مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الأهل ، اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا». وكان إذا رجع إلى أهله يقول : «آئبون تائبون لربنا حامدون» (١). (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي أثبتوا أي بنو مليح له تعالى ولدا هو عبد من عباده (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (١٥) أي لمبالغ في الكفر ظاهر الكفر (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) (١٦) أي بل اتخذ من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما ، (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (١٧) أي وإذا أخبر أحد بني مليح بالبنت التي جعلها للرحمن شبها صار وجهه أسود من أحزان ما أخبر به ، والحال أنه مغموم. أفيرضون لله ما لا يرضون لأنفسهم؟

وقرئ «مسود» و «مسواد» واسم «ظل» إما ضمير يعود إلى أحد وجملة وجهه مسود من المبتدأ والخبر ، خبرها وإما وجهه فسمود خبر مبتدأ مقدر أي هو مسود فتقع هذه الجملة موقع خبر ظل.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٨) أي أو جعلوا من عاداتها أن تربى في الزينة من الذهب والفضة ولدا لله ، فالتي تتربى في الزينة تكون ناقصة الذات إذ لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت في تكميل نفسها إلى الزينة ، والحال أنها إذا احتاجت إلى المخاصمة عجزت عن إقامة الحجة لضعف لسانها ، وقلة عقلها ، وبلادة طبعها ، وهي النساء ، فكيف يليق أن يكن بنات الله تعالى؟ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضم الياء وفتح النون والباقون بفتح الياء وسكون النون.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي حكموا بأن الملائكة أكرم العباد على الله أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا ، فالقول بأن الملائكة إناث كفر. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» أي وحكموا بأن الملائكة الذين يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار إناث فكيف عرفوا كونهم إناثا؟

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم ، فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم. وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزتين مفتوحة ومضمومة وسكون الشين ، وأدخل قالون بينهما ألفا أي أأحضروا خلقهم. أي حين خلقهم (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) في ديوان أعمالهم وهي قولهم : «إن لله جزءا وان له بنات وإنها الملائكة. (وَيُسْئَلُونَ) (١٩) عنها يوم القيامة ، (وَقالُوا) أي بنو مليح (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء الله عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم فما فعلناه من عبادتنا إياهم حق مرضي عنده تعالى ، (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أي القول

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب : ما يقول الرجل إذا سافر ، وأحمد في (م ١ / ص ١١٥).

٣٨١

(مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢٠) أي ما هم إلا يكذبون في ذلك القول ، وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، وأن الله قد شاء منا عبادتنا إياهم بمشيئة الارتضاء (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (٢١) أي هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يتمسكوا به ، (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢) أي لم يأتوا بحجة عقلية ، أو نقلية ، بل اعترفوا بتقليد آبائهم الجهلة ، وقالوا : إنا وجدنا آباءنا على حالة عظيمة تقصد ، وإنا مهتدون على أعمالهم (وَكَذلِكَ) أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد. (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي ما أرسلنا نبيا مخوفا من قبلك إلى أهل قرية إلا قال من يحبون الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق قولا مثل قول قومك : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة تستحق أن تقصد ، (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) أي أعمالهم (مُقْتَدُونَ) (٢٣) قل : يا أشرف الرسل لقومك ، قال أبو السعود صيغة الأمر أمر ماض متعلق بالنذير السابق ، حكاه الله لنبيه على تقدير «فقلنا له قل» لا أنه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدل على ذلك أنه قرأ ابن عامر وحفص «قال» بصيغة الماضي أي قال كل نذير لأممهم : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدين أوضح في الدلالة من دين آبائكم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٢٤) أي قال : إنّا كل أمة لنذيرها ثابتون على دين آبائنا وان جئتنا بما هو أصوب ، فإنّا بما أرسلت به منكرون وإن كان ما جئتنا به أوضح مما كنا عليه. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالاستئصال (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥) بالرسل من الأمم الماضية فلا تكترث بتكذيب قومك ، (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ) آزر (وَقَوْمِهِ) المكبين على التقليد (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي أنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي خلقني ، وبراء مصدر ، نعت به مبالغة وقرأ الزعفراني ، وابن المنادي بضم الباء ، وقرأ الأعمش إني بريء بنون واحدة وبصيغة اسم الفاعل. (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٢٧) أي يثبتني على الهداية ، والسين للتأكيد ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها كلمة باقية في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، فقوله عليه‌السلام : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جار مجرى لا إله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جار مجرى إلّا الله ، فكان مجموع قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى قوله : لا إله إلّا الله ، وعلى هذا لا يوقف على قوله : (مِمَّا تَعْبُدُونَ) وقرئ «كلمة» و «في عقبه» بسكون اللام وسكون القاف.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم ، (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) أي بل متعت منهم أهل مكة ، (وَآباءَهُمْ) بطول العمر وسعة الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) (٢٩) أي ظاهر الرسالة يوضحها بما معه من الآيات والمعجزات فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولذا قال تعالى : (وَلَمَّا

٣٨٢

جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي خيال (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) (٣٠) فكفروا بالقرآن واستحقروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحدى القريتين مكة ، والطائف (عَظِيمٍ) (٣١) في المال والجاه فالذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي نبوة ربك لمن شاءوا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الرزق (دَرَجاتٍ) أي متفاوتة (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة ، والضعف ، والعلم ، والجهل ، والحذاقة ، والبلاهة ، والشهرة ، والخمول فلو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا ، وحينئذ يفضى ذلك إلى فساد نظام الدنيا ، وخراب العالم ، ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا في أحوال الدنيا مع دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض العباد بمنصب النبوة ، فكما فضلنا بعضهم كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا ، (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) من النبوة وسعادة الدارين (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢) من الأموال ، فالعظيم من حاز النبوة لا من حاز الأموال الكثيرة (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) (٣٤) أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر ـ إذا رأوا أهل الكفر في سعة من الرزق لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه ـ لأعطينا الكافرين أكثر الأسباب المفيدة للتنعم ولجعلنا سقف بيوتهم من فضة ، ومصاعد من فضة يرتقون عليها ، وأبواب بيوتهم من فضة ، وسررا من فضة ينامون عليها (وَزُخْرُفاً) أي زينة من كل شيء في كل شيء ، وهو معطوف على «سقفنا» ، ويجوز أن يكون معطوفا على محل فضة ، أي جعلنا بعض هذه الأشياء فضة ، وبعضها ذهبا.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «سقفنا» بفتح السين وسكون القاف ، والباقون بضمهما ، وقرئ معاريج (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة «لما» بتشديد الميم ، فهو بمعنى إلا و «إن» نافية كما في قراءة أبي وما ذلك أي وما كل ما ذكر إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا ، والباقون بالتخفيف فـ «ما» زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة ، واللام فارقة أي وأنه كل ذلك متاع الحياة.

وقرئ بكسر اللام وهي تعليل و «ما» موصولة قد حذف عائدها أي للّذي هو متاع الحياة (وَالْآخِرَةُ) أي ما فيها من فنون النعم (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥) أي عن الكفر والمعاصي ، فإن العظيم هو العظيم في الآخرة ولا في الدنيا (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) بضم الشين أي ومن يعرض عن القرآن وقرئ «يعش» بفتح الشين أي يعم ، وبالكسر أي يميل وقرئ «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، والمعنى ومن يعرف أن القرآن حق وهو يتجاهل (نُقَيِّضْ لَهُ) أي نضم إليه (شَيْطاناً فَهُوَ) أي الشيطان (لَهُ قَرِينٌ) (٣٦) في الدنيا وفي النار.

٣٨٣

روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار وقرئ «يقيض» بالياء ، والفاعل يعود إلى الرحمن ومن قرأ «يعشو» فحقه أن يرفع «يقيض» (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي وأن الشياطين ليصرفون قرناءهم عن سبيل الحق ، (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٧) أي والحال أن الكفار المعرضين عن القرآن يعتقدون أنهم على هدى (حَتَّى إِذا جاءَنا) أي جاءنا كل واحد من العاشين مع قرينه الشيطان يوم القيامة في سلسلة واحدة وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، «جاءانا» على صيغة التثنية أي جاءنا العاشي والشيطان. (قالَ) أي العاشي مخاطبا لشيطانه (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي ليت حصل بيني وبينك في الدنيا مثل بعد ما بين المشرق والمغرب. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣٨) أنت فكثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا فظهر أن قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) كلام فاسد ، (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) وفاعل ينفع أما «أنكم» ومدخولها و «إذ ظلمتم» أما بدل من اليوم والمعنى «ولن ينفعكم اليوم» إذ تبين الآن عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بالإشراك بالله كونكم مشتركين في العذاب ، بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٨] ، وأما مضمر يعود إلى التمني و «إذ ظلمتم» تعليل لنفي النفع وكذلك «أنكم» بفتح الهمزة ويؤيد هذا الاحتمال قراءة ابن عامر في رواية إنكم بكسر الهمزة ، والمعنى ولن ينفعكم يوم القيامة تمنيكم لمباعدتهم لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي لأن حقكم أن تشركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٠) أي أفأنت وحدك من غير إرادتنا تسمع الصم الحق وتهدي من تمرنوا في الضلال إلى الهدى أي انهم بلغوا في النفرة عن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمين فإن صممهم وعماهم كانا بسبب كونهم في كفر بيّن (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (٤١) أي فإن قبضناك قبل نزول النقمة بهم فإنّا منتقمون منهم بعد موتك في الدنيا والآخرة ، (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢) أي أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فلا يعوقنا عائق لأنّا قادرون على عذابهم قبل موتك وبعده ، (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه ، وقرئ أوحي بالبناء للفاعل وهو الله تعالى. (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٣) لا يميل عنه إلا ضال في الدين ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وأن الّذي أوحي إليك لموجب شرفا عظيما لك ، ولقريش حيث يقال : إن هذا الكتاب أنزله الله تعالى على رجل متهم ، (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٤٤) هل أديتم شكر أنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ

٣٨٤

الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) أي واسأل مؤمني أهل التوراة والإنجيل هل جاءت عبادة الأوثان في ملة من مللهم بأمرنا فإنهم يخبرونك عن كتب الرسل فإذا سألتهم فكأنك سألت الأنبياء فما جاءت الرسل إلّا بالتوحيد فلم يسألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان موقنا بذلك ، وإذا كان التوحيد متفقا عليه بين الرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ، وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه‌السلام (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي قومه (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٦) إليكم فقالوا له : ائت بآية (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (٤٧) أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها ، (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي إلّا وهي أعظم من الآية التي كانت قبلها في زعم الناظر (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بأنواع العذاب كالدم ، والقمل ، والضفادع ، والبرد الكبار ملتهبا بالنار ، وموت الأبكار (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤٨) أي لكي يرجعوا عن كفرهم إلى الإيمان (وَقالُوا) لموسى لما رأوا العذاب (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي العالم الماهر ـ يوقرونه عليه‌السلام بذلك القول لاستعظامهم على السحر ـ (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ليكشف عنّا العذاب (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بالّذي عهد لك وكان عهده لموسى إن آمنوا كشفنا عنهم العذاب (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) (٤٩) أي لمؤمنون بك وبما جئت به ، (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) بدعوته عليه‌السلام (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٥٠) عهدهم في كل مرة من مرات العذاب أي فكانوا يتوبون في كل واحدة من العذاب فإذا انكشف عنهم نقضوا العهد بالإيمان ، (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) أي فيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) أربعين فرسخا في أربعين فرسخا؟ قال : مجاهد هي الاسكندرية ، (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) التي فصلت من النيل ومعظمها أربعة أنهر نهر : الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي من تحت قصري (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥١) ذلك ، فقد احتج فرعون على فضيلة نفسه بكثرة أمواله وقوة جاهه (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي بل أنا خير من موسى الذي هو فقير ضعيف الحال لأنه يتعاطى أموره بنفسه ، (وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٥٢) أي يظهر حجته التي تدل على صدقة فيما يدعي (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهل ألقي على موسى من عند مرسله مقاليد الملك إن كان صادقا في دعواه لأن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا رئيسا ألبسوه سوارا من ذهب وطوقا من ذهب ، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة. وقرأ حفص أسورة ، والباقون أساورة ، وقرئ ألقى عليه اسورة وأساورة على البناء للفاعل ، وهو الله تعالى (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (٥٣) أي أو هلا جاء الملائكة ماشين مع موسى فيدلون على صحة نبوته (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي فطلب فرعون من قومه الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به ، (فَأَطاعُوهُ) فيه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٤) حيث سارعوا إلى طاعة ذلك الجاهل الفاسق ، (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي فلما أغضبوا نبيّنا موسى ، ومالوا إلى إرادة عقابنا بالإفراط في العصيان عاقبناهم ،

٣٨٥

(فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٥) في البحر ، (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي متقدمين ليتعظ بهم كفار أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام والباقون بفتحهما ، (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦) أي عظة لمن بقي بعدهم ، وقصة عجيبة لهم ، (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أي لما جعل عيسى مشابها للأصنام في كونه معبودا (إِذا قَوْمُكَ) قريش (مِنْهُ) أي من ذلك المثل (يَصِدُّونَ) (٥٧) أي يضحكون وترتفع أصواتهم فرحا بما سمعوا من ابن الزبعري لظنهم أن محمدا صار مغلوبا بهذا الجدال.

روي أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال عبد الله بن الزبعري : هذا خاصة لنا ولآلهتنا ، أو لجميع الأمم؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال عبد الله : خصمتك ورب الكعبة ، أليس النصارى يعبدون المسيح ، واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة ، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن والهتنا معهم؟! فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرح القوم وضجوا فنزلت هذه الآية. وعبد الله هذا صحابي مشهور ، وهذه القصة كانت قبل إسلامه ، وقرأ نافع وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب ، والباقون بكسرها هو قراءة ابن عباس. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي إن جاز لعيسى الدخول في النار مع النصارى يجوز لنا الدخول في النار مع آلهتنا وأنت تزعم أن آلهتنا ليست خيرا من عيسى ، فإذا كان هو من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. وقيل : إن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا : نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة.

فقولهم : أآلهتنا خير أم هو تفضيل لآلهتهم على عيسى ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح ، قالوا : إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا قالوا : يجب عبادة هذه الأصنام ، فحينئذ عبادة الأصنام أولى لأن آباءنا متطابقون عليه. وإما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فمعنى أآلهتنا خير أم هو أي أعبادة الأصنام خير أم عبادة محمد والوقف على «أم» هو تام. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما ضربوا لك هذا المثل إلّا لأجل الغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨) أي شداد الخصومة مجبولون على اللجاج ، فإن قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) لا يتناول عيسى والملائكة لأن كلمة «ما» لا تتناول العقلاء ألبتة ولأن النصوص الدالة على تعظيم عيسى والملائكة أخص من هذا القول. والخاص مقدم على العام.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) أي ما عيسى إلّا عبد كسائر العبيد شرفناه بالنبوة والإقدار على الخوارق ، وليس هو باله وصيرناه عبرة عجيبة حيث خلقناه من غير أب ليعرفوا تمييزنا بالقدرة الباهرة ، (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (٦٠) أي ولو

٣٨٦

نشاء لجعلنا من رجالكم ملائكة مستقرين في الأرض بطريق التوليد من غير واسطة نساء يخلفونكم كما تخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى بلا فحل ، فهذا أمر سهل علينا مع أنه أعجب من حال عيسى الذي تستغربونه ، فإنه بواسطة أمّ ، وشأن الأم الولادة ، (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي وأن عيسى لشرط من أشراط الساعة ، والمعنى : وأن نزول عيسى من السماء علامة على قرب الساعة.

وقرأ ابن عباس «لعلم» بفتح العين واللام أي علامة ، وقرئ «للعلم» ، وقرأ أبي «لذكر» وفي الحديث : أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق ، وبيده حربة وبها يقتل الدجال ، فيأتى بيت المقدس والناس صلاة الصبح ، فيتأخر الإمام ، فيقدمه عيسى عليه‌السلام ويصلّي خلفه على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يقتل الخنازير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيع ، والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن به (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي فلا تشكن في وقوع الساعة (وَاتَّبِعُونِ) أي واتبعوا هداي أو رسولي (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) أي الّذي أدعوكم إليه (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) أي موصل إلى الحق (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن اتباعي (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٢) أي أنه قد بانت عداوته لكم لأجل أنه هو الّذي أخرج أباكم من الجنة ، ونزع عنه لباس النور ، (وَلَمَّا جاءَ عِيسى) إلى بني إسرائيل (بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات وبالشرائع الواضحات (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي بأصول الدين لأعلمكم إياها (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، وهي فرع الدين ، فإن قوم موسى قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكليف ، واتفقوا على أشياء ، فجاء عيسى ليبين لهم الحق في المسائل الخلافية. أما اختلافهم في الأشياء التي لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها (فَاتَّقُوا اللهَ) في الإعراض عن دينه (وَأَطِيعُونِ) (٦٣) فيما أبلغه إليكم من التكاليف. (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بالشرائع واعتقدوا وحدانيته تعالى أي التوحيد والتعبد بالشرائع (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦٤) لا يضل سالكه ، (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف الطوائف في عيسى بعد رفعه إلى السماء اختلافا ناشئا منهم ، فقال اليعقوبية : هو الله. وقال النسطورية : هو ابن الله. وقال الملكانية : هو شريك الله. وقال المرقوسية : هو ثالث ثلاثة. وقال اليهود : هو ابن زنا. (فَوَيْلٌ) أي شدة عذاب (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء المختلفين الذين وضعوا القول في غير موضعه (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦٥) هو يوم القيامة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٦٦) فـ «إن تأتيهم» بدل من الساعة أي ما ينتظر الناس إلا إتيان الساعة فجأة غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا. (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) أي المتحابون في الدنيا بعضهم عدو لبعض يوم إذ تأتيهم الساعة إلّا الموحّدين الذين يتحاب بعضهم بعضا على التقوى فإن مودتهم لا تصير عداوة ، فإن الذين حصلت بينهم محبة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا ولذاتها فهذه المطالب لا

٣٨٧

تبقى في القيامة ، بل تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة في القيامة وإن كان حصول المحبة في الدنيا لأجل الاشتراك في محبة الله وفي طاعته كانت هذه المحبة باقية في القيامة ، بل كأنها تصير أصفى ما كانت في الدنيا ، ويقول الله لهم : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) (٦٩) أي مخلصين لنا بالعبادة ، وقد روي في هذا الحديث : أن المنادي ينادي يوم القيامة : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فيرفع الخلائق رؤوسهم ، فيقولون : نحن عباد الله ، ثم ينادي الثانية : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) ، فينكس الكفار رؤوسهم ، ويبقى الموحدون رافعين رؤوسهم ، ثم ينادي الثالثة : (الَّذِينَ آمَنُوا) وكانوا يتقون ، فينكس أهل الكبائر رؤوسهم ، ويبقى أهل التقوى رافعين رؤوسهم قد زال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم الله لأنه أكرم الأكرمين والموصول صفة للمنادى ، أو نصب للمدح ، وعلى هذا لا يوقف على «تحزنون». أما إن جعل مبتدأ أو خبره مضمر فالوقف على «تحزنون» تام والتقدير يقال لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (٧٠) أي تكرمون بالتحف إكراما على سبيل المبالغة (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في قصاع من ذهب وكيزان من ذهب ، (وَفِيها) أي الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من الأشياء المعقولة ، والمسموعة ، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) من الأشياء المبصرة جزاء ما لا تحملوه من منع أعينهم من نظر ما لا يجوز شرعا.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص «تشتهيه» بإثبات العائد على الموصول ، والباقون بحذفه وقرئ و «تلذه» بالهاء.

(وَأَنْتُمْ فِيها) أي الجنة (خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧٢) أي أعطيتموها جزاء على عملكم الصالح في الدنيا (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٣) فلا تنفد أبدا. (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٧٤) خبر «إن» و «في عذاب» متعلقة به (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي لا ينقص العذاب عنهم (وَهُمْ فِيهِ) أي العذاب (مُبْلِسُونَ) (٧٥) أي آيسون من النجاة. وقرأ عبد الله «وهم فيها» أي في جهنم وهذه جملة حالية ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) بعذابهم ، (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦) لا ، قبال أنفسهم للعذاب الخالد بقصدهم عدم الانفكاك عن الكفر ما بقوا في الدنيا ، فـ «الظالمين» خبر كان ، وقرأ عبد الله وأبو زيد «الظالمون» على أنه خبر لـ «هم» والجملة خبر كان ، (وَنادَوْا) خازن النار (يا مالِكُ). قرأ ابن مسعود «يا مال» بحذف الكاف ، وهذا دليل على أنهم بلغوا في الضعف إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، والمعنى : سل ربك أن يميتنا لنستريح من العذاب ، وهذا تمن للموت لشدة عذابهم. (قالَ) أي مالك بعد أربعين سنة كما قاله عبد الله بن عمر ، وقيل : الضمير يعود

٣٨٨

إلى الله (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره. قال الله تعالى مقررا لجواب مالك ومبينا لسبب مكثهم (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) أي بالدين الحق في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٨) أي ينفرون عنه ويبغضونه (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (٧٩) أي أأتقن مشركو مكة أمرا في كيدهم برسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّا متقنون كيدنا حقيقة ، وكانوا يتشاورون في أموره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة. (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل يحسبون أنّا لا نسمع ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال وما تكلموا فيما بينهم (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (٨٠) أي بلى نسمعهما ونطلع عليهما ، والحال أن رسلنا وهم الحفظة الذين يلازمونهم أينما كانوا يكتبون عليهم كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) لذلك الولد ، فإن السلطان إذا كان له ولد يجب على عبده أن يخدمه كما يجب عليه أن يخدم السلطان والمعنى إن قام الدليل على ثبوت الولد له تعالى كنت مقرا بوجوب خدمته ، لكن لم يوجد الدليل على ثبوته ، بل الدليل القاطع قائم على عدمه ، فكيف أقر بوجوده؟ قال بعضهم : إن كلمة «إن» هاهنا نافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول المقرين من أهل مكة بأن ليس لله ولد وأنا أول الموحدين منهم أن لا شريك له تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «ولد» بضم الواو وإسكان اللام ، والباقون بفتحهما (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٨٢) من أن له ولدا (فَذَرْهُمْ) أي فاتركهم في ذلك الباطل حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي (فَذَرْهُمْ) أي يفعلوا في أباطيلهم ، (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٨٣) أي حتى يصلوا إلى اليوم الّذي يوعدون فيه بالعذاب ، وهو يوم القيامة ، (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي وهو الّذي هو معبود في السماء ، ومعبود في الأرض ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٨٤) فكونه بليغ الحكمة في تدبير خلقه وبالغا في العلم بمصالحهم ينافي حصول الولد له ، (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي دام الذي له ملكها وكثرت خيراته ، فعيسى ليس ولد الله تعالى لأنه حدث بعد أن لم يكن ، ثم إنه مات ولأنه محتاج إلى الطعام فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما؟! ولا مجانسة بين عيسى والباقي الغني عن كل شيء ، فامتنع كونه ولدا له تعالى ، (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم وقت قيامها ومن كان كاملا في الذات والعلم والقدرة امتنع أن يكون له ولد عاجز وعديم العلم في أحوال العالم بالحد الّذي وصفه النصارى ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥). وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد ، وقرئ «تحشرون» بالتاء.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) أي أن الملائكة وعيسى عزيرا الذين كانوا يعبدهم الكفار من دون الله لا يشفعون إلّا لمن شهد بالحق ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٨٦) بقلوبهم ما يشهدون به بألسنتهم.

٣٨٩

روي أن النضر بن الحرث ونفرا معه قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نعبد الملائكة ، فهم أحق بالشفاعة من محمد ، فأنزل الله هذه الآية ، ويقال : إن كل معبود من دون الله لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد أنه لا إله إلّا الله وهم الملائكة وعيسى وعزيرا فإن لهم شفاعة عند الله ، وهم يعلمون أن الله خلقهم وأنهم عباده ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي الكفار الذين ادعوا الشريك لله (مَنْ خَلَقَهُمْ) أي العابدين والمعبودين معا (لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٨٧) أي فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى ، ولم يكذبون على الله؟ حيث قالوا : إن الله أمرنا بعبادة الأصنام (وَقِيلِهِ) قرأ الأكثرون بالنصب على المصدر أي قال النبي قوله ، أو عطف على «سرهم» ، أو على محل الساعة ، وقرأ عاصم ، وحمزة بالجر عطف على «الساعة» أو أن الواو للقسم ، وقرأ الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد ، والحسن بالرفع عطف على «علم الساعة» ، أو مبتدأ وخبره ما بعده (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) (٨٨) بك وبرسولك قال تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي فأعرض عنهم بغير التبليغ ، وبالدعاء عليهم بالعذاب ، (وَقُلْ سَلامٌ) أي شأني الآن متاركة بسلامتكم مني ، وسلامتي منكم ، فهذا تباعد منهم ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩) ما يفعل بهم.

وقرأ نافع ، وابن عامر بتاء الخطاب على الالتفات لزيادة التهديد ، والتقريع ، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون. وهذه الآية غير منسوخة لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة ، فإذا أتي به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ.

٣٩٠

سورة الدخان

مكية ، تسع وخمسون آية ، ثلاثمائة وست وأربعون

كلمة ، ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وأن يكون المراد به اللوح المحفوظ ، وأن يكون المراد به القرآن ، وهذا يدل على غاية تعظيم القرآن. (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) قال الأكثرون : إنها ليلة القدر. وقال عكرمة ، وطائفة آخرون : إنها ليلة البراءة ، وهي ليلة النصف من شعبان ، ونقل محمد بن جرير الطبري عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لثنتي عشرة مضت منه ، والإنجيل لثمان عشرة مضت منه ، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان ، والليلة المباركة هي ليلة القدر ، وقد قيل : إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة مباركة ، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف ، وقيل : يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبريل ، وكذلك الزلازل ، والصواعق ، والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ، (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) أي مخوفين بالقرآن (فِيها) أي ليلة مباركة (يُفْرَقُ) أي يظهر للملائكة الموكلين بالتصرف في العالم (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) أي مبرم لا يحصل فيه تغيير ولا نقص ، بل لا بد من وقوعه في تلك السنة ، وقال الرازي : معنى الحكيم ذو حكمة ، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر ، والرزق ، والأجل ، والسعادة ، والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة.

وقرئ «يفرق» بالتشديد ، وقرئ «يفرق» على البناء للفاعل ، ونصب «كل» والفارق هو الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي «نفرق» بالنون (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) حال من فاعل «أنزلنا» أو من مفعوله. أي في حال كون القرآن أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل ، أو من أمر حكيم ، أو مفعول له

٣٩١

وناصبه إما «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» أي أو مصدر من معنى «يفرق» أي فرقا كائنا من عندنا (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٥) أي أنّا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين الأنبياء (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول له أي لأجل إفاضة رحمتنا على العباد ، والمعنى : إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ، أو بدل من «أمرا» فيجيء في «رحمة» ما تقدم من الأوجه في «أمرا». (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦) ، فإن المحتاجين للرحمة إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم وإما أن لا يذكروها ، فإن ذكروها فإنه تعالى سميع لكلامهم ، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بحاجاتهم ، (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بالجر بدل من ربك أو بيان عليه ، والباقون بالرفع عطف بيان على قوله : «السميع العليم» ، أو خبر آخر ، أو استئناف على إضمار مبتدأ (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٧) أي إن كنتم تريدون اليقين فاعرفوا أن الأمر كما قلنا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، وهذا تنبيه على تمام دلائل التوحيد (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨) بالرفع بدل ، أو بيان ، أو النعت لـ «ربّ» السموات».

وقرأ ابن محيصن ، وابن أبي اسحق ، وأبو حيوة ، والحسن بالجر على البدل ، أو البيان ، أو النعت لـ «رب» السموات» وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح ، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) أي ليسوا على يقين في إقرارهم بأن للسموات والأرض ربا وخالقا هو الله تعالى وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم فهم في شك (يَلْعَبُونَ) (٩) في دينهم بما يظهر لهم من غير حجة ، (فَارْتَقِبْ) أي انتظر يا أكرم الرسل عذابهم (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠) وهو ما أصابهم من شدة الجوع ، فإنهم لظلمة أبصارهم كأنهم يرون دخانا بين السماء والأرض ، فالمراد بالدخان هنا ـ ما قاله ابن عباس في بعض الروايات ، وابن مسعود ، ومقاتل ، ومجاهد واختاره الفراء ، والزجاج ـ هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لما كذبه قومه بمكة دعا عليهم ، فقال : «اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف» (١) فارتفع المطر ، وأجدبت الأرض ، وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام ، والكلاب ، والجيف فكان الرجل يرى بينه وبين السماء كالدخان لما به الجوع.

ونقل عن علي ، وابن عباس ، وابن عمرو ، وأبي هريرة ، وزيد بن علي ، والحسن أن المراد بالدخان هنا دخان يظهر في العالم في آخر الزمان يكون علامة على قرب الساعة يملأ ما بين المشرق والمغرب وما بين السماء والأرض. يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٤٧٠) ، وابن حجر في فتح الباري (٢ : ٤٩٢) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ : ٧١) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١ : ٩٦).

٣٩٢

كالزكام ، وأما الكافر فيصير كالسكران فيملأ جوفه ويخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقدت فيه النار ، وقال عبد الرحمن الأعرج أن المراد بالدخان هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء (يَغْشَى النَّاسَ) أي يشملهم وهو محل جر صفة لدخان. (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١) فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ، فالعذاب هو : القحط الشديد ، وإن قلنا التقدير : يقولون ربنا اكشف عنّا العذاب ، فالعذاب : هو الدخان المهلك الذي يدخل في أسماع الكفرة حتى يصير رأسهم كالرأس الحنيذ (١). (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (١٢) بمحمد وبالقرآن ، والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) أي كيف يتعظون بهذه الحالة ، والحال أنهم قد شاهدوا ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة وهي أعظم موجبات الاتعاظ ، ثم لم يلتفتوا إليه ، وقالوا : إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من جبر ـ غلام عامر بن الحضري ، وهو قين نصراني ، أو غلام لحويطب بن عبد العزى قد أسلم ـ وقالوا : إن الجن يلقون على محمد هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي ، وما مثلهم إلّا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغى (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) أي إنا نكشف العذاب عنكم كشفا قليلا أو زمانا قليلا ، بدعاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمعنى : أنهم لا يفون بعهدهم وانهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى ، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف. (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦) و «يوم» منصوب بما دل عليه «منتقمون» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيها قبلها أي يوم نأخذ بشدة أخذا قويا بإيصال الآلام المتتابعة ننتقم «إنا منتقمون» وهو يوم بدر كما قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبو العالية.

وروي عكرمة عن ابن عباس هو يوم القيامة ، وقرأ الحسن البصري ، وأبو جعفر المدني نبطش بضم النون فإن الله أمر الملائكة بأن يعاقبهم العقوبة العظمى (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي ولقد عاملنا قوم فرعون قبل هؤلاء العرب معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) (١٧) على ربه ، وهو موسى عليه‌السلام إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أي بأن الحديث أرسلوا بني إسرائيل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أَمِينٌ) (١٨) أي قد ائتمنني الله تعالى على وحيه ورسالته وصدقني بالمعجزات القاهرة (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي وبأن الشأن لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسوله. (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٩) أي آتيكم

__________________

(١) الحنيذ : الشاة يحنذها حنذا أي شواها وجعل فوقها حجارة محمّاة لتنضجها فهي حنيذ. [القاموس المحيط ، مادة : حنذ].

٣٩٣

من جهة الله تعالى بحجة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل ، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠) أي وإني اعتصمت بربي وربكم من أن تقتلون. قيل : لما قال موسى : «وأن لا تعلوا على الله» توعدوه بالقتل (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فخلوا سبيلي لا لي ولا علي (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (٢٢) أي أنهم كفروا ولم يؤمنوا ، فدعا موسى ربه بأن هؤلاء مشركون اكتسبوا الهلاك على أنفسهم فافعل بهم يا رب ما يليق بهم.

وقرأ ابن أبي اسحق ، وعيسى ، والحسن بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء دعا مجرى القول عند الكوفيين (فـ) قال ربه : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي سر ليلا ببني إسرائيل قرأ نافع ، وابن كثير بالوصل ، والباقون بالقطع. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٣) أي يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم ويصير ذلك سببا لهلاكهم ، (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي اجعل البحر طرقا واسعة حتى يدخله القبط فيغرقوا كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٢٤) في البحر. وقرئ بفتح الهمزة أي لأنهم وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ) بفتح النون فأغرقهم الله وتركوا أمورا كثيرة من بساتين ومياه ظاهرة في البساتين ، وحروث ، ومنازل محسنة ، ومجالس مزينة ، وأمور يتمتعون بها كالملابس ، والمراكب (كانُوا فِيها) أي في هذه الأشياء (فَكِهِينَ) (٢٧) بالألف أي طيبين الأنفس معجبين.

وقرأ الحسن ، وأبو رجاء «فكهين» بدون الألف أي مستهزئين بنعمة الله تعالى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك السلب سلبنا هذه الأشياء منهم (وَأَوْرَثْناها) أي تلك الأشياء (قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨) أي جعلناها من بعدهم ميراثا لبني إسرائيل (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) روى أنس بن مالك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه». وروي في الأخبار أن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ، ومحل عبادته ، ومصعد عمله ، ومهبط رزقه أي ولم تبك السماء والأرض على فرعون وقومه لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا ، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ، ولا عمل صالح (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير ، (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ) أي من العذاب الشديد الصادر من فرعون ، وهو قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.

وقرئ «من عذاب المهين» أي وهو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين ، وقرأ ابن عباس «من فرعون» بمعنى الاستفهام والمعنى : هل تعرفونه من هو في عتوة وشيطنته؟ (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين ، أو يقال : إنه متكبرا مسرفا

٣٩٤

فإنه مع حقارته ادعى الإلهية فقوله : «من المسرفين» حال من الضمير في عاليا ، أو خبر ثان لكان. (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٢) أي ولقد اخترنا بني إسرائيل على العالمين جميعا عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم لكثرة الأنبياء فيهم ، ويقال : «ولقد اخترناهم على عالمي زمانهم» مع علمنا بأنهم قد يزيغون في بعض الأوقات ، ويصدر عنهم الفرطات (١) في بعض الأحوال (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٣٣) أي وأعطينا بني إسرائيل ما فيه نعمة ظاهرة من الآيات التي لم يظهر الله مثلها أحد سواهم مثل فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن ، والسلوى وغيرها ، فإنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو بالنعمة أيضا اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق. (إِنَّ هؤُلاءِ) أي إن كفار قريش (لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي ما نهاية الأمر إلّا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٣٥) أي بمحيون بعد الموت (فَأْتُوا بِآبائِنا) أي فعجلوا لنا ـ أيها القائلون بأننا نبعث بعد الموت أحياء ـ من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك حتى يصير دليلا عندنا على صدق دعواكم في البعث (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق. قال تعالى مقتصرا على الوعيد : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل قوم «تبع» كمدين ، وأصحاب الأيكة ، والرس ، وثمود ، وعاد وسمي تبعا لكثرة تبعه واسمه أسعد بن ملكيكرب وكنيته أبو كرب ، وهو نبي كما قاله ابن عباس ، أو رجل صالح كما قالته عائشة ، وكان قومه كافرين وأراد خراب المدينة فلما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد انصرف عنها وقال شعرا أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعوه إليه وكان من اليوم الذي مات فيه «تبع» إلى اليوم الّذي بعث فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد وفيه :

رسول من الله باري النسم

 

شهدت على أحمد أنه

لكنت وزيراً له وابن عم

 

فلو مد عمري إلى عمره

(أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٣٧) فـ «أهلكناهم» مستأنف لبيان عاقبة أمرهم و «إنهم» تعليل لإهلاكهم أي إن أولئك الكفار أهلكوا بسبب إجرامهم مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء ، أفلا يخافون من هلاكهم وهم شركاء لأولئك في الإجرام؟! (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (٣٨) أي لاهين ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثا لأن الله تعالى خلق نوع الإنسان ثم كلّفهم بالإيمان والطاعة ، فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من العاصي فيتعلق فضله

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٦ : ١٥٤) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (٢ : ٣٨) ، وابن الجوزي في الموضوعات (٣ : ٢٥٤).

٣٩٥

تعالى للمطيع ، ويتعلق عدله ، وعقابه للعاصي. فلا بد من البعث لتجزى كل نفس بما كسبت. وقرأ عمرو بن عبيد و «ما بينهن» وقرأ الجمهور «بينهما» باعتبار النوعين (ما خَلَقْناهُما) وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بسبب الحق الّذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٣٩) انا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق عليهم (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٠) أي أن يوم تمييز المحق من المبطل وقت موعد الناس أجمعين. وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على إنه اسم و «يوم» خبرها أي إن ميعادهم جزاؤهم البر والفاجر في يوم فصل الله بين عباده (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) أي لا ينفع قريب عن قريب شيئا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤١) أي يمنعون من العذاب (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي إلا المؤمنين فإنهم يمنعون من العذاب أو فإنهم يؤذون لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم وتشفع لهم الملائكة والأنبياء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢) أي أن الله هو الغالب بتعذيب الكافرين الرحيم بالمؤمنين (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤) أي الكثير الآثام وهو الكافر (كَالْمُهْلِ) وهو دردى الزيت ، وعكر القطران ، ومذاب النحاس ، وسائر الفلزات (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦). وقرأ حفص وابن كثير «يغلي» بالياء التحتية فهو حال من طعام ، أو الزقوم ، والباقون بالتاء الفوقية فهو خبر ثالث لأن أي «تغلي» الشجرة في البطون غليانا كغلي الماء الشديد الحرارة. يقول الله للزبانية : (خُذُوهُ) أي الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) أي جروه بعنف وقوده (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) (٤٧) أي إلى وسط النار العظيمة. وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، بضم التاء ، (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) (٤٨) أي صبوا على رأسه عذابا شديدا يشبه الماء الحار بعد ما يضرب رأسه بمقامع الحديد ، فقد شبه العذاب ، ثم خيّل له بالصب ، ويقال له على سبيل الاستهزاء : (ذُقْ) يا أبا جهل (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩). وقرأ الكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى العلة أي لأنك ، أو على تقدير مضاف أي «ذق» عذابا إنك أنت المتعزز في قومك المتكرم عليهم. روي ان أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بين جبليها أي مكة أعز ولا أكرم مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا (إِنَّ هذا) العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠) أي تشكون في الدنيا. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (٥١) أي مكان مأمون من الزوال والآفات ، وقرأ نافع ، وابن عامر «مقام» بضم الميم أي موضع الإقامة (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥٢) أي أنهار الخمر ، والماء ، واللبن ، والعسل (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) والسندس ما رق من الحرير ، والإستبرق ما ثخن منه (مُتَقابِلِينَ) (٥٣) في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض (كَذلِكَ) أي أتيناهم مثل ذلك ، أو هكذا مقام المؤمنين في الجنة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٥٤) أي قرناهم في الجنة بجوار بيض حسان الوجوه. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز وعهن أبي قرصافة سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور

٣٩٦

العين» (١) ، وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنس المساجد مهور الحور العين» يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي يأمرون الخدم في الجنة بإحضار ما يشتهونه ويتناولون فيها بألوان كل فاكهة (آمِنِينَ) (٥٥) من التخم والأمراض (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي لا يذوقون في الجنة الموت إلّا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة التي في الدنيا بعد حياتهم فيها ، أو يقال : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٥٦) أي وقى الله المتقين في أول الأمر من عذاب الجحيم ، ورفع الله العذاب عن عصاة المؤمنين بعد دخولهم النار ، وقرئ «ووقاهم» بتشديد القاف (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي تفضل ربك بذلك الثواب تفضلا ، وقرئ «فضل» بالرفع أي ذلك فضل (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٧) فإن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) أي لكي يتعظوا به (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩) أي فانتظر هلاكهم إنهم منتظرون هلاكك.

__________________

(١) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٧ : ٧١).

٣٩٧

سورة الجاثية

مكية ، سبع وثلاثون آية ، أربعمائة وثمان وثمانون

كلمة ، ألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم) (١) أي هذه السورة مسماة بحم (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢) أي تنزيل هذا الكتاب واقع من الله العزيز في ملكه الحكيم في أمره وقضائه (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها ، ولأن الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والبحار موجودة في السموات والأرض وهي دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار. (وَفِي خَلْقِكُمْ) من نطفة ، ثم من علقة متقلبة في أطوار مختلفة إلى تمام الخلق (وَما يَبُثُ) أي وفيما ينشره (مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) فإن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار ، وكذا انتقاله من حال إلى حال آخر. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وفي تعاقبهما وتفاوتهما طولا وقصرا (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أي وفيما أنزله من السحاب من مطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبوستها (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي وفي تقليبها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥).

وقرأ حمزة والكسائي «آيات لقوم» في الموضعين بالنصب بالكسرة معطوف على «آيات» الأول الذي هو اسم «إن» والباقون بالرفع على أنه مبتدأ وخبره الظرف المقدم ، وقرئ «آية» بالتوحيد ، وقرأ حمزة والكسائي و «تصريف الريح» بالتوحيد. وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل ، الأولى : للمؤمنين ، الثانية : يوقنون ، الثالثة : يعقلون. وسبب هذا الترتيب أنه قيل : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ، بل أنتم من طلاب اليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فكونوا من العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفا فقال : إن المصنفين إذا نظروا في السموات والأرض ، وإنه لا بد لهما من صانع ، آمنوا. وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيمانا فأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا. (تِلْكَ) أي الآيات

٣٩٨

المذكورة (آياتُ اللهِ) أي حججه الدالة على وحدانيته (نَتْلُوها) أي نقصها (عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وهذا من أعظم الدلائل على الترغيب في تقرير المباحث العقلية (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦) أي إن من لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعدها يجوز أن ينتفع به.

وقرأ ابن عامر ، وشعبة ، والكسائي بتاء الخطاب مناسبة لقوله تعالى : و «في خلقكم» (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) أي كذاب (أَثِيمٍ) (٧) أي مبالغ في اقتراف الآثام وهو النضر بن الحرث (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) أي القرآن (تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي يقيم على كفره إقامة بقوة (مُسْتَكْبِراً) عن الإيمان بآيات الله معجبا بما عنده ـ كان النضر يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ـ (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي حال كونه مثل غير السامع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨) على إصراره ، واستكباره ، (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي أنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من آياتنا بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما سمعه فقط. (أُولئِكَ) أي كل أفاك أثيم (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩) أي ذو إهانة (مِنْ وَرائِهِمْ) أي قدامهم بعد الموت (جَهَنَّمُ) فإنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم جهنم لأنهم مقبلون على الدنيا معرضون عما أعد لهم (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي ولا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا ، ولا أصنامهم التي عبدوها (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠) إلى أقصى الغايات في كونه ضررا. (هذا) أي القرآن (هُدىً) أي في غاية الكمال في الهداية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١).

وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع أي لهم عذاب أليم من تجرع ماء صديد ، والباقون بالجر أي لهم عذاب شديد الإيلام. (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بإذنه وأنتم راكبوها فجريان السفن على وجه البحر لا يحصل إلّا بسبب ثلاثة أشياء ، أحدها : الرياح التي توافق المراد ، وثانيها : الماء ، وثالثها : خشبة طافية لا تغوص في الماء ، وهذه الثلاثة لا يقدر عليها أحد من البشر فلا بد من موجود قادر عليها وهو الله تعالى ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). إما بسبب التجارة ، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، أو باستخراج اللحم الطري (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) أي ولكي تشكروا نعمته تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) أي وسخر الله لكم الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ، والشجر ، والدواب ، والجبال ، والبحار كائنة منه تعالى وحاصلة من عنده ، فإنه تعالى موجدها بقدرته وحكمته ، ثم مسخرها لخلقه.

وقرأ سلمة بن محارب «منه» على أنه فاعل «سخر» أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه ، وقرئ «منه» على أنه مفعول له. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) كثيرة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) في بدائع صنع الله تعالى فإنهم يطلعون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها

٣٩٩

ويوفقون لشكرها (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) اغفروا للكفار (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يرجون ثواب الله ، ولا يخافون عقابه ، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية كما قاله ابن عباس ، وهذا محمول على ترك المنازعة في المحقرات وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية ، والأفعال الموحشة ، وقال المهدوي ، والنحاس ، ومقاتل : شتم رجل من كفار قريش عمر بن الخطاب بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فأمره [رسول] الله بالعفو والتجاوز ، وأنزل هذه الآية (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) أي لكي يجازي الله يوم القيامة قوما يعملون الخير ، وقيل ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم والمعنى : لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون ، وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوما» أي وليجزي الجزاء قوما (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح ، وزجر عن العمل الباطل ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥) فيجازيكم على أعمالكم خيرا كان ، أو شرا ، (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي التوراة ، (وَالْحُكْمَ) أي معرفة أحكام الله تعالى وفصل الحكومات بين الناس ، (وَالنُّبُوَّةَ) حيث كثر الله فيهم الأنبياء (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) فإنه تعالى وسع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ، ثم أنزل عليهم المن والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦) حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر واظلال الغمام ونظائرهما ، (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي أدلة على أمور الدنيا وعلى أمور الدين (فَمَا اخْتَلَفُوا) في الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ، ومجيء العلم لهم كان ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حسدا منهم (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧) من أمر الدين بالجزاء (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨) أي ثم اخترناك على طريقة واضحة من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ، وأديانهم المبنية على الأهواء. قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك ، وأسن فانزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي أنك لو ملت إلى أديانهم الباطلة صرت مستحقا للعذاب فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أن الكافرين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا أما في الآخرة فلأولى لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب ، (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩) أي والله ناصر المهتدين (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) فإن ما فيه من معالم الدين بمنزلة البصائر في القلوب (وَهُدىً) من ورطة الضلالة (وَرَحْمَةٌ) عظيمة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠) أي يطلبون اليقين (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أظن هؤلاء المكتسبون للسيئات أن

٤٠٠