ، ولما ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين ذكر ما يدل على حقارة الدنيا ، وكمال حال الآخرة (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) وهو فعل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم جدا ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة ، (وَلَهْوٌ) وهو فعل الشبان ، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن ، لأن العاقل يرى المال ذاهبا والعمر ذاهبا ، (وَزِينَةٌ) وهو دأب النسوان ، لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص ، (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض بالنسب ، أو بالقوة ، أو بالقدرة ، أو بالعساكر وكلها ذاهبة ، (وَتَكاثُرٌ) أي مبالغة في الكثرة (فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). فالحياة الدنيا غير مذمومة وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان ، ومتابعة الهوى لا إلى طاعة الله تعالى ، والمعنى : اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة ، (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي أعجب الزراع النبات الحاصل بالمطر وسمي الزارع كافرا ، لأنه يغطي

٤٩٤

البذر بتراب الأرض ، (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يجف النبات (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد ما رأيته ناضرا ، وقرئ «مصفارا» ، (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ثم يصير النبات متكسرا ، (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لمن كانت حياته بهذه الصفة (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأوليائه ، وأهل طاعته والرضوان أعظم درجات الثواب ، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٢٠) لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة.

قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا إلى سائر ما كلفتم به ، فإن المسارعة إلى ذلك تؤدي إلى مغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، أي لو جعلت السموات السبع والأرضون السبع وألزق بعضها ببعض ، لكان عرض الجنة في عرض جميعها ، (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت الجنة للمؤمنين من جميع الأمم ، (ذلِكَ) الموعود به من المغفرة والجنة ، (فَضْلُ اللهِ) أي عطاؤه ، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إيتاءه إياه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١). وهذا تنبيه على عظم حال الجنة (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) هي قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، وغلاء الأثمار ، وتتابع الجوع (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) وهي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود على الأنفس ، (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي مكتوب في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي أن نخلق هذه المصائب والأنفس والأرض ، (إِنَّ ذلِكَ) أي إن إثبات كل ذلك مع كثرته في الكتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢) ، وإن كان عسيرا على العباد (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا حزنا زائدا على ما في أصل الجبلة على ما فاتكم من نعم الدنيا ، (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي بما أعطاكم الله تعالى منها ، فإن من علم أن الكل مقدر لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت. وقرأ أبو عمرو «أتاكم» بقصر الهمزة ، أي بما جاءكم من الله. وقرئ «بما أوتيتم» ، والمراد : نفي الحزن المانع عن التسليم لأمر الله تعالى ، ونفي الفرح الموجب للبطر والاختيال ، (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأداء حق الله تعالى (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ). وذلك نتيجة فرحهم عند إصابة النعم والموصول صفة لكل مختال فخور. وقيل : مستأنف لا تعلق بما قبله وهو مبتدأ خبره محذوف ، وهو بيان لصفة اليهود ، والمعنى. الذين يبخلون ببيان صفة النبي التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم ، ويأمرون الناس بالبخل به لهم تهديد شديد ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٤) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه فلا يعود عليه ضرر ببخل البخيل ، حميد في ذلك الإعطاء مستحق حيث فتح أبواب نعمته.

وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني» بحذف لفظ هو. (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي الأنبياء إلى الأمم (بِالْبَيِّناتِ) أي الدلائل القاهرة والمعجزات الظاهرة ، (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي أنزلنا إليهم الكتاب وهو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية ، لأن به يتميز الحق من

٤٩٥

الباطل ، والحجة من الشبهة ، (وَالْمِيزانَ) هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية ، وهو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص ، (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوة شديدة وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي. والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية ، والميزان إشارة إلى القوة العملية والحديد إشارة إلى دفع ما لا ينبغي. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي لأمتعتهم مثل السكاكين ، والفاس ، والمبرد وغير ذلك ، وما من صنعة إلا والحديد آلتها ، (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف ، والرماح ، وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ، حال كونه تعالى غائبا عنهم ، أي ينصرونه تعالى ولا يبصرونه ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على الأمور قادر على إهلاك جميع أعدائه ، (عَزِيزٌ) (٢٥) أي لا يمانع ولا يفتقر إلى نصرة أحد بل وإنما ليصلوا بامتثال الأمر في الجهاد إلى الثواب ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فما جاء بعدهما أحد بالنبوة ، إلّا وكان من أولادهما ، وكانت الكتب الأربعة في ذرية إبراهيم ، وهو من ذرية نوح ، فإنه الأب الثاني لجميع البشر ، (فَمِنْهُمْ) أي الذرية (مُهْتَدٍ) إلى الحق (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦) ، أي خارجون عن الطريق المستقيم (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) ، أي نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم (بِرُسُلِنا) أي أرسلنا بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه‌السلام ، (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، أي جعلناه متأخرا عنهم في الزمان (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي أعطيناه الإنجيل. وقرأ الحسن بفتح همزة «أنجيل» تنبيها على كونه أعجميا ، وأنه لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على دينه (رَأْفَةً) أي لينا (وَرَحْمَةً) ، أي شفقة أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. وقرئ «رآفة» على وزن فعالة ، (وَرَهْبانِيَّةً). وقرئ بضم الراء (ابْتَدَعُوها) ، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها أي وفقناهم لاستحداث الرهبانية لينجوا من فتنة بولس اليهودي.

وروى ابن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا ابن مسعود ، أما علمت أن بني إسرئيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلّا ثلاث فرق : فرقة آمنت بعيسى عليه‌السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي» (١). (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي لم نفرض الرهبانية عليهم. وهذه الجملة صفة ثانية لرهبانية ، (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما حفظوا الرهبانية حق حفظها ، لأنهم أتوها

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠ : ٢١٢) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٥٥) وفيه : «يا ابن مسعود ، هل علمت ... اثنين وسبعين».

٤٩٦

لطلب الدنيا والرياء والسمعة (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد (مِنْهُمْ) أي الرهبان (أَجْرَهُمْ) وهم الذين لم يخالفوا دين عيسى ابن مريم ، وهم أربعة وعشرون رجلا في أهل اليمن ، جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به ، ودخلوا في دينه أي لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق من الرهبان إلا قليل ، انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته ، وصاحب دير من ديره ، فآمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقوه ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) ي من الرهبان (فاسِقُونَ) (٢٧) أي تاركون تلك الطريقة ظاهرا وباطنا ، وهم الذين خالفوا دين عيسى ، فقال الله تعالى في حق قوم عيسى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعيسى وبالرسل المتقدمة ، (اتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) ، أي نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم أولا : بعيسى عليه‌السلام ، وثانيا : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق ، وإن كان منسوخا ببركة الإسلام (وَيَجْعَلْ لَكُمْ) يوم القيامة (نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) على الصراط وبين الناس (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما أسلفتم من الكفر والمعاصي ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٨) أي مبالغ في المغفرة والرحمة ، (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، لأنه قادر مختار يفعل بحسب الاختيار ، و «لا» زائدة كما يدل عليه قراءة «ليعلم» و «لكي يعلم» ، و «لأن يعلم». وقوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) عطف على (أَلَّا يَقْدِرُونَ) ، والمعنى : إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد ، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل في تصرف الله تعالى يعطيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلا. والمقصود من هذه الآية أن يزيل الله عن قلوب بني إسرائيل اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، وغير حاصلة إلّا في قومهم وقيل : إن لفظة «لا» غير زائدة والضمير في قوله تعالى : (أَلَّا يَقْدِرُونَ) عائد إلى الرسول وأصحابه : وقوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) ألخ عطف على «أن لا يعلم». والمعنى : أنا فعلنا ذلك لئلا يعتقد أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله الذي هو سعادة الدارين ، وليعتقدوا أن الفضل في ملكه تعالى على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك ، كناية عن علمهم بقدرتهم عليه ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩) فإن العظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيما.

٤٩٧

سورة المجادلة

مدنية ، ثنتان وعشرون آية ، أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة ، ألف وسبعمائة

واثنان وسبعون حرفا ، هذه السورة أول النصف الثاني من القرآن باعتبار عدد

السور ، فهي الثامنة والخمسون منها ، وأول العشر الأخير من القرآن باعتبار

عدد أجزائه ، وليس فيها. آية إلا وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تخاصمك أيها النبي في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما قال لها : «حرمت عليه» قالت : والله ما ذكر طلاقا بأن أنزل الله حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها ، (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) بأن قالت رافعة رأسها إلى السماء : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي ، وقالت : إن لي صبية صغارا ، (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي مراجعتكما في الكلام ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) أي يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه.

روي عن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن الدخشم الأنصارية كانت تحت أوس بن الصامت الأنصاري ، رآها زوجها وهي ساجدة في الصلاة ، وكانت حسنة الجسم ، فنظر إلى عجيزتها ، فأعجبه أمرها ، فلما سلمت من الصلاة طلب وقاعها ، فأبت ، فغضب عليها ، وكان به لمم ، أي توقان إلى النساء. وقيل : مس من الجن ، فأراد أن يأتيها على حال لا تؤتى عليها النساء ، فأبت عليه ، فغضب وقال : إن خرجت من البيت قبل أن أفعل بك ، فأنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما كبر سني وكثر ولدي ، جعلني كأمه وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا! فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت عليه». فقالت : أشكوا إلى الله فاقتي ووجدي ، وكلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، فأنزل على لسان نبيك فرجي ، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى

٤٩٨

زوجها وقال : «ما حملك على ما صنعت؟» فقال الشيطان : فهل من رخصة؟ فقال : «نعم». وقرأ عليه الأربع آيات وقال له : «هل تستطيع العتق؟» فقال : لا ، والله. فقال : «هل تستطيع الصوم؟» فقال : لا والله ، لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري ولظننت أني أموت. فقال له : «هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» (١) فقال : لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة ، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا ، وأخرج أوس من عنده مثله ، فتصدق به على ستين مسكينا ، (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم ، كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ليست نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة ، فهو كذب بحت.

قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب «يظهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «يظاهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ أبو العالية وعاصم وحسين يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء وفي قراءة أبيّ «يتظاهرون». وقرأ عاصم في رواية المفضل «أمهاتهم» بالرفع. وقرئ «بأمهاتهم». وجملة «ما هن أمهاتهم» خبر المبتدأ الذي هو الموصول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم في الحرمة إلا اللائي ولدنهم ، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات ، وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَإِنَّهُمْ) أي المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) عند الشرع وعند العقل والطبع ، (وَزُوراً) أي كذبا ، والظهار حرام اتفاقا ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢) إما من غير التوبة لمن شاء ، أو بعد التوبة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر ، (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قال الشافعي ـ وإما باستباحة الوطء والملامسة ، والنظر إليها بالشهوة ـ كما قاله أبو حنيفة وإما بالعزم على جماعها ـ كما قاله مالك ـ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فالواجب إعتاق رقبة مؤمنة فلا تجزئ كافرة عند الشافعي.

وقال أبو حنيفة : تجزئ أي رقبة كانت سواء كانت مؤمنة أو كافرة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي أن يستمتع كل من المظاهر المظاهر منها بشيء من جهات الاستمتاعات ، فلا يباشر المظاهر امرأته ، ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر ، فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله وأمسك عنها حتى

__________________

(١) رواه الترمذي في السنن ٧٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى (٤ : ٢٢٧) ، والشافعي في المسند ١٠٥ ، ومالك في الموطّأ ٢٩٧ ، والطبراني في المعجم الكبير (٧ : ٤٧) ، وعبد الرزاق في المصنّف (٧٤٥٩) ، وابن عبد البر في التمهيد (٧ : ١٦١) ، والبغوي في شرح السنة (٦ : ٢٨٢) ، والطبراني في التفسير (٢٨ : ٣٤) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٨٠).

٤٩٩

يكفر كفارة واحدة ، (ذلِكُمْ) أي التغليظ في الكفارة (تُوعَظُونَ بِهِ) أي تزجرون به عن إتيان ذلك المنكر كي تتركوه ولا تعاودوه ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣) أي من التكفير وتركه ، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي رقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي فعليه صيام شهرين (مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) بجميع ضروب المسيس من لمس بيد وغيرها ، (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي الصيام (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين مدمن طعام بلده الذي يقتات منه حنطة ، أو شعير ، أو أرزا ، أو تمرا بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعتبر مد حدث بعده. وقال أبو حنيفة : لكل مسكين نصف صاع من بر ، أو دقيق ، أو سويق ، أو صاع واحد من تمر ، أو شعير ، ولا يجزئه دون ذلك. (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي ذلك البيان للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق ، (وَتِلْكَ) أي هذه الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ) التي لا يجوز مجاوزتها ، (وَلِلْكافِرِينَ) أي لمن جحد هذه الأحكام وكذب بها ، (عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) ، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط عنه ، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها ، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ، وأجبره على التكفير ، وإن كان الإجبار بالضرب ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأن ترك التكفير إضرارا بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقها (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، أي يعاودونهما ، وذلك بالمحاربة مع أولياء الله ، أو بالصد عن دين الله وتكذيبه ، (كُبِتُوا) أي أذلوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي كما أخزى كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم الصلاة والسلام ، (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) ، أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات في شأن من خالف الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم من إهلاكهم ، (وَلِلْكافِرِينَ) بتلك الآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) (٥) أي يذهب بعزهم وكبرهم. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي مجتمعين في حال واحدة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) تخجيلا لهم وتشهيرا لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد ، (أَحْصاهُ اللهُ) أي أحاط الله بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية ، والزمان والمكان. (وَنَسُوهُ) أي والحال أنهم قد نسوا أعمالهم ، لأنهم تهاونوا بها حيث فعلوها ، ولم يبالوا بها لجراءتهم على المعاصي ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦) لا يغيب عنه أمر من الأمور قط ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)؟ أي ألم تعلم علما يقينيا أنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجود سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهم! (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي ما يوجد من متناجين ثلاثة إلا الله رابعهم ، ولا متناجين خمسة إلا الله سادسهم ، (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، كانوا يوما

٥٠٠