مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

تعالى فيكون النصر للمؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن (أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم من الفرائض والصدقة ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمركم من الجهاد والسنة (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣٣) بالكفر ، والنفاق ، والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والمن ، والأذى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤) أي إن الله لا يغفر الشرك ويغفر غيره إن شاء (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا بالقتال مع العدو ولا تدعوا الكفار إلى الصلح وأنتم الأعلون أي الغالبون وهذه جملة حالية فتدعوا إما معطوف على المجزوم ، أو جواب النهي منصوب بإضمار أن ، وقرأ حمزة ، وشعبة «السلم» بكسر السين ، (وَاللهُ مَعَكُمْ) وهذا إرشاد يمنع المكلف من الإعجاب بنفسه وذلك لأن الله تعالى لما قال : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) كان ذلك سبب الافتخار ، فقال تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي ليس ذلك العلو على الكفار من أنفسكم ، بل من الله تعالى وأيضا لما كان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم وشوكة الكفار وكثرتهم قال تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وما كان الأمر بما يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي والله ناصركم فلا يبقى لكم شك في أن الغلبة لكم ، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥) أي ولن يضيعها والمعنى : أن الله ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا أي فكأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك النصر فيعطيكم أجوركم بالتمام. (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي أن الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة ومشغلة عن طاعة الله تعالى (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم وثواب كل أعمالكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (٣٦) أي ولا يطلب منكم إخراج أموالكم كلها بحيث يخل الإخراج بمعاشكم ، بل يطلب منكم إنفاق القليل من الأموال في طاعته تعالى ليرجع ثوابه إليكم (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٣٧) أي لو طلب الله جميع أموالكم وألح عليكم في الطلب لما تعطونها ، وأخرج الله أو الطلب أو البخل أحقادكم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا فكيف لا تبخلون بالكثير ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها.

وقرئ «ونخرج» بنون العظمة ، وقرئ «ويخرج» بالياء والتاء وفاعله «أضغانكم» أي ويخرج بسبب البخل الضغائن فيفضي إلى قتال الطالبين ، وهم النبي وأصحابه (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي أنتم الذين تطلبون لتنفقوا في طاعة الله من الزكاة ونفقة الغزو وغيرهما (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي فمنكم ناس يبخلون ، ومنكم من يجود ، (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالإنفاق في طاعة الله (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي فإنما يمسك الثواب عن نفسه فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب ، وبثمن الدواء فلا يبخل إلا على نفسه ، (وَاللهُ الْغَنِيُ) فلا يحتاج إلى مالكم ، (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فلا تقولون : نحن أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك ، لأنهم لولا القتال لقتلهم الكفار ، ولولا دفع حاجة الفقراء لقصدوهم بسوء وكيف

٤٢١

لا يكونون فقراء وهم يوم القيامة موقوفون مسؤولون؟! (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يخلق الله قوما آخرين بدلكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال : «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله الرجال من الفرس» (١). وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هي أحب إلي من الدنيا». والله أعلم.

__________________

(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٤ : ١٥٨) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤ : ٥٠١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٧).

٤٢٢

سورة الفتح

مدنية ، تسع وعشرون آية ، خمسمائة وستون كلمة ، ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا

وسبب نزول هذه السورة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة السادسة خرج بألف وأربعمائة من أصحابه قاصدين مكة للاعتمار فأحرموا بالعمرة من ذي الحليفة ، وساق صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين بدنة هديا للحرم ، وساق القوم سبعمائة ، فلما وصلوا الحديبية ـ وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة ـ منعه المشركون من دخول مكة ، وصالحوه على أن يأتي في العام القابل ويدخلها ، ويقيم فيها ثلاثة أيام ، فتحلل هو وأصحابه هناك بالحلق ، وذبح ما ساقوه من الهدى ثم رجعوا يخالطهم الحزن ، فأراد الله إذهاب الحزن عنهم فأنزل الله تعالى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة ، وهو سائر ليلا في رجوعه ، وهو بكراع الغميم (وهو واد أمام عسفان بين مكة والمدينة) فبشر بفتح مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه عند انصرافه من الحديبية وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» (١). فلما تلاها قال المسلمون : هنيئا مريئا لك يا رسول الله لقد بيّن الله لك ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى عليه : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً) [الفتح : ٥].

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) أي ظاهر الأمر فارقا بين الحق والباطل ، أي إن الله فتح مكة عنوة وصلحا ، وفتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان ، فإن أسفل مكة فتحها خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحا ، ودخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهته رضي‌الله‌عنه فصار الحكم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي لكي يغفر الله لك ما سلف من ترك الأفضل قبل الوحي وما يكون بعد الوحي إلى الموت ، (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء الدين ، وضمّ الملك إلى النبوة بإخلاء مكة عن معانديك ، وباستجابة دعائك في طلب الفتح ، وبقبول شفاعتك في الذنوب في

__________________

(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٤ : ١٥٨) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤ : ٥٠١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٧).

٤٢٣

الآخرة ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) في تبليغ الرسالة ، وإقامة علامات الرياسة ، فلا يبقى من يقدر على الإكراه على الكفر (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) أي نفيسا قليل النظير ، وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه ، فإن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان ، وسببا لتطهير العباد من العصيان ، وبالفتح يحصل الحج ، ثم بالحج يحصل الغفران.

وقال الشعبي : المراد من هذا الفتح صلح الحديبية. لقد أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة غيرها ، حيث بويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبلغ الهدى محله ، وأطعموه نخل خيبر ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وكان في فتح الحديبية آية عظيمة هي أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلح الحديبية أعظم الفتوح». (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) أي الله وحده هو الذي أنزل الطمأنينة في يوم الحديبية وغيره في قلوب الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بسبب ذكرهم الله تعالى تحقيقا للنصر ، (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي ليزدادوا إيمانا بشرائع الدين مع ايمانهم بالله ورسوله ، وليزدادوا إيمانا بالفروع مع إيمانهم بالأصول ، فإنهم آمنوا بأن محمدا رسول الله ، وأن الله واحد ، والحشر كائن ، وآمنوا بأن كل ما يأمر الله به واجب ، وبأن كل ما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق ، وهو الّذي قد قال لهم : «لا بد من أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت». (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة أو الأسباب ، كالصاعقة والزلازل. فكان تعالى قادرا على إهلاك عدوه بجنوده ، ولكن لم يفعل ذلك بل أنزل على المؤمنين ثبات قلوبهم ويقينها مع الله ورسوله ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بجميع الأمور (حَكِيماً) (٤) في تدبيره تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لا يخرجون منها (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ، أي يغطيها ولا يظهرها (وَكانَ ذلِكَ) أي المذكور من الإدخال والتفكير (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٥). والظرف حال من فوزا أي كائنا في علم الله تعالى ، فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول حين سمع بكرامة الله للمؤمنين فقال : يا رسول الله ، والله ما نحن إلّا كهيئتهم فما لنا عند الله؟ فأنزل الله تعالى قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) ، أي ظن الأمر السوء فإنهم ظنوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين خرجوا إلى الحديبية لا يرجعون إلى المدينة وأن المشركين يستأصلونهم ، والتعذيب مذكور لكونه مقصودا للمؤمنين كأن الله تعالى يقول : بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الله جنات في الآخرة ويعذب الكافرين والمنافقين بأيديكم في الدنيا يكون تعذيبهم بإيصال الله الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبتسليط النبي وأصحابه عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم دائرة الفساد ، فيحيط بهم حيث لا خروج لهم منه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح. (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهذا إشارة إلى أن الّذي نزل بهم يكون على وجه التعذيب ، فإن من كان به بلاء قد يكون مصابا على وجه

٤٢٤

الامتحان ليصير مثابا ، وقد يكون مصابا على وجه التعذيب (وَلَعَنَهُمْ) أي طردهم من كل خير فإن المغضوب عليه قد يقنع الغاضب بالعتب والشتم ، أو الضرب ولا يقتضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه ، ولا إلى طرده من بابه ، وقد يفضي غضبه إلى ذلك لكون الغضب شديدا ، (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (جَهَنَّمَ وَساءَتْ) أي جهنم (مَصِيراً) (٦) أي مرجعا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنزالهم قد يكون للرحمة وقد يكون للعذاب ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي شديدا بنقمة الكافرين والمنافقين ، (حَكِيماً) (٧) بكرامة المؤمنين المخلصين بإيمانهم (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن دينه هو الحق ، وأحق أن يتبع ، (وَمُبَشِّراً) لمن يوافقك في تلك الشهادة (وَنَذِيراً) (٨) لمن يخالفك فيها (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لأن كون النبي مرسلا من الله يستلزم أن يؤمن المكلّف بالله وبالمرسل (وَتُعَزِّرُوهُ) أي تنصروه بتقوية دينه ورسوله. وقرئ شاذا «تعززوه» بزاءين مع الفوقانية. وقرئ بضم التاء وسكون العين وبفتح التاء ، وضم الزاي وكسرها ، وهاتان مع الراء. (وَتُوَقِّرُوهُ) أي تعظموه ، لأن الله يعظمكم بالبشارة. وقرئ بسكون الواو. (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩) أي تنزهوه عن السوء في الدوام مخافة عقابه الشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الأفعال الأربعة. والباقون بالتاء على الخطاب ، والكنايات الثلاثة راجعة إلى الله تعالى لتكون على وتيرة واحدة ، ويصح رجوعها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحينئذ إن معنى يسبحونه ينزهونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل وصمة بإخلاف وعده بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ، وبنحو ذلك ، ويصح أن يكون أمرهم بالتنزيه في أوقات يذكرون فيها الفحشاء والمنكر ، (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي إن الذين بايعوا نبي الله على أن لا يفروا من قتال قريش تحت الشجرة السمرة في الحديبية ، وهم مقدار ألف وخمسمائة رجل كأنهم يبايعون الله. والمعنى : إن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما ، لأن من بايع النبي على أن لا يفر من موضع القتال إلى أن يقتل ، أو أن يفتح الله لهم وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول ظاهرا لكن إنما يقصد بها حقيقة رضا الرحمن فإن المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه. وهذا يسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى في شأن هذه البيعة ، لقد رضي الله عن المؤمنين إذ (يُبايِعُونَكَ) الآية. وقرئ «إنما يبايعون لله» ، أي لأجله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي نعمة الله ، عليهم في الهداية فوق إحسانهم إلى الله وهو ما صنعوا من البيعة أو نصرة الله تعالى إياهم أعلى من نصرتهم إياه. ويقال : حفظ الله إياهم على البيعة أقوى من وضع يد ثالث على أيدي المتبايعين لحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ، فإن كل واحد من المتبايعين مدّ يده إلى صاحبه في البيع والشراء ، وبينهما ثالث متوسط يضع يده على يديهما فيحفظ يديهما إلى أن يتم العقد ، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي فمن نقض عهده فإنما يعود ضرر نقضه على نفسه ، لأنه فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل فقد خسر ، أو يقال : من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائدا إليك ، لأن البيعة مع الله ولا عائد إلى الله لأنه لا يتضرر بشيء فضرره لا يعود إلّا إليه. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠) أي ومن

٤٢٥

وفي بعهده بالله بالصدق فسوف يعطيه جنة ، فلم ينقض منهم أحد حتى ماتوا على بيعة الرضوان إلّا رجل منهم يقال له : جد بن قيس ـ وكان منافقا ـ اختبأ يومئذ تحت إبط بعيره ولم يدخل في بيعتهم ، فأماته الله على نفاقه. وقرأ حفص بضم هاء «عليه» وتفخيمه. والباقون بالكسر والترقيق. وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون. (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) من غزوة الحديبية (مِنَ الْأَعْرابِ) أي من بني غفار ، وأسلم ، وأشجع ، وديل ، وقوم من مزينة وجهينة فإنهم امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لظنهم أنه يهزم ، فإنهم قالوا : أهل مكة يقاتلون في باب المدينة فكيف يذهب إلى قوم قد غزو في عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه في أحد ، وكيف يكون حالهم إذا دخل عدوهم بلادهم وأحاطوا بهم؟! فأوحى الله إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم سيقولون : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) أي النساء والذراري عن الخروج معك إلى الحديبية. وعن إجابتك في هذه المرة فإنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بمصالحهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال ، وعن التفريط في العيال (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله ، يا رسول الله بتأخرنا عنك إلى غزوة الحديبية ، فكذبهم الله تعالى في الاعتذار والاستغفار بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ) لهم يا أكرم الخلق عند اعتذارهم : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي فمن يمنعكم من قضاء الله على شيء من النفع إن أراد بكم ما يضركم من هلاك الأهل والمال حتى تتخلفوا عن الخروج إلى الحديبية لحفظهما.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الضاد والباقون بفتحها. (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي ومن يمنعكم من مشيئة الله على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم ، فأيّ حاجة إلى التخلف عن الخروج لأجل حفظهما (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١) ، أي ليس الأمر كما تقولون فإنكم أظهرتم أنكم تعتقدون أنهم بالتخلف مسيئون حتى استغفرتم بل كان الله عالما بأن ما في قلوبكم ليس حاجة في ذلك الاستغفار ، لأنكم تعتقدون أنكم بالتخلف محسنون ، وليس تخلفكم لخوف ضياع المال والأهل ، (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) بل ظننتم أن لا يرجع من الحديبية إلى المدينة أبدا محمد وأصحابه ـ لأن المشركين تستأصلهم بالمرة ـ فخشيتم إن خرجتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم ، فلأجل ذلك تخلفتم لما في قلوبكم من عظمة المشركين ، وحقارة المؤمنين حتى حملكم ذلك على أنكم قلتم ما هم في قريش إلّا أكلة رأس ، (وَزُيِّنَ ذلِكَ) أي الظن (فِي قُلُوبِكُمْ) فمن ذلك تخلفتم وقلتم ما لا ينبغي.

وقرئ «زين» للفاعل وإسناده إلى الله تعالى ، أو إلى الشيطان ، أي فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به ، (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) كظن أن لا ينصر الله نبيه ، وظن أن الرسول كاذب في قوله ، وأن الله يخلف وعده وأن محمدا غير رسول ، (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢) ، أي هلكى عند الله تعالى بهذا الظن (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) (١٣) أي ومن لم يصدق بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا لهم نارا شديدة في التوقد ، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما يتصرف في الكل كيفما يشاء ، ومن عظم ملكه يكون أجره في غاية العظم وعذابه في غاية

٤٢٦

الألم ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من المبايعين بيعة الرضوان وغيرهم ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه من الظانين ظن السوء وغيرهم ، وفي هذا حسم لأطماعهم الفارغة في استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤) أي مبالغ في المغفرة والرحمة لمن يشاء من المؤمنين (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) أي سيقول المتأخرون عن غزوة الحديبية عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتغتنموها : (ذَرُونا) أي اتركونا (نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر ، وقد أوضح الله كذبهم بهذا حيث يقولون من تلقاء أنفسهم دعونا نشهد معكم في قتال أهل خيبر ، فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة فما بالهم لا يشتغلون بذلك يوم أخذ الغنيمة (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ).

وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» بفتح الكاف وكسر اللام ، أي يريدون أن يغيروا وعد الله الّذي وعده لأهل الحديبية ، فإن الله وعد أهل الحديبية فتح خيبر ، وأن غنيمتها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر ، ولم يغب عنها منهم غير جابر بن عبد الله ، فقسم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضر ، فالله تعالى جعل غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث رجعوا من الحديبية على صلح من غير قتال ، ولم يصيبوا من الغنائم شيئا. وقيل : والمعنى يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله تعالى : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الفتح : ٦] وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة ، فيكونون من الذين رضي‌الله‌عنهم فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم ، فيلزم تبديل كلام الله (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم إقناطا لهم : (لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تتبعونا في الخروج إلى خيبر (كَذلِكُمْ) أي مثل هذا القول الصادر منّي (قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مرجعنا إليكم ، أي حكم الله عند انصرافنا من الحديبية بأن لا تتبعونا ، وبأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم منها نصيب (فَسَيَقُولُونَ) للمؤمنين عند سماع هذا النهي ليس ذلك النهي حكم الله (بَلْ تَحْسُدُونَنا) على أن نشارككم في الغنائم فقلتم : إن الله حكم بتخصيص أهل الحديبية بغنائم خيبر وبمنعنا منها (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥) أي لا يفهمون إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا ، ولا يفهمون من قولك : لا تخرجوا إلى خيبر إلّا ظاهر النهي ، ولم يفهموا من حكمه فحملوه على مرادهم وعللوه بالحسد ، فإن حب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل. (قُلْ) يا أشرف الرسل ـ (لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي أهل غلظ الأكباد : ديل ، وأشجع ، وقوم من مزينة وجهينة ـ : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي إلى قتال قوم أصحاب سلاح من آلة الحديد وقوة شديدة في القتال ـ وهم بنو حنيفة ـ هم تابعو مسيلمة الكذاب وغزاهم أبو بكر. وقال رافع بن خديج : كنّا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم أو هم هوازن وثقيف ، غزاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا المخلفين عام الحديبية إلى الحرب ، فامتنعوا فقال : ستدعون إلى حرب قوم مسلحين محاربين فهم أكثر بأسا من يكون على خلاف ذلك ، (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي إن أحد الأمرين يقع إما المقاتلة أبدا ، أو سلام لا غير.

٤٢٧

وقرئ «أو يسلموا» بالنصب بإضمار «أن» على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا. (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي توافقوا الداعي على القتال (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) أي يعطكم الله الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي وإن تعرضوا عن إجابة الدعوة إلى قتال المرتدين كمسيلمة أو المشركين كهوازن كما أعرضتم عن غزوة الحديبية من قبل هذا الوقت بناء على الظن الفاسد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦) لتضاعف جرمكم ، ثم جاء أهل الزمانة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله قد أوعد الله بعذاب أليم لمن يتخلف عن الغزو ، فكيف لنا ونحن لا نقدر على الخروج إلى الغزو؟! فأنزل الله فيهم قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على من في عضوه أو قوته خلّل مأثم في التخلف عن الغزو ، وكذا فقير لا يمكن من استصحاب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد ، وإنما قدّم الأعمى على الأعرج ، لأن عذره مستمر لا يمكن الانتفاع به في حراسة وغيرها ولا يعود بصيرا أما الأعرج فإنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقد يقدر على القتال بالرمي وغيره ، وقدّم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من المريض لإمكان زوال المرض عن قرب ، فالعذر في محل الآلة أتم من الآفة في القوة. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي من المعذورين وغيرهم (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فطاعة الله تعالى في طاعة رسوله وكلامه تعالى يسمع من رسوله ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن الطاعة بقلبه (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧). وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» ، و «نعذبه» بالنون فيهما. والباقون بالياء التحتية ، (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، وحمله على جمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغ أشرافهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء معتمرا ولم يجيء محاربا ، فعقروا جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا قتله. فمنعهم الأحابيش ، فخلوا سبيله ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائر لهذا البيت معظما لحرمته ، فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واحتسبته قريش عندها ، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبرح حتى نناجز القوم». أي نقاتلهم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن يقاتلوا قريشا ، ولا يفروا ، ووضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شماله في يمينه فقال : «هذه بيعة عثمان» وقد علم بنور النبوة أن عثمان لم يقتل حتى بايع عنه فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنتم اليوم خير أهل الأرض» (١) وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين ، ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا ،

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه ٣ : ٢٥٧ ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب : ١٦٧ ، وأحمد في (م ٤ / ص ٣٣١) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٥ : ٢١٥) ، والبيهقي في دلائل النبوة (٤ : ١٠٦) ، ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٥٣ ، وابن الجارود في المنتقى ٥٠٥ ، ـ

٤٢٨

وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين ، وكانوا عشرة دخلوا مكة بإذنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَعَلِمَ). الله (ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص عند مبايعتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض. وهذا معطوف على يبايعونك ، لأن رضاه تعالى عنهم كان عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم لا عند المبايعة فقط ، (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) وهذا معطوف على «رضي» أي فأنزل عليهم سكون النفس بالربط على قلوبهم ، وقد جعل الله تعالى طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله تعالى الجنة ، وبيّن أن تلك الطاعة وجدت من أهل بيعة الرضوان ، وأشار إلى طاعة الله بقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وإلى طاعة الرسول بقوله : (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وأشار إلى الموعود به ـ وهو إدخال الجنة ـ بقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة ، (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨) أي وجزاهم على الطاعة فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة ، فأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بقيته ، وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع.

وقال السدي : هو فتح مكة. وقرئ و «آتاهم» بالمد ، أي أعطاهم. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) من خيبر ـ وهي أرض ذات عقار وأموال ـ (يَأْخُذُونَها).

وقرأ الأعمش وطلحة ونافع بالتاء على طريق الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي غالبا غنيا عن إعانتكم إياه (حَكِيماً) (١٩) حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه ، فإنه تعالى يذل من يشاء بعزته ، ويعز من يشاء بحكمته (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر فيما يأتي إلى يوم القيامة ، (تَأْخُذُونَها) والخطاب لأهل الحديبية ، (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنائم خيبر فليست كل الثواب بل الجزاء قدامكم ، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي كف الله أيدي بني أسد وغطفان ، وهم حلفاء أهل خيبر عنكم حيث جاءوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا عن عيالكم لما خرجتم إلى خيبر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها ، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، فنكصوا.

وقال قتادة : كف أيدي يهود خيبر عن المدينة بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية ، أما كف أيدي أهل مكة بالحديبية فمذكور بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) إلخ. (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وهذا معطوف على مفهوم «فعجل لكم هذه» فـ «اللام» يدل على النفع كما أن «على» يدل على الضر ، أي فجعل الله هذه الغنائم وفتح خيبر لتنفعكم ، ولتكون أمارة يعرف المؤمنون بها صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم ،

__________________

ـ وعبد الرزاق في المصنف ٩٧٢٠ ، والألباني في إرواء الغليل (١ : ٥٨) ، وابن حجر في فتح الباري (٤ : ١٠) ، والبغوي في شرح السنة (١ : ١٧٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٧٧) ، والطبري في التفسير (٢٦ : ٦٣) ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٣٣٤) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٤ : ١٧٦).

٤٢٩

وفتح مكة أي لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في أخباره عن الغيوب ، فيكمل اعتقادكم أي عجل الله فتح خيبر ليكون ذلك الفتح ، وهو عزيمة أهل خيبر وسلامتكم عبرة للمؤمنين ، لأنكم كنتم ثمانية آلاف ، وإن أهل خيبر كانوا سبعين ألفا ، وكف أيدي الناس عنكم وعن عيالكم ليكون ذلك الكف علامة للمؤمنين ، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم ، (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢٠) أي طريق التوكل عليه تعالى والثقة بفضله تعالى في كل ما تأتون وما تذرون ، (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها). وقوله : (وَأُخْرى) إما مبتدأ «ولم تقدروا» صفته ، وقد أحاط الله خبره أي وغنيمة أخرى لم تقدروا عليها قد أعدها الله لكم فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال ، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وإما معطوف على مغانم كثيرة ، فكأنه تعالى قال : وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها ، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين قد حفظها الله لهم لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن وهي غنائم فارس والروم ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١) ، لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشيء دون شيء (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) أي ولو اجتمع بنو أسد وغطفان مع أهل خيبر كما زعموا ، وقاتلوكم لانهزموا ولا ينصرون بل إنما الغلبة واقعة للمسلمين ، فليس أمرهم أمرا اتفاقيا بل هو أمر إلهي محتوم ، (ثُمَ) بعد انهزامهم (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) ينفع باللطف (وَلا نَصِيراً) (٢٢) يدفع بالعنف ، بل الهلاك لا حق بهم بعد الانهزام ، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم حين خرجوا على الأنبياء ، (وَلَنْ تَجِدَ) أيها السامع (لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٢٣) أي إن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أحبائه من الأنبياء. ولكن لا يغير عادته (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) أي أيدي كفار مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) أي في داخل الحرم وهو الحديبية غير أن كان فيها رمى بالحجارة بين الفريقين (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي أن غلبكم عليهم ، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد على جند ، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ، ثم عاد.

وروى الترمذي وثابت عن أنس بن مالك : أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم ليقتلوه ، فأخذهم سلمان ، فاستحياهم ، فنزلت هذه الآية. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٢٤) وقرأ أبو عمرو بالياء التحتية أي بما يعمل الكفار. والباقون بالتاء الفوقية أي بما تعلمون أنتم فإن الله يرى فيما تعملون من المصلحة. وإن كنتم لا ترون ذلك (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن وصولكم إلى البيت الحرام عام الحديبية ، (وَالْهَدْيَ) أي وصدوا الهدي الذي ساقه النبي وأصحابه. وقرأ أبو عمرو وفي رواية بالجر عطفا على المسجد بحذف المضاف ، أي وعن نحر الهدي. وقرئ بالرفع بفعل مقدر مبني للمجهول ، أي وصد الهدى.

وروي عن أبي عمر وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) فقوله :

٤٣٠

(أَنْ يَبْلُغَ) إما في محل رفع على أنه نائب الفاعل ، أي ممنوعا بلوغ الهدي محل نحره المعتاد ـ وهو منى ـ وإما في محل جر على إسقاط الجار أي ممنوعا من أن يبلغ منحره ، فإن الكفار لم يتركوا المسلمين أن يبلغوا الهدي محله الذي يعتاده الناس بذبحه فيه ، (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقوله : (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل من «رجال» و «نساء» وجواب «لولا» محذوف أي لولا إهلاك أناس مؤمنين في مكة ـ كالوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، وأبي جندل ـ غير معروفين لكم فأصابه إثم إياكم من جهتهم من غير أن تعلموا أنهم مؤمنون مانع ، لما كف الله أيديكم عن كفار مكة ، ولسلطكم عليهم بالقتل عام الحديبية فإنكم إن قتلتم المؤمنين لزمتكم الكفارة ، وهو دليل الإثم بتقصيركم في عدم تمييز المسلم من الكافر ولزمكم تعيير الكفار لكم بأنكم فعلتم بإخوانكم ما فعلتم بأعدائكم (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي هم الذين كفروا ، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم ، ولو لا مؤمنون مختلطون بهم لعجل الله بهم ، ولكن كف الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين بزيادة الخير والطاعة لله تعالى والمشركين بدخولهم في دين الإسلام ، أي ليخرج المؤمنون من مكة ويهاجروا إلى المدينة ، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة ، لأنهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم لأجل اختلاطهم بهم رغبوا في مثل هذا الدين ، (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥) أي لو تميز المؤمنون عن الكفرة وخرجوا من عندهم لعذبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم ، وبسبي ذراريهم. (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) فـ «إذ» ظرف لـ «عذبنا» أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم التكبر ، تكبر الملة الجاهلية وهو منعهم رسول الله وأصحابه عن البيت الّذي الناس فيه سواء. وقالوا : إن المسلمين قتلوا أبناءنا وإخواننا ، ثم دخلوا علينا على إهانتهم إيانا ، واللات والعزى لا يدخلون مكة ، فهذا تكبر الجاهلية التي دخلت في قلوبهم ، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وهذا عطف على «جعل» والمراد : تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين ، وسوء صنيع الكفرة.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص بن الأحنف على أن يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، وعلى وضع الحرب عشر سنين.

وقال البراء : صالحوهم على ثلاثة أشياء على أن من أتاهم من المشركين إلى المدينة مسلما ردوهم إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين إلى مكة لم يردوه إلى المدينة ، وعلى أن يدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة من عام قابل ، ويقيم فيها ثلاثة أيام ، وعلى أن يدخلها بسلاح. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي‌الله‌عنه «اكتب ، بسم الله الرحمن الرحيم». فقالوا : ما نعرف هذا! اكتب باسمك اللهم. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة». فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما

٤٣١

صددناك عن البيت ، وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ما يريدون». فهمّ المؤمنون أن يبطشوا بهم ، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلّا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر ، وأبوا أن لا يكتبوا محمدا رسول الله ، وبسم الله ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فلمّا سكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكن المؤمنون ، فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «قوموا فانحروا ثم احلقوا» (١). فما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات لما حصل لهم من الغم. فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس من عدم امتثال أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج ، ففعل ذلك ، فلما رأوا ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاموا ، فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي ألهم الله المؤمنين كلمة الشهادة وهي : «لا إله إلّا الله» حتى لا يلتفتوا إلى ما سوى الله تعالى ، (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) أي كانوا أحق بكلمة التوحيد في علم الله تعالى ، (وَأَهْلَها) أي وكانوا متصفين بكلمة التقوى في الدنيا ، لأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه ، (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦) فيسوق كل شيء إلى مستحقه ، (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أي لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة صدقا ، ولم يجعلها أضغاث أحلام. وقوله : (بِالْحَقِ) إما صفة لمصدر محذوف أي صدقا ، ملتبسا بالحكمة البالغة وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه ، أو حال من «الرؤيا» ، أي ملتبسة بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه وقت خروجه إلى الحديبية : والله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) تعالى (آمِنِينَ) من العدو ، فلا تخافون عدوكم من أن يخرجكم في المستقبل (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ). فقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَ) إشارة إلى أداء الحج ، و (مُحَلِّقِينَ) إشارة إلى تمام الحج (لا تَخافُونَ) من العدو فيبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام ، لأن الإنسان إذا خرج عن الإحرام بالحلق لا يحرم عليه القتال ، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم ، أي رأى عام الحديبية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا ، وحسبوا أنهم دخلوا مكة في عامهم ، فلمّا خرجوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدّهم الكفار

__________________

(١) رواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان ، والشجري في الأمالي (١ : ٢٠٥) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ : ٢٠٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢١٣٩) ، وابن ماجة في السنن (١٣٣٣) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوي (٢ : ٤٨) ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٣٤٢) ، والقرطبي في التفسير (١٦ : ٢٩٣) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١ : ٣٤١) ، والعقيلي في الضعفاء (١ : ١٧٦) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (٢ : ١٠٦) ، والعجلوني في كشف الخفا (٢ : ٣٧٨) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٣٥٧ ، والفتني في تذكرة الموضوعات ٤٨ ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٥ ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (٢ : ١٧) ، وابن الجوزي في الموضوعات (٢ : ١٠٩) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات ٨٧٦.

٤٣٢

بالحديبية ورجعوا ، وشق عليهم ذلك قال عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن نفيل ، ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ، ولا قصّرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية. (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أي فعلم الله ما لم تعلموا في الصلح في الحديبية من المصلحة المتجددة ، فإن دخولكم في سنتكم سبب لهلاك المؤمنين والمؤمنات (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧) أي فجعل الله من قبل ذلك الدخول في مكة ، أو جعل الله في المنع عن الوصول إلى مكة ، أو جعل الله لأجل صالح الحديبية فتحا سريعا ـ وهو فتح خيبر ـ فيقويكم به فإنه كان سببا لإسلام ناس كثيرة تقوى بهم المسلمون فتكون تلك الكثرة سببا لهيبة الكفار ، ولمنعهم من قتال المسلمين حين رجعوا إلى مكة في العام القابل ، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بالقرآن (وَدِينِ الْحَقِ) أي وبدين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلي الله أو رسوله الدين الحق على كل الأديان بنسخ بعض الأحكام وبإظهار بطلان الباطل ، وبتسليط المسلمين على أهل الباطل (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨) على نبوة رسوله بإظهار المعجزات. (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) فـ «محمد» خبر مبتدأ محذوف ، أي هو ، أي الرسول المرسل بذلك محمد ، و «رسول الله» عطف بيان ، أو هو مبتدأ و «رسول الله» نعت له مفيد للمدح والموصول بعده عطف عليه ، وخبره «أشداء» ، و «رحماء» ، و «تراهم» ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على رسول الله بل على «بينهم» بخلاف الإعراب الأول ، فالوقف على «رسول الله» حسن كما إذا جعل خبرا لـ «محمد». (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، أي الذين قاموا معه يدعون الكفار إلى دين الله (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي هم يظهرون الصلابة لمن خالف دينهم ، والرأفة لمن وافقهم في الدين ، فإنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس ثياب الكفار ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، ولا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه وعانقه.

وقرئ «أشداء» و «رحماء» بالنصب على المدح ، أو على الحال ، فالخبر حينئذ قوله تعالى : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي تشاهدهم أيها السامع حال كونهم راكعين ساجدين في الصلاة (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي يطلبون من الله ثوابا ورضا لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار ، وسجودهم ، وعن ركوع المرائين وسجودهم. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامة سهرهم كائنة في وجوههم كائنة من أثر كثرة السجود بالليل فـ «في وجوههم» خبر و «من أثر» حال. وقرئ «سيمياؤهم» بالياء بعد الميم وبالمد. وقرئ من «آثار السجود» بمد الهمزة والثاء. وقرئ من «إثر السجود» بكسر الهمزة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (١). أي وهذا محقق لمن يعقل ويفرق بين الساهر في الشرب واللعب ، والساهر في الذكر واستفادة العلم ، (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) فـ «ذلك» مبتدأ و «مثلهم» خبره ، و «في التوراة» حال من «مثلهم» والعامل معنى الإشارة ، والوقف هنا تام ، أي ذلك المذكور من أنهم أشداء على الكفار إلخ صفتهم

__________________

(١) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ٣٦.

٤٣٣

في التوراة (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ) و «مثلهم» مبتدأ ، وخبره «كزرع» ، فهذان مثلان كما ذهب إليه ابن عباس أي وصفتهم الكائنة في الإنجيل كزرع ، (أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) ، أي مثل زرع أخرج فراخه ، فقوى الفراخ بكثافتها الزرع ، (فَاسْتَغْلَظَ) أي فصار الزرع غليظا بعد ما كان دقيقا ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي فاستقام الزرع على قصبه ، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ). وهذا مثل صربه الله تعالى لأصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل أنهم قلّوا في بدء الإسلام ، ثم كثروا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس.

قيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وقال بعضهم : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أبو بكر الصديق ، فإنه أول من آمن به. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) : عمر بن الخطاب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : عثمان بن عفان. (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : علي بن أبي طالب. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) : بقية المبشرين بالجنة : طلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وأبو عبيدة ، وعبد الرحمن. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ). سلمان وبلال وصهيب وأصحابهم. (كَزَرْعٍ) : محمد. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) : أبابكر. (فَآزَرَهُ) : عمر (فَاسْتَغْلَظَ) عثمان بالإسلام (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) : علي بن أبي طالب أي استقام الإسلام بسيفه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي المؤمنين (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي بقول عمر لأهل مكة بعد ما أسلم : لا يعبد الله سرا بعد اليوم.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبيّ ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». ويقال : نزلت الآية من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) إلى هاهنا في مدحة أهل بيعة الرضوان ، وبعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخلصين لله وقوله تعالى : (لِيَغِيظَ) تعليل لمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع ، كأنه قيل : إنما قوّاهم الله تعالى وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار ، أو تعليل لوعد الله الذين آمنوا إلخ ، لأن الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا ، وبما أعد لهم في الآخرة غاظهم ذلك أشد غيظ ، أو تعليل محذوف دلّ عليه قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) إلخ أي جعلهم الله تعالى بهذه الصفات الجليلة ليغيظ بهم الكفار. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) وضمير «منهم» راجع للصحابة فـ «من» لبيان الجنس ، كلهم بتلك النعوت الجليلة أو للكفار فـ «من» للتبعيض.

٤٣٤

سورة الحجرات

مدنية ، هي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون

كلمة ، ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وقرأ العامة بضم التاء وفتح القاف ، وتشديد الدال المكسورة ، أي لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما في الرأي عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر لفظ الله تعظيما للرسول ، وإشعارا بأنه عند الله في منزلة عظيمة توجب إجلاله. وقرأ ابن عباس والضحاك «لا تقدموا» بالفتح في الأحرف الثلاثة. وقرئ «لا تقدموا» بضم التاء وكسر الدال ، أي لا تقدموا على شيء من أمور الدين بغير إذن الله ورسوله ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) (١) بأفعالكم. نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلوا رجلين من بني سليم في صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بغير أمره ، فنهاهم الله تعالى وقال : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تجرؤوا على إتيان أمر من غير إذن من له الإذن (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة الحكم المنهي عنه إن الله سميع لمقالة الرجلين ، عليم بما اقترفا ، وكان قولهم : لو كان هكذا لكان كذا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، يرفع صوته عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم وفد بني تميم ، فنهاه الله عن ذلك فقال : يا أيها الذين آمنوا (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ، فإن رفع الصوت دليل قلّة الاحتشام وترك الاحترام ، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) ، أي لا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم بل اجعلوا كلمته عليا ، ولا تكثروا الكلام عنده ، وقلّلوا غاية التقليل ، فلا تخاطبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تخاطبون غيره ، (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) أي خشية حبوط أعمالكم. فقوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا) إلخ نهي عن زيادة صوتهم على صوت الرسول وقوله تعالى ولا تجهروا ألخ نهى عن مساواة صوتهم لصوته (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢) بحبوط الأعمال (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي يخفضونها عنده مراعاة للأدب ، (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي الذين امتحن الله قلوبهم ليعلم منها التقوى ، فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للمرسل أعظم ، وخوفه منه أقوى ، فالاختبار بالمحن والتكاليف الشاقة سبب

٤٣٥

لظهور التقوى ، ويقال : أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتوحيد ، وصفاها من المعصية ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

قيل : لما جرى الكلام بين أبي بكر وعمر في تأمير القعقاع بن معبد ، أو الأقرع بن حابس على وفد بني تميم نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية ، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية ، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) الآية ، ولما دخل أعراب بني تميم المسجد ونادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين ، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نام للقائلة نزل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآيتين.

وقال ابن عباس : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى قوم من بني عنبر ، جماعة من خزاعة ، وأمر عليهم عينة بن حصن الفزاري ، فسار إليهم ، فلما بلغهم أنه خرج إليهم ، فروا ، وتركوا عيالهم وأموالهم فسبى ذراريهم ، وجاء بهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءوا ليفادوا ذراريهم ، فدخلوا المدينة عند القيلولة ، فنادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد اخرج إلينا ، وكان نائما ، حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمد ، فادنا عيالنا ، فنزل جبريل عليه‌السلام فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم». فقالوا : نعم. فقال شبرمة : أنا لا أحكم وعمي عمرو شاهد ـ وهو الأعور ابن بسامة ـ فرضوا به. فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد رضيت» ففادى نصفهم ، وأعتق نصفهم ، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤) أي إن الذين يدعونك من خلف حجرات ، نسائك كلهم لا يعقلون ، إذ لو كان لهم عقل ، لما تحاسروا على سوء الأدب ، فكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرة ، ومناداتها من خارج الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خارجها ، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له ، فنادى كل واحد على حجرة (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ولو ثبت صبرهم ، وانتظارهم إلى الصلاة حتى تخرج إليهم ، لكان الصبر حسنا لهم وخيرا من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة ، ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة ، ولو راعوا حسن الأدب ، وتعظيم الرسول لزادهم في الفضل ، فأطلق ذراريهم ونساءهم كلهم بلا فداء ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) لهؤلاء إن تابوا وأصلحوا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه ، بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق ليجيء بصدقاتهم ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمعوا به تلقوه تعظيما لأمر رسول

٤٣٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب الرسول ، فأراد هو أن يغزوهم ، فنهاه الله عن ذلك فقال : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر فتفحصوا. وقرئ فتثبتوا ، أي قفوا حتى يتبين لكم ما جاء به من صدقه أو كذبه (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي حذر أن تصيبوا قوما بالقتل والسبي ملتبسين بجهالة حالهم ، (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦) أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما نسب إليهم نادمين على ما فعلتم في حقهم في إصابتهم بالقتل وغيره. (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) هو مرشد لكم فارجعوا إليه ، واعتمدوا على قوله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) ، أي لو يتبعكم رسول الله في كثير من الحوادث لوقعتم في شدة وهلاك ، وقد يوافق الناس ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ، الآية : ١٥٩] (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي بيّنه وقربه إليكم ، وأدخله في قلوبكم ، (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) بالبرهان اليقيني بحيث لا تفارقونه ، ولا يخرج من قلوبكم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ). وهذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل فإنه يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فالكفر هو التكذيب بالجنان ، والفسوق هو كذب اللسان ـ كما قاله ابن عباس ـ فقد قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) فسمى من كذب فاسقا ، والعصيان هو ترك الأمر ، (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم الله وينتهون عما ينهاهم ، (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) مفعول من أجله منصوب بـ حبّب ، و «كره» أو بـ الراشدون» (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في خزائن رحمته من الخير ، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد ، (حَكِيمٌ) (٨) ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة ، (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما).

قيل : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابه ، وعبد الله بن رواحة المخلص وأصحابه ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ وكان من الخزرج ، فبال الحمار ، فسد ابن أبي أنفه وقال : إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك ، وذلك قبل أن يسلم بالظاهر. فقال ابن رواحة : وكان من الأوس لبول حماره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا من مسك ، فكان بين قومهما وهما الأوس والخزرج ضرب بالأيدي والنعال والسيف.

وعن قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، وطلب الآخر منه أن يحاكمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا ، وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف.

وعن سفيان عن السدي قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال ، فنزلت هذه الآية ، أي وإن تقاتل فرقتان من المؤمنين فأصلحوا بينهما بالنصح

٤٣٧

والدعاء إلى حكم الله تعالى (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) أي ظلمت (عَلَى الْأُخْرى) بأن أبت الإجابة إلى حكم كتاب الله تعالى (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي تظلم (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع تلك الطائفة التي لم تقبل النصيحة إلى الصلح ، وهو مأمور به (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) ، أي فإن رجعت إلى الصلح حذرا من قتالكم فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما ، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر ، (وَأَقْسِطُوا) أي واعدلوا في كل أمر ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) أي العادلين في كل ما يأتون ، وما يذرون فيفضي إلى أشرف درجة وأرفع منزلة ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وإن لم تكن الفتنة عامة ، وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال ، بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف ، فاسعوا في الإصلاح.

وقيل المراد بالأخوين : الأوس والخزرج. وقرئ بين «إخوتكم وأخواتكم». (وَاتَّقُوا اللهَ) بالصون عن التشاجر ، فإن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن من يأمن جاره بوائقه». (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) على تقواكم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) أي رجال منكم (مِنْ قَوْمٍ) آخرين منكم.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، حيث ذكر رجلا من الأنصار بسوء ذكر أم رجل كانت في الجاهلية.

وقال الضحاك : نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل : عمار وخبيب ، وابن فهيرة ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم ، ومعنى الآية : لا تحتقروا إخوانكم ولا تستصغروهم (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهي ، أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين ، (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ).

روي عن أنس أن هذه الآية نزلت في نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عيرن أم سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قالت لها بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يهودية بنت يهودي فنهاهنّ الله عن ذلك وقال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي ولا تسخر نساء من المؤمنات من نساء منهن (عَسى أَنْ يَكُنَ) أي المسخور منهن (خَيْراً مِنْهُنَ) أي من الساخرات عند

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٢٢٤) ، والهيثمي في موارد الظمآن ٢٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٢٦٨) ، وابن حجر في فتح الباري (١ : ٥٤) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٢ : ٧٨).

٤٣٨

الله وأفضل نصيبا ، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي ولا يعب بعضكم بإشارة أو نحوها ، فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، أي ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به. ويقال : هذا إتمام للزجر ، ويصير التقدير : بئس الفسوق بعد الإيمان ، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب السخر واللمز والتنابز بعد ما سميتم مؤمنين. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١) أي ومن يجعل ذلك عادة ، ولم يتركه ، ولم يتب عما مضى فهو ظالم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) فيجب الاحتياط والتأمل في كل ظن حتى يعلم أنه من أي نوع ، فإن من الظن ما يجب اتباعه ، كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات ، وظن الخير من الله تعالى ، ففي الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلّا خيرا» ، وظن الخير في المؤمن ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ظنوا بالمؤمن خيرا» ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات ، وظن السوء بالمؤمن ، ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي ذنب يستحق العقوبة (وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين. والمعنى : ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس ، (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً).

وقرأ نافع بتشديد الياء وهو حال من «اللحم» ، أو من «الأخ» ، فالاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا ، ولا يحل أكله إلّا للمضطر بقدر الحاجة ، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب ، ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر. أما الفاسق فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ، فمن نقص مسلما أم ثلم عرضه فهو كآكل لحمه ، حيا ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتا ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. (فَكَرِهْتُمُوهُ)؟ أي الأكل ، فالاستفهام في قوله تعالى : (أَيُحِبُ) للإنكار ، فكأنه تعالى قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا. وقرئ «كرهتموه» بغير فاء أي جبلتم على كراهته ، (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك ما أمرتم باجتنابه ، وبالندم على ما صدر عنكم من قبل ، (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢) ذكر الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة مرتبة ، فكأنه تعالى قال : لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم ، بناء على الظن ، ثم إذا سئلتم عن المظنونات فلا تقولوا : نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها ، ثم إن علمتم منها شيئا من غير تجسس فلا تقولوه ، ولا تفشوه عنهم ، ففي الأول نهي عن التكلم بما لم يعلم ، ثم نهي عن طلب علم عيب الناس ، ثم نهي عن ذكر ما علم منه.

روي أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب منه لهما طعاما فقال له : «انطلق إلى أسامة بن زيد واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده». فأتاه فقال ما عندي شيء ،

٤٣٩

فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئا ، فلما رجع قالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سمحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟» (١) فقالا : ما تناولنا لحما في يومنا هذا! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اغتبتما سلمان وأسامة» فنزلت هذه الآية ، ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي من آدم وحواء ، ومن أب وأم ، فالكل سواء في ذلك ، فلا وجه للتفاخر بالنسب ، (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) وطبقات النسل التي عليها العرب سبعة : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة ، والعشيرة. وكل واحد يدخل فيما قبله ، فالعشائر تحت الفصائل ، وهي تحت الأفخاذ ، وهي تحت البطون ، وهي تحت العمائر ، وهي تحت القبائل ، وهي تحت الشعوب. فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وعبد مناف فخذ ، هاشم فصيلة ، والعباس عشيرة. (لِتَعارَفُوا) أي ليعرف بعضكم بعضا بأصل الإنسان فلا ينتسب أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل ، ولا لتدعوا التفاوت في الأنساب ، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» (٢). وعن ابن عباس قال : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.

قال الرازي : سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي رضي‌الله‌عنه ، غير أنه كان فاسقا ، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ، ومال الناس إلى التبرك به ، فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد ، فاتبعه خلق ، فلقيه الشريف سكران ، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه ، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ. وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر ، يا كافر بن كافر ، أنا ابن رسول الله أذل ، وتجل ، وأذم وتكرم ، وأهان وتعان ، فهمّ الناس بضربه. فقال الشيخ : لا ، هذا محتمل منه لجده ، وضربه معدود بحده ، ولكن يا أيها الشريف بيّضت باطني وسوّدت باطنك ، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي ، فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي ، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي ، فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي ، فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا ما يعمل مع أبيك. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأنسابكم وبأعمالكم. (خَبِيرٌ) (١٣) ببواطن أحوالكم ، لا تخفى عليه أسراركم ، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى.

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٦ : ٣٣١).

(٢) رواه العجلوني في كشف الخفاء (١ : ٣٧٣) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٧ : ٢٥٦٥).

٤٤٠