مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

نصيرهم في الحكم والاعتبار وهم على مساوئ الأحوال أمثال المؤمنين وهم في محاسن الأعمال (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ).

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص بنصب «سواء» فهو حال من الضمير المستتر في كالذين و «محياهم ومماتهم» مرتفعان على الفاعلية ، والمعنى : أحسب الكفار أن نجعل المؤمنين كائنين مثلهم حال كون الكل مستويا محياهم ومماتهم. كلا ، لا يستوون في شيء منهما فإن هؤلاء في شرف الإيمان والطاعة في المحيا ، وفي رضوان الله تعالى في الممات ، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي في المحيا ، وفي العذاب الخالد في الممات. وقرئ «محياهم ومماتهم» بالنصب على انهما ظرفان أي حال كون كل الفريقين مستويين في محياهم ومماتهم ، وقيل : إنهما بدلان من الضمير المنصوب في «نجعلهم» فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ، وقرأ الباقون برفع «سواء» على أنه خبر و «محياهم» مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب هو بدل من المفعول الثاني وهو الكاف. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢١) قال الكلبي : إن عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر عليا ، وحمزة ، وعبيدة بن الحرث ، فقتلوا أولئك وقالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا فأنكر الله عليهم هذا الكلام وأنزل الله هذه الآية (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي لأجل إظهار الحق (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٢) بنقص ثواب ، أو بزيادة عقاب ، والمعنى : أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ، وذلك لا يتم إلّا إذا حصل البعث والقيامة ، وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين والمبطلين ، وقوله : «لتجزي» معطوف على «بالحق» لأن معنى الباء هنا للتعليل أو معطوف على علة محذوفة ، والتقدير خلقها بالحق ليدل بها على قدرته ولتجزى إلخ ، وجوز ابن عطية أن تكون هذه اللام لام الصيرورة أي وصار الأمر من حيث اهتدى بها قوم وضل بها آخرون ، ولا وقف على قوله تعالى : «بالحق». وعند أبي حاتم فالوقف عليه تام بجعل لام «لتجزي» لام قسم (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي أنظرت يا أشرف الخلق فرأيت من ترك متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى فكان يعبد الهوى فذلك من العجب ، وقرئ «آلهته هواه» لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها. روي عن أبي رجاء العطاردي انه أدرك الجاهلية ، وهو ثقة ـ مات سنة خمس ومائة وعمره مائة وعشرون سنة ـ قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا جمعنا حشوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) وهذا إما حال من الفاعل أي عالما بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح أو من المفعول والمعنى وأضله وهو عالم بالحق (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) فلا يقبل المواعظ ولا يتفكر في النذر (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي غطاء مانعا عن الاعتبار.

٤٠١

وقرأ حمزة ، والكسائي «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين ، والأعمش ، وابن مصرف بكسر الغين ، والباقون «غشاوة» بكسر الغين ، وابن مسعود ، والأعمش أيضا بفتحها وعبد الله بضمها ، (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي من بعد إضلال الله إياه وهذه الجملة مفعول ثان لـ «رأيت» (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) أي ألا تلاحظون فلا تذكرون ، وقرئ «تتذكرون» بالتاءين على الأصل ، (وَقالُوا) من غاية ضلالهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يصيبنا الموت والحياة في الدنيا ، وليس وراء ذلك حياة (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي إلا مرور الزمان ، والمعنى : أن تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة ، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت ، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله والقيامة (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤) أي ما لهم باقتصار الحياة على ما في الدنيا واستناد الحياة والموت إلى الدهر مستند إلى نقل ، أو عقل صحيح ما هم الأقوم أمرهم الظن والتقليد (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الدالة على قدرتنا (بَيِّناتٍ) أي مبيّنات لما يخالف معتقدهم (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) في أنّا نبعث بعد الموت «وحجتهم» بالنصب خبر «كان» وإلا قالوا اسمها ، فالمعنى : ما كان متمسكا لهم على إنكار البعث شيء من الأشياء إلّا هذا القول الباطل ، وهو قولهم : لو صح ذلك البعث ، فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث.

وقرئ برفع «حجتهم» على أنه اسم «كان» فالمعنى : ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلّا هذا القول الباطل. (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) ابتداء (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر ، (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) أحياء بعد الموت (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) للجزاء (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في جمعكم ، فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم القائلون ما ذكر (لا يَعْلَمُونَ) (٢٦) دلالة حدوث الإنسان وغيره على وجود الإله الحكيم ، وإن الله تعالى لما كان قادرا على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة ثانيا (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لله التصرف فيهما كما أراد وله القدرة على جميع الممكنات فيلزم كونه تعالى قادرا على الإحياء في المرة الثانية ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (٢٧) أي ولله ملك يوم قيام الساعة يومئذ يظهر غبن المبطلين لأن الحياة والعقل ، والصحة كلها رأس المال ، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح ، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلّا الحرمان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران (وَتَرى) أيها المخاطب (كُلَّ أُمَّةٍ) أي كل أهل دين (جاثِيَةً) أي مجتمعين لا يخالطهم غيرهم ، وهو حال.

٤٠٢

وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع فالوقف هنا حسن ، كالوقف على «كتابها». (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى قراءة صحائف أعمالها والعامة على رفع كل على الابتداء ، وقرأ يعقوب ككل بالنصب على البدل من كل الأولى وتدعى حال أو صفة وعلى هذا فلا وقف على «جاثية» ، ويقال لهم حالة الدعاء : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٨) من خير أو شر (هذا كِتابُنا) أي كتاب الملائكة الذي أمرناهم بكتبه (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) خبر ثان أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ونقصان. (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩) أي إنا كنا فيما قبل نأمر الملائكة بإثبات أعمالكم في الكتابة وورد في الحديث : «أن الملك إذا صعد بالعمل يؤمر بالمقابلة على ما في اللوح»(١) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ) في ذلك اليوم (رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي في جنته (ذلِكَ) أي الإدخال في رحمته (هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٣٠) أي الظاهر لخلوص الجنة من الأكدار (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقال لهم بطريق التوبيخ : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي ألم تأتكم رسلي في الدنيا فلم تكن آياتي تقرأ عليكم ، (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بتلك الآيات (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١) أي مذنبين بإصرار الكفر (وَإِذا قِيلَ) لكم أي وكنتم إذا قيل لكم أيها الكفار من أي قائل كان (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب (حَقٌ) أي واقع بلا شك ، وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد بفتح الهمزة على اجراء القول مجرى الظن ، (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) وقرأ حمزة بالنصب عطف على «وعد الله» أي وإن الساعة آتية لا شك في وقوعها ، والباقون بالرفع على الابتداء والمعنى : وقيل «والساعة لا ريب فيها». قال الأخفش : والرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبران لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الأول بتمامه. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي أي شيء هي إنكارا لها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أي ما نقول في أمر الساعة كما قلتم إلّا بالظن لإمكانه (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢) بقيام الساعة والقوم كانوا في أمر البعث فرقتين : فرقة جازمة بنفيه. وهم المذكورون في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وفرقة كانت تشك وتتحير فيه لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته ، وهم المذكورون في هذه الآية (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي ظهر لهم في الآخرة سيئات أعمالهم في الدنيا فتصورت لهم بصورة هائلة فيعرفوا مقدار جزائها (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٣) أي أحاط بهم عقوبة استهزائهم بالرسل (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي قيل لهم اليوم نترككم في العذاب كما تركتم الإقرار بهذا اليوم والعدة للقائه (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي ومستقركم نار جهنم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٤) أي وما لكم أحد يخلصكم منها

__________________

(١) رواه البخاري في (٩ : ٧٣) ، وابن حجر في فتح الباري (١٣ : ٧٩) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٤٤٧) ، وابن أبي شيبة في المصنف (١٤ : ١٢٨).

٤٠٣

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ذلكم العذاب العظيم بسبب استهزائكم بآيات الله وغروركم بما في الحياة الدنيا وحسبناكم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار.

وقرأ حمزة ، والكسائي بفتح الياء وضم الراء والباقون بضم الياء وفتح الراء ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥) أي ولا يطلب منهم أن يرضوا بهم التوبة لفوات أوانه (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٦) أي فاحمدوا الله الذي هو خالق كل العالمين من الأجسام ، والأرواح ، والذوات ، والصفات. فإن هذه الربوبية توجب الحمد على كل أحد من المخلوقين ، وقرأ العامة «رب» في الثلاثة بالجر ، وقرئ بالرفع على المدح بإضمار هو (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا إشارة إلى أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد ، وإشارة إلى وجوب كون الحامدين أن يعرفوا أنه تعالى أكبر من حمد الحامدين وأن عطاياه أجل من شكر الشاكرين ، وأن الكبرياء له تعالى لا لغيره تعالى ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧) أي هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.

٤٠٤

سورة الأحقاف

مكية ، إلا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الآية وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا

الْإِنْسانَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، أربع وثلاثون آية

ستمائة وأربع وأربعون كلمة ، ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي القوي بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمِ) (٢) أي المتقن للأمور (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلّا لأجل الفضل والرحمة والإحسان (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وإلا لأجل مسمى أي إلا لوقت معين لإفناء الدنيا ، فإن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا ، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل فيقع الجزاء في الدار الآخرة ولو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) أي خوفوا به مما في يوم القيامة (مُعْرِضُونَ) (٣) فلا يؤمنون به ولا يستعدون له (قُلْ) توبيخا لهم : (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أخبروني ما تعبدون من الأوثان. وقرئ «أرأيتكم» (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أخبروني أي شيء خلقه الأوثان مما في الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) فـ «أم» بمعنى الهمزة أي ألهم شركة مع الله تعالى (فِي السَّماواتِ) أي في خلقها ، أو ملكها (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي بكتاب دال على صحة دينكم كائن من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك ، (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي أو بمنقولة عن الأنبياء من علم سوى ما جاء في الكتب ، وقرأ علي ، وابن عباس ، وزيد بن علي ، وعكرمة «أثرة» دون ألف ، وقرأ الكسائي «أثرة» بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء ، وقتادة ، والسلمي بفتح فسكون أي أو ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) في دعواكم ، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لا امرأ أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يعبد الأصنام ، وهي إذا دعيت لا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعده إلى يوم القيامة ، وإنما جعل غاية لأنه قيل : إن الله تعالى يحييها يوم القيامة وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة ، (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (٥) أي والأصنام عن دعاء من يعبدهم لا يسمعون (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي وإذا قامت القيامة ، وحشر الناس كانت

٤٠٥

هذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين ، (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦) أي وكانت الأصنام مكذبين بكونهم معبودين يقولون : إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) أي وإذا يتلى على كفار أهل مكة القرآن واضحا قالوا من غير تأمل في شأن القرآن حين جاءهم هذا المتلو خيال ظاهر بطلانه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل يقولون افترى محمد القرآن من عند نفسه. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي قل لهم يا أشرف الخلق : إن اختلقت القرآن من تلقاء نفسي كما تقولون فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة حينئذ ، وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معالجته إياي بالعقوبة ، فكيف أجترئ على هذه الفرية وأعرض نفسي للعقوبة (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي أعلم بما تتكلمون فيه من التكذيب بالقرآن وتسميته سحرا تارة وفرية تارة أخرى (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والإنكار ، أو كفى بالقرآن شهيدا بيني وبينكم وقد شهد بصدقي وبعجزكم عن معارضة شيء منه ، (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن رجع عن الكفر (الرَّحِيمُ) (٨) بعباده فلم يعالجكم بالعقوبة مع عظم ما ارتكبتوه من الذنوب (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي قل يا أكرم الرسل لهم لست أول الرسل فلا ينبغي أن تنكروا أخباري بأني رسول الله إليكم مع أن صفتي كصفة من سبق من الرسل ، ولا أن تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهي لكم عن عبادة الأصنام ، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق.

وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن عبلة «بدعا» بفتح الدال ، وقرأ أبو حيوة أيضا ومجاهد بفتح الباء وكسر الدال (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ما أدرى ما يفعل بي أأموت ، أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء ، أم يخسف بكم ، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم كالمكذبين قبلكم (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي وهو جواب عن اقتراحهم الأخبار عما لم يوح إليه من الغيوب ، وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع الا ما أوحاه الله إليّ اه. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ما يفعل مبنيا للفاعل أي الله تعالى ، وقرئ ما يوحي على البناء للفاعل (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩) أي أنهم كانوا يطالبونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات العجيبة وبالأخبار عن الغيوب فقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ) عقاب الله تعالى حسب ما يوحى إلي من الإنذار وليس القادر على الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بالغيوب إلّا الله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ

٤٠٦

وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل يا أشرف الخلق لليهود أخبروني يا معشر اليهود إن كان القرآن من عند الله ، وكفرتم به. وشهد شاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام على صفة القرآن من كونه من عند الله وكونه معجزا للخلق عن معارضته فآمن هذا الشاهد بالقرآن ، وتكبرتم يا معشر اليهود عن الإيمان به ألستم كنتم ظالمين أنفسكم؟ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) روي أنس أنه لما سمع عبد الله بن سلام بمجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر ، فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلّا نبي ، ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له ، وإذا سبق ماء المرأة نزع لها» (١) فقال : أشهد أنك لرسول الله حقا ، ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي رجل عبد الله فيكم» فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، فقال : «أرأيتم ان أسلم عبد الله» (٢) فقالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أإن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرنا وانتقصوه ، فقال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله ، قال سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزل (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) على مثله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بنو عامر ، وغطفان ، وأسد ، وأشجع (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجل إسلام من أسلم وهم جهينة ، ومزينة ، وأسلم ، وغفار (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم زعما منهم أن الرئاسة الدينية ما ينال بأسباب دنيوية : لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه أولئك الأراذل ، فإن أكثرهم فقراء وموال ورعاة (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (١١) أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن وظهر عنادهم فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ولم يكتفوا بنفي خيريته ، (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي قالوا ذلك والحال أنه كان كتاب موسى من قبل القرآن أي كيف يصح كون القرآن إفكا قديما وقد رجعوا إلى حكم كتاب موسى. وقرئ «ومن قبله كتاب

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٥ : ١٦٧) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (٢ : ٥٣١) ، وابن حجر في فتح الباري (٧ : ٢٥٠) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٢١١) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١١٤.

(٢) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣ : ١٤).

٤٠٧

موسى» أي وآتينا من قبل محمد التوراة (إِماماً) أي قدوة يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه ، (وَرَحْمَةً) من الله تعالى لمن آمن به وعمل بما فيه. (وَهذا) أي القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى في أن محمدا رسول الله (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من «كتاب». وقيل : مفعول لـ «مصدق» على حذف مضاف ، أي مصدق ذا لسان عربي ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لينذر ذلك الكتاب مشركي مكة. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء لخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (١٢) أي المؤمنين بأن لهم الجنة ، و «هو» في محل نصب معطوف على محل «لينذر» ، لأنه مفعول له ، أو في محل رفع معطوف على «مصدق» ، أو «كتاب» ، ولا يوقف على «ظلموا» ، أما إذا جعل مبتدأ وخبره للمحسنين فالوقف على «ظلموا» كاف. (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) وحده (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على أداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣) ، من فوات محبوب ، أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة في أمور الدين فهم يوم القيامة آمنون من الأهوال ، وزائل عنهم خوف العقاب ، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول عن العبد ألبتة ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤) في الدنيا ، (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً). وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا» ، وهي قراءة ابن عباس أي أمرناه بأن يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة ، والباقون «حسنا» بضم فسكون ، أي أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا ، وهو ضد القبح فعلا ذا حسن. وقرئ بضم الحاء والسين. وقرأ عيسى والسلمي بفتحهما ، نزلت هذه الآية في عبد الرحمن ، وفي أبيه وأمه ، وهما أبو بكر الصديق وأم رومان. وقالت عائشة. نزلت في خلال بن قلال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) في بطنها (كُرْهاً) أي على مشقة (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي في مشقة.

قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر ، وابن ذكوان بضم الكاف. والباقون بالفتح (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي ومدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا ، فإن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن مدة إتمام الرضاع أربعة وعشرون شهرا ، ولما كان الرضاع يليه الفصال ، لأنه يتم به سمي فصالا (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ). وقرئ «إذا استوى وبلغ أشده». (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً). والأصح أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه عثمان بن عامر وأمه أم الخير سلمى بنت صخر. وذلك أن أبا بكر صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ، والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بالنبوة ، واختصه بالرسالة ، فآمن به أبو بكر الصدّيق وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، ثم أسلم أبواه وأسلم ابنه عبد الرحمن ، ثم ابنه محمد كلهم أدركوا النبي ، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم ، إلّا أبو بكر ووالده أبو قحافة ، وأمه سلمى بنت صخر ، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا به و (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ، أي ألهمني ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ، وهي نعمة

٤٠٨

الدين. قال الذين قالوا : إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق أن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلّا له ، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ).

قال ابن عباس : فأجاب الله دعاء أبي بكر ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يترك شيئا من الخير إلّا أعانه الله عليه ، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح راسخا في ذريتي.

قال ابن عباس : لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عما يشغلني عن ذكرك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥) الذين أخلصوا لك أنفسهم ، (أُولئِكَ) أي أهل هذا القول (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من الطاعات ، فالمباح حسن لا يثاب عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ). وقرأ الأخوان وحفص الفعلين بفتح النون. والباقون بياء مضمومة ببنائهما للمفعول ، ورفع «أحسن». وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بياء مفتوحة فيهما ، والفاعل الله تعالى. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي كائنين في جملتهم (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦) أي وعدهم الله وعدا صادقا في الدنيا على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) عند دعوتهما له إلى الإيمان : (أُفٍّ لَكُما) أي قذرا لكما. وقرئ «أف» بفتح الفاء وكسرها بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين لكن القراءات السبعية ثلاثة : كسر الفاء مع التنوين وتركه وفتحها من غير تنوين وهو صوت إذا صوت الإنسان به علم أنه متضجر كما إذا قال : أوه ، علم أنه متوجع واللام في لكما لبيان المؤفف له معناه هذا التأفيف لأجلكما خاصة دون غير كما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أن أبعث من القبر.

وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية. وقرأ بعضهم بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين ، والياء ففتح الأولى تحريا للتخفيف. وقرئ «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث منهم أحد ، (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي ووالداه يدعوان الله أو يستغيثان بالله من كفره وإنكاره للبعث قائلين له : (وَيْلَكَ) وهو دعاء بالهلاك. والمراد به التحريض على الإيمان (آمِنْ) أي صدق بالبعث (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث بعد الموت (حَقٌ) أي كائن. وقرئ «أن» بفتح الهمزة ، أي آمن بأن وعد الله حق (فَيَقُولُ) مكذبا لهما (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) ، أي ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلّا أكاذيب الأولين التي كتبوها في كتبهم من غير أن يكون لها حقيقة ، (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبتت عليهم كلمة العذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) أي مع أمم قد مضت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي من كفارهم ، (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (١٨) أي قد ضيّعوا أعمارهم في الضلال.

قال ابن عباس والسدي : نزل قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ) إلخ في عبد الله ابن أبي. وقيل : في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فأبى وقال : أف لكما إلخ ، ثم أسلم وحسن إسلامه وصار من أفاضل المسلمين فالّذين قالوا : والمراد بقوله تعالى : والّذي قال لوالديه : أف كل عاق لوالديه فأجر لربه قالوا : إن الوعيد في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَ

٤٠٩

عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الآية مختص بهم فاسم الإشارة عائد إلى القائلين هذه المقالات الباطلة أما من قال المراد بنزول الآية سيدنا عبد الرحمن ابن سيّدنا أبي بكر فيقولون : إن اسم الإشارة عائد إلى القرون التي قبله ، فالمراد أجداده والوعيد عليهم كان له جدان ماتا في الجاهلية جدعان ، وعثمان ابنا عمرو ، (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل واحد من الفريقين درجات من الإيمان ، والطاعة ، والكفر ، والمعصية قال ابن زيد : درج أهل الجنة يذهب علوا ودرج أهل النار ينزل هبوطا ، (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام ، وعاصم بالياء التحتية أي وجازاهم الله بذلك ليوفيهم أجزية أعمالهم ، والباقون بالنون أي ونجازيهم «لنوفيهم» جزاء أعمالهم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٩) بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين قدر الله جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ) قرأ ابن كثير بهمزة ومدة ، وابن عامر بهمزتين بلا مد ، وهشام بهمزتين ومد بينهما ، والباقون بهمزة محققة (طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي قد أخذتم ما قدر لكم من الراحات في الدنيا ، وتمتعتم بالّلذات ، واتبعتم الشهوات ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم في الدنيا شيء منها في الآخرة (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي بالعذاب الشديد.

وقرئ «عذاب الهوان» (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠) أي بسبب استكباركم بغير استحقاق لذلك ، أو بسبب خروجكم عن طاعة الله تعالى فالترفع ذنب القلب ، والفسق ذنب الجوارح (وَاذْكُرْ) يا أكرم الرسل لكفار مكة (أَخا عادٍ) هود بن عبد الله بن رباح (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) بدل اشتمال أي وقت حذرهم عقاب الله إن لم يؤمنوا (بِالْأَحْقافِ) أي نازلين على رمال مشرفة على البحر في أرض الشحر من بلاد اليمن ، وقال ابن عباس : هو واد بين عمان ومهرة. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده ، (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وهذا تفسير للإنذار وإنما كان هذا إنذار لأن النهي عن الشيء تخويف من مضرته أي صورة إنذار هود أن قال : لا تعبدون إلخ فـ «أن» مخففة من الثقيلة وباء التصوير مقدرة معها ولا ناهية. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢١) أي هائل بسبب شرككم (قالُوا أَجِئْتَنا) يا هود (لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من معالجة العذاب على الشرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٢) في وعدك بنزول العذاب بنا (قالَ) لهم هود (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي لا علم لي بوقت عذابكم إنما علم وقت إتيان العذاب عند الله تعالى ، (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من التحذير عن العذاب ، وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إلي ، وأما الإتيان بالعذاب فليس بمقدوري ، بل هو من مقدورات الله تعالى وقرأ أبو عمرو بسكون الباء (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٣) حيث تصرون على طلب العذاب فإن لم يظهر لكم كوني صادقا لم يظهر لكم كوني كاذبا ، فالإقدام على طلب العذاب جهل عظيم ، (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي رأوا ما

٤١٠

يوعدون به (عارِضاً) أي سحابا يعرض في أفق السماء ، وهو بدل من الضمير العائد على ما في «بما تعدنا». (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي سائر إلى أوديتهم استبشروا و (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي هذا المرئي سحاب يأتينا بالمطر. قال هود : ليس الأمر كذلك ، (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شيء من الناس ، والحيوان ، والنبات بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم.

وروي أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هادئة طيبة ، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض ، وروي أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم ، وغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأحال الله عليهم الرمال ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفتها الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر ، (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فصاروا بعد الهلاك لا ترى إلّا آثار مساكنهم ، وقرأ حمزة ، وعاصم يرى بضم الياء التحتية ورفع «مساكنهم» ، والباقون «لا ترى» بفتح تاء الخطاب ، ونصب «مساكنهم» أي لا ترى أنت أيها المخاطب ، وقرأ الجحدري ، والأعمش ، وابن أبي اسحق ، والسلمي ، وأبو رجاء بضم التاء الفوقية ورفع «مساكنهم». (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الهائل (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) وهذا تخويف لكفار مكة ، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد قررنا عادا في أمر عظيم لم نقرركم يا أهل مكة فيه من قوة الأبدان ، وطول الأعمار ، وكثرة الأموال ، ومع ذلك ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الدلائل ، وأبصارا فما استعملوها في تأمل العبر وأفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى ، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فما دفع عنهم هذه القوى شيئا من عذاب الله تعالى (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي لأجل أنهم كانوا ينكرون دلائل الله تعالى ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢٦) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه بطريق الاستهزاء ، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود ، وعاد أرض سذوم ، وسبأ ، ومدين ، والأيكة ، وقوم لوط ، وفرعون ، وأصحاب الرس (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كررناها لهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٧) أي لكي يرجعوا عن الكفر والمعاصي (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي فهلا خلصهم من العذاب الأصنام التي اتخذوها آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى ، (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي بل غابوا عنهم فنصرة آلهتهم لهم أمر ممتنع ، (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨) وذلك أي امتناع نصرهم أثر كذبهم الذي هو اتخاذهم الأصنام آلهة وأثر افترائهم الكذب على الله تعالى إثبات

٤١١

الشركاء له تعالى ، وقرأ ابن عباس «أفكهم» بفتح الهمزة وسكون الفاء ، وقرأ عكرمة ، والصباح «أفكهم» على صيغة الماضي أي ، وذلك الاتخاذ الذي هو ضياع آلهتهم عنهم ثمرته صرفهم عن الحق ، وقرأ أبو عياض ، وعكرمة أيضا «أفكهم» بتشديد الفاء ، وابن الزبير ، وابن عباس أيضا «آفكهم» بمد الهمزة أي جعلهم آفكين ، وقرأ ابن عباس أيضا «آفكهم» على صيغة اسم الفاعل بمعنى صارفهم (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي واذكر لقومك إذ وجهنا إليك جماعة كائنة من جن نصيبين في الجزيرة ، وهي بين الشام والعراق (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن عند تلاوته (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) أي اسكتوا لنسمعه.

روي أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ، ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلّا لنبأ حدث ، فنهض سبعة من نفر من أشراف جن نصيبين منهم : زوبعة ، فسافروا حتى بلغوا تهامة ، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي ، فاستمعوا لقراءته وذلك عند رجوعه من الطائف وذلك في السنة الحادية عشرة من النبوة ، (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ من تلاوة القرآن ، وقرأ أبو مجلز ، وأبو حبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل أي أتم الرسول قراءته ، (وَلَّوْا) أي رجعوا (إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٢٩). روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس : أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم. (قالُوا) عند رجوعهم إلى قومهم (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) أي قرآنا يقرأ (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). روي عن عطاء ، والحسن : إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا ، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى عليه‌السلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبله من كتب الأنبياء (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠) أي موصل إلى المقصود وهي الأعمال الصالحة (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كتابه ، (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يغفر الله بعض ذنوبكم ، وهو حق الله تعالى ، وحق الحربيين ، فهو يغفر بمجرد إسلام الظالم ولا يتوقف على الاستحلال من المظلوم الحربي ، أما مظالم العباد غير الحربيين فلا تغفر إلّا برضا أصحابها وهذه الآية تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس. قال مقاتل : ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس ، والجن قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣١) أي ويمنعكم الله من عذاب أليم معد للكفرة. قال ابن عباس : فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن ، فرجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوافوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) محمدا أو من يبلغ عنه (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) له تعالى (فِي الْأَرْضِ) بهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها ، أو دخل في أعماقها ، (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (أَوْلِياءُ) أي أنصار يدفعون عنه العذاب بالاستشفاع له ، أو الافتداء به (أُولئِكَ) أي من لا يجيبون داعي الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٢) أي ظاهر ، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن ،

٤١٢

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يتفكر كفار مكة ولم يعلموا علما جازما (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ابتداء من غير مثال (وَلَمْ يَعْيَ) أي لم يتعب (بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) وإنما جاز إدخال الباء على خبر «أن» لأنه في تأويل خبر «ليس» فكأنه قيل أليس الله بقادر؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى : (بَلى) هو قادر على إحياء الموتى (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣) فإن تعلّق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكنا في نفسه لما وقع أولا ، والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، فوجب كونه تعالى قادرا على إعادة الروح إلى الجسد ، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم : (أَلَيْسَ هذا) أي العذاب (بِالْحَقِ) أي بالعدل. (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) إنه الحق أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقيقة عذاب النار كما في الدنيا ، وأنّى لهم ذلك. (قالَ) الله لهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٤) أي بسبب كفركم في الدنيا (فَاصْبِرْ) أي إذا كان عاقبة أمر الكفار ما ذكر ، فاصبر على أذى قومك (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي كما صبر أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تقريرها ، وصبروا على تحمل مشاق معاداة الطاعنين فيها ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وقد ذكرهم الله على التعيين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وفي قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لكفار مكة بالعذاب فإنه نازل بهم لا محالة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي وعند نزول العذاب بهم في الآخرة يستقرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار ، لطول مدة العذاب ولهول ما عاينوه من شدة العذاب ، والمعنى : أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة يسيرة من النهار ، أو كأنه لم يكن (بلغ) أي هذا الّذي وعظمتم به كفاية في الموعظة ، أو هذا القرآن كفاية فيها.

وقرأ زيد بن علي ، والحسن ، وعيسى «بلاغا» نصبا إما على المصدر أي بلّغ أيها الرسول بلاغا ، كما يؤيده قراءة أبي مجلز بلغ أمرا وإما على النعت «لساعة» ، وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه وصف «لنهار» على حذف مضاف أي ذي بلاغ أي أجل ، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) أي فلا يهلك بالعذاب إلّا الخارجون عن الاتعاظ به ، والعمل بموجبه ، وقرأ ابن محيصن «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما ، وقرأ زيد بن ثابت «يهلك» بضم الياء وكسر اللام ، والفاعل الله وبنصب «الفاسقين» و «نهلك» بنون العظمة ، ونصب «القوم» ووصفه ، قال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صفحة ، ثم تغسل وتسقى منها وهي : بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلّا الله العظيم الحليم الكريم سبحان الله ، ورب السموات ، ورب الأرض ، ورب العرش العظيم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلّا عشية ، أو ضحاها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) الآية والله أعلم.

٤١٣

سورة القتال

وتسمى سورة محمد وسورة الّذين كفروا ، مكية ، تسع وثلاثون آية ، خمسمائة

وتسع وثلاثون كلمة ، ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا عن الإسلام ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل كالمطعمين الجيش يوم بدر منهم : أبو جهل ، والحرث ابنا هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، ومنبه وغيرهم (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) أي أبطل الله أعمالهم فلم يبق لهم عمل بر لأنها لم تكن لله ، ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيما بينهم وبين ربهم (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي الحق النازل من ربهم ، (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢) أي حالهم ونياتهم ، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة ، ثم يتنبه ، ويندم ، ويقف بين يدي ربه معترفا بذنبه مستحقرا لنفسه ، فصار الذنب شرطا للندم ، والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ذلك إضلال الأعمال ، وتكفير السيئات ، وإصلاح البال كائن بسبب أن الكفار اتبعوا الشيطان ، وبسبب أن المؤمنين اتبعوا أمر الله ، وقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) أما متعلق بـ «اتبعوا» الأخير أي من فضل ربهم أو من هدايته ، أو متعلق بالأمرين جميعا أي اتبع هؤلاء الحق من حكم ربهم.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣) أي مثل هذا البيان يبين الله للناس أحوالهم العجيبة بإحباط الأعمال للكفر ، ويغفر الذنوب بالإيمان والفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة ، وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الباطل ، والآخر يكون فيه اتباع الحق كإطعام الطعام ، وقد يختلفان في الظاهر والباطن كمن يؤمن ظاهرا وهو يسر الكفر ، ومن يكفر ظاهرا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان ، وقد علم سبب ثبوت الحكم ، وهو اتباع الحق والباطل فكل أمر اتبع فيه الحق كان مقبولا مثابا عليه ،

٤١٤

وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودا معاقبا عليه ، فصار هذا عاما في الأمثال (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فإذا لقيتم الكفار في المحاربة يوم بدر ، فاضربوا أعناقهم أي فاقتلوهم بأي طريق أمكنكم (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي حتى إذا أضعفتموهم بالجراح فاستوثقوا الأسر (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون منا عليهم بإرسالهم من غير فداء بعد أسرهم وشد وثاقهم ، وإما تفدون فداء بمال ، أو أسرى مسلمين (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي حتى تضع أهل الحرب آلات الحرب أي حتى تنقرض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزبا من أحزاب الإسلام (ذلِكَ) أي ذلك المذكور واجب (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي لانتقم من الكفار من غير قتالكم ببعض أسباب الهلكة كالخسف ، (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل يكلفهم بالقتال ليحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر ، ويختبركم بالكفار لتجاهدوهم لاستحقاق العظيم ، وليختبرهم بكم ليعالجهم ببعض العذاب على أيديكم كي يرتدع بعضهم عن الكفر ، (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤) ، قرأ أبو عمرو ، وحفص «قتلوا» مبينا للمجهول أي والذين استشهدوا في طاعة الله يوم بدر فلن يضيع الله أعمالهم أي لا تخافوا القتل ، فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر ما لا يمنع المقاتل من القتال ، بل يحثه عليه ، وقرأ الباقون قاتلوا أي جاهدوا لإعلاء دين الله سواء قتلوا أو لم يقتلوا ، (سَيَهْدِيهِمْ) في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٥) أي حالهم في الدنيا والآخرة بأن يقبل الله أعمالهم ويرضي خصماءهم يوم القيامة ، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦) أي إذا دخلوها يقال لهم : تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم ، وقال ابن عباس : أي طيبها لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي إن تنصروا دين الله وحزب الله (يَنْصُرْكُمْ) على أعدائكم ، (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧) أي يثبتكم في مواضع الحرب وعلى محجة الإسلام (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) أي فألزمهم الله هلاكا وعثارهم واجب لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها على النصرة ، (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨) أي أبطل نفقاتهم يوم بدر (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي ذلك الهلاك وإبطال الأعمال بسبب أنهم كرهوا القرآن لما فيه من بيان التوحيد وبيان أمر الآخرة (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩) أي فأبطل حسناتهم فلو عملوها مع الإيمان لأثبتوا عليها (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسافروا في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلك الله ما يختص بهم من أنفسهم ، وأهليهم ، وأموالهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (١٠) أي ولقوم محمد أمثال تلك العاقبة ، فأهلكوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وأسروا بأيدي من كانوا يستضعفونهم ، وذلك الألم من الهلاك بسبب عام (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي ثبوت هلاك أمة محمد كالأمم السالفة بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين على

٤١٥

أعدائهم. وقرئ «ولي الذين» إلخ (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١) أي وأن الكافرين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فالأنهار يتبعها الأشجار ، والأشجار يتبعها الثمار ، والماء سبب حياة العالم والمؤمنون ينظرون إليه وينتفعون به ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون في الدنيا بمتاعها (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) فلا يهمهم إلا أكل الملاذ ولا يستدلون بالمأكولات على خالقها ولا يعلمون عاقبة أمرهم كالأنعام ، فإنها لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢) فيتقلبون في النار ويتضررون بها (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) أي وكم من أهل قرية كذبوا رسلهم أهلكناهم وهم أشد قوة من أهل قريتك الّذين كانوا سببا لخروجك من بينهم (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣) من إهلاكنا كذلك نفعل بأهل مكة فاصبر كما صبر رسل أولئك (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤) أي أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة من مالك أمره وهو القرآن وسائر الحجج العقلية كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا واتبعوا أهواءهم الزائغة وانهمكوا في فنون الضلالات (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) و «مثل» مبتدأ وخبره «فيها أنهار» ، وهو عين المبتدأ لأن اشتمال الجنة على أنهار من كذا وكذا صفة لها ، وقيل : والخبر مقدر والتقدير : وفيما نقص عليكم مثل الجنة ، وعلى هذا فالوقف على «المتقون» كاف والجملة بعده مفسرة لمثل (مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغيّر ريحه وطعمه حتى في البطون ، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة والباقون بمدها ، (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم ، فلو أراد تغيره من أصل خلقته لشهوة اشتهوها تغير ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) بأسرهم فليس فيها كراهة الطعم لهم وهي لمجرد الالتذاذ فقط (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من شمع وغيره.

روي عن كعب الأحبار أنه قال : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر ، نهر خمرهم ، ونهر سيحان وجيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر ، (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولأهل الجنة في الجنة زوجان من كل الثمرات ، (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ولهم فيها رفع تكليف عنهم فيأكلون ، ويشربون من غير حساب ، ولا عقاب ، ورفع قبيح ، ومكروه فلا يحتاجون إلى غائط ، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات بخلاف الدنيا ، فإن للأكل توابع ولوازم لا بد منها (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أمن هو خالد في هذه الجنة حسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي حارا (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥) أي مباعرهم لحدة تكون في ذلك الماء من فرط الحرارة ، وقوله تعالى : (عَلى بَيِّنَةٍ) في مقابلة (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِ) في مقابلة (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) و (الْجَنَّةِ) في مقابلة النار والثمار في الجنة في مقابلة الزقوم في

٤١٦

النار والماء الحميم في مقابلة الأنهار وقطع الأمعاء في مقابلة المغفرة لأن المغفرة التي في الجنة على أحد الوجوه هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة ، والأمراض كأنه تعالى قال للمؤمن : أكل وشرب لا يجتمع في جوفهم ، فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء الحاجة ، وللكافر ماء حميم. ففي أول ما يصل إلى جوفهم يقطع مصارينهم ويشتهون خروجه من جوفهم فخرجت المصارين من أدبارهم ، ثم الوجه في توحيد الضمير العائد إلى «من» وجمعه أن يقال المسند إلى «من» إذا كان متصلا فرعاية اللفظ أولى لأنه مسموع ، وإذا كان مع انفصال فرعاية المعنى أولى لأنه لا يسمع ، بل يبقى في ذهن السامع فالحمل في الانفصال على المعنى ، وهو جمع الضمير أولى ، وحمل الاتصال على اللفظ ، وهو إفراد الضمير أولى. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) أي ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إلى خطبتك يوم الجمعة فإذا خرجوا من المسجد قالوا للعلماء من الصحابة منهم ابن مسعود ، وابن عباس استهزاء بما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي شيء قال محمد على المنبر الساعة الماضية القريبة منّا لا نعمل بقوله لأنه قول ساقط لا يعتد به ، وقرأ البزي بخلاف عنه بقصر الهمزة (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦) أي أولئك التاركون اتباع الحق هم الذين أمات الله قلوبهم فلم تفهم فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) أي والذين اهتدوا بالإيمان زادهم الله تعالى على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ، وخلق الله فيهم كمال التقوى فلا يخافون معها لومة لائم ويتنزه العارفون عما يشتغل أسرارهم عن الحق ويتبتلون إليه ، (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨) و «أن» تأتيهم بدل اشتمال من «الساعة» و «أني» خبر مقدم و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر والمعنى : أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية ، ولا بالإخبار بإتيان الساعة ، وعظائم الأهوال فيها فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة فجأة إذ قد جاءت علاماتها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا مجالة فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة ، أي لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الايمان حينئذ.

وقرئ «إن تأتيهم» على أن «إن» شرط مستأنف جزاؤه فإني لهم إلخ والمعنى أن تأتيهم الساعة بغتة لأنه قد ظهرت أماراتها كرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانشقاق القمر ونحوهما فكيف لهم اتعاظهم إذا جاءتهم ، (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة. ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على العلم بالوحدانية والعمل بموجبه ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو ترك الأفضل أو ضرب اليهودي زيد بن السمين ، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث حالات : حال مع الله ، وحال مع نفسه ، وحال مع غيره ، والمعنى : فوحد الله ، واطلب العصمة من الله لنفسك ، واطلب الغفران من الله للمؤمنين والمؤمنات ، ومعنى

٤١٧

طلب الغفران طلب عدم الافتضاح ، ولذلك قد يكون بالعصمة من القبيح كما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يكون بالستر على القبيح بعد وجوده كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩) أي يعلم أحوالكم في الدنيا ومواطن إقامتكم في الآخرة إما في الجنة أو في النار (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إذ تأخر عنهم التكليف خوفا من أن لا يؤهلوا للعبادة (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي هلا نزلت سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق ، (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي لم تنسخ (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي وذكر فيها الأمر بالقتال فإنه أشق تكليف ، وقرئ و «ذكر فيها القتال» على بناء الفعل للفاعل وهو الله تعالى ، وعلى نصب «القتال» ، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي تشخص أبصارهم نحوك عند ذكرك للقتال شخوصا مثل شخوص من أصابته غشية الموت من كراهية قتالهم مع العدو ، (فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠) أي قاربهم ما يهلكهم ، أو فالهلاك لهم وهذا تهديد لهم من عذاب الله تعالى ، أو يقال فالموت أولى لهم ، فإن الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة الله ورسوله (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة مخلصة وقول حسن خير لهم ، وقيل : هذا حكاية لقولهم ويدل عليه قراءة أبيّ «يقولون طاعة وقول معروف» أي يقول المنافقون أمرنا طاعة وكلام حسن لمحمد عليه الصلاة والسلام (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي فإذا جد الأمر خالفوا موعدهم وتأخروا عنه (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١) أي فلو صدقوا الله تعالى في إيمانهم واتباعهم الرسول لكان الصدق خيرا لهم ، أو فلو صدقوا الله في ذلك القول ، وأطاعوا الله ورسوله لكان الصدق خيرا لهم ، وقيل : إن جملة «فلو صدقوا الله» إلخ جواب إذا مثل قولك : إذا حضرني طعام ، فلو جئتني لأطعمتك. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢) أي إن كنتم تتركون القتال وتعرضون عنه وتقولون : إن في القتال إفسادا وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلّا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء هو عادة العرب ، وهذه الآية إشارة إلى فساد قولهم : كيف نقاتل والقتال إفساد ، العرب من ذوي أرحامنا ، فقال تعالى : إن أعرضتم عن القتال فلا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض ، فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنبهونه ، والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم ، فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله به وهذا القتال مع الكفار طاعة ، وقيل : إن توليتم من الولاية ، والمعنى : فلعلكم يا معشر المنافقين تتمنون إن صرتم أمراء على الناس وصاروا بأمركم أفسدتم في الأرض بالقتل والمعاصي ، وقطعتم الأرحام بإظهار الكفر ويؤكد هذا القول قراءة من قرأ «وليتم» على البناء للمفعول أي وإن جعلتم ولاة ظلمتم بأخذ الرشا ، ونحوه ، وقراءة علي رضي‌الله‌عنه «توليتم» والمعنى ان تولاكم والمعنى : إن تولاكم ولاة ظلمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم.

وقرئ تقطعوا بحذف إحدى التاءين من التقطع فانتصاب أرحامكم ، حينئذ على نزع الجار

٤١٨

أي في أرحامكم وقرئ و «تقطعوا» من القطع (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم الله عن الخير (فَأَصَمَّهُمْ) فلا يسمعون الكرم المستبين (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣) فلا يتبعون الصراط المستقيم ، فمن حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم صم وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفسادا وقطعا للرحم ، وهم كانوا يتعاطونه عند النهي فتركوا اتباع النبي الّذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤) أي فلا يتدبرون القرآن لكونهم مبعدين منه ، ومن كل خير أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون فلا تدخل معانيه في قلوبهم (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي أن الذين رجعوا إلى الكفر من بعد ما ظهرت لهم الدلائل وسمعها ، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الشيطان زيّن لهم الرجوع إلى دينهم ، وسهل لهم اقتراف الكبائر.

وقرئ «سول» مبنيا للمفعول على حذف المضاف أي كيد الشيطان زيّن لهم (وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥) أي ومد الشيطان لهم في الآمال فيقول لهم : إن في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر أعماركم ، وقيل : أمهلهم الله تعالى ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ، وقرأ أبو عمرو «وأملى لهم» على البناء للمفعول أي أمهلوا ومد في أعمارهم ، والباقون على البناء للفاعل ، والفاعل إما الشيطان ، فإن الله قدر على لسانه ويده ذلك التزيين ، أو الله تعالى كما تقدم. وقرئ «وأملى لهم» على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم ، وأنا أنظرهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي ذلك الارتداد بسبب أن المنافقين قالوا سرا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) كالقعود عن الجهاد ، والموافقة في الخروج معكم عن الديار إن خرجتم منها ، ولا نطيعكم في إظهار الكفر قبل قتالكم ، وإخراجكم من دياركم ، وهذا عبارة عما حكى عنهم بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الحشر : ١١] وهم بنو قريظة والنضير الذين كان المنافقون يوادونهم ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦) ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص بكسر الهمزة أي إخفاءهم لما يقولونه ، والباقون بفتحها أي جميع أسرارهم ، (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢٧) أي فكيف يصنعون إذا قبضتهم الملائكة في حال أنهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ، فإنهم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل ، وقرأ الأعمش «توفاهم» على أنه ماض أو مضارع حذف إحدى تاءيه (ذلِكَ) أي الضرب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر والمعاصي (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) من الإيمان والطاعة أي تضرب وجوههم لأنهم أقبلوا على سخط الله كإنكار الرسول

٤١٩

وإدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله كالإقرار بالرسول وبدين الإسلام وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره». (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨) أي فأبطل الله حسناتهم يقال : نزلت الآيات من قوله تعالى : (الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) إلى هاهنا في شأن المنافقين الذين رجعوا من المدينة إلى مكة مرتدين عن دينهم ، ويقال نزلت في شأن الحكم بن أبي العاص المنافق وأصحابه الذين شاوروا فيما بينهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يخطب يوم الجمعة في أمر الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إن ولينا أمر هذه الأمة نفعل كذا وكذا ولا يستمعون إلى خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قالوا بعد ذلك لعبد الله بن مسعود : ماذا قال محمد الآن على المنبر استهزاء منهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩) أي أحسب المنافقون أنه لن يعلم الله أسرارهم أم حسبوا أنه لن يظهر الله أحقادهم على المؤمنين لرسوله ، وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة فـ «أم» استفهامية والمعنى : أن ذلك الإظهار ما لا يكاد يدخل تحت الشك ، (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو أردنا لعرفناكهم تعريفا معه المعرفة فتعرفهم بعلامتهم القبيحة ، وعن أنس رضي‌الله‌عنه قال : ما خفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق ، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول فيفهمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يفهمه غيره ، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى في إظهار أمرهم وفي المنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم ، (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) فيجازيكم بحسب قصدكم ، وهذا وعد للمؤمنين ، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافقين ، فكان للمنافق قول بلا عمل ، وللمؤمن عمل ولا يقول به ، وكان المؤمن يعمل الصالحات ويتكلم في السيئات مستغفرا ، وكان المنافق يتكلم في الصالحات ويعمل السيء والله تعالى يسمع الأقوال الفارغة من المنافقين ويعلم الأعمال الصالحة منكم ولا يضيع ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد والتكاليف الشاقة (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) أي حتى نعلم المقدمين على الجهاد (وَالصَّابِرِينَ) على مشاق الجهاد أي الذين لا يولون الأدبار (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١) أي ونظهر أخباركم من حسن أعمالكم وقبحها.

وقرأ شعبة في الأفعال الثلاثة بالياء التحتية مسندا لضمير راجع إلى الله ، وقرئ ونبلو بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل الكتاب قريظة والنضير أو من كفار قريش (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا عن دين الله وصرفوا الناس عن طاعة الله (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي خالفوه وعادوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) وهو نعت محمد في التوراة وما ظهر على يديه من المعجزات ، وما نزل عليه من الآيات (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تنزه الله تعالى عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق ، (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٣٢) أي مكايدهم في القتال وفي إبطال دين الله

٤٢٠