مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

قال الزهري : نزلت هذه الآية في أبي هند خاصة. قال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزوّج بناتنا موالينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال ابن عباس : لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض : الحمد لله الّذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان : أنا لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السموات. فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم ، وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية زاجرا لهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء. فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى. (قالَتِ الْأَعْرابُ) أي أهل البادية : (آمَنَّا) نزلت هذه الآية في بني أسد أصابتهم سنة شديدة قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان أطمعنا ، وأكرمنا يا رسول الله فإنّا صدقناك بجميع ما جئت به. فأنزل الله هذه الآية : (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (لَمْ تُؤْمِنُوا) أي لم تصدق قلوبكم ، لأنكم لو آمنتم لم تمنوا عليّ فلا تقولوا آمنا. (وَلكِنْ) أسلمتم أي أظهرتم الانقياد واستسلمتم من السيف والسبي بل (قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة ، وهذا قد حصل ، أما الإيمان وهو التصديق المقارن للثقة وطمأنينة القلب لم يحصل لكم وإلّا لما مننتم علي ما ذكرتم ، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي ولم يدخل حب الإيمان في قلوبكم إلى هذا الوقت فلا يعد إقرار اللسان إيمانا إلّا بموافقة القلب (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإخلاص وترك النفاق في السر كما أطعتموهما في العلانية (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ) أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا من النقص.

وقرأ الدوري عن أبي عمر «ولا يألتكم» بهمزة ساكنة بعد الياء التحتية وأبدلها السوسي ألفا. وقرأ الباقون بغير همزة ولا ألف. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لكم ما قد سلف ان تبتم (رَحِيمٌ) (١٤) بما أتيتم به من الطاعة بالتفضل عليكم ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في إيمانهم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله على تكثر أنواعها من العبادات البدنية المحصنة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا ، كالحج والجهاد (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) ، أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم.

روي أنه لما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون ، فنزل لتكذيبهم قوله

٤٤١

تعالى : (قُلْ) لهؤلاء الأعراب مبكتا لهم : (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرون الله بدينكم بقولكم : آمنا (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيعلم ما في قلوب أهلهما ، ا «لواو» للحال (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦) فلا يخفى عليه شيء ، فالدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله ، فلا يقبل منكم ذلك (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدون إسلامهم من غير قتال منة عليك ، وهي النعمة ، التي لا يطلب معطيها ثوابا من أنعم إليه. (قُلْ) في جواب قولهم هذا : (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا الإسلام الذي عندكم منة علي ، فالله تعالى كذبهم في قولهم : آمنا ولم يصدقهم في الإسلام فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي بسبب أن هداكم للإيمان حيث بينكم الطريق المستقيم ودعاكم إليه ، فإن إرسال الرسول بالآيات البينات هداية. وقرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم» ، أي في زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧) في قولكم : آمنا فالله هو المان عليكم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه أعمال قلوبكم الخفية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) من ظاهر إسلامكم. وقرأ ابن كثير بالياء التحتية على الغيبة نظرا لقوله تعالى : (يَمُنُّونَ) والباقون بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله تعالى : (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ).

٤٤٢

سورة ق

مكية ، خمس وأربعون آية ، ثلاثمائة وخمس وتسعون

كلمة ، ألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(ق). قال ابن عباس : هو جبل أخضر محدق بالدنيا وخضرة السماء منه ، وهو قسم أقسم الله به.

قال الرازي : المنقول عن ابن عباس أن «ق» اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) أي العظيم ، لأن القرآن عظيم الفائدة ، أو لأنه كلام الله تعالى ، أو كثير الكرم ، لأن كل من طلب مقصوده من القرآن وجده ، فإنه مغنى كل من لاذ به ، أو ذي الشرف ، فإن من علم معانيه وعمل بما فيه شرف عند الله تعالى وعند الناس. (بَلْ عَجِبُوا) وهذا إضراب عن جواب القسم المحذوف ، أي ما آمن كفار مكة بمحمد والقرآن بل جعلوا كلا منهما عرضة للتعجب ، مع كونهما أقرب شيء إلى التلقي بالقبول ، وإنما عجبوا من ذلك لكون محمد من جنسهم لا من جنس الملائكة ، ولكون القرآن أخبر بالبعث بعد الموت وذلك قوله تعالى. (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢) أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم يخوفهم بالنار بعد البعث فقال كفار مكة منهم أبي ، وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج هذا أي كون المنذر منا ، وكون المنذر به هو البعث بعد الموت أمر يتعجب منه ، (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي أحين نموت ونصير ترابا رميما نبعث (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) أي ذلك الخبر برجوعنا إلى ما كنا عليه بعد موتنا رجع بعيد من الأوهام والإمكان. وقرأ نافع وحفص ، وحمزة والكسائي بكسر ميم «متنا». والباقون بالضم قال الله تعالى ردا لاستبعادهم (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم فلا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في الأرض ، أي إن الله تعالى عالم بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعيد ، وكما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فذلك قوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤) أي حافظ لأجزائهم وأعمالهم بحيث لا ننسى شيئا منها ، أي فالعلم

٤٤٣

عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة (لَمَّا جاءَهُمْ) أي حين جاءهم منذر هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير تأمل وتفكر.

وقرئ «لما جاءهم» بكسر اللام على أن اللام للتوقيت ، أي وقت مجيء المنذر إياهم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) ، أي فهم في شأن المنذر في قول مختلف فإنهم تارة يقولون : إنه ساحر ، وأخرى شاعر ، وأخرى كاهن وأخرى مجنون.

قال الرازي : نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بينهم ، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرات على يديه ولسانه ، فلما غيّروا الترتيب حصل عليهم المرج ووقع الدرك مع المرج (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) أي أعموا فلم يشاهدوا السماء كل وقت وهي ظاهرة فوق رؤوسهم غير غائبة عنهم ، (كَيْفَ بَنَيْناها) أي رفعناها بغير عمد ، (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦) أي والحال ليس لها فتوق.

وهذا إشارة إلى وجه الدلالة فالإنسان له أساس وهي العظام التي هي كالدعامة ، وله قوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن ، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وليس للسماء فروج ، وللإنسان مسام ، فتأليف السماء أشد ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق ، والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف ، والأول أصعب عند الناس وأعجب ، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى؟! (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها على الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت أوتادا لها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧) أي من لون حسن في المنظر. وهذا إشارة إلى دليل آخر يدفع قولهم ذلك رجع بعيد وهم قالوا : الإنسان إذا مات وفارقته القوى لا تعود إليه تلك القوى فنقول : الأرض أشد جمودا والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات ، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر الله في الأرض ثلاثة أمور ، كما ذكر في السماء ثلاثة أمور فكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء وإثبات الرواسي في الأرض في مقابلة ركز الكواكب في السماء وشق الأرض بالإنبات في مقابلة سد الفروج إذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة ، وأشياء ثابتة ، كالأنف والأذن ، وأشياء متحركة كالمقلة واللسان ، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس ، وأشياء لها فروج كالمناخر والصماخ والفم. فالقادر على هذه الأضداد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨) أي خلقنا السماء والأرض تبصيرا وتذكيرا لكل عبد مقبل إلى الله راجع إلى التفكر في بدائع صنائعه ، فإن فيهما آيات مستمرة منصوبة على مرور الزمان ، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ونصب الاسمين على المفعول من أجله أو على الحال أي مبصرين ومذكرين. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكر» برفعهما ، أي هي تبصرة

٤٤٤

وذكر ، أي عبرة وعظة (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي نافعا كثير الخير (فَأَنْبَتْنا بِهِ) أي بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أي أشجارا كثيرة يقطف ثمارها والأصول باقية. (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (٩) أي حب زرع يحصد كل عام (وَالنَّخْلَ) وهو جنس مختلط من الزرع والشجر ، لأن الثمر فاكهة وقوت بخلاف غيره فإن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه ، وأكثر الزرع قوت ، وأيضا إن من النباتات ما يبقى أصلها سنين ولا يحتاج إلى عمل عامل وما لا يبقى أصلها ويحتاج كل سنة إلى عمل عامل وما يبقى أصلها يحتاج كل سنة إلى عمل عامل. (باسِقاتٍ) أي طوالا أو حوامل. وهي حال مقدرة.

وقرئ «باصقات» بالصاد لأجل القاف (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (١٠) أي لتلك النخل كفرى مجتمعة بعضها فوق بعض ، (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي لنرزقهم. وهذا علة لـ «أنبتنا» ، والحكمة في تعليل الإنبات بالرزق بعد تعليل الإنبات الأول بالتبصرة والتذكير إشارة إلى أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بالنباتات من حيث الاستبصار والتذكر أقدم من تمتعه بها من حيث الرزق والحكمة في إطلاق العباد في الرزق ، وفي تقييدهم بكونهم منيبين في التبصرة والتذكير ، لأن الرزق حصل لكل أحد ، والتذكرة لا تكون إلّا لكل منيب فهو يأكل ذاكرا شاكرا للإنعام ، ثم التبصرة بالخلق هو الاستدلال بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء والتذكرة بالبقاء بالرزق بعد الإعادة هو الاستدلال بأن البقاء في الدنيا يكون بالرزق وبأن القادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة وأن يبقيه فيها ، (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أي أرضا جدبة لا نماء فيها أصلا (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) أي مثل خروج النبات من الأرض بالماء خروجهم من القبور يوم القيامة بالمطر الذي كمني الرجال ، ومثل تلك الحياة في النبات بالإخراج حياتهم بالبعث من القبور على ما كانوا عليه في الدنيا ، (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك (قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) وهو بئر دون اليمامة ، وهم قوم شعيب. وقيل : هم قوم عيسى الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى. وقيل : هم أصحاب الأخدود (وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ). وإنما نص عليه لأنه ليس في قادة قومه كافر غيره ، لأنه استخف قومه فأطاعوه ، فجعل الاعتبار له خاصة (وَإِخْوانُ لُوطٍ) (١٣) وإنما قال هاهنا ذلك ، لأن لوطا كان مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم معارف لوط (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ، أي الغيظة وهم قوم شعيب غير أهل مدين (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو كان معتمدا بقومه ، (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي فالمذكورون كانوا منكرين للحشر ، وكل واحد منهم كذب جميع الرسل ، (فَحَقَّ وَعِيدِ) (١٤) أي فثبت وعيدي من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم. (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي قصدنا إيجاد الإنسان وسائر الحيوان وإيجاد السموات والأرض ، فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) ، أي إنهم غير منكرين لقدرتنا على اختراع الخلق من العدم ، بل هم في شك في إعادة الخلق إلى الحياة بعد

٤٤٥

الموت لما فيه من مخالفة العادة ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما يخطر بباله ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) أي ونحن أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم ، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله ، وبنفوذ قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه ؛ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) فـ «إذ» منصوب بأقرب ، أي فالله أقرب إلى الإنسان من عرقه المخالط له في وقت أخذ الملكين الحافظين منه قوله وفعله ، فلهما عن اليمين مقاعد وعن الشمال مقاعد. وفي هذا إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى. ويقال : وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد ، فالملتقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت ، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور إلى يوم النشور ، والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الثبور إلى يوم النشر من القبور ، أي فهذان الملكان ينزلان إلى الإنسان وعنده ملكان كاتبان لأعماله ، قاعدن عن يمينه وشماله فوقت تلقيهما إياهما يسألانهما عن أيّ النوعين كان هذا الإنسان ، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسرورا ، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزونا. (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي ما يرمي الإنسان المكلف به من فيه من خير أو شر ، (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) أي إلّا لديه ملك يحفظ قوله ويكتبه ، وملك يهيئ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر ، فكل من كاتب الحسنات وكاتب السيئات يقال له : رقيب عتيد.

وقرئ «ما يلفظ» على البناء للمفعول. (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) أي جاءت شدة الموت الذاهبة بالعقل بالموت ، كأن شدة الموت. تحضر الموت كما قرئ «وجاءت سكرة الحق بالموت» ، أو يقال : المراد من الحق هو الدين. فالمعنى وأظهرت سكرة الموت الدين إذ ما من أحد في تلك الحالة إلّا وهو يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلّا ممن سبق منه ذلك (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) أي ذلك الموت ما كنت تفر منه أيها السامع ، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هي نفخة البعث فقوله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) إشارة إلى الإماتة. وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) إشارة إلى الإحياء والإعادة. (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) أي ذلك الزمان يوم وقوع الوعيد ، وهو العذاب الموعود ، (وَجاءَتْ) في ذلك اليوم (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) أي ملك يسوق البر إلى الجنة والفاجر إلى النار ، (وَشَهِيدٌ) (٢١) أي كاتب فإنه يشهد عليها بعملها ويقال ؛ (لَقَدْ كُنْتَ) أيها الشخص في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي اليوم فما من أحد إلّا وله غفلة ما عن الآخرة.

وقرئ «كنت» بكسر التاء باعتبار تأنيث النفس (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي أزلنا عنك غفلتك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) ، أي نافذ ، وكان من قبل كليلا.

وقرئ بكسر الكاف في المواضع الثلاثة. (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣) أي قال الشيطان الذي زيّن له العصيان : هذا العصيان هو الذي عندي معد لجهنم أو قال الملك الذي يكتب

٤٤٦

أعماله : هذا الكتاب مكتوب عندي مهيأ للعرض. قال تعالى خطابا للسائق والشهيق : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ).

وقرأ الحسن «ألقين» بنون التوكيد خطاب لواحد من خزنة النار. (عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) (٢٥) أي ألقيا في جهنم كل كافر بالله معاند لآياته ، مانع الناس من اتباع رسول الله ومن الإنفاق على من عنده ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء ، شاك في اليوم الآخر فلا يظن أن الساعة قائمة ، فكل كافر هو موصوف بهذه الصفات. (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) (٢٦) وقوله تعالى : (الَّذِي) مبتدأ يشبه الشرط في العموم ، ولذا دخلت الفاء في خبره ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل ويكون «فألقياه» تأكيدا لـ «ألقيا» الأول. (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي إن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان متبرئا منه : ربنا ما أضللته (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢٧) ، أي عن الحق.

وقال ابن عباس : لما يقول الكافر : يا رب ، إن الملك زاد علي في الكتابة ، فكتب على ما لم أقل وما لم أفعل ، وعجلني بالكتابة حتى نسيت. قال الملك الذي يكتب عليه سيئاته : ربنا ما زدت عليه وما كتبت إلّا ما قال وعمل وما أعجلته بالكتابة ، ولكن كان في ضلال طويل لا يرجع عنه إلى الحق. (قالَ) تعالى خطابا للكافرين وقرنائهم : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي في موقف الحساب والجزاء (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (٢٨) أي بالتهديد في دار الكسب في كتبي ، وعلى ألسنة رسلي حيث قلت لكم : إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي ما يغير الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم في هذا الموقف (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩) ، أي وما أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) ـ وقرئ «يقول» بالياء ـ : (هَلِ امْتَلَأْتِ) أي قد امتلأت كما وعدتك ، وهو استفهام تقرير والمراد الإخبار عنه امتلاء جهنم (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠) ، أي قد امتلأت فليس في مكان رجل واحد لم يمتلئ ، فهو استفهام إنكار أي لما خاطب الله جهنم بصورة الاستفهام أيضا ومرادها الإقرار بامتلائها ، أو استفهام لطلب الزيادة فهو بمعنى الأمر أي زدني يا رب ، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١) أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي قربا حقيقيا بحيث يشاهدونها من الموقف أو قربت تقريب حصول ، لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة. (هذا) أي الجنة (ما تُوعَدُونَ) في الدنيا.

وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة. (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي مقبل إلى الله. و «هذا» بدل كل من «المتقين». (حَفِيظٍ) (٣٢) أي حافظ لأمر الله في الخلوات ، (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) حال من المفعول ، أي غائبا عن الخاشي ، و «من» بدل من «كل» أو خبر مبتدأ مضمر ، أي هم من خشي إلخ ، والخشية من عظمة المخشي والخوف من ضعف الخاشي. (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٣٣) أي

٤٤٧

بريء من الشرك يقول الله تعالى لهم : (ادْخُلُوها) أي الجنة (بِسَلامٍ) أي بسلامة من عذاب الله تعالى أو بسلام على من فيها ، فلا تتركوا حسن عادتكم (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) (٣٤) ، أي ذلك الزمان يوم خلود أهل الجنة في الجنة ، (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) من فنون المطالب (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥) هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات.

وقيل : إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ). (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) أي من قومك (بَطْشاً) أي قوة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي خرقوا فيها وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذر الموت ، (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٦) أي هل لهم مخلص من أمر الله تعالى ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إهلاكهم (لَذِكْرى) أي لعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي قلب واع سليم ، يتفكر في الأمور كما ينبغي بذكائه ، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) إلى ما يتلى عليه من الوحي الدال على ما جرى عليهم ، (وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧) أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه ، فكأنه غائب (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف المخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها : يوم الأحد ، وآخرها : يوم الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨) ، أي وما أصابنا من تعب. قيل : هذه الآية نزلت في اليهود حيث قالوا : خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها : الأحد ، وآخرها : الجمعة ، ثم استراح يوم السبت ، واستلقى على العرش. فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من حديث التعب بالاستلقاء.

قال الرازي : والأقرب والظاهر أن المراد بهذه الآية الرد على المشرك في إنكار البعث والاستدلال بخلق السموات والأرض ، وما بينهما في إثبات البعث ، وعلى هذا فالمعنى فاصبر على ما يقولون : هذا شيء عجيب أي هذا الذي يقول محمد نبعث بعد الموت شيء عجيب (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٤٠) أي نزه الله تعالى عن الشرك ، وعن العجز الممكن الذي هو البعث ، وذكّرهم بعظمة الله تعالى في وقت اجتماعهم ، وهو قبل الطلوع ، وقبل الغروب وأول الليل أي عقب سجودك نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ولا تسأم من تكذيبهم إياك وامتناعهم من استماع وعظك. ويقال : صل حامدا لربك الصلوات الخمس والنوافل بعد المكتوبات وشغل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمران : عبادة الله وهداية الخلق ، فإذا هداهم ولم يهتدوا. قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الله ، واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له.

وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «إدبار» بكسر الهمزة والباقون بالفتح. (وَاسْتَمِعْ) لما يوحى إليك من أحوال القيامة (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء

٤٤٨

قيل يقف المنادي إسرافيل أو جبريل على صخرة بيت المقدس.

قال الشهاب : والأصح أن المنادي جبريل والنافخ إسرافيل. فيقول المنادي : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمر كن أن تجتمعن لفصل القضاء (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) أي بالبعث فـ «يوم» بدل من «يوم» الأول. و «بالحق» إما حال من «الواو» ، أي يسمع الخلق كلهم نفخة البعث ملتبسين باليقين أو حال من الصيحة ، أي يسمعون النفخة الثانية ملتبسة بالخروج من القبور ، (ذلِكَ) أي يوم النداء وسماع صيحة النفخ (يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٤٢) من القبور (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد ، (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) (٤٣) أي الرجوع في الآخرة للجزاء (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) أي مسرعين في خروجهم من الأرض والتشقق يكون عند الخروج منها فـ «سراعا» ، حال من الضمير في «عنهم» ، و «يوم» بدل من «يوم» الأول. أو ظرف للمصير ، أو ظرف للخروج.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر «تشقق» بتشديد الشين. والباقون بالتخفيف. وقرئ «تشقق» على البناء للمفعول. وقرئ «تنشق». (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤٤) أي ذلك الإخراج بتشقيق الأرض إحياء وجمع هين علينا للحساب والجزاء فكيف ينكره منكر؟ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة بثبوت البعث ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط أن تقسرهم على الإيمان وإنما أنت مذكر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥).

وقرأ «ورش» بإثبات الياء بعد الدال بالوصل. وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ) إشارة إلى أن سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل مأمور بالتذكير وقوله تعالى : (بِالْقُرْآنِ) إشارة إلى أنه أنزل عليه القرآن. وقوله تعالى : (وَعِيدِ) إشارة إلى اليوم الآخر ، وضمير المتكلم في قوله تعالى : (وَعِيدِ) يدل على الوحدانية ، أي إنما يقبل عظتك من يخاف عذابي في الآخرة.

٤٤٩

سورة الذاريات

مكية ، ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة ، ألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١) أي والرياح التي تذر ، والتراب وغيره ، وتهب في منازل القوم. (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢) أي فالسحب الحاملة للمطر. (فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣) ، أي فالسفن الجارية في البحر جريا ذا يسر. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤) أي فالملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. وهذا التفسير هو ما روي عن علي رضي‌الله‌عنه.

وقال الرازي : والأقرب أن هذه الأمور الأربعة صفات أربع للرياح.

فالذاريات : هي الرياح التي تنشئ السحاب أولا.

والحاملات : هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه ، التي إذا سحت جرت السيول العظيمة ، وهي أوقار أثقل من جبال.

والجاريات : هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها الماء.

والمقسمات : هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (٥) أي إن وعدكم بالبعث والحساب لوعد صادق ، (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الحساب والجزاء (لَواقِعٌ) (٦) ، أي لحاصل ، فالحساب يستوفى والعقاب يوفى ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) أي ذات الحسن أو ذات الزينة ، أو ذات الطرائق ، وهي مسير الكواكب ومسلك النظار. (إِنَّكُمْ) يا معشر قريش (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) (٨) ، أي منعكس وظنكم غير مجازين في اعتقادكم ، فإنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تعلم أنك غير صادق في قولك وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل ، فكأنه تعالى قال لنبيه : إنك صادق ولست معاندا بل هم جازمون بأنك صادق ، وإنما يظهرون الجزم بأمر لشدة عنادهم ، فانعكس الأمر عليهم (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (٩) قيل : هذا مدح للمؤمنين أي يصرف عن القول ، المختلف من صرف عن ذلك القول ورشد إلى القول المستوي.

وقيل إن هذا ذم ، أي يصرف عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن والحشر من قد صرف عن الهدى ، وهو الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبي بن خلف ، وأمية بن خلف ومنبه

٤٥٠

ونبيه (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠) أي لعن الكذابون الذين لا يجزمون بأمورهم أصحاب القول المختلف. وهذا دعاء عليهم.

وقرئ «قتل الخراصين» بالبناء للفاعل ، أي قتل الله المقدرين ما لا صحة له ، (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في جهالة بأمر الآخرة (ساهُونَ) (١١) أي غافلون عما أمروا به ، (يَسْئَلُونَ) أي بنو مخزوم بطريق الاستعجال استهزاء ، (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢)؟ أي متى يكون يوم الجزاء الذي نعذب فيه؟ قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) أي يكون ذلك يوم هم يعرضون على النار ويحرقون بها ، ويجوز أن يكون «يوم هم» خبرا لمبتدأ محذوف ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ويؤيده أنه قرئ بالرفع ، أي هو يوم هم إلخ. وتقول لهم الزبانية : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي حرقكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤) بالقول بطريق الاستهزاء ، أو بالفعل وهو الإصرار على العناد وإظهار الفساد. وقوله تعالى هذه الآية داخل تحت القول المضمر ، وهو إما مبتدأ أو بدل من فتنتكم ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٥) جارية في خلال الجنات (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي قابلين لما أعطاهم ربهم راضين من الجنات والعيون ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي قبل إعطاء الله الجنات لهم (مُحْسِنِينَ) (١٦) في الدنيا بالقول والفعل (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) (١٧) فـ «ما» زائدة. وهذا تفسير للإحسان ، أي كانوا ينامون في جزء قليل من الليل. وقيل : «ما» مصدرية و «يهجعون» بدل اشتمال من الواو ، أي كان هجوعهم من الليل قليلا ، أو فاعل لـ «قليلا» ، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقيل : «ما» نافية ، و «قليلا» خبر «كان» وعلى هذا فالوقف عليه صالح كالوقف على يهجعون. والمعنى : كان عددهم قليلا لا ينامون من الليل (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١٨) أي هم مع قلة نومهم وكثرة صلاتهم يداومون على الاستغفار في الأسحار ، ويعدون أنفسهم مذنبين لوفور علمهم بالله تعالى. (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩) أي هم لا يجمعون الأموال إلّا ويجعلونها ظرفا للحق ، فيرون في أموالهم حقا للذي يسأل العطاء من الناس وللمتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنيا ، فلا يعطيه شيئا ، فهو الّذي لا يسأل ولا يعطى ، أي هم أوجبوا على أنفسهم بمقتضى الكرم أن يصلوا بأموالهم الأرحام والفقراء والمساكين ، (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠) ، أي وفي جهة السفل دلائل واضحة للموقنين على شؤونه تعالى ، فإن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال ، ويرى في كل شيء آيات دالة على قدرته تعالى ووحدانيته ، أما الغافل فلا يتنبّه إلّا بأمور كثيرة فيكون الكل له كآية واحدة ، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي وفي أنفسكم آيات دالة لكم على وحدانية الله تعالى وقدرته ، إذ ليس في العالم شيء إلّا وفي الأنفس له نظير ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) أي ألا تنظرون الأرض وما فيها ، والأنفس وما فيها ، فلا تبصرون بعين البصيرة ، (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢) أي رزقكم ووعدكم بالجنة والنار مكتوبة مقدرة في السماء. ويقال : هذا الخطاب مع الكفار فكأنه تعالى قال : وفي الأرض آيات للموقنين كافية ، وأما أنتم

٤٥١

أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات تكفرون بها لحب الرئاسة ، وحطام الدنيا ، وفي السماء الأرزاق ، فلو تأملتم حق التأمل لما تركتم الحق لأجل الرزق ، فإنه واصل إليكم بكل طريق ، ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل من السماء ، فأسباب الرزق من المطر والرياح ، والحر والبرد ، وغير ذلك مما هيّأ الله تعالى به لمنافع العباد هي من جهة العلو ، (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) ، أي إن ما ذكر من أمر الرزق والوعد بالثواب ، والعقاب لحق مثل نطقكم ، فكما لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن تشكوا في حقيقة ذلك.

وقرأ حمزة والكسائي وشعبة «مثل» بالرفع. والباقون بالنصب لإضافته إلى مبني وهو «أنكم» ، و «ما» مزيدة. (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٤) أي ألم يأتك حديث ضيف إبراهيم الذي أكرمهم بخدمته لهم ، وبالعجل.

قال عثمان بن محصن : كانوا أربعة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل أخرجه أبو نعيم. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي إبراهيم ظرف للحديث أو لما في الضيف من معنى الفعل ، أو للمكرمين إن فسر بذلك المذكور. (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم سلاما أو نبلغك سلاما ، (قالَ) أي إبراهيم : (سَلامٌ) أي سلام عليكم أو جوابه سلام أو أمري سلام ، بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم ، لأني لا أعرفكم ، أو قولكم سلام يدل على السلامة. وقرئا مرفوعين. وقرأ حمزة والكسائي «سلما» بكسر السين وسكون اللام بالنصب. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٢٥) قال ابراهيم ذلك في نفسه ـ كما قاله ابن عباس ـ والمعنى : هؤلاء قوم غرباء لا أعرفهم وإنما أنكرهم إبراهيم عليه‌السلام ، لأنهم ليسوا ممن عرف من الناس (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي ذهب إبراهيم إلى أهله في سرعة على خفية من ضيفه (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (٢٦) ، أي فذبح فتى من أولاد البقر ، فحنذه ، فجاء به إلى أضيافه (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه عندهم ليأكلوا ، فلم يأكلوا. (قالَ) أي إبراهيم : (أَلا تَأْكُلُونَ) (٢٧) من الطعام! (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأضمر في نفسه خيفة منهم لظن أنهم لصوص ، فلما عرفوا خوف إبراهيم (قالُوا لا تَخَفْ) منا يا إبراهيم إنا رسل ربك. قيل : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه ، فعرفهم ، وأمن منهم ، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢٨) أي بولد عليم في صغره حليم وهو : إسحاق أو إسماعيل كما قاله مجاهد ، (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي أقبلت سارة على أهلها صائحة ، لأنها كانت في خدمتهم ، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت ، وأعرضت عنهم (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي لطمته من الحياء ، كما جرت عادة النساء عند الاستحياء ، أو التعجب (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩). أي قالت سارة : أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟ (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي قالت الملائكة ، حكم ربك في الأزل مثل ذلك القول الذي أخبرناك به يا سارة فلا تعجبين منه ، فـ «كذلك» منصوب بـ «يقال»

٤٥٢

الثانية على المصدر. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠) فيكون قوله حقا وفعله متقنا ، إذ الحكيم هو الذي فعله كما ينبغي لعلمه مع قصد ذلك. (قالَ) أي إبراهيم : (فَما خَطْبُكُمْ) أي فما أمركم العظيم الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة فلعظمتكم لا ترسلون إلّا في عظيم ، (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١) أتى إبراهيم عليه‌السلام بما هو آداب المضيف حيث يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج : ما هذه العجلة وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ولا يسكت عند خروجهم ، لأن سكوته يوهم استثقالهم (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٣٢) أي كافرين من قوم لوط ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣) أي لننزل عليهم من السماء حجارة من طين ، مطبوخ كالآخر بعد ما قلبنا قراهم.

قال السدي ومقاتل : كانوا ستمائة ألف ، فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض ، فاقتلع قراهم ، وكانت أربعة ، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم ، ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها ، ثم أرسل عليهم الحجارة ، فتتبعت الحجارة مسافريهم وشذاذهم ، أي المنفردين عن الجماعة (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٣٤) أي مكتوبا على كل واحد من الحجارة اسم واحد من المجاوزين الحد في الفجور ، وذلك إنما يعلمه الله تعالى ، (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي في قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٥) بلوط ، لإهلاك الكافرين فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك ، فببركة المحسن ينجو المسيء. (فَما وَجَدْنا فِيها) أي في تلك القرى (غَيْرَ بَيْتٍ) واحد (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦).

قال مجاهد : كان الناجون لوطا وابنته. وقال قتادة : كانوا أهل بيته. وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) ، أي وتركنا في قريات قوم لوط علامة للمنتفع بها قيل : هي حجارة منضودة في ديارهم ، وهي بين الشام والحجاز. وقيل : هي ماء أسود منتن خرج من أرضهم. وقيل : هي نفس القرى الخربة (وَفِي مُوسى) وهذا إما معطوف على «فيها» ، والمعنى وتركنا في قصة موسى آية ، أو يقال : وجعلنا في قصة قوم لوط عبرة للخائفين حلول العذاب فلا يقتدون بفعلهم ، وجعلنا في قصة موسى آية ، وإما معطوف على قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) وتقديره وفي موسى حديث وهذا مناسب إذ جمع الله كثيرا بين ذكر إبراهيم وذكر موسى عليهما‌السلام ، (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) أي ببرهان قاطع حاج به فرعون ، أو بمعجزة فارقة بين سحر الساحر وأمر المرسلين كاليد والعصا ، (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي فأعرض فرعون عن الإيمان به مع جنوده ، أو فتقوى فرعون بأقوى جنده ، وهو هامان ، فإنه كان وزيره. (وَقالَ) في شأن موسى : هذا (ساحِرٌ) تأتيه الجن بسحره باختياره ، (أَوْ مَجْنُونٌ) (٣٩) تقصده الجن من غير اختياره ، كأن فرعون نسب الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنها حصلت باختيار موسى أو بغيره ، (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) أخذ غضب وقهر ، (فَنَبَذْناهُمْ فِي

٤٥٣

الْيَمِ) أي فأغرقناهم في البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠) ، أي والحال أن فرعون آت بما يلام عليه من الطغيان ، (وَفِي عادٍ) أي وفي قوم هود حديث ، (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٤١) أي المهلك وقاطع النسل وهو الدبور ، (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢) أي ما تترك هذه الريح شيئا مرت عليه مقصودا وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم إلّا جعلته مثل التراب ، أو مثل الشيء الهالك (وَفِي ثَمُودَ) ، أي وفي قوم صالح حديث (إِذْ قِيلَ لَهُمْ). وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف والباقون بكسرها : (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) (٤٣) أي عيشوا وانتفعوا بالزرع والأبنية ، وبلبن الناقة إلى أواخر آجالكم (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي فجاوزوا الحد في الاستكبار عن الامتثال بأمر الله تعالى ، فقتلوا ناقته ، وأرادوا قتل نبيه صالح عليه‌السلام (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي النار التي فيها الصوت الشديد التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم.

وقرأ الكسائي «الصعقة» بإسكان العين بعد الصاد بدون ألف بينهما وهي المرة من الصيحة المهلكة ، (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٤٤) أي وهم يعاينون النار التي تنزل من السماء فيها رعد شديد ، ولا يقدرون على دفعها. ويقال : أتاهم العذاب بعد إنذارهم بمجيئه بثلاثة أيام وهم ينتظرون مجيئه ، (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي فعجزوا عن فرار من العذاب (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) (٤٥) أي ممتنعين من العذاب بأبدانهم وبغيرهم ، (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفا على ، وفي ثمود على معنى ، وفي قوم نوح عبرة لكم من قبل ثمود وعاد وغيرهم ، ويقويه قراءة عبد الله ، وفي قوم نوح. والباقون بالنصب على تقدير : وأهلكنا قوم نوح من قبل ، لأن ما تقدم دل على الهلاك. وقرأ أبو السماك وابن مقسم وأبو عمرو في رواية الأصمعي بالرفع على الابتداء وخبر المبتدأ إما مقدر ، أي أهلكناهم أو ما بعده وهو قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦) أي خارجين عن الحدود في الكفر والمعاصي ، (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوة ، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧) أي لقادرون ويحتمل أن يقال : إن هذا إشارة إلى المقصود الآخر وهو البعث للموتى من القبور ، كأنه تعالى يقول : بنينا السماء وإنا لقادرون على أن نخلق مثلها. وقيل : إنا لموسعون الرزق على الخلق (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) ، أي بسطناها على الماء ليستقروا عليها ، (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٤٨) أي فنعم الفارشون نحن (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي وخلقنا من كل جنس نوعين من الجوهر متضادين كالذكر والأنثى ، أو متشاكلين ، فإن كل شيء له نظير ، كالعرش والكرسي ، واللوح والقلم. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤٩) أي لكي تتعظوا فيما خلقه الله فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا كثرة فيه فتعبدونه ، وأنه لا يعجز عن حشر الأجساد والأرواح ، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له وأن هذه المذكورة شؤونه ، فاهربوا إليه بالطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه ، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من الله تعالى (نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠) ، ففي الرسالة أمور ثلاثة : المرسل ، والرسول ، والمرسل إليه. فقوله

٤٥٤

تعالى : (لَكُمْ) إشارة إلى المرسل إليهم. وقوله تعالى : (مِنْهُ) إشارة إلى المرسل. وقوله تعالى : (نَذِيرٌ) بيان للرسول وقوله تعالى : (مُبِينٌ) إشارة إلى ما تعرف به الرسالة ، لأن كل حادث له سبب ، فلا بد للرسول من علامة يعرف بها وهي البرهان أو المعجزة ، (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بل وحدوا الله ، فإن التوحيد بين التعليل والتشريك ، فالمعطل يقول : لا إله أصلا والمشرك يقول : في الوجود آلهة. تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أثبت وجود الله. وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين. ولهذا قال الله تعالى مرتين : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١) أي لا أقول شيئا إلّا بدليل ظاهر ، فالرسول نذير من الله في المقامين عند الأمر بالطاعة ، وعند النهي عن الشرك ، وذلك ليعلم أن العمل لا ينفع إلّا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلّا الجامع بينهما ، (كَذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ، وقد فسر هذا الإبهام بما بعده ، أي الشأن مثل ما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحرا ، أو مجنونا ، (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢) أي ما أتى الأمم الأولين رسول من رسل الله ، إلّا وقد قالوا في حقه هو ساحر أو مجنون (أَتَواصَوْا بِهِ). وهذا الاستفهام للتعجيب والتوبيخ والإنكار ، أي أتواصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه ، كأن بعضهم قال لبعض : لا تقولوا إلّا هذا القول ، أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم توافقوا عليه ، أي ما وقع منهم وصية بذلك لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣) أي لم يكن ذلك عن التواطؤ وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل استغنوا بالأموال ، فنسوا الله وجاوزوا الحد في العصيان ، فكذبوا رسلهم ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض يا أشرف الخلق عن جدالهم بعد ما كررت عليهم الدعوة ، فأبوا إلّا العناد (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤) أي لا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير منكم وانما هم الملومون بالإعراض والعناد ، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) ، أي ولا تدع العظة فإنها تزيد المؤمنين قوة في يقينهم (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) أي إلّا ليقروا بالعبودية طوعا أو كرها كما قاله ابن عباس ، أي فإن الكافرين يقرون للعبودية ، وهو إظهار التذلل بالخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وانفراده بالخلق ، واستحقاق العبادة دون غيره ، فالخلق كلهم عابدون بهذا الاعتبار ، أو إلّا لآمرهم بالعبادة كما نقل عن علي بن أبي طالب وهي التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما ، واللام لام الحكمة ، والسبب شرعا.

وقال مجاهد : «إلّا ليعرفوني» أي لأنه تعالى لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عن ربه : «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» (١). اه وعبر بالعبادة عن المعرفة لأنها وسيلة إلى المعرفة أي أن الله خلق الخلق

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ١٢٦ ، وعلي القاري في الأسرار ـ

٤٥٥

مستعدين لمعرفته مع كونها مطلوبة منهم ، (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم والعبيد على قسمين : قسم منهم يكون للعظمة كمماليك الملوك ، فالملك يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ، والطراف بعد التلاد وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق ولإصلاحها ، فليتفكروا في أنفسهم في كونهم مخلوقين للعبادة ، هل هم من نوع أن يطلب منهم تحصيل رزق ، أو هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت ، كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا من هذا القسم بل هم عبيد من القسم الأول ، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم لأمر الله ، (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨) أي الثابت الذي لا يتزلزل ، فلا يطلب الرزق لغناه عبد من عباده فإنه يرزقهم ولا يطلب منهم أن يعينوه على الأرزاق ، لأنه تعالى قوي وقرئ أني أنا الرزاق. وقرأ ابن محيصن «هو الرازق» ، كما قرأ «وفي السماء رازقكم». وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش المتين بالجر ، (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) بفتح الذال ، أي إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد وثمود ، وقوم نوح فإن لهؤلاء المكذبين من كفار مكة نصيبا وافرا من العذاب ، مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة ، (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) (٥٩) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل في المجيء بالعذاب ، فلا يأتي الأجل ما لم يفرغ الرزق ، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠) أي فالشدة من العذاب لكفار مكة من أجل يومهم الذي يوعدون العذاب فيه ، وهو يوم بدر كما هو الأوفق لما ، تقدم أو يوم القيامة ، وهو الأنسب بما في أول السورة الآتية.

__________________

ـ المرفوعة ٢٧٣ ، والفتني في تذكرة الموضوعات ١١. وفيه «فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا».

٤٥٦

سورة الطور

مكية ، تسع وأربعون آية ، ثمانمائة واثنتا عشرة كلمة ، ألف وخمسمائة حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالطُّورِ) (١) أي طور سينين ، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، واسمه زبير أقسم الله به ، (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣) أي كتاب مكتوب في كاغد مبسوط ، غير مطوي ، وغير مختوم عليه ـ وهو القرآن ـ يقرؤه المؤمنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ ، أو هو التوراة المكتوبة في الألواح التي أنزلت على موسى ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) وهو إما الكعبة أو بيت معمور بالناس الطائفين به ، العاكفين ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة ، أو الضراح ، وهو في السماء بحيال الكعبة ، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبدا ، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) فوق كل شيء وهو السماء. وقيل : العرش ، فإنه سقف الجنة ، (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) أي الممتلئ وهو بحر فوق السماء السابعة تحت عرش الرحمن ، يسمى بحر الحيوان ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. ويقال : هو بحر حار يصير نارا.

روي أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) أي لنازل بشدة على مستحقه يوم القيامة ، (ما لَهُ) أي العذاب (مِنْ دافِعٍ) (٨) عنه (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩) أي يوم تخرج السماء عن مكانها وتدور بأهلها دورانا كدوران الرحا وتموج الخلائق بعضهم في بعض من الهول فيوم معمول لواقع ، أو لدافع ، أي ليس له دافع يوم تمور السماء (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠) ، أي تزول الجبال عن وجه الأرض ، وتطير في الهواء ، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ، ثم تصير كالصوف المندوف ، ثم تطيرها الرياح فتصير هباء منثورا. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (١٢) ، أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع ، فشدة عذاب إذا للمكذبين للرسل الذين هم يلهون في أباطيل ، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله. (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣)

٤٥٧

و «يوم» إما ظرف لقول مقدر بعده ، أي يوم يدفعون إليها دفعا عنيفا يقال لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤) في الدنيا. وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعون دفعا على وجوههم وزجا أقفيتهم ويقولون لهم توبيخا : (هذِهِ النَّارُ) إلخ. وإما بدل من يومئذ والمعنى : فويل يوم يقع العذاب للمكذبين وهو يوم يدعون أي المكذبون إلى النار والعامة على فتح الدال وتشديد العين مضمومة.

وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء ، وزيد بن علي بسكون الدال وفتح العين فيكون دعا حالا من الواو ، أي يوم ينادون مدعوين بأن يقال لهم : هلموا إلى نار جهنم فادخلوها وتقول لهم الخزنة : هذه النار ، (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥)؟ أي فهذا العذاب الذي ترونه سحر كما كنتم تقولون في الدنيا للأنبياء هم سحرة أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر ، أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل؟ فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق. (اصْلَوْها) أي ادخلوا النار وقاسوا شدائدها ، (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي فافعلوا ما شئتم من الصبر على عذاب النار وعدمه ، (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي صبركم عليه وتركه سواء عليكم في عدم النفع (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦) ، فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع بحسب الوعد كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (١٧) دائم (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ، أي متلذذين بما أعطاهم ربهم.

وقرأ الحسن وغيره «فكهين» بغير ألف ، أي معجبين وقرئ «فاكهون» على أنه خبر إن أي ذوو فاكهة كثيرة بسبب إعطاء ربهم إياهم تلك ، (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (١٨) عطف على ما آتاهم أي إنهم ناعمون بأمرين بما آتاهم ربهم ، وبأنه وقّاهم ، أو عطف على «في جنات». فالمعنى إن المتقين أدخلهم ربهم جنات ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم فيقول الله لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب ، وبلا داء في تناولهما وبلا خوف نفاد وبلا إثم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٩) فلا من عليكم في هذا اليوم وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة لأن هذا إنجاز الوعد ، (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) حال من الضمير المستكن في خبر إن أي كائنون في جنات حال كونهم متكئين على نمارق على سرر موصولة بعضها إلى بعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠) أي بنساء بيض عظام الأعين. فقوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ) عطف على خبر «إن» وهو إشارة إلى أن المزوج هو الله تعالى يتولى الطرفين يزوّج عبيده بإمائه ، ومن يكون كذلك لا يفعل إلّا ما فيه راحة العبيد والإماء فهو إشارة إلى أن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمن لا بملك النكاح ، وإنما عدي بالباء إشارة إلى أن المنفعة في التزويج هنا للرجال فقط وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم ، وأيضا إن في التزويج معنى الإلصاق ، وفي الباء كذلك ، فكأن المعنى جعلناهم ملصقين بحور من غير عقد منهم.

٤٥٨

وقرئ «بحور عين» على إضافة الموصوف إلى صفته. وقرئ «بعيس عين». (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم. وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم ذرياتهم» بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه وبقطع الهمزة. والباقون «واتبعتهم» بإسناد الفعل إلى الذرية ، وبهمزة وصل. قرأ نافع «ذريتهم» بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية. وقرأ ابن كثير والكوفيون بالإفراد فيهما وأبو عمرو بالجمع فيهما مع النصب بالكسرة ، وابن عامر بالجمع فيهما والرفع في الأولى والنصب بالكسرة في الثانية ، والذرية هنا محمولة على الآباء والأبناء معا ، أي إن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا بسبب الإيمان كما هو منقول عن ابن عباس وغيره ، والله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده الصغار ، ومن ارتد من المسلمين لا يحكم بكفر ولده ، كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه» ثم تلا هذه الآية. فالآباء داخلون في اسم الذرية ، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن كان معها أخذ علم أو عمل كانت أجدر ، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرء مع من أحب» (١). (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما نقصنا شيئا من درجة الأعلى لأجل إلحاق الأدنى به وهذا لإزالة وهم المتوهم أن ثواب الأعلى يوزع على من دونه. وقرأ ابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام. والباقون بفتحها. وقرأ ابن هرمز «آلتناهم» بمد الهمزة. وقرئ «لتناهم» بكسر اللام و «لتناهم» بالفتح (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١) أي كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله فإن عمل صالحا فك نفسه ، وإلا أهلكها فالعمل بمنزلة الدين الثابت حيث إن العبد مطالب بذكر العمل خيرا أو شرا ويقال : كل امرئ بما كسب دائم فإن أحسن ففي الجنة مؤبدا ، وإن أساء ففي النار مخلدا ، (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢٢) أي زدناهم على ما كان لهم وقتا بعد وقت بأنواع الفواكه ، وأنواع اللحمان مما يشتهون فكل واحد من أهل الجنة يعطى في الجنة ما يشتهي وإن لم يطلبه (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتعاطون في الجنة خمرا هم وجلساؤهم بكمال الاشتياق ، أو بتجاذب بعضهم إناء الخمر من بعض في شربها تجاذب ملاعبة لا تجاذب مخاصمة ، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه ، (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣) أي لا كلمة لغو ولا إثم بسبب شربها ، أي بسبب زوال العقل ونهوض الغضب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالبناء على الفتح في الاسمين. والباقون بالرفع. (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٥١٢٧) ، ومسلم (٢٠٣٤) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٢ : ٥٩).

٤٥٩

بالكؤوس وغيرها من التحف للخدمة (غِلْمانٌ لَهُمْ) وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور ، ولذلك لم يقل تعالى غلمانهم وإنما قال : (غِلْمانٌ لَهُمْ) لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا ، فيخاف كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، (كَأَنَّهُمْ) في بياضهم وشدة صفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٤) مخزون مصون من الحر والبرد ، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الزيارة (يَتَساءَلُونَ) (٢٥) ، أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أمر الدنيا ، وعن نعيم الجنة (قالُوا) أي قال كل منهم : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي قبل دخول الجنة (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢٦) ، أي خائفين على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان فأخطأنا في ذلك. وقوله تعالى : (فِي أَهْلِنا) متعلق بمحذوف حال من الضمير في مشفقين أي حال كوننا بين أهلينا في الدنيا ، أو بيان لـ «قبل» ، أي في وقت اجتماعنا مع أهلنا (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة ودخول الجنة ، (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (٢٧) أي عذاب النار.

وقال ثعلب السموم : شدة الحر ، أو شدة البرد في النهار (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه الرحمة أي في الدنيا (نَدْعُوهُ) أي نسأله الحفظ من العذاب ونعبده ، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) أي الصادق في وعده لنا المحسن إلينا ، (الرَّحِيمُ) (٢٨) بعباده المؤمنين.

وقرأ نافع والكسائي بفتح همزة «أنه» على تقدير كون اللام ملفوظا بها. والباقون بكسرها استئنافا على معنى التعليل ، (فَذَكِّرْ) أي عظ يا أشرف الخلق (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بالنبوة ورجاحة العقل ، (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) أي فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم لقولهم لك : أنت كاهن تخبر بما في الغد ، ومجنون. (أَمْ يَقُولُونَ) أي بل أيقولون أي كفار مكة هو (شاعِرٌ) يتقول الكلام من تلقاء نفسه (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠) أي ننتظر بذلك الشاعر تقلبات الزمان ونزول الموت ، فإنه إن كان شاعرا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه ، فيتبين كساد شعره. وقالوا أيضا : نتربص موته فإن أباه مات شابا ، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، فلا نعارضه الآن مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وجملة «نتربص» نعت لـ «شاعر». (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء الكفار : (تَرَبَّصُوا) أي انتظروا موتي ـ وهذا أمر تهديد ـ (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١) أي فإني أتربص هلاككم ، وقد أهلكوا في يوم بدر وفي غيره من الأيام ويقال إن معنى هذه الآية أني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد وإنما أنا نذير ، فتربصوا موتي وأنا متربصة ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتمنون بعدي ، (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) أي أتأمرهم عقولهم بهذا المقال المتناقض فإنهم قالوا في حق الرسول : هو كاهن مجنون شاعر ، فإن الكاهن ذو دقة نظر في الأمور ، والمجنون مختل فكره ، والشاعر ذو كلام موزون متسق ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد! بل هم قوم مجاوزون الحدود في العناد لا يحومون حول السداد. ولذلك يقولون : أكاذيب خارجة عن دائرة العقول. وقرئ «بل هم». (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي بل يقولون :

٤٦٠