مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

سورة المؤمن

وتسمى صورة الطول وسورة غافر ، مكية ، خمس وثمانون آية ، ألف

ومائة وتسع وتسعون كلمة ، أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذه السورة المسماة بـ «حم» تنزيل الكتاب ، (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي الذي لا يوجد له مثل (الْعَلِيمِ) (٢) بوجوه المصالح والمفاسد ، (غافِرِ الذَّنْبِ) أي غافر للذنوب الكبار ، قبل التوبة ممن قال : لا إله إلّا الله ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) لمن تاب من الشرك (شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن مات على الشرك (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي الفضل على من آمن به بترك العقاب المستحق ، وذي الغنى على من لم يؤمن به (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) أي مرجع من آمن به ومن لم يؤمن به ، (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) بالجدال الباطل ، (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بها وهو أن يقال في حق القرآن : إنه سحر ، أو إنه شعر ، أو إنه قول الكهنة ، أو إنه أساطير الأولين ، أو إنما يعلمه بشر أو أشباه ذلك مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن جدالا في القرآن كفر». (١) وقال : «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر». (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٤) أي لا ينبغي أن تغتر بأني أتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارات وطلب المعاش ، وإني سآخذهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك (قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) أي الأمم المتفرقة (مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي من بعد قوم نوح كقوم عاد وثمود ، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وعزمت كل أمة من هؤلاء المكذبين أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويهلكوه ، (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) أي خاصموا رسلهم بإيراد الشبهات (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ، أي ليزيلوا بإيراد تلك الشبهات الصدق (فَأَخَذْتُهُمْ) بسبب ذلك (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) ، أي عقابي إياهم أليس كان مهلكا مهيبا في السماع؟ (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ١٧٠).

٣٤١

النَّارِ) (٦) ، أي كما ثبت حكمه تعالى بالتعذيب على أولئك الأمم الكاذبة على رسلهم ، ثبت على الذين كفروا وتحزبوا عليك كونهم مستحقي أشد العقوبات التي هي عذاب النار. فقوله تعالى : (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) في محل رفع بدل من قوله تعالى : (كَلِمَةُ رَبِّكَ) أو في محل نصب بحذف لام التعليل ، أي لأنهم ملازمو النار أبدا.

وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» بالجمع. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهم في الدنيا أربعة ، وفي يوم القيامة ثمانية ، أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، (وَمَنْ حَوْلَهُ) وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

قال شهر بن حوشب : وحملة العرش يوم القيامة ثمانية : فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على علمك وحلمك. وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ا هـ. ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم.

روي في الحديث : «أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة» (١). (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ). وهذا تنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حوله يشاهدونه ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح ، لأن الإقرار بوجود شيء حاضر معاين لا يوجب الثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح ، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والتعظيم علم أنهم آمنوا به من غير أن يشاهدوه تعالى حاضرا هناك ، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) شفقة على خلق الله ، وقد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله. ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة لخلق الله ، فالتسبيح مشعر بالتعظيم لله والدعاء للمؤمنين مشعر بالشفقة عليهم. وقيل : هذا الاستغفار في مقابلة قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠]. فلما صدر هذا منهم أولا تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم ، وهو كالتنبيه لغيرهم على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه أن يستغفر له ، وعلى من آذى غيره أن يجبره بإيصال نفع إليه. (رَبَّنا) وهذا معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أي قائلين (رَبَّنا) إلخ. وهذا دليل على أن السنة في الدعاء أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى ، ثم يدعو عقبه فإن الملائكة لما زعموا على الدعاء للمؤمنين بدءوا

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير (١ : ٨٧) ، والقرطبي في التفسير (٢ : ٢٠٩) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٤٤).

٣٤٢

بالثناء فقالوا ربنا : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ، أي وسعت رحمتك وعلمك ، فكل موجود نال من رحمة الله نصيبا ، لأن وجود الممكن بإيجاده تعالى ، فذلك رحمة فلا موجود غير الله إلّا وقد وصل إليه نصيب من رحمة الله ، وعلمه تعالى محيط بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات ، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) من الكفر ، وإن أصروا على الفسق بأن تقسط العقاب عنهم ، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) في الشريعة (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) أي ادفع عنهم عذاب النار (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) إياها.

وقرئ «جنة عدن» (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) و «من» معطوف على مفعول «أدخل» ، أي وأدخل معهم في الجنة من آمن من هؤلاء الطوائف الثلاثة ليتضاعف ابتهاجهم.

قال سعيد بن جبير : يدخل المؤمن الجنة فيقول : أين أبي أين زوجتي أين ولدي؟ فيقال له : إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم فيقال : أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل في سروره ولذته.

وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام. وقرأ عيسى «وذريتهم» بالإفراد (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) ، أي القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة (الْحَكِيمُ) (٨) أي الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة ، (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي ادفع عنهم العقوبات عند موقف القيامة ، وعند الحساب والسؤال أو صنهم في الدنيا عن العقائد الفاسدة. والأعمال الفاسدة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي ومن تدفع عنه العقوبات ، أو من تصنه في الدنيا عن المعاصي ، (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي عصمته وعظمته ، (وَذلِكَ) أي الرحمة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع ، وبأعمال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه عظمته. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠). أي إن الذين كفروا يناديهم خزنة جهنم لإنكار الله لكم في الدنيا حين تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر اتباعا لأنفسكم الأمارة بالسوء ، أو اقتداء بأخلائكم المضلين أكبر من إنكاركم أنفسكم الأمارة بالسوء الآن ، أو من إنكار بعضهم بعضا اليوم ، وذلك أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على تكذيب هذه الأشياء في الدنيا ، أو أن الأتباع يشتد مقتهم الآن للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء يشتد إنكارهم للأتباع الآن أيضا ، و «إذ» ظرف لـ «المقت» الأول. وقيل : يناديهم المتقون في الآخرة من مكان بعيد وهم في النار ، وإذ تدعون تعليل لما بين الظرف والسبب. والمعنى : لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقتكم أنفسكم الآن لما كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون. (قالُوا) أي الكفار : (رَبَّنا

٣٤٣

أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي إماتتين ، مرة بقبض أرواحنا ، ومرة بعد ما سألنا منكر ونكير في القبور. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي إحياءتين ، مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور ، ومرة عند البعث. وهذا أنسب بحالهم فإن مقصودهم تعديد أوقات البلاء ، وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحيلة في القبر. والموتة الثانية ، والحياة في القيامة فهذه الأربعة أوقات المحنة. فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء ، فلهذا السبب لم يذكروها ، (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي بشركنا وجحدونا بالبعث ، (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١١)؟ أي فهل إلى خروج من النار ورجوع إلى الدنيا لنصلح أعمالنا من سبيل ، أي طريق فأجاب الله تعالى لهم بقوله : (ذلِكُمْ) أي العذاب في النار والمقت (بِأَنَّهُ) أي بسبب أن الشأن (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي إذا عبد الله منفردا كفرتم بتوحيده ، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي إن يجعل له شريك تصدقوا بالإشراك. ويقال : ذلكم ، أي عدم سبيل خروج لكم إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم بالإشراك به (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢) فالله أعلى كل شيء وأكبر كل شيء بحسب القدرة والإلهية ، وذلك حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي ، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) ، أي علامات وحدانيته وقدرته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي سبب رزق وهو المطر ، فالله تعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار الآيات وراعي مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فالآيات لحياة الأديان والأرزاق لحياة الأبدان ، وعند حصولهما يكمل الأنعام.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون (وَما يَتَذَكَّرُ) ، أي وما يتعظ بتلك الآيات الباهرة (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (١٣) ، أي إلا من يقبل على الله بالكلية ويعرض عن غير الله (فَادْعُوا اللهَ) ، أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون ، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك ومن الالتفات إلى غير الله ، (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤) إخلاص العبادة منكم ، (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي الله العظيم الصفات فهو تعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الجلال والكمال ، لأنه واجب الوجود لذاته ، وهو أول وآخر لكل ما سواه ، وليس له أول وآخر ، وهو عالم بجميع الذوات والصفات ، والكليات والجزئيات ، وهو غني عن كل ما سواه ، وهو واحد يمتنع أن يحصل له ضد وند ، وشريك ونظير.

وقرئ «رفيع الدرجات» بالنصب على المدح. (ذُو الْعَرْشِ) أي مالكه ومدبره وخالقه ، وهذان خبران آخران لـ «هو». (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) أي ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد هو أمره تعالى ، (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء ، (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) ، والفاعل يعود إلى «من يشاء» وهو الملقى عليه.

وقرئ لتنذر على أن الفاعل هو الروح ، لأنها قد تؤنث وهذا الفعل ينصب مفعولين محذوفين ، أي لينذر من يختاره الله الناس العذاب يوم القيامة أو إن المفعول الثاني هو يوم التلاق

٣٤٤

بدليل قراءة لينذر يوم التلاق على البناء للمفعول ، ورفع «يوم» وسمي يوم القيامة بيوم التلاق ، لأن الأرواح متلاقية للأجساد ، ولأن الخلائق يتلاقون فيه ، فيقف بعضهم على حال بعض ، ولأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، ولأن كل أحد يصل إلى جزاء عمله ويلتقي فيه العابدون والمعبودون ويلتقي فيه الظالم والمظلوم ، (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي خارجون عن بواطن القبور ، وظاهرون لا يسترهم شيء من جبل وغيره ، وليس عليهم ثياب ، وتظهر أعمالهم وتنكشف أسرارهم ، (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) فيعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا منهم بحسبه إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشر ، وينادي مناد : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيجيبه أهل المحشر : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٦) ، أي الذي قهر الخلق بالموت ، فالمؤمنون يقولونه تلذذا بهذا الكلام حيث نالوا المنزلة الرفيعة ، والكفار يقولونه على وجه التحسر والندامة على ما فاتهم في الدنيا ، (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) برة أو فاجرة ، (بِما كَسَبَتْ) من خير أو شر (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص ثواب ، أو زيادة عذاب ، أي يقال لهم : إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده (الْيَوْمَ تُجْزى) إلخ. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) ، إذ لا يشغله شأن عن شأن ، فيحاسب الخلائق قاطبة في أقرب زمان (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) ، فـ «إذ» بدل من يوم الآزفة ، أي وأنذرهم يوم القرب من العذاب ، ومشارفتهم دخول النار ، فعند ذلك ترتفع قلوبهم من أماكنها ، فتلتصق بحلوقهم من شدة الخوف ، (كاظِمِينَ) أي مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم ، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويبينوا خوفهم ، (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي قريب مشفق ، (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) أي ولا شفيع مقبول شفاعته ، (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي استراق النظر إلى ما لا يحل ، (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩) أي مضمرات القلوب ، (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) إذا علم المذنب أن الله لا يحكم إلّا بالحق في كل ما دق وجل ، كان خوف المذنب من الله في الغاية القصوى. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي والذين يعبدونهم من دون الله تعالى من الأوثان ، لا يصنعون شيئا من الشفاعة يوم القيامة ، ولا يأمرون بخير في الدنيا ، فإن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام ، فلذلك بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة بهذه الآية.

وقرأ نافع وهشام «تدعون» بتاء الخطاب (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢٠) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ويبصر سجودهم لهم ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أغفلوا ولم يسافروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة لرسلهم (كانُوا هُمْ) أي الذين مضوا من الكفار (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الحاضرين من الكفار (قُوَّةً) ، أي قدرة على التصرفات.

٣٤٥

وقرأ ابن عامر وحده «منكم» بكاف (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي قصورا للسكنى وحصونا للقتال ومصانع للمياه (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) ، أي أهلكهم الله بسبب تكذيبهم الرسل بضروب الهلاك (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٢١) ، أي لم يجدوا من يمنعهم من الله ومن يخلصهم من عذاب الله.

وقرأ ابن كثير بالياء في الوقف. (ذلِكَ) العذاب في الدنيا (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأحكام الظاهرة ، وبالمعجزات الباهرة ، (فَكَفَرُوا) بذلك ، (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أخذا وبيلا ، (إِنَّهُ قَوِيٌ) بأخذه (شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٢) لمن عاقبه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ، وهي معجزاته (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢٣) ، أي حجة مبينة (إِلى فِرْعَوْنَ) ـ ملك مصر ـ (وَهامانَ) ـ وزير فرعون ـ (وَقارُونَ) ـ ابن عم موسى ـ (فَقالُوا) لموسى فيما أظهره من المعجزات : هذا (ساحِرٌ) وفيما ادعاه من رسالة رب العالمين : هذا (كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) ، أي بتلك المعجزات الباهرة (مِنْ عِنْدِنا قالُوا) أي ـ فرعون وأتباعه ـ (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) ، أي لا تقتلوا بناتهم للخدمة. وهذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه‌السلام ، لأن فرعون قد كف عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل ، لئلا ينشئوا على دين موسى ، فيقوى بهم ، زعما منه أن القتل يمنع الناس من الإيمان وظنا منهم أن موسى هو الذي حكم المنجمون والكهنة بزوال ملكهم على يده. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٢٥) ، أي بطلان. لأن الله تعالى شغلهم عن ذلك القتل بما أنزل إليهم من أنواع العذاب : كالضفادع ، والقمل ، والدم ، والطوفان إلى أن خرجوا من مصر ، فأغرقهم الله تعالى ، ولأن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا. (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) وغرض فرعون من هذا الكلام إخفاء خوفه لأن أحدا ما منع فرعون من قتل موسى ، وقد كان فرعون استيقن أن موسى نبي وأن ما جاء به آيات باهرة ، وما هو بسحر ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك ، ويخاف من أنه لو حاول قتله لظهرت منه معجزات قاهرة تمنعه من قتله ، فيفتضح ، وكان من دهائه ووقاحته قال هذا تمويها لقومه : أنه إذا امتنع من قتله رعاية لقلوبهم ربما ظنوا أن موسى كان محقا ، وعجزوا عن جوابه ، فقتلوه إيهاما أنهم هم الكافّون له عن قتله ولولاهم لقتله وما كان الذي يكفه إلّا ما في نفسه من الفزع الهائل. (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الذي يزعم أنه أرسله إلي حتى يخلصه مني. وهذا على سبيل الاستهزاء في إظهار عدم المبالاة بدعائه ، (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) الذي أنتم عليه من عبادة فرعون والأصنام ، (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢٦) من قتل أبنائكم واستخدام نسائكم.

٣٤٦

وقرأ نافع وأبو عمرو «وأن يظهر» بالواو الجامعة بين أمرين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أو يظهر» بفتح الياء والهاء ورفع «الفساد» فالقراءات السبعية أربعة : ثنتان مع «أو» وهما : نصب «الفساد» ورفعه. وثنتان مع «الواو». كذلك ، وقرئ «يظهر» بتشديد الظاء والهاء أي يتتابع (وَقالَ مُوسى) لقومه حين سمع ما يقوله اللعين من حديث قتله (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢٧) ، وموسى عليه‌السلام ولم يأت في دفع شر فرعون إلّا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله ، فصانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية ، والمسلم إذا قال عند القراءة ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن ، فكذلك إذا قال المسلم : أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات ، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس. (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وكان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا ، أو غريبا موحدا ، أو اسمه حزقيل أو شمعان ، (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) من فرعون وملئه خوفا على نفسه مائة سنة ، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي أتقصدون قتل رجل لأجل أن يقول : ربي الله وحده من غير تأمل في أمره ، (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الظاهرات (مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)! أي وإن كان هذا الرجل كاذبا كان ضرر كذبه عائدا عليه فاتركوه ، (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) وقد كذبتموه ، (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) من العذاب في الدنيا. فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيا. والحاصل أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨). وهذا كلام ذو وجهين أي لو كان موسى مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى الأحكام ، ولما قواه بعلامات النبوة. وإن كان كذلك أهلكه الله فلا حاجة لكم إلى قتله. وهذا إشارة إلى علو شأن موسى على طريق الرمز ، وإلى التعريض لفرعون بأن الله لا يهديه منهاج النجاة ، لأنه مسرف في عزمه على قتل موسى ، كذاب في جرأته على ادّعاء الإلهية ، والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه ، بل يهدم أمره ، ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي عالين الناس في أرض مصر فلا يقاومكم أحد في هذا الوجه ، (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) ، أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لعذاب الله بقتل موسى فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد ، ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما لمادة الفتنة ، ولا أسر عنكم غير ما أظهره. ولقد كذب فرعون حيث كان مضمرا للخوف الشديد ، ولكنه كان يتجلد ولولاه لما استشار أحد أبدا (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢٩) أي ما أدعوكم بهذا الرأي إلّا إلى طريق الصواب والصلاح.

٣٤٧

وقرئ بتشديد الشين للمبالغة (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) رادا لهذا الكلام على فرعون ، مخاطبا لقومه : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) (٣٠) أي مثل أيام الأمم الماضية المتفرّقة فكل أمة كان لها يوم معين في البلاء ، (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوط لوط ، أي مثل جزاء دأبهم من الكفر ، وإيذاء الرسل. والحاصل أن حزقيل خوّفهم بهلاك معجل في الدنيا ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١) أي أن تدمير الله أولئك الأحزاب كان عدلا منه تعالى ، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء ، فتلك العلة قائمة هاهنا فوجب حصول الحكم هاهنا (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (٣٢) ، أي يوم القيامة فإن أهل النار ينادون أهل الجنة ، وأهل الجنة ينادون أهل النار ، ويناديهم أصحاب الأعراف وينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور فيقولون : يا ويلنا وينادى باللعنة عليهم وينادى بالسعادة والشقاوة : ألا إن فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.

وقرأ ابن عباس «يوم التناد» بتشديد الدال ، أي يوم فرار بعضهم من بعض (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ، أي منصرفين عن الموقف ، لأنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هاربين ، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديا أقبلوا إلى الحساب فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لكم مانع من عذاب الله. والجملة حال أخرى من «ضمير تولون» (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه ، (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣) أي مرشد ، (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) بن يعقوب عليهما‌السلام (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى ، فإن وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة ، وفرعون أدرك يوسف بن يعقوب وكان عمره أربعمائة سنة وأربعين سنة.

وقيل : إن يوسف هذا هو يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب ، أرسله الله تعالى إلى القبط. فأقام فيهم عشرين سنة نبيا ـ وهذا من تمام وعظ حزقيل ـ (بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الواضحة (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) يوسف من الدين (حَتَّى إِذا هَلَكَ) ، أي مات يوسف (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد موت يوسف (رَسُولاً) وهذا تكذيب لرسالة من هو بعده مضموما إلى تكذيب رسالته ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٣٤) أي مثل هذا الإضلال يضل الله من هو متغال في عصيانه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الانهماك في التقليد ، (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) ، أي حجة (أَتاهُمْ) من الله (كَبُرَ مَقْتاً) أي عظم بغضا والوقف على «مرتاب» صالح ، وعلى «أتاهم» كاف. وهذا إذا جعل «الذين» بدلا من «من» فهو في محل نصب ، أو بدلا من مسرف فهو في محل رفع ، وعلى هذا فهذا من كلام الرجل المؤمن أيضا ، وإن جعل الذين مبتدأ خبره كبر كان الوقف على «مرتاب» تاما ، ولا يوقف على «أتاهم» لتأخر الخبر عنه ، وعلى هذا فهذا ابتداء كلام الله تعالى ، وفاعل «كبر» ضمير يعود

٣٤٨

إلى «من» على الاحتمال الأول ، وإلى «الجدال» على الاحتمال الثاني ، أي كبر من ذكر أو كبر جدالهم بغير حجة ، بل بالبناء على التقليد أو بالبناء على الشكوك الخسيسة مقتا ، (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فمقت الله إظهار خزيهم وإحلال العذاب بهم ، ومقت المؤمنين لهم كراهتهم أشد الكراهة ، (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) عن الإيمان (جَبَّارٍ) (٣٥) عن قبول الحق.

قرأ ابن عامر وأبو عمرو ، وقتيبة عن الكسائي بتنوين «قلب». والباقون بغير تنوين على الإضافة ، ويشهد لهذه القراءة قراءة عبد الله «على قلب كل متكبر» (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) أي بناء عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (٣٦) ، أي أصعد الطرق (أَسْبابَ السَّماواتِ) ، أي طرقها الموصلة إليها (فَأَطَّلِعَ) أي أنظر (إِلى إِلهِ مُوسى).

وقرأ حفص عن عاصم «أطلع» بالنصب على أنه جواب الأمر ، أو منصوب على التوهم كما قاله أبو حيان ، لأن خبر «لعل» قد يجيء مقرونا بأن ، أو على أنه جواب الترجي. والباقون بالرفع عطفا على «أبلغ». والمقصود : أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع ، كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحسن ممتنعا ، فحينئذ لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) فيما يدعيه من الرسالة ، (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) فانهمك فيه انهماكا لا يكف عنه بحال (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمفعول أي صرف فرعون عن الحق. والباقون بالبناء للفاعل أي منع فرعون الناس عن الطريق الموصلة إلى الله. وقرئ «وصد» بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليه. وقرئ «وصد» بالرفع على أنه معطوف على «سوء عمله». وقرئ «وصدوا» أي هو وقومه. (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) (٣٧) ، أي وما صنع فرعون في إبطال آيات موسى إلا في هلاك. (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) وهو حزقيل (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) فيما دعوتكم إليه ، (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٣٨) أي أدلكم على سبيل يؤدي سالكه إلى الخير ، وفي هذا تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الضلال. (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) ، أي منفعة قليلة لسرعة زوالها ، فهي كمتاع البيت لا يبقى. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩) ، أي الثبات ، فلا تحول عنها (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) ، في الدنيا (فَلا يُجْزى) في الآخرة (إِلَّا مِثْلَها) أي إلا ما يقابلها في الاستحقاق ، فالكافر يعتقد في كفره كونه طاعة ، فكان عقابه في النار مؤبدا ، لأنه على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا بخلاف الفاسق ، فإن عقابه منقطع فإنه يعتقد في فسقه كونه خيانة ، فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ) الذين عملوا ذلك (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) فالآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات ، وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة.

٣٤٩

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة «يدخلون» بالبناء للمفعول (يُرْزَقُونَ فِيها) أي الجنة (بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠) أي بلا هنداز في الكثرة والسعة. (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أي أيّ شيء من المصالح في أني أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة شفقة عليكم واعترافا بحقكم ، (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (٤١) أي وأيّ شيء تدعونني ، إلى الكفر الذي يوجب الهلاك في النار! (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)! أي ولأشرك بالله ما ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله! (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢)؟! أي إلى الإيمان بإله العالم ، فإنه وإن كان قادرا على التعذيب لا يغالب ، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة ، (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حق أن الذي تدعونني إلى عبادته من الأوثان ليس له دعوة في الدنيا إلى نفسه ، لأنها جمادات ، والجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها أصلا وأن الله تعالى إذا قلبها حيوانا في الآخرة تتبرأ من عابديها ، (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) بالموت ، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة الأشياء الباطلة ، وأن يعرض عن عبادة الإله الذي لا بد وأن يكون مرجعنا إليه ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) في معصية الله كالإشراك وسفك الدماء (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٤٣) ، أي ملازموها ، (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصائح وقت الموت ووقت مشاهدة الأهوال في القيامة (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤٤) : قيل : لما قال ذلك المؤمن هذه الكلمات قصدوا قتله ، فهرب منهم إلى الجبل ، فطلبوه ولم يقدروا عليه ، لأنه قد عول في دفع مكرهم على الله ، (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي شدائد مكرهم. قيل : نجا مع موسى عليه‌السلام. وقيل : إنه لما فر منهم إلى الجبل أرسل فرعون ألفا ليقتلوه فأكلت السباع بعضهم ، ورجع بعضهم هاربا ، فقتل فرعون من رجع عقوبة على عدم قتله لذلك الرجل المؤمن. (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥) ، أي أحاط بفرعون وقومه شدة العذاب وهو القتل ، والغرق ، والنار كما قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) بإحراقهم بها ، (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، أي تعرض أرواحهم في البرزخ على النار من حين موتهم إلى قيامة الساعة ، ولا يوقف على «سوء العذاب» إن جعل «النار» بدلا منه ، وإن جعل خبر مبتدأ محذوف. فالوقف على «سوء العذاب» حسن ، وكذا إن قرئ «النار» منصوبا على الاختصاص ، أو نحوه ، وإن جعل «النار» مبتدأ وخبره ما بعده فالوقف على «العذاب» تام ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦).

قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح الهمزة ، وكسر الخاء ، أي ويوم القيامة يقول الله لخزنة جهنم أدخلوا آل فرعون في أشد العذاب. والباقون بهمزة الوصل وضم الخاء ، والمعنى : ويوم القيامة يقال لهؤلاء الكفار : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم. (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) أي واذكر يا أشرف الخلق لقومك وقت تخاصم بعضهم بعضا في

٣٥٠

النار ، (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) أي السفلة من الكفار (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، أي للقادة الذين تعظموا عن الإيمان : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي أتباعا في دينكم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) (٤٧) ، أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا جزءا من العذاب. والمقصود من هذا الكلام : المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة للسفلة : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي نحن وأنتم واقعون في هذا العذاب ، فلو قدرت على إزالة العذاب عنكم لدفعته عن أنفسنا فـ «كل» مبتدأ و «فيها» خبره والجملة خبران.

وقرئ «كلا» بالنصب على التأكيد لاسم «إن» ، أي إن كلنا واقعون في النار ، ثم يقولون : (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨) أي يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم ، أو من العذاب فلا معقب لحكمه ، فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزية جهنم ، (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) من الضعفاء والمستكبرين إذا اشتدت عليهم النار ، وقل صبرهم (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) ، أي للملائكة الموكلين بعذاب أهل النار ، (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٤٩) أي يخفف عنا شيئا من العذاب في وقت من الأوقات. (قالُوا) أي الخزنة : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ)؟ أي ألم تنتبهوا عن هذا ، ولم تكن تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء الكفر والمعاصي (قالُوا بَلى) أي أتونا بها فكذبناهم ، (قالُوا) أي الخزنة استهزاء بهم وإظهارا لخيبتهم : (فَادْعُوا) أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على الدعاء ولا نشفع إلا بالإذن في الشفاعة وإلا لمن كان مؤمنا (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠) ، أي ضياع. وهذا من كلام الله إخبارا لنبيه ، فالوقف على «ادعوا» تام أو من كلام الخزنة ـ كما قاله الرازي وأبو السعود ـ قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالرسل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بانتقام الكفرة ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) أي يوم يقوم كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ، ونبي ، ومؤمن بالحجة والاعتذار ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) من الكفر.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر «لا تنفع» بالتاء الفوقية. والباقون بالياء التحتية (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي الإهانة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٥٢) وهو العقاب الشديد. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) أي التوراة والمعجزات ، (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (٥٣) ، أي وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤) أي لأجل الهداية من الضلالة ، ولأجل التذكرة لذوي العقول السليمة ، فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين ، بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة ، (فَاصْبِرْ) يا أكرم الرسل على أذى اليهود والنصارى والمشركين ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، فالله ناصرك ومنجز وعده في حقك ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي تب من ترك الأولى ، والأفضل في بعض الأحايين ، فإنه

٣٥١

تعالى كافيك في نصرة دينك ، وإظهاره على الدين كله ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥) ، أي ودم على التسبيح ملتبسا بحمده تعالى. والمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله باللسان ، وبأن لا يغفل القلب عنه ، (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ، وجملة «إن في صدورهم» إلخ خبر لـ «إن» ، وجملة «ما هم» إلخ صفة لـ «كبر» ، أي إن الذين يجحدون بآيات الله بغير برهان أتاهم في ذلك من الله تعالى ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق ما هم ببالغي كبره ، أي الذين يناصبون الجدال معك بغير حجة إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدورهم ، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا بنبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت تصرفك ، لأن النبوة تحتها كل رئاسة وملك ، وهم لا يرضون أن يكونوا في خدمتك وإنما هم يريدون أن تكون تحت يدهم ولا يصلون إلى هذا المراد ، بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فالتجئ إليه تعالى من كيد من يجادلك ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْبَصِيرُ) (٥٦) بأعمالهم ، (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ، أي فالذي قدر على ابتداء خلق السموات والأرض مع عظمها ، قادر على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) أي أن هذا البرهان مع قوته صار بحيث لا يعرفه من ينكرون الحشر والنشر ، فظهر أن هؤلاء يجادلون في آيات الله بغير حجة ، بل بمجرد الحسد والكبر ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يستوي الجاهل المقلد المستدل ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي ولا يستوي الآتي بالأعمال الصالحة ، والآتي بالأعمال الفاسدة. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) أي أن المجادلين وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل ، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنهم ما يتعظون اتعاظا قليلا من أمثال القرآن ، فإن الحسد يعمي قلوبهم فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة ، وفي الحسد والكبر أنه محض الطاعة.

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تتذكرون» على الخطاب. والباقون بالغيبة. (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي لا شك في مجيئها بإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الذين ينكرون البعث ، (لا يُؤْمِنُونَ) (٥٩) بمجيء الساعة ، (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم وأغفر لكم ، (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) أي أذلاء.

ويقال : إن الدعاء هو السؤال ، أي ادعوني أقبل إليكم ، فالدعاء اعتراف بالعبودية والذلة فكأنه قيل : إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية ، وكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه ، واجتهاده وأقاربه وأصدقائه ، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان ، أما قلبه فهو معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله ، فهذا ما دعا الله في

٣٥٢

الحقيقة في وقت. أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله ، فإنه تحصل الاستجابة وانقطاع القلب بالكلية ، عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت ، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى.

وقرأ ابن كثير وشعبة «سيدخلون» على صيغة المبني للمفعول. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) باردا مظلما (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي لتستريحوا فيه بالنوم وبالعبادة (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا. وهذا إعلام بوجود الإله القادر ، فإن الاشتغال بالدعاء لا بدّ وأن يكون مسبوقا بحصول المعرفة ، وبأن من أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟! (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) كافة باختلاف الليل والنهار ، وما يحتويان عليه من المنافع (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٦١). إما لكونه حريصا على الدنيا محبا للمال والجاه ، فإذا فاته وقع في كفران هذه النعم العظيمة ، أو لأنها لما دامت واستمرت نسيها الإنسان ، أو لاعتقاده أن هذه النعم ليست من الله تعالى ، بأن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الدوران لذواتها. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ، أي ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم ، (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وهذه أخبار أربعة عن اسم الإشارة.

وقرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص ، فيكون لا إله إلا هو استئنافا (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٦٢) أي فمن أي وجه تصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره ، ولم تعدلوا عن هذه الدلائل؟ ومن أين تكذبون على الله بجعلكم له شركاء؟ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦٣) ، أي مثل الصرف البعيد عن مناهج العقلاء يصرف الذين كانوا ينكرون آيات الله تعالى. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي منزلا في حال الحياة وبعد الممات ، (وَالسَّماءَ بِناءً) أي مثل القبة المضروبة على الأرض من غير عماد (وَصَوَّرَكُمْ) أي أحدث صورتكم على غير نظام واحد ، (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ولم يخلق الله تعالى حيوانا أحسن صورة من الإنسان ، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ لا كرزق الدواب ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم الذي نعت بالنعوت الجليلة هو الله المحسن إليكم ، (فَتَبارَكَ اللهُ) أي ثبت الله مع كثرة الخيرات (رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦٤) أي مالكهم (هُوَ الْحَيُ) ، أي المنفرد بالحياة الذاتية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله ، (فَادْعُوهُ) أي اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة من الشرك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٥).

قال الفراء : هو خبره وفيه إضمار الأمر أي فادعوه واحمدوه. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما من قال : لا إله إلا الله فليقل بعدها الحمد لله رب العالمين ، أي ولما كان تعالى موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له : الحمد لله رب العالمين. (قُلْ) لأهل مكة يا أكرم الرسل ـ حين قالوا لك : ارجع إلى دين آبائك ـ : (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ

٣٥٣

اللهِ) أي الذين تعبدون من الأوثان (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ) أي الدلائل (مِنْ رَبِّي) ، وهي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٦) أي أن أنقاد له وأخلص توحيدي له ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) فكل إنسان مخلوق من مني وهو مخلوق من الدم ، وهو يتولد من الأغذية ، وهي منتهية إلى النباتية ، والنبات إنما يكون من التراب والماء ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي دم عبيط (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً ثُمَ) يبقيكم (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، أي كمالكم في القوة والعقل ، (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً).

وقرأ نافع وأبو عمرو ، وهشام ، وحفص بضم الشين. والباقون بكسرها وقرئ «شيخا» ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد ، أو قبله أو قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا يفعل ذلك لتعيشوا ، (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) وهو وقت الموت (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧) ، أي ولكي تعقلوا ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل ، فإن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما من دلائل الآفاق ، وهي : الليل ، والنهار ، والأرض والسماء. أو من دلائل الأنفس وهي : التصوير وحسن الصورة ، ورزق الطيبات. أو من عمر الإنسان وهو على ثلاث مراتب : كونه طفلا وهو في التزايد شيئا فشيئا وبلوغه كمال النشوء وظهوره في النقص. (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى يدل على الإله القادر كذلك الانتقال من الحياة إلى الموت ، وبالعكس يدل على الإله القادر. (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد أيّ أمر كان ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨) فعبّر الله عن نفاذ قدرته في الكائنات من غير معارض بما إذا قال : كن فيكون. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي انظر إلى هؤلاء المجادلين في آياته تعالى ، الواضحة ، الموجبة للإيمان بها (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٦٩) أي كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) أي بالقرآن ، (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) ، والوقف هنا تام أو كاف ـ كما قاله أبو عمرو ـ و «إذ» بمعنى إذا ، وهو ظرف ليعلمون ، والسلاسل عطف على الأغلال. والمعنى فسوف يعلمون وقت أن يكون الإغلال والسلاسل في أعناقهم (يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ) ، أي وهم يجرون بتلك السلاسل في الماء المسخن بنار جهنم.

وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب «السلاسل» على أنه مفعول مقدم لـ «يسحبون» بفتح الياء. وقرئ «والسلاسل» بالجر على إضمار الباء كما يدل عليه القراءة به. (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢) أي يحرقون ، (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) بعد أن يعذبوا بأنواع العذاب : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ) أي مع الله (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم ، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي بل لم نكن نعبد من قبل هذه الإعادة شيئا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ، ولا يسمع. وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة أو يقال : بل لم نكن نعبد

٣٥٤

من قبل هذا الوقت شيئا من دون الله. وهذا إنكار لعبادة الصنم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإضلال (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤) عن طريق الجنة (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٧٥) ، أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية ، وعبادة الأصنام ، وبكثرة المال والأتباع والصحة ، (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي السبعة المقسومة لكم (خالِدِينَ فِيها) أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦) عن الحق ، جهنم. (فَاصْبِرْ) على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالنصرة لك ، وبإنزال العذاب على أعدائك (حَقٌ) أي كائن بلا شك ، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي فإن نرك بعض الذي نعد أولئك الكفار من أنواع العذاب ، فذلك هو المطلوب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل إنزال العذاب عليهم ، (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧٧) يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام ، ويجوز أن يكون هذا جوابا للشرطين. فالمعنى : أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فيها فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي أنت يا أشرف الرسل كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ، ولم نذكر حال الباقين ، وليس فيهم أحد أعطاه الله معجزات إلا وقد جادله قومه فيها ، وكذبوه فيها ، وجرى عليهم من الهم مثل ما جرى عليك وصبروا ، وكان قومهم يقترحون عليهم إظهار المعجزة الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت ، ثم إن كان الصلاح في إظهارها أظهرناها وإلا لم نظهرها ، ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة ، (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي جاءكم الله بنزول العذاب على الأمم الماضية ، (قُضِيَ بِالْحَقِ) أي نفذ حكم الله بالعدل ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) ، أي وهلك في وقت مجيء العذاب من يقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت ، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) أي الإبل ـ كما قاله الزجاج ـ (لِتَرْكَبُوا مِنْها) أي الإبل (وَمِنْها) أي من لحوم الإبل ، (تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) ، كألبانها وأوبارها وجلودها ، (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، (وَعَلَيْها) أي الإبل بالهودج في البر ، (وَعَلَى الْفُلْكِ) أي السفن في البحر (تُحْمَلُونَ) (٨٠) وتسافرون ، (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (٨١) أي ليس في شيء من هذه الدلائل ما يمكن إنكاره ، لأنها كلها ظاهرة باهرة ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أقعدوا ، فلم يسيروا في أقطار الأرض؟ (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية المتكبرين؟ (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي من أهل مكة في العدد ـ يعرف في الأخبار ـ (وَأَشَدَّ قُوَّةً) بالبدن (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) قد بقيت بعدهم بحصون عظيمة مثل الأهرام الموجودة بمصر (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) ، أي فلم ينفعهم الذي كانوا

٣٥٥

يكسبونه أو فأي شيء نفعهم مكسو بهم ، (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). أي علم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة ، أو علمهم بأمور الدنيا وهو علمهم بالطبائع والصنائع يقال أي استهزاء الكفار بالبينات ، وبما جاء الرسل به من علم الوحي ، إذ لم يأخذوه بالقبول ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨٣) ، أي دار بالكافرين جزاء استهزائهم بالرسل ، (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي شدة عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٨٤) أي بالأصنام التي كنا مشركين بها مع الله تعالى لأنا علمنا أنها لا تدفع عنا شيئا من عذاب الله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ، أي فلم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند رؤية عذابنا لعدم قبوله حينئذ (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سنّ الله ذلك المذكور من التعذيب عند التكذيب ، ومن رد الإيمان عند معاينة العذاب أي إن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم ، ويجوز أن يكون سنة منصوبا على التحذير ، أي احذروا سيرة الله في المكذبين التي قد مضت على عباده ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ) أي في تلك المواضع (الْكافِرُونَ) (٨٥) بالله تعالى.

٣٥٦

سورة السجدة

وتسمى سورة فصلت ، وسورة حم السجدة ، وسورة المصابيح. مكية ، أربع وخمسون

آية ، سبعمائة وتسعة وتسعون كلمة ، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم) (١) أي هذا حم (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي جعلت آيات الكتاب تفاصيل في معادن مختلفة فبعضها : في ذات الله وصفاته ، وفي عجائب أفعاله. وبعضها : في أحوال التكاليف. وبعضها : في الوعد والوعيد ، ودرجات أهل الجنة ، ودركات أهل النار. وبعضها : في المواعظ والنصائح. وبعضها : في تهذيب الأخلاق. وبعضها : في قصص الأولين. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الاختصاص والمدح ، أو على الحالية من «كتاب» ، أو من «آياته». (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) أي كائنا لقوم عرب فـ «اللام» متعلقة بمحذوف صفة ثانية لـ «قرآنا» (بَشِيراً) للمطيعين بالثواب (وَنَذِيراً) للمجرمين بالعقاب.

وقرأ زيد بن علي برفع الاسمين (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبر هذا الكتاب مع كونهم بلغتهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٤) سماع طاعة ولا يلتفتون إليه ، فكون الكتاب نازلا من عند الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع ، وأجل المطالب ، وكونه قرآنا عربيا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان ، وكونه بشيرا ونذيرا يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات وإعراضهم عنه يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله ، ولا ضال إلا من من أضله الله. (وَقالُوا) أي كفار مكة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن ـ : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي أغطية (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ، أي ستر غليظ يمنعنا عن مواصلتنا إياك (فَاعْمَلْ) ، أي استمر على دينك وهو التوحيد ، (إِنَّنا عامِلُونَ) (٥) أي مستمرون على ديننا وهو الإشراك (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) ، أي قل يا أشرف الخلق : إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلّا بمجرد أن الله تعالى أوحى إلي دونكم ، فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم ، فإن شرفكم الله قبلتموه ، وإن خذلكم رددتموه. وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ، وذلك الوحي يرجع

٣٥٧

إلى أمرين : العلم والعمل. فالعلم رئيسه معرفة أن الله واحد ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وإذا كان الحق ذلك التوحيد وجب علينا أن نعترف به. وهو المراد من قوله تعالى : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي استقيموا في أفعالكم متوجهين إلى الإله الواحد ، ثم أمر الله تعالى بوظيفة العمل ورئيسه الاستغفار ، فلهذا السبب قال : (وَاسْتَغْفِرُوهُ) لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل المأتي به ، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧) فالله تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة : الشرك ، والامتناع من الزكاة ، وإنكار القيامة. فإن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله ، وأفضل أبوابه الإقرار بكون الله واحدا ، وإذا كان التوحيد أعظم الطاعات كان الشرك أخسها ، لأنه ضد التوحيد ، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال ، لأنه ضد الشفقة على خلق الله. ونقل عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله : أي لا يقولون لا إله إلّا الله فإنها زكاة الأنفس. والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم : لا إله إلا الله. وقال الحسن وقتادة : أي لا يعتقدون إعطاء الزكاة واجبا. وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨) أي غير مقطوع. قيل : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملونه. ويقال يكتب ثواب أعمالهم بعد الهرم أو الموت إلى يوم القيامة غير منقوض. وقيل : لا يمنون بذلك الأجر. (قُلْ) يا أشرف الخلق : (أَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي لتكفرون بالعظيم الشأن الذي حكم بأن الأرض ستوجد في مقدار يومين ، (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً). أي نظراء والحال أنه لا يمكن له نظير واحد ، أي أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية! (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) أي ذلك العظيم الشأن الذي علمت من صفته أنه خالق جميع الموجودات فكيف أثبتم له أنداد من الخشب والحجر؟! (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) وهو عطف على «خلق الأرض» ، أي وخلق في الأرض جبالا ثوابت (مِنْ فَوْقِها) ، أي كائنة من فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه وليتفكر أن الجبال أثقال ، على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك ، وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلّا الله تعالى ، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، (وَبارَكَ فِيها) أي الأرض بشق الأنهار ، وخلق الأشجار والثمار ، وأصناف الحيوانات ، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات ، (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي بأن يوجد لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة. وقرئ «وقسم فيها أقواتها». (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي مع اليومين الأولين الذين خلق فيهما الأرض (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠).

٣٥٨

قرئ «سواء» بالحركات الثلاثة : النصب : على مصدر مؤكد لمضمر ، هو صفة لأربعة : أي استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص. والجر : على الوصف ، أي مساويات غير مختلفة في المقادير. والرفع : على تقدير هي سواء ، ولمن قرأه بالرفع أن يقف على أربعة أيام. وقوله تعالى : (لِلسَّائِلِينَ) إما متعلق بـ «سواء» أي مستويات لمن سأل الرزق ، ولمن لم يسأل ، أو متعلق بقدر ـ كما قاله الزجاج ـ أي وقدر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيام ، لأجل الطالبين للأقوات المحتاجين إليها ، أو متعلق بمحذوف والتقدير : هذا الحصر بيان للسائلين عن مدة خلق الأرض ، وما فيها. في كم يوم خلقت الأرض وما فيها (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، أي ثم قصد إلى خلق السماء ، أي ثم دعاه داعي الحكمة إلى خالق السماء بعد خلق الأرض ، وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك ، (وَهِيَ دُخانٌ) أي أمر ظلماني ، أو دخان مرتفع من الماء. (فَقالَ لَها) ـ أي للسماء ـ (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) إلى الوجود والحصول أي كوننا على وجه معين ، وفي وقت مقدر لكل منكما. وهذا عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا ، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي طائعتين أو كارهتين ، أي شئتما ذلك أو أبيتما. (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) أي أتينا أمرك منقادين لا على الكره. وهذا تمثيل لكمال تأثرهما بالذات العلية عن القدرة الربانية.

وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا قالتا آتينا». بالمد في الفعلين ، أي وافقا على مرادي منكما. قالتا : توافقنا على ذلك أو أعطيا الطاعة من أنفسكما من أمركما. قالتا : أعطينا الطاعة. ويقال : إن الله تعالى قال للسماء والأرض بعد ما فرغ منهما : أعطيا ما فيكما أو جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. أي قال لهما : افعلا ما أمرتكما طوعا وإلّا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه ، (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) ، أي أتم السماء حال كونها سبع سموات في يومين. ذكر أهل الأثر أن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين. وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، وأن الذي خلق أولا هو الدخان الذي هو أصل السماء ، ثم بعده الأرض ، غير مدحوة ، ثم خلقت السماء مبسوطة متفاصلة طباقا بعضها فوق بعض ، ثم دحيت الأرض ، وخلق ما فيها من الأرزاق وغيرها. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها).

قال مقاتل : أمر في كل سماء بما أراد. وقال قتادة والسدي : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال عطاء عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهم : خلق في كل سماء ما فيها من البحار وجبال البرد ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ويقال : ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص ، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة ، ومنهم ركوع لا ينتصبون ، ومنهم سجود لا يرفعون ، وذلك الأمر مختص بأهل السماء. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) ـ وهي

٣٥٩

النبرات التي خلقها في السموات وخصّ كل واحد بضوء معين ، وطبيعة معينة ، وسر معين ، لا يعلمها إلّا الله تعالى ـ (وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع.

وقيل : إن «حفظا» مفعول له على المعنى كأنه قيل : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا ، فبعض النجوم زينة السماء لا يتحرك وبعضها يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وبعضها رجوم للشياطين. (ذلِكَ) أي هذه التفاصيل (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢) لأنها لا تمكن إلّا بقدرة كاملة وعلم محيط ، (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن قبول هذه الحجة القاهرة وأصروا على التقليد ، (فَقُلْ) لهم : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) أي خوفتكم عذابا هائلا ، كأنه نار معها رعد شديد (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣).

وقرأ ابن الزبير ، والنخعي ، والسلمي ، وابن محيصن : «صعقة» مثل صعقة عاد وثمود ، وهي المرة من صيحة العذاب.

روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ، ثم أتانا ببيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة ، وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي ، فأتاه ، فقال : يا محمد أنت خيرا أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله؟ فلم تشتم آلهتنا وتضللنا ، فإن كنت تريد الرئاسة عقدنا اللواء ، فكنت رئيسنا وإن كنت أردت الباه زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به ، ورسول الله ساكت ، فلما فرغ عتبة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إلى قوله تعالى : (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)» فأمسك عتبة على فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا : لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت ، فغضب عتبة ، وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا سحر ، ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم ، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب ، وإنما خص هاتين القبيلتين ، لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم ، (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) حال من صاعقة عاد ، أو ظرف منها منصوب بها ، لأنها بمعنى عذاب ، فالمعنى صعقة عاد وثمود وقت مجيء رسلهم إليهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي أتوهم من جميع جوانبهم ، وأتوهم بجميع وجوه الحيل ، فلم يروا منهم إلّا الأعراض ، أي جاءتهم الرسل من قبلهم ، ومن بعدهم ، أي جاءهم هود وصالح داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ، فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فـ «أن» مفسرة بمعنى أي ، أو مخففة من الثقيلة ، أي بأنه لا تعبدوا أي بأن الحديث قولهم لهم لا تعبدوا إلّا الله ، «أو» مصدرية ، والجملة بعدها صلتها وصلت بالنهي ، كما توصل بالأمر ، أي جاءوهم بكونهم نهوهم

٣٦٠