مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

كذب محمد في القرآن من عند نفسه وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون ، (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) بالقرآن استكبارا (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي فليجيئوا بكلام مثل القرآن في البلاغة ، وصحة المعاني ، والإخبار بالمغيبات من تلقاء أنفسهم ، فإنهم مثل محمد في البشرية والعربية ، (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) فيما قالوا فإن صدقهم في ذلك يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثله ، ففيهم الشعراء البلغاء ، والكهنة الأذكياء ، ومن يرتجل القصائد ، ويقص القصص. (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ)؟! أي أوجدوا من غير خالق ، فلذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد ، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول.

وقال ابن كيسان : أم خلقوا لغير شيء من عبادة وجزاء ، فخلقوا عبثا ، وتركوا سدى فلا إعادة. وقيل : أي من غير أب وأم ، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يقيم الله عليهم حجة ، أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟! (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥) لأنفسهم فلا يأتمرون لأمر الله ولا يعبدون الله ، وهم لا يقولون ذلك ، فإذا أقروا أن تمّ خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة ومن الإقرار بأنه قادر على البعث! (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦) فـ «أم» للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، أي ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأن الله واحد ، فإذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا : الله وهم غير موقنين بما قالوا ، وإلّا لما أعرضوا عن عبادته ، أي لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنهم كما طعنوا فيك يا أشرف الخلق طعنوا في خالقهم. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) ، و «أم» استفهام إنكاري أي أعندهم خزائن رحمة الله حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أم عندهم خزائن علم الله بالغيب حتى يختاروا للنبوة من شاءوا ، أم هم الغالبون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا ، أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا أن محمد ليس برسول ، وأن كلامه ليس بمرسل ، أي أنتم لستم بخزنة الله ، ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها ، ولا أنتم اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) أي إذا ادعوا الاستماع من الملائكة فليأت مدعي الاستماع بحجة واضحة تصدق دعواه ، (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٣٩) أي أتزعمون أن لله تعالى البنات ولكم البنون خاصة لتكونوا أقوى منه تعالى ، فتكذبوا رسوله وتردوا قوله من غير حجة ، فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم! (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي أجر الدنيا من مال ، أو غيره على تبليغ الرسالة (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٠) أي فهم لذلك الأجر من التزام غرامه محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك! (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١) أي هل عندهم علم ما غاب عنهم فهم يكتبون ما غاب عنهم حتى يمكنهم منازعة محمد ، أي هل صاروا في درجة محمد حتى استغنوا عنه وأعرضوا (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ

٤٦١

كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٤٢)! والمعنى : أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا ، فتثقلهم عن الاتباع ، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك ، فيعرضون عنك أم ليس لهم شيئا من هذين الأمرين بل يريدون العذاب بغتة من حيث لا يشعرون ، فالذين كفروا معذبون. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم من عذاب الله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣) أي عن الذي يشركون من الولد ومن مثل الآلهة ، لأنهم كانوا يقولون : البنات لله ، وكانوا يقولون : هو تعالى مثل ما يعبدونه ، (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤) أي لو عذبنا كفار مكة بنزول قطع من السماء عليهم لم ينتهوا عن طغيانهم ، ولم يرجعوا عن عنادهم ولقالوا في هذا النازل إغاظة لمحمد : هذا سحاب تراكب بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه قطعة نازلة للعذاب ، (فَذَرْهُمْ) أي إذا تبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فاتركهم على شر أحوالهم ، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٤٥) أي يهلكون بالقتل يوم بدر.

وقرئ «يلقوا». وقرأ ابن عامر وعاصم «يصعقون» بضم الياء مبنيا للمفعول ، وباقي السبعة بفتحها مبينا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين. (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي يوم لا يدفع عنهم مكرهم ـ في مناصبتهم يوم بدر ـ شيئا من الهلاك (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٦) أي ولا يمنعون من القتل والأسر النازلين بهم في ذلك اليوم ، (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي إن لهؤلاء الظلمة بعبادتهم الأوثان (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي قبل ما لاقوه من القتل يوم بدر ، وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين. وقرئ دون ذلك قريبا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧) أن العذاب يلاقوه. (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمنظر منا وفي حفظنا ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨) من موضعك أي حين تعزم على القيام وقد ورد في الخبر : «إن من قال سبحان الله من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللغط واللغو في ذلك المجلس». (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) أي وقت الصبح حين يذهب ضياؤها بضوء الشمس.

٤٦٢

سورة النجم

مكية ، اثنتان وستون آية ، ثلاثمائة وستون كلمة ، ألف وأربعمائة وخمسة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) أي والقرآن إذا نزل. وهذا استدلال بمعجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدالة على صدقه ، أو والنجوم التي هي ثابتة للاهتداء إذا سقطت إلى أسفل ، وفائدة تقييد القسم بالنجم بوقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء لا يهتدي به الساري ، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) أي ما عدل سيدكم يا معشر قريش عن الطريق المستقيم ، أو ما جن مصاحبكم محمد ، (وَما غَوى) (٢) أي وما أعتقد باطلا قط بل هو رشيد مرشد ، دال على الله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣) أي ولم يتكلم بالقرآن عن هوى نفسه ، وعن رأيه أصلا ، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) أي ما القرآن إلّا وحي من الله يوحى أي يجدد إيحاؤه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتا بعد وقت. ويقال في معنى هذه الآية : ما جن محمد وما مسه الجن ، فليس بكاهن ، وليس بينه وبين الغواية تعلق ، فليس بشاعر ، وما قوله إلّا وحي ، وليس بقول كاهن ولا شاعر ، (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥) أي علم النبي الوحي ملك شديد القوة بالبدن ، وهو جبريل عليه‌السلام.

روي أنه جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا محمد ما بعثت إلى نبي قط أحب إلي منك ، ألا أعلمك أسماء الله عزوجل هن أحب أسمائه أن يدعى بهن قل : يا نور السموات والأرض ، يا جبار السموات والأرض ، يا عماد السموات والأرض ، يا بديع السموات والأرض ، يا قيام السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا صريخ المستصرخين ، يا غياث المستغيثين ، يا منتهى العابدين ، ويا أرحم الراحمين ، فيزول بك كل حاجة». (ذُو مِرَّةٍ) أي قوة في العقل ، (فَاسْتَوى) (٦) و «الفاء» للسببية أي فاستقام جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها ، فرآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحراء فخرّ مغشيا عليه دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي وذلك أن رسول الله أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فإن التشكل بشكله الذي فطر عليه يتسبب من شدة قوته وقدرته على الخوارق ، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) أي والحال أن جبريل في الجانب الشرقي فسد المشرق لعظمته.

٤٦٣

وقال الرازي : والظاهر أن المعنى ارتفع محمد بالمكان وهو بالمكان الأعلى رتبة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ الغاية وصار نبيا وهو واصل إلى الأفق الأعلى الفارق بين المنزلتين ، (ثُمَّ دَنا) أي بعد ما مدّ جبريل جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها ، وقرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَتَدَلَّى) (٨) أي فنزل من الأفق الأعلى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه حتى أفاق وسكن روعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقال : دنا جبريل من النبي فبقي متدليا من الهواء واقفا بين السماء والأرض ، فإن التدلي هو التعلق من الهواء ، (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) أي فكان مقدار جبريل والنبي مقدار قوسين ، بل أقرب من ذلك بنصف قوس ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠) ، أي فأوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول ، فإن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحي إليه. (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) أي صدق فؤاد محمد فيما رأى شيئا من صورة جبريل ، ومن الله تعالى ليلة المعراج ، ومن الآيات العجيبة الإلهية أي إن قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل إن المرئي خيال لا حقيقة له ، ولم يقل : إنه جني أو شيطان ، ويحتمل أن يقال : لم يكذب جنس الفؤاد ما رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببصره بأن يقول كيف يرى الله وهو ليس في مكان ولا جهة ، وليس على هيئة ، أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهواء ، والهواء لا يرى ، فرؤية الله تعالى رؤية جبريل على ما رآه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جائزة عند من له قلب ، فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة تنكره.

وقرأ هشام «ما كذب» بالتشديد ، أي إن ما رآه محمد بعينه صدقه بقلبه ، أي ما قال فؤاده لما رآه بصره لم أعرفك ، و «ما» مفعول به موصولة ، والعائد محذوف ، وكذا قيل في قراءة التخفيف. وقيل فيه على إسقاط الخافض أي فيما رآه (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (١٢) أي أفتجادلونه يا معشر المشركين على ما قد رأى وقرأ الأخوان «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم ، أي أفتنكرونه. وقرأ عبد الله بن مسعود والشعبي بضم التاء وسكون الميم أي أفتجدونه شاكا فيما رأى ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) أي وبالله لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقة مرة أخرى عند شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ، وهو موضع لا يتعداه ملك ولا روح من الأرواح.

قال مقاتل : وهي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها ، وهي شجرة طوبى (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥) أي الجنة التي يأوي إليها المتقون وأرواح الشهداء (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١٦) ، و «إذ» ظرف لـ «رآه» ، أي ولقد رآه عند السدرة وقت علاها ما علاها من فراش من ذهب ، أو من ملائكة يأتونها كأنها طيور ، أو من أنوار الله تعالى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها ، وظهرت الأنوار ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (١٧) أي ما التفت محمد إلى الجراد ولا إلى غيره ، وما جاوز إلى ما سوى الله تعالى ، أو ما

٤٦٤

محمد عن الأنوار وما طلب شيئا غيرها ، بل اشتغل بمطالعتها مع أن في ذلك العالم من العجائب ما يحير الناظر ، (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨) أي والله لقد رأى من عجائب الملك والملكوت ما لا تحيط به العبارة (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) أي ومناة المتأخرة الذليلة ، أي الوضيعة المقدار. وذلك لأن اللات كان وثنا على صورة آدمي وهو لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة والعزى صورتها صورة شجرة سمرة لغطفان ، ومناة صورتها صورة صخرة كانت لخزاعة ولهذيل بقديد. فالآدمي أشرف من النبات ، وهو أشرف من الجماد وهو متأخر ، فالمناة في أخريات المراتب. والمعنى : لما ذكر الله تعالى عظمة آياته في ملكوته وهي أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته ، ويهلك المدائن بقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته. قال : أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها شركاء الله مع ما تقدم ويقال : أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة في الدنيا تنفعكم في الآخرة. (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) أي كيف جعلتم لله تعالى بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون ، والله كامل العظمة ، فكيف جعلتموه ناقصا ونسبتم إلى أنفسكم الكامل ، فنسبتكم البنات إلى الله تعالى قسمة جائزة على طريقتكم حيث نسبتم إلى أنفسكم الأعظم من الثقلين ، وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى ، وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم وإلا نقص للحقير ، فإذا أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي هي لكم ، (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي ما هذه الأصنام المذكورات إلّا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم فإنكم قلتم : إنها آلهة وليست بآلهة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما أنزل الله بهذه الأسماء من حجة فوضع الاسم لا يجوز إلّا بدليل نقلي أو عقلي ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ما يتبع الكافرون في تسمية الأصنام آلهة إلا توهم أن ما هم عليه حق ، وإلّا ما دونه مما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) أي البيان بالكتاب المنزل والمرسل أن الأصنام ليست بآلهة ، وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (٢٤) أي الإنسان ما اشتهاه من شفاعة الأصنام وغيرها أو هل له أن يعبد بالاشتهاء فيعبد ما لا يستحق العبادة! (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) أي إن اختار الإنسان معبودا على ما اشتهاه فيعاقبه على فعله في الدنيا وإلّا فيعاقبه في الآخرة (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦) أي وكثير من الملائكة مع علو منزلتهم لا تنفع شفاعتهم شيئا إلّا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة فيمن يشاء ويرضى ، وهو العابد الشاكر ، لا المعاند الكافر ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فكيف تقبل شفاعة الجمادات ، (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بأحوال يوم القيامة (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٢٧) ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما بين لهم أن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلّا بالإذن قالوا : نحن لا نعبد

٤٦٥

الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد الغائب ، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم. الشأن فقال تعالى ردا عليهم : كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الإناث حيث قلتم : الملائكة بنات الله. (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) وهذه الجملة حال من فاعل «ليسمون» ، أي ليسمون الملائكة بالبنات والحال أنه لا علم لهم بما كانوا يقولون أصلا. وقرئ «بها» أي بالتسمية ، أو بالملائكة. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في أن الملائكة إناث ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨) أي لا ينفع شيئا من العلم بحقيقة الشيء والظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين ، ومدح من حاله لا يعلم ، فالظن فيه معتبر ، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب ، وأما في الاعتقاديات فلا يغني الظن شيئا من الحق ، فإن المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير ، ففي الحق ينبغي أن يكون جازما ، والظان لا يكون جازما ، ويحتمل أن المراد من الحق هو الله تعالى. والمعنى : وأن الظن لا يفيد شيئا من الله تعالى ، فإن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) أي اترك مجادلة من أعرض عن القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكور لأمور الآخرة قاصرا نظره إلى الدنيا. وهذه الآية غير منسوخة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة ، والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بالجواب عنها بالمجادلة ، ثم لما لم ينفع أمر بالإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبرهان ، أي وأمر بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقاتلة (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي ذلك الظن غاية ما يبلغون به من الإدراك المتظلم للظن الفاسد ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) أي إن الله أعلم بمن لم يرجع إلى الهدى أصلا ، وبمن يقبل الاهتداء في بعض الأحوال ، وقد علم الله أنه لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال ، فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي خلقا وملكا والوقف هنا تام عند أبي حاتم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) أي بعقاب ما عملوا من الضلال (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي اهتدوا (بِالْحُسْنَى) (٣١) أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ) متعلق بقوله : (ضَلَ) و (اهْتَدى)» كأنه تعالى قال : هو يعلم بمن ضلّ واهتدى ليجزيهما ، أو متعلق بقوله تعالى فأعرض ، أي أعرض عنهم ليقع الجزاء (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ). وهذا الموصول بدل من الموصول الثاني ، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» (وَالْفَواحِشَ).

قيل : الكبائر : ما وعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا ، والفواحش : ما أوجب الله عليه حدا في الدنيا (إِلَّا اللَّمَمَ) وهو ما يقصده المؤمن ولا يحققه ، أو ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال ، (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، وهذا تنبيه على أن إخراج اللحم عن

٤٦٦

حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو تعالى أعلم بأحوالكم يعلمها حين ابتدأ خلقكم من تراب ، فإن كل واحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء ، ثم يصير دما ، ثم يصير نطفة وحين صوّركم في الأرحام. وهذا تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين في بطن الأم لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد (اتَّقى) (٣٢) أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية على سبيل الإعجاب أو الرياء ولا تقولوا لمن لا تعرفون حقيقته نحن خير منك ، ولا تقطعوا أيها المؤمنون بخلاصكم من العذاب فإن الله أعلم بمن أطاع وأخلص العمل ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فجائز ، وذلك بأن أعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة بتوفيق الله ولم يقصد بذلك الاعتراف بالمدح. وهذا لم يكن من المزكين أنفسهم ، فإن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) (٣٤) أي أفرأيت الذي أدبر عن الإيمان وأعطى شيئا قليلا من المال المسمى وقطع العطاء. قيل : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان يجلس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا : فقال له رجل من المشركين لم تركت دين آبائك؟ فقال : أخشى عذاب الله. فقال له : لا تخف وأعطني كذا ، وأنا أتحمل عنك العذاب ، فتولى الوليد عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعطاه الوليد بعض المشروط وبخل بالباقي فلا يبقى بالعهد ولا يحصل بذلك حمل الوزر ، (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه يوم القيامة (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨) أي بل لم يخبر بالخبر الذي كان في التوراة وفي صحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله تعالى أنه لا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، أي أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وعن ابن عباس قال : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره ، فكان أهل المقتول إذا ظفروا بأبي القاتل أو ابنه ، أو أخيه أو عمه ، أو خاله قتلوه حتى نهاهم إبراهيم عن ذلك وبلغهم عن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) أي وأنه ليس الإنسان يوم القيامة إلّا ما عمل في الدنيا من خير وشر ، فإن حسنة الغير لا تفيد نفعا وإن المسيء لا يجد حسنة الغير ثوابا ولا يتحمل عنه أحد عقابا ، (وَأَنَّ سَعْيَهُ) أي عمله من خير وشر (سَوْفَ يُرى) (٤٠) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في ديوانه وميزانه ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١) ثم يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأتم. (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) أي المرجع بعد الموت ، وعند ذلك يجازي الرب الشكور ويجزي الكفور ، والقراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما ، فهذا في الصحف أيضا وهو الحق ، فالمخاطب به موسى وإبراهيم على التوزيع. وقرئ بالكسر على الابتداء ، فالمخاطب بهذا إما عام وهو كل سامع فهو تهديد للمسيء وحث للمحسن ، أو خاص وهو

٤٦٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي هذا تسلية لقلبه كأنه تعالى قال : لا تحزن فإن المنتهى إلى الله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣) فكل ما يعمله الإنسان بخلقه حتى الضحك والبكاء.

قيل : إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء ، والقرد يضحك ولا يبكي ، والإبل تبكي ولا تضحك ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٤٤) أي خلق الموت والحياة فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره تعالى (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦) أي تهراق في رحم الأنثى ، (وَأَنَّ عَلَيْهِ) تعالى (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧) أي نفخ الروح كما قال تعالى هنالك : (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي نفخ الروح بعد خلق النطفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى) أي أغنى الناس بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، (وَأَقْنى) (٤٨) أي وأعطاه الأموال بالكسب بعد كبره ، فكل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء ، وكل ما زاد عليه فهو إقناء (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩) وهي نجم مضيء وتسمى الشعرى العبور وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية ، وكانت خزاعة تعبدها وتعتقد تأثيرها في العالم ، وهي المرادة في هذه الآية دون الشعرى الشامية المسماة بالشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع. وهذا إشارة إلى فساد قول قوم ، فإن بعض الناس قال : إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر ، وبعضهم قال : إن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم ، فردهم الله تعالى بقوله هو تعالى محرك النجوم ورب معبودهم الشعرى العبور ، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠) وهي قوم هود. وسميت أولى لتقدمها في الزمان على عاد الثانية ، التي هي ثمود ، قوم صالح.

وقرأ نافع وأبو عمرو بإسقاط نون التنوين لالتقاء الساكنين ، وبنقل حركة همزة أولى إلى اللام. وقرأ قالون كذلك لكن بقلب الواو همزة ساكنة. وقرأ الباقون بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة ، (وَثَمُودَ) عطف على عاد. وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدال في الوصل وبسكون الدال في الوقف. والباقون بالتنوين في الوصل وبالوقف على الألف (فَما أَبْقى) (٥١) أي فما أبقى من عاد وثمود أحدا ، (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي أهلكهم من قبل الفريقين (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢) من الفريقين حيث يبتدئون بالكفر ويتجاوزون في المعاصي فإنهم كانوا يؤذون نوحا عليه‌السلام ، ويضربونه حتى يغشى عليه ، وينفرون الناس عنه ، ويحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، والبادئ أظلم و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل عمل بها» (١) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٣) أي أسقط قريات لوط ، وسدوم ، وصادوم ، وعمورا ، وصوائم إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبريل عليه‌السلام بأمره

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (٣ : ١٠٩).

٤٦٨

جبريل بذلك. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) أي فكساها الله تعالى أمرا عظيما من فنون العذاب ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥) أي تتشكك في أي أنعم ربك أيها الإنسان أي لما عد الله تعالى من أنواع النعم وهو الخلق من النطفة ، ونفخ الروح فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافرين أهلكهم ، قال : فبأي آلاء ربك تتمارى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل ، (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦) أي هذا النبي رسول كالرسل قبله يرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم ، والله تعالى لما بيّن الوحدانية بقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أشار إلى اثبات رسالة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ) إلخ ، ثم أشار إلى القيامة بقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) أي قربت الساعة التي يزداد كل يوم قربها ، فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب ، (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٥٨) أي ليس للساعة نفس قادرة على إظهار وقتها إلّا الله تعالى ، (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩) أي أتعجبون إنكارا من هذا القرآن أو من حديث حشر الأجساد بعد الفساد ، (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء من القرآن ، أو أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قريب ، (وَلا تَبْكُونَ) (٦٠) مما في القرآن من الزجر والتخويف وكان حالقكم أن تبكوا منه ، (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) أي معرضون أو مستكبرون ، (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢) أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزل القرآن ، واعبدوه ولا تعبدوا غيره ، لأن عبادة غيره تعالى ليست بعبادة.

٤٦٩

سورة القمر

وتسمى سورة اقتربت ، مكية ، خمس وخمسون آية ، ثلاثمائة

واثنتان وأربعون كلمة ، ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنا قيام الساعة بخروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) نصفين من علامات قرب الساعة.

روى أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي عظيمة (يُعْرِضُوا) عن الإيمان بها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) أي هذا سحر دائم يأتي به محمد على مر الزمان ، أو قوي لا يمكن إزالته. وقيل : أي مار يزول ولا يبقى. وقيل : أي شديد المرارة فلا نقدر أن نسيغه كما لا نسيغ المر. وقرئ «وإن يروا» على البناء للمفعول ، (وَكَذَّبُوا) بالآية بكونها دالة على صدق الرسول ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي فقالوا : إنه سحر القمر أو سحر أعيننا ، (وَكُلُّ أَمْرٍ) من الخير والشر (مُسْتَقِرٌّ) (٣) فكل عامل يرى في الآخرة أثر عمله. وقرئ «مستقر» بالجر صفة لـ «أمر» فـ «كل» عطف على الساعة ، أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر ، (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) أي وبالله لقد جاءهم في القرآن كائنا من أخبار الأمم الماضية المهلكين ما فيه ازدجار. وقرئ «مزجر» بقلب تاء الافتعال زايا وإدغامها فيه. وقرأ زيد بن علي «مزجر» بصيغة اسم الفاعل ذو زجر. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي لا خلل فيها بدل من «ما». وقرئ بالنصب حالا منها (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥) و «ما» إما نافية. والمعنى : إن الرسل لم يبعثوا ليلجأوا قومهم إلى الحق وإنما أرسلوا مبلغين وإما استفهامية ، والمعنى : إنك يا أشرف الرسل أتيت بما عليك من الدعوة وإظهار الآية عليها ، فكذبوك ، فأنذرتهم بما جرى على المكذبين ، فلم يفدهم إنذارك فهذه حكمة بالغة ، فأيّ شيء من الأمور النافعة غير هذا تحصله فلم يبق عليك شيء آخر ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي لا تناظرهم بالكلام ـ وهذه الآية غير منسوخة ـ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦) و «يوم» منصوب بـ «يخرجون» ، و «خشعا» حال من فاعل «يخرجون» ، وكذا جملة «كأنهم» إلخ وقرأ

٤٧٠

ابن كثير «نكر» بسكون الكاف. والباقون بالضم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «خاشعا» بفتح الخاء ، وبألف بعدها والباقون بضم الخاء وفتح الشين مشددة. وقرئ «خاشعة» بالتأنيث على الأصل وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء ، والخبر والجملة حال ، والمعنى : يخرج الناس من القبور حال كونهم مثل جراد منتشر في كثرتهم واجتماع بعضهم على بعض يوم يدعو إسرافيل أو جبريل إلى شيء فظيع تنكره النفوس ، وهو هول القيامة أذلة أبصارهم من شدة الهول ، (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين إليه مادي أعناقهم إليه (يَقُولُ الْكافِرُونَ) في ذلك اليوم : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨) أي صعب شديد ، ثم شرع في ذكر بعض الأنباء الموجبة للازدجار فقال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل أهل مكة ، (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩) عطف على «قالوا» ، أي قالوا لنوح : هو مجنون وزجروه عن مقالته بأنواع الأذية ، (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠) أي بأني غلبني قومي بالقوة فانتقم لي منهم ، والعامة على فتح همزة «أني». وقرأ الأعمش وابن أبي إسحاق بالكسر ، أي فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني بحكم البشرية ، وقد أمرتني بالدعاء عليهم ، فأهلكهم (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١) ، أي بمطر منصب من السماء على الأرض أربعين يوما. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء لكثرة الأبواب ، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي جعلنا الأرض كلها ، كأنها عيون منفجرة ، (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (١٢) أي فارماء الأرض بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء على حال قد قدّرها الله تعالى كما شاء. وقرئ «الماءان» بالتثنية وتحقيق الهمزة «والماوان» بقلب الهمزة واوا ، أي ماء السماء وماء الأرض. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) أي وحملنا نوحا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير ، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تسير السفينة محفوظة بحفظنا ، (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤) أي حملناه جزاء لنوح على صبره على كفرانهم ، لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة على أمته. وقرئ «جزاء» بكسر الجيم ، أي مجازاة ، وقرئ «كفر» بالبناء على الفاعل ، أي أغرقنا الكفار جزاء لهم ، (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة آية يعتبر بها من يقف على خبرها ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) أي فهل من معتبر يعتبر بما صنع الله بقوم نوح موجود فيترك المعصية ويختار الطاعة ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) الذي عذبتهم به ، (وَنُذُرِ) (١٦) أي وكيف كان عاقبة إنذاري؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك ، بأن نزلناه على لغتهم للاتعاظ ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) أي فهل من طالب علم فيعان عليه؟ (كَذَّبَتْ عادٌ) هودا فاسمعوا ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٨) أي إنذاراتي لهم ، (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي باردة وهو ريح الدبور (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (١٩) ، أي إلى نفاذ المراد ، وهو من يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب شمس الأربعاء آخره ، ومستمر ، وصف ليوم مضاف إلى «نحس» بسكون الحاء. وقرئ بتنوين «يوم» وكسر حاء «نحس» ، ومن جعل نحسا اسم معنى أو مصدرا كان مستمر وصفا لنحس أي مستمر النحوسة. (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ

٤٧١

أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠) أي تقلع قوم هود من أماكنهم فيلقون أمواتا وهم جثث عظام طوال كأنهم نخل قطعت رؤوسه منقلع عن مغارسه ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١) أي انظر كيف كان عذابي عليهم وكيف كان حال إنذاراتي ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي هيأناه للتذكر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢) أي فهل من متعظ يتعظ بما صنع بقوم هود فيترك المعصية؟ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) قوم صالح (بِالنُّذُرِ) (٢٣) أي بالإنذارات ، (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢٤) أي فقالوا : أنتبع آدميا مثلنا واحدا من آحادنا لا من أشرافنا في دينه وأمره إنا وقتئذ لفي خطأ بيّن وتعب ، (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي أألقي الوحي على صالح وهل خصّ بالنبوة منفردا من بيننا وفينا من هو أكثر مالا وأحسن حالا ، (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) في قوله ، (أَشِرٌ) (٢٥) أي متكبر مرح ، (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٢٦).

وقرأ ابن عامر وحمزة بتاء الخطاب وهو حكاية عن قول صالح عليه‌السلام لقومه ، أي ستعلمون وقت نزول العذاب بكم في الدنيا عن قريب من شديد الكذب المتكبر. والباقون بياء الغيبة وهو حكاية لقوله تعالى لصالح عليه‌السلام وعدا له ووعيدا لقومه أي سيعلمون عن قريب وهو وقت نزول العذاب بهم في الدنيا من الذي حمله كذبه وبطره على الترفع أصالح هو أم من كذبه؟ وقرئ «الأشر» أي الأبلغ في الشرار فقال الله لصالح : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي إنا مخرجو الناقة من الجبل المنبسط على الأرض حسب ما سألوا (فِتْنَةً لَهُمْ) مفعول لأجله ، أي امتحانا لهم ليتميز حال من يثاب ممن يعذب فإخراج الناقة من الصخرة كان معجزة لصالح ، لأنها تصديق له وبعده يتميز المصدق عن المكذب وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ، (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظرهم بالعذاب وتبصر ما يصنعون ، (وَاصْطَبِرْ) (٢٧) على أذيتهم ، أي فإن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب ، (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي أخبرهم بأن ماء بئرهم مقسوم بين قوم صالح والناقة فيوم لهم ويوم لها (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (٢٨) أي كل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته ، فبقوا على ذلك مدة ، ثم سئموا من ضيق الماء والمرعى عليهم ، وعلى مواشيهم فأجمعوا على قتلها (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف ، ويلقب بالأجهر بعد ما رماها مصدع بن دهر بسهم ، (فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٢٩) أي تناول قدار السيف فقتل الناقة به موافقة لهم ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٠) أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) صيحة جبريل بالعذاب بعد ثلاثة أيام من قتلهم الناقة ، لأنه كان في يوم الثلاثاء ، ونزول العذاب بالصيحة بهم كان يوم السبت ، (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١) بكسر الظاء ، أي فصاروا كالشيء اليابس من الحطب والشوك لمن يعمل الحظيرة في إهلاكهم. وقرئ بفتح الظاء أي فصاروا كالشيء الذي داسته الغنم في الحظيرة ، وهي زريبة الغنم تتخذ من دقاق الشجر وضعيف النبات تقيها عن الحر أو البرد ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي هوّنا القرآن للعظة والحفظ والقراءة.

٤٧٢

قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا ، أي بغير نظر إلّا القرآن. وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ولم يكونوا يقرءون التوراة إلّا نظرا غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢) أي فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (٣٣) أي بالأمور المخوفة لهم على لسانه (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ، أي عذابا بحجارة من سجيل ، عليها علامة كل واحد ، فالملائكة حركوا الريح ، فالريح رمت الحجارة عليهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أي إلّا لوطا وابنتيه زاعورا ورينا. (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (٣٤) أي في آخر الليل. وقيل عند السدس الأخير من الليل (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) مفعول له ، أي كان ذلك الإنجاء فضلا منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا منا (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (٣٥) ، أي كما أنعمنا على من آمن بالله تعالى وأطاعه بالإنجاء ننعم عليهم يوم الحساب. وقيل : أي مثل ذلك الإنجاء ننجي من آمن بالله من عذاب الدنيا ، ولا نهلكه بالهلاك العام ، وعلى هذا فهو وعد لأمة محمد المؤمنين (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) أي ولقد خوفهم لوط عذابنا الأكبر يوم القيامة لئلا يكون مقصرا في التبليغ ، (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٣٦) أي شكوا في الإنذارات وكذبوا لوطا ، (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا من لوط المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبين أضيافه من الملائكة التي في صورة شبان مرد للفاحشة ، (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أي أذهبنا صورة أعينهم بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء.

روي أنهم لما دخلوا داره عليه‌السلام عنوة صفقهم جبريل عليه‌السلام صفقة فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط عليه‌السلام. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٧) أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا عذابي الذي هو طمس العين وثمرة إنذاري.

وقال القرطبي : والمراد من هذا الأمر خبر ، أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه‌السلام ، (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٣٨) أي ولقد أتاهم وقت الصبح أول جزء منه عذاب دائم ، فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم ، فكان ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم ، أي فقلع جبريل بلادهم فرفعها ، ثم قلبها وأمطر الله عليها حجارة من النار ، وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان.

وقرئ «بكرة» غير منون على أن المراد بها أول نهار مخصوص ، (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٩) أي فقلنا لهم : ذوقوا عذابي وفائدة تخويفي وهي فنون هذا العذاب ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي هوّنا القرآن للحفظ والكتابة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤٠)؟ أي فهل متعظ يتعظ بما صنع بقوم لوط فيترك المعصية؟ (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) (٤١) أي ولقد جاء فرعون وهامان وقارون الإنذار على لسان موسى وهارون ، (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) السمعية والعقلية ، (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٤٢) أي أخذ غالب غير عاجز (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي الذين يصرون على الكفر منكم أهل مكة خير في

٤٧٣

القوة فلا تهلكون أم الذين أصروا عليه من أولئكم المذكورين ، قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وفرعون ، وآله وهم من يؤول إليهم خيره وشره؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٤٣)! أي هل حصل لكم براءة من غوائل الكفر والمعاصي في الكتب السماوية تأمنون العذاب بسببها فلذلك تصرون على ما أنتم عليه؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٤٤)؟ أي بل أيقولون : نحن كثير منتقمون على من خالفنا ، قويون على من عادانا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي يهزم جمعهم بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه ، (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥).

قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقول لما نزلت : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس الدرع ويقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر». فعرفت تأويلها اه. وقرئ «سيهزم الجمع» بالبناء للفاعل ، أي سيهزم الله تعالى الجمع (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي ليس ما وقع لهم في بدر تمام عقوبتهم ، بل السلعة موعد أصل عذابهم ، وهذا من مقدماته (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤٦) ، والساعة أشد من أنواع عذاب الدنيا وآلم وأدوم ، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) من الأولين والآخرين (فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٤٧) في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (٤٨) أي يوم يجرون على وجوههم إلى النار يقال لهم : قاسوا حر جهنم وألمها ، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) ، أي إنا خلقنا كل شيء ملتبسا بقدر معين ، والمعنى : أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى ، وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠) أي وما أمرنا في كل شيء أردنا إيجاده إلّا كلمة واحدة وهي : كن كطرف البصر في السرعة. (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥١) أي متعظ يتعظ بما صنع بهم فيترك المعصية؟ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) أي وكل شيء فعله الأشياع في الشرك بالله من المعاصي والجفاء بالأنبياء مكتوب عليهم في ديوان الحفظة ، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال (مُسْتَطَرٌ) (٥٣) أي مكتوب بتفاصيله في اللوح المحفوظ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من الكفر والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ) أي رياض واسعة عظيمة الشأن ، (وَنَهَرٍ) (٥٤) أي عند أنهار.

وقرئ «نهر» بضم النون والهاء (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في مكان مرضي ، أو في مجلس لا كذب فيه. وقرئ «مقاعد». (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥) أي مقربين عند من له ملك عظيم قادر لا يعجزه شيء ولا شيء إلّا وهو تحت ملكوته ، والقربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد قدرة كان المتقرب منه أشد التذاذا. والمراد من القرب : قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان.

٤٧٤

سورة الرحمن

وتسمى عروس القرآن مكية ، سبع وسبعون آية ، ثلاثمائة

وإحدى وخمسون كلمة ، ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) أي علم الإنسان القرآن ، فإن الله بعث جبريل بالقرآن إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث محمدا إلى أمته. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (٣) أي أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة. (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) أي النطق. فيمتاز الإنسان به عن غيره من سائر الحيوانات وألهمه الله أسماء كل شيء وكل دابة تكون على وجه الأرض. (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) أي الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر في بروجها بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية ، وتختلف الفصول ، وتعلم السنون والأوقات. (وَالنَّجْمُ) وهو كل نبت لا يقوم على الساق. (وَالشَّجَرُ) وهو ما يقوم على الساق (يَسْجُدانِ) (٦) أي يخضعان الله تعالى ، ويخرجان من الأرض ، ويثبتان عليها بإذن الله تعالى فشبه الثبات في المكان بالسجود ، لأن الساجد يثبت. (وَالسَّماءَ رَفَعَها) فوق كل شيء (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) ، أي وضع آلة الوزن في الأرض وبين العدل (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٨) ، أي لئلا تتجاوزوا الإنصاف في الوزن وفي إعطاء المستحقين حقوقهم.

وقرئ «لا تطغوا» بدون «أن» على إرادة القول ، (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٩) أي ولا تنقصوا الموزون ، فالطغيان في الوزن أخذ الزائد والإخسار إعطاء الناقص والقسط المتوسط بين الطرفين ، (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) (١٠) أي بسطها على الماء لمنافع الإنس والجن (فِيها) أي الأرض ، (فاكِهَةٌ) أي أنواع كثيرة مما تطيب به النفس (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) (١١) ، وهي أوعية الثمر ، وهي جمع «كم» بكسر الكاف ، أو هي كل ما يغطى من ليف وسعف وكفرى ، فإنه مما ينتفع به كالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه ، وهي جمع «كم» بضم الكاف ، (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) (١٢).

قرأ ابن عامر بنصب الثلاثة بخلق مضمرا ، أي وخلق الحبوب كالحنطة والأرز ذا الأوراق

٤٧٥

وخلق الريحان المعروف الذي بزره ينفع في الأدوية ، أو المشمومات. وقرأ حمزة والكسائي برفع «الحب» و «ذو» عطفا على فاكهة وجر «الريحان» عطفا على العصف ، أي وفيها الحب ذو الساق وذو الأوراق. وقرأ الباقون برفع الثلاثة عطفا على فاكهة ، أي وفيها الحب ذو الأوراق الخارجة من جوانب الساق ، كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها وفيها مشمومات ، أو ريحان معروف ، ويجوز أن يراد عند رفع الريحان ، ونصبه حذف المضاف وإقامة المضاف ، إليه مقامه ، والمعنى : وذو السنبلة والثمر أو وخلق ذا الرزق وهو الثمر. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) أي فبأي فرد من أفراد نعم ربكما أيها الجن والإنس تنكران أنها ليست من الله أبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها ، ويسن لسامع القارئ لهذه السورة أن يجيبه كلما قرأ هذه الآية وهي مكررة في أحد وثلاثين موضعا بأن يقول ، ولا بشيء من نعمك ، ربنا نكذب فلك الحمد ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر الجن على ذلك الجواب. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي من طين منتن يابس له صوت ، (كَالْفَخَّارِ) (١٤) أي كالخزف المشوي بالنار المجوف كالإناء في أن كل منهما يسمع له صوت إذا نقر ليعلم هل فيه عيب أو لا؟ (وَخَلَقَ الْجَانَ) أي الجن نفسه (مِنْ مارِجٍ) أي من لهب صاف (مِنْ نارٍ) (١٥) لا دخان لها وهو بيان لـ «مارج» ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٦) أيها الجن والإنس أبما أفاض عليكما في حالات شتى لخلقتكما حتى صيّركما خلاصة الكائنات أم بغيره؟ (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧) أي الذي فعل ما ذكر رب مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقرأ ابن أبي عبلة «رب» بالجر بدلا ، أو بيانا لـ «ربكما». (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨) أي أبما في ذلك من الفوائد العظيمة التي لا تحصى ، كاعتدال الهواء ، واختلاف الفصول ، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه أم بغير ذلك ، (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسل الرحمن البحر الملح والبحر العذب ، (يَلْتَقِيانِ) (١٩) أي يتماسان ولا يمتزجان ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز من قدرة الله تعالى ، (لا يَبْغِيانِ) (٢٠) أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده الله تعالى ولا يغير واحد منهما طعم صاحبه. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢١) فهلا اعتبرتم بأنواع الموجودات (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) ، فاللؤلؤ الدر ، والمرجان الخرز الأحمر.

وقيل : اللؤلؤ كبار الدر ، والمرجان شغاره. قيل : إن اللؤلؤ يتولد في ملتقى الملح والعذب ، ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب. وقيل : هما يخرجان من الملح في الموضع الذي يقع فيه العذب : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٣) أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحر ، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها ، (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢٤). وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين ، أي وله تعالى السفن الرافعات الشراع في البحر كالجبال. والباقون بالفتح أي المرفوعات القلع. وقرأ ابن أبي عبلة بتشديد الشين. وقرأ يعقوب «الجواري» بإثبات الياء في الوقف. وقرأ عبد الله والحسن «الجوار»

٤٧٦

برفع الراء ولا تثبت الياء في الرسم ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥) أي أبتلك النعم من خلق مواد السفن وأسباب لا يقدر على خلقها غيره تعالى أم بغيرها. (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) أي على الأرض من الحيوانات والمركبات ، (فانٍ) (٢٦) أي هالك لا محالة (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أيها السامع ، أي ذاته عزوجل (ذُو الْجَلالِ) أي العظمة التي لا يسعها عقل (وَالْإِكْرامِ) (٢٧) ، أي الفضل التام فالجلال مرتب على فناء غير الله تعالى والإكرام مرتب على بقائه تعالى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظوا بيا ذا الجلال والإكرام». أي الزموا في الدعاء ذلك.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام فقال : «قد استجيب لك» ، والعامة على «ذو» بالواو صفة لوجه. وقرأ أبي وعبد الله «ذي» بالياء صفة لـ «رب» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٨) أي أبتلك النعم من دفع البلاء ، وإبقاء ما هو مخلوق إلى وقت فنائه أم بغيرها (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه في دينه فكل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه ويسأله كل أحد عن عاقبة أمره ، وعما فيه صلاحه وفساده فكل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات ، فالوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة. والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) أي كل وقت من الأوقات هو تعالى في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع من يشاء ، ويضع من يشاء كما هو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقال : يحتمل أن يكون هو عائدا إلى يوم و «كل يوم» ظرف ليسأله ، أي يقع سؤالهم كل يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠) مع مشاهدتكم لإحسانه تعالى ، أبتلك النعم أم بغيرها ، (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١)؟ أي سنقصد لحسابكم وجزائكم أيها الجن والإنس ، أي سندبر لكم أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إليكم بعد تدبيرنا لأمر الدنيا بالأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والمنع والإعطاء.

وقرأ حمزة والكسائي «سيفرغ» بالياء على الغيبة. وقرئ بالبناء للمفعول. وقرئ «سنفرغ إليكم» وترسم «أيه» بغير ألف. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالألف في الوقف. والباقون بتسكين الهاء. وقرأ ابن عامر برفع الهاء في الوصل والباقون بالفتح ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٢) أبتلك النعم من التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب أم بغيرها. (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي يا جماعة الجن والإنس إن قدرتم أن تخرجوا من أطراف السموات والأرض ، وأن تهربوا من قضائي وملكي ، فاخرجوا منها ، وخلّصوا أنفسكم من عقابي (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (٣٣) أي ما تنفذون إلّا ومعكم سلطان الله ، أي فلا مهرب لكم ولا مخرج عن ملك الله تعالى ، وأينما توليتم فثمّ ملك الله وأينما أتاكم حكم الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٤) أبتلك النعم من دفع البلاء وتأخير العذاب عن العصاة أم بغيرها ، (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) أي لهب خالص لا دخان فيه (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) أي دخان لا لهب معه يسوقانكما إلى المحشر.

٤٧٧

قرأ ابن كثير بكسر شين «شواظ». وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد ، وأبو عمرو بجر «نحاس» عطفا على «نار» ، ولا بد في هذه القراءة من كسر الشين أو إمالة «نار» ، وعلى هذا فالشواظ مركب من نار ومن دخان.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهم : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر.

وقرئ «نحاس» بكسر النون. وقرئ «نرسل» بنون العظمة ، ونصب «شواظا» و «نحاسا». وقرئ نحس بضمتين جمع نحاس (فَلا تَنْتَصِرانِ) (٣٥) أي فلا ينتصر أحدكما بالآخر ولا أنتما بغيركما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦) أبتلك النعم من بيان عاقبة الكفر والمعاصي أم بغيرها ، (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٣٧) ، أي فإذا انصدعت السماء وخربت يوم القيامة فصارت حمراء كالأديم المغربي ، وهو ما فيه حمرة مع السواد يكون الأمر عسيرا في غاية العسر ، أو يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٨) مع عظم شأنها ، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) أي فالمذنب يوم إذ تنشق السماء وذلك أول ما يخرجون من القبور ، ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني ، لأنهم يعرفون بسيماهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٠) أبتلك النعم من الأخبار بما يزجر عن الشر أم بغيرها (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي بسواد وجوههم وزرقة أعينهم ، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٤١) أي يجمع نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم فيطرحون في النار ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٢) أي تجحدون والوقف هنا تام ، (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (٤٣). وهذه إشارة إلى قربها أي جهنم التي يكذب بها المشركون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ، (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٤٤) أي يترددون بين النار وماء حار قد انتهى حره ، فيحرقون بها ، فيستغيثون منها ، فيسعى بهم إلى الحميم ، ويظهر لهم شيء مانع هو صديدهم المغلي ، فيظنونه ماء ، فيسقون منه ويصب فوق رؤوسهم ، فإذا استغاثوا منه يسعى بهم إلى النار وهكذا ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٥) مما أشرنا إليه من أول السورة ، فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب. (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) أي ولمن خاف المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه ، وهو مقام عبادته ، والمقام الذي اطلع الله على عباده ، فانتهى عن المعصية جنتان ، جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف لهذين النوعين. وقيل : هي جنة جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٧) أبتلك النعم أم بغيرها (ذَواتا أَفْنانٍ) (٤٨) أي صاحبتا أغصان ، فإن الجنات ذوات أشجار ، والأشجار ذوات أغصان ، والأغصان ذوات أزهار ، وأثمار وهي لتنزه الناظر وتنكير أفنان للتعجب ، أي على الأفنان أوراق عجيبة ، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ ، فالجنة ذات فنن غير كائن على أصل وعرق بل هي واقفة في الجو وأهلها تحتها ، (فَبِأَيِ

٤٧٨

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٩) أبتلك النعم من وصف الجنة أم بغيرها ، (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) (٥٠) أي في كل واحدة منهما عين جارية كيف يشاء صاحبها في الأعالي والأسافل ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥١) أبتلك النعم التي ذكرها أم بغيرها؟ (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) (٥٢) أي في كل واحدة من الجنتين نوعان من الفواكه معروف وغريب ، أو رطب ويابس وكلاهما حلو يستلذ به (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٣) أي بتلك النعم أم بغيرها ، (مُتَّكِئِينَ) حال من فاعل «خاف» الذي هو عامل للحال ، أو كان عامله وصاحبه ما تدل عليه «فاكهة» ، أي يتفكه المتفكون حال كونهم جالسين جلوس المتمكن المتربع ، (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها) أي التي تلي الأرض (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي ديباج ثخين ، وكذا ظهائرها بخلاف أهل الدنيا فلا يجعلون البطائن كالظواهر ، لأن غرضهم إظهار الزينة ، والبطائن لا تظهر. أما في الآخرة فالأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظواهر. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) (٥٤) أي ثمر الجنتين قريب يناله القاعد والقائم في وقت واحد ومكان واحد ، فإن العجائب كلها من خواص الجنة ، فكان أشجارها دائرة عليهم سائرة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في جنات الدنيا ، فإن الإنسان فيها متحرك ومطلوبه ساكن ، والولي قد تصير الدنيا له أنموذجا من الجنة ، فإنه يكون ساكنا في بيته ويأتيه الرزق متحركا إليه دائرا حواليه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥) أبقدرته على ثني الأغصان وتقريب الثمار أم بغيرها (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي في الجنان نساء مانعات أعينهن من النظر إلى غير بعلهن ، وللجنة اعتبارات ثلاثة ، فلاتصال أشجارها وعدم الأراضي الغامرة كأنها جنة واحدة ولاشتمالها على النوعين ما في الدنيا ، وما ليس فيها وما يعرف وما لا يعرف ، وما يقدر على وصفه ، وما لا يقدر ، ولذات جسمانية ، ولذات روحانية ، كأنها جنتان ولسعتها ، وكثرة أماكنها ، وأشجارها وأنهارها ، كأنها جنات كثيرة ، فالضمير هنا عائد إلى الجنتين (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٥٦) ، أي لم يجامع الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، وإنما هن مخلوقات في الجنة ، فإن أكثر نساء أهل الدنيا مطموثات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٧) أي بأي نوع من أنواع هذا الإحسان تنكران (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (٥٨) أي مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة وبالمرجان بمعنى صغار الدر في بياض البشرة وصفائها ، فإن صغار الدر أنصع بياضا من كباره. قيل : إن الحوراء تلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٩) أي بما جعله مثالا لوصفهن أم بغيره ، (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠)؟ أي ما جزاء الإحسان في العمل إلّا الإحسان في الثواب فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضا. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦١) أبشيء من هذه النعم الجليلة أم بغيرها (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهم من أصحاب اليمين (فَبِأَيِ

٤٧٩

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٣) ، أبشيء مما تفضل به عليكم من الجنات أم بغيره. (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) أي سودا ، وإن من شدة الخضرة من الري ، وهذه صفة لجنتان. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٥) أبشيء من تلك النعم الجليلة أم بغيرها (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) (٦٦) أي فوارتان أي ماؤهما متحرك إلى جهة فوق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٧) أبتلك النعم أم بغيرها (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٦٨) وأفردهما بالذكر مع دخولهما في الفاكهة بيانا لفضلهما ، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء ، والرمان فاكهة ودواء ، فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة ، كما قاله الشافعي وأكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٩) أبتلك النعم أم بغيرها؟ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٧٠) أي في الجنتين نساء في باطنهن خير وفي ظاهرهن حسن.

روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله تعالى : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : «خيّرات الأخلاق حسان الوجوه». (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧١) أبنعمة الحور أم بغيرها ، (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) أي محبوسات على أزواجهن (فِي الْخِيامِ) (٧٢) ، أي في خيام الدر المجوف ، وهي فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٣) أبهذه النعم أم بغيرها؟ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٧٤) أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٥) أبهذه النعم أم بغيرها؟ (مُتَّكِئِينَ) حال مما دل عليه «لم يطمثهن» إلخ فأزواجهم لم يطمثن حال كونهم متكئين (عَلى رَفْرَفٍ) أي رياض أو بسط ، (خُضْرٍ) فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأبيض والأسود والأحمر ، فالأبيض : يفرق البصر والأسود : يجمع البصر كالأحمر ، فلما اجتمع في الأخضر الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر أكثر ذكره الله تعالى ، (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) (٧٦) فالثياب المعمولة عملا جيدا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها ، كأنها ليست من عمل الإنس ، لأن العبقري منسوب إلى عبقر وهو موضع من مواضع الجن ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٧) أبشيء من هذه النعم أم بغيرها؟ (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) أي تعالى اسمه الجليل وارتفع عما لا يليق بشأنه.

قرأ ابن عامر ذو الجلال بالواو. والباقون «ذي» بالياء صفة لرب. وهذا إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى وأكمل اللذات ذكر الله تعالى.

٤٨٠