مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

وحسن منظر. وقيل : معنى المعلوم إنهم يتيقنون دوام الرزق لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ، ومتى ينقطع. وقيل : معناه أن الرزق على قدر يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم ، (فَواكِهُ) وهو ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات ، لأنهم مستغنون عن القوت ، وهو بدل كل من رزق فالفواكه مساوية للرزق فتشمل الخبز واللحم ، لأنهما يؤكلان في الجنة تلذذا ، (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) (٤٢) عند الله تعالى لا يلحقهم هوان ، لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٤٣) أي في جنات ليس فيها إلّا التنعيم ، (عَلى سُرُرٍ) مكللة بالدر والياقوت والزبرجد ، (مُتَقابِلِينَ) (٤٤) أي متواجهين في الزيارة لا يرى بعضهم قفا بعض ، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) أي بخمر أو بإناء فيه خمر ، فالكأس يطلق عليهما (مِنْ مَعِينٍ) (٤٥) أي من نهر جار على وجه الأرض خارج من العيون ، (بَيْضاءَ) مثل اللبن (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ) أي ليس في شربها صداع في الرأس ـ كما قاله ابن عباس والليث ـ ولا وجع البطن ـ كما قاله قتادة ـ ولا أثم ـ كما قاله الكلبي ـ ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧).

قرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي أي يسكرون. والباقون بفتح الزاي أي يذهب عقولهم. وعن سببية أي بسبب الخمر (وَعِنْدَهُمْ) في الجنة (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم (عِينٌ) (٤٨) أي كبار الأعين حسانها ، (كَأَنَّهُنَ) في الصفاء (بَيْضٌ) للنعام (مَكْنُونٌ) (٤٩) أي مصون عن القترة ، شبههن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة ، فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥٠). وهذا معطوف على «يطاف» ، أي يشربون ويتحادثون على الشراب فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم ، وعن المعارف. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من أهل الجنة في تضاعف محاوراتهم وهو يهوذا : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (٥١) أي مصاحب في الدنيا يقال له : نطروس ـ وهما شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن وهو يهوذا ، والآخر كافر وهو نطروس ـ (يَقُولُ) لي يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) (٥٢) بالبعث ويقول تعجبا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (٥٣)! أي لمحاسبون ومجاوزون. وقرئ «المصدقين» بتشديد الصاد.

وقيل : كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فافتقر ، فاستجدى بعض إخوانه فقال : أين مالك؟ قال : تصدقت به ليعوضني الله تعالى في الآخرة خيرا منه. فقال : أإنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا ، فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبني على إنكار البعث. (قالَ) ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة لجلسائه : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) (٥٤) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين؟

٣٠١

فذهب إلى بعض أطراف الجنة (فَاطَّلَعَ) عندها إلى النار (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٥٥) أي فرأى ذلك الرجل قرينه في وسط النار. (قالَ) له موبخا : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (٥٦) أي إنه ، أي الشأن قاربت لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة.

وقرئ «لتغوين» ، أي لتضلني عن الدين ، (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٥٧) في النار مثلك ، ثم عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) (٥٨) أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي كانت في الدنيا ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٥٩). وهذا استفهام تلذذ فهو من سؤال بعضهم لبعض ، لأن الذي تتكامل سعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول : أيدوم هذا لي أيبقى هذا لي ، وإن كان على يقين من دوامه ، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون : (إِنَّ هذا) أي الذي نحن فيه (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٠). والوقف هنا تام. وقيل : هو من قول الله تعالى تصديقا لقولهم. وقرئ «إن هذا» أي الذي ذكر لأهل الجنة لهو الرزق العظيم. قال الله تعالى ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١) أي لطلب مثل هذه السعادات المحكية يجب أن يعمل العاملون فليجتهد المجتهدون بالعلم والعبادة. (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٦٢) أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم ، أمر الله ورسوله أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر والمعنى أن الرزق المعلوم ضيافة أهل الجنة ، وأهل النار ضيافتهم شجرة الزقوم فأيهما خير في كونه ضيافة. وهذا الكلام جيء به على سبيل السخرية بهم ، لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية. (إِنَّا جَعَلْناها) أي شجرة الزقوم (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) (٦٣) أي شبهة في قلوبهم حتى صارت سببا لتماديهم في الكفر ، فإنهم لما سمعوا أن شجرة الزقوم في النار قالوا : كيف يعقل أن تنبت الشجرة في النار مع أنها تحرق الشجر ولم يعلموا أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر ، لأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثل ذلك في هذه الشجرة؟ (إِنَّها) أي الزقوم (شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤) أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

وقرئ «نابتة في أصل الجحيم». (طَلْعُها) أي ثمرها (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) في القبح والهول ، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك في قوله تعالى حكاية لقول النساء : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) وذلك أن الناس اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة ، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة ، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال ، حسن التشبيه برءوس الشياطين في قبح النظر كأنه قيل : إن أقبح الأشياء في الخيال هو رؤوس الشياطين. وقيل : إن الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأعراف ، وهي من

٣٠٢

أقبح الحيات ، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق ، دفرة ، مرة ، كريهة الرائحة تكون في تهامة ، (فَإِنَّهُمْ) أي الكفار (لَآكِلُونَ مِنْها) أي من الزقوم (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦) لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها تكميلا لعذابهم (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي الزقوم بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (٦٧) ، أي لمخلوطا بماء متناه في الحرارة. والمعنى : إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من الماء الحار ، فحينئذ يخلط الزقوم بماء حميم فيقطع أمعاءهم ، نعوذ بالله من ذلك (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨) فإن الزقوم والحميم ضيافة تقدم إليهم قبل دخولها.

وقرئ «إن مصيرهم» أي منقلبهم. (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) (٦٩) أي إنهم وجدوهم ضالين في نفس الأمر (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠) أي فهم يتبعون آباءهم على دينهم اتباعا في سرعة من غير تدبر أي إنما استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين ، وترك اتباع الدليل ، (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) (٧١) من الأمم السالفة ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) (٧٢) أي أنبياء أولي عدد كثير ، وذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما عليهم ، فلم يؤمنوا بهم. وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كفر قومه وتكذيبهم له ليكون له أسوة بمن تقدم من الرسل ليصبر كما صبروا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣). والمقصود من هذا الخطاب خطاب الكفار وإن كان في الظاهر خطابا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤) بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل وبكسرها ، أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى. وهذا استثناء من قوله تعالى : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) فإنها كانت أقبح العواقب ، فإنا أهلكناهم إلّا عاقبة عباد الله المخلصين ، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة لأنا لم نهلكهم ، أو استثناء من قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وقوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ). أي فإنهم لم يضلوا لأنهم لم يكذبوا رسلهم. (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) في أن ننجيه من الغرق أو في إيذاء قومه وقصدهم لقتله (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٧٥) أي فو الله لنعم المجيبون نحن ، (وَنَجَّيْناهُ) أي نوحا (وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٧٦) أي الحاصل بسبب الخوف من الغرق ، أو الحاصل من أذى قومه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٧٧) إلى يوم القيامة ، وكان له ثلاث بنين : سام ، وحام ، ويافث. فسام : أبو العرب ، وفارس ، والروم. وحام : أبو الحبش ، والبربر ، والسند ويافث : أبو الترك والتتار ويأجوج. ومأجوج (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٧٩) أي وتركنا على نوح في الباقين بعد من الأمم ، هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين أي يسلمون عليه تسليما ويدعون له بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا على الدوام ، أي أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين ، فيسلمون عليه بكليتهم (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠) أي إنا مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٨١). والمقصود من

٣٠٣

هذا بيان أن أعظم الدرجات الإيمان بالله والانقياد لطاعته ، (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢) وهم كفار قومه أجمعين (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن تابعه في أصول الدين (لَإِبْراهِيمَ) (٨٣) وإن اختلفت فروع شرائعها ، وما كان بينهما إلّا نبيان : هود وصالح عليهم‌السلام ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٤) ، أي إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من كل عيب. وقال الأصوليون : المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس المعاصي ، فيكون سليما عن الشرك ، والغش ، والحقد ، والحسد.

وعن ابن عباس : أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ظرف لـ «جاء» أو لـ «سليم» ، وأما العامل في «إذا» الأولى فهو ما دلّ عليه قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) من معنى المتابعة. (ما ذا تَعْبُدُونَ) (٨٥) أي أيّ شيء تعبدونه (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (٨٦)! أي أتعبدون آلهة من غير الله لأجل الكذب؟ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٧) أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية. (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) (٨٨) ، أي في علم النجوم وأراد أن يتخلف عنهم في عيد يخرجون إليه ليبقى خاليا في بيت الأصنام ، فيقدر على كسرها ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان قومه يتعاملون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاملون به ليتركوه ويعذروه في التخلف عنهم. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩) أي سأسقم سقم الموت ، لأن من كتب الله عليه الموت يسقم في الغالب ، ثم يموت ـ كما قاله الضحاك ـ أو سقيم القلب عليكم لعبادتكم الأصنام ، وذلك تورية ليتركوه وقيل : إنه نظر إلى نجم طالع فقال : إن هذا يطلع مع سقمي. وأشار لهم إلى مرض يعدي كالطاعون وكانوا يهربون من الطاعون ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٩٠) أي فارين مخافة العدوى وتركوه ، وعذروه في أن لا يخرج اليوم ذاهبين إلى عيدهم ، فكان ذلك مراده ، وكانوا في قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها : هرمز (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إلى الأصنام في خفية ، (فَقالَ) استهزاء بها : (أَلا تَأْكُلُونَ) (٩١)؟ أي من الطعام لذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) (٩٢) بجواب كلامي؟ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) (٩٣) أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ضربا شديدا قويا ، (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) (٩٤) أي إنهم لما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسرة ، فسألوا عن المكسر ، فظنوا أنه إبراهيم عليه‌السلام ، فأتوا به يسرعون المشي.

وقرأ حمزة «يزفون» بضم الياء ، أي يحملون غيرهم على الإسراع في المشي. (قالَ) لهم إبراهيم ، أي بعد أن أتوا به عليه‌السلام وعاتبوه على كسر الأصنام : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٩٥) بأيديكم من العيدان والحجارة! (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦)؟ أي والحال أن الله تعالى خلقكم ، وخلق معمولكم ، فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك. (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (٩٧) أي في النار الشديدة الاتقاد.

٣٠٤

قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه نارا ، فطرحوا سيدنا إبراهيم فيها (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي شرا حرقا بالنار ، (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٩٨) أي الأذلين بإبطال كيدهم بجعل النار عليه بردا وسلاما ، أي أن إبراهيم عليه‌السلام في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم. (وَقالَ) إبراهيم لما انقضت هذه الواقعة : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي إلى مواضع دين ربي وهي أرض الشام. فالمراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار ، (سَيَهْدِينِ) (٩٩) إلى ما فيه صلاح ديني ، فلما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠٠) أي ولدا من المرسلين ، فاستجبنا له ، (فَبَشَّرْناهُ) على لسان الملائكة (بِغُلامٍ) ، أي بولد ذكر (حَلِيمٍ) (١٠١) ، أي ذي حلم كثير وهو إسماعيل عليه‌السلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي فوهبنا له فنشأ ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه. (قالَ) إبراهيم لإسماعيل عليهما‌السلام (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أي إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك في اليقظة.

روي أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) بفتح التاء والراء أي أيّ شيء تشير إلي برأيك.

وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء ، أي أيّ الذي ترى من نفسك الصبر والتسليم.

وقرئ مبنيا للمفعول أي ما تظن ذلك الرؤيا. (قالَ) أي ذلك الغلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما أمرت به ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) على قضاء الله وعلى الذبح (فَلَمَّا أَسْلَما) أي انقادا لأمر الله تعالى واتفقا. وقال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) أي أضجعه على جنبه ، وجواب «لما» محذوف ، أي نادته الملائكة من الجبل : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.

حكي أن إبراهيم لما أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال : يا أبت اشدد رباطي في كي لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك كي لا ينضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، واستحد شفرتك ، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون علي ، فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي. وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها. فقال إبراهيم عليه‌السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه ، وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه ، فلم تؤثر شيئا فقال الابن : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة

٣٠٥

تحول بينك وبين أمر الله ، ففعل ، ثم وضع السكين على قفاه ، فانقلبت ، فعند ذلك نودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فذلك قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) (١٠٤) فـ «أن» مفسرة ، (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي قد أتيت ما أمرت به في المنام وقد حصل المقصود من تلك الرؤيا (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥) أي كما جزيناهم إبراهيم وابنه بتفريج الكرب ، نجزي كل محسن بامتثال الأمر ، (إِنَّ هذا) أي الذبح (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١٠٦) أي لهو الجنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها ، (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧) أي وفدينا إسماعيل بكبش سمين اسمه جرير ، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى ، فقبله ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل.

وقال السدي : نودي إبراهيم ، فالتفت ، فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل ، فقام عند إبراهيم ، فأخذه. فذبحه ، ثم اعتنق ابنه ، وقال : يا بني اليوم وهبت لي.

وروي أنه لما ذبحه قال جبريل عليه‌السلام الله أكبر ، الله أكبر فقال الذبيح : لا إله إلّا الله والله أكبر فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي ذلك سنة ، والفادي في الحقيقة هو إبراهيم ، فالله هو المعطي له والآمر به (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) ، أي وتركنا على إبراهيم في الباقين من الأمم هذه الكلمة والمعنى : أثبت الله التسليم على إبراهيم وأدامه في الآخرين ، فيسلمون عليه أي يدعون له بثبوت هذه التحية (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١١٠) ، أي مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم نجزي المحسنين بالثناء الحسن ، (إِنَّهُ) أي إبراهيم ، (مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١١١) ، أي الراسخين في الإيمان (وَبَشَّرْناهُ) أي إبراهيم (بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٢) أي مقضيا بنبوته ، مقدرا كونه من الصالحين فالصلاح غاية للنبوة ، (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي أبقينا الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى قيام القيامة وأخرجنا جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) بالإيمان والطاعة ، (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي (مُبِينٌ) (١١٣) أي ظاهر ظلمه. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١١٤) أي أنعمنا عليهما بمنافع الدنيا ، كالحياة ، والعقل ، والصحة : وبمنافع الدين كالعلم والطاعة ، وأعلى هذه الدرجات : النبوة ، (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) وهم بنو إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (١١٥) من الغرق الذي أغرق الله به فرعون وقومه ، ومن إيذاء فرعون ، (وَنَصَرْناهُمْ) على فرعون وقومه (فَكانُوا) بسبب ذلك (هُمُ الْغالِبِينَ) (١١٦) عليهم بظهور الحجة ، ثم بالرفعة ، (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) (١١٧) أي البليغ في البيان ـ وهو التوراة ـ فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا ، (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١١٨) ، أي دللناهما على طريق الحق عقلا وسمعا ، ومددناهما بالتوفيق والعصمة ، (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) ، أي وتركنا عليهما في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهم : سلام على موسى

٣٠٦

وهارون ، أي دعاءهم لهما بثبوت هذه التحية ، (إِنَّا كَذلِكَ) أي مثل الجزاء الكامل (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢). وهذا تنبيه على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أعلى من كل الفضائل ، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل المرسلين بكونهم من المؤمنين ، (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٢٣) ، وهو إلياس بن ياسين ، من ولد هارون أخي موسى عليهم‌السلام ، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل.

قال ابن عباس : وهو ابن عم اليسع عليهما‌السلام. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) (١٢٤) عذاب الله (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) ، أي أتعبدون بعلا ـ وهو اسم صنم لأهل بك ـ قيل : كان من ذهب طوله عشرون ذراعا ، وله أربعة وجوه ، وكانوا عظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ، ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وببعلبك سميت مدينتهم. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (١٢٥) أي وتتركون عبادة أعظم المصورين (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (١٢٦).

قرأ حمزة والكسائي ، وحفص عن عاصم بالنصب على البدل. والباقون بالرفع على الاستئناف (فَكَذَّبُوهُ) أي إلياس (فَإِنَّهُمْ) بسبب تكذيبهم (لَمُحْضَرُونَ) (١٢٧) النار غدا ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٢٨) في التوحيد والعبادة. وهذا استثناء من الواو في فكذبوه ، (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١٣٠) ، أي وتركنا عليه في الآخرين دعاءهم له بثبوت التسليم.

قرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الهمزة ممدودة ، وكسر اللام على إضافة لفظ «آل» إلى لفظ «ياسين». والمراد به إلياس ابن ياسين كأن إلياس آل ياسين. والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام ، كما يقال : ميكال ، وميكائيل ، وميكالين ، فكذا هاهنا يقال : إلياس وإلياسين ـ كذا قال الزجاج ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٣٣) إلى قومه (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) ابنتيه زاعورا ورينا ، (أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٣٥) أي إلّا امرأته المنافقة تخلفت مع المتخلفين بالهلاك ، (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٣٦) أي أهلكنا من بقي بعد لوط وابنتيه ، (وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) أي على قريات قوم لوط ، سذوم ، وعمورا ، وصبورا ، ودادوما (مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ) ، فإن أهل مكة كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار ، فلهذا السبب عين الله تعالى هذين الوقتين ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨) أي أتشاهدون ذلك فليس فيكم عقول تعتبرون به وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ) أي هرب من قومه بغير إذن ربه ، (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١٤٠) أي إلى السفينة الموقرة ، (فَساهَمَ) أي قارع في السفينة ، (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (١٤١) أي فصار من المغلوبين بالقرعة (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) ـ يقال له : لخم ـ (وَهُوَ مُلِيمٌ) (١٤٢) أي مستحق اللوم (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (١٤٣) أي كان يقول في بطن الحوت : لا

٣٠٧

إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، أو كان قبل أن التقمه الحوت من المصلين (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) أي ذلك الحوت (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤) (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي أمرنا الحوت بلفظه بالمكان الخالي ، عما يغطيه من شجر أو نبت.

قال جعفر : بشاطئ دجلة. وقيل : بأرض اليمن. حكاه ابن كثير.

روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس عليه‌السلام ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء ، فأسلموا (وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥) أي مريض صار بدنه كبدن الطفل حين يولد ، (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١٤٦) أي من قرع وخص الله القرع ، لأنه يجمع برد الظل ، ولين الملمس ، وكبر الورق ، وأن الذباب لا يقربه ، فإن جسد يونس حين ألقي على الأرض الواسعة لم يكن يتحمل الذباب.

قال مقاتل بن حبان : كان يونس عليه‌السلام يستظل بالشجرة ، وكانت وعلة تتردد إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشيا حتى اشتد لحمه ونبت شعره ، (وَأَرْسَلْناهُ) إلى قوم بنينوى ، وهي قرية من أرض الموصل (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧).

قال ابن عباس : إن أو بمعنى الواو ، وقد قرئ بالواو. (فَآمَنُوا) بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا (فَمَتَّعْناهُمْ) بالحياة الدنيا (إِلى حِينٍ) (١٤٨) أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلا لكل واحد منهم ، أي إن أولئك القوم لما آمنوا ، أزال الله عنهم الخوف وأمنهم من العذاب ، (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سل بعض أجناس العرب ممن قالوا : الملائكة بنات الله كبني مليح ، وبني سلمة وجهينة وخزاعة ، (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) اللاتي هي أوضع الجنسين (وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (١٤٩)؟ الذين هم أرفعهما ، فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل ، (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠)؟ أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ) أي كذبهم (لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ) فعل وفاعل حيث قالوا : الملائكة بنات الله.

وقرئ «ولد الله» ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي الملائكة ولد الله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٥٢) في مقالتهم ذلك كذبا بينا. (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣) بفتح الهمزة ، وهي استفهام إنكار وتقريع ، أي اختار الله الإناث على الذكور (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٥٤) بهذا الحكم الجائر ، وهو أنهم نسبوا أخس الجنسين إلى الله تعالى وأحسنهما إليهم ، فالأول استفهام إنكار عما استقر لهم ، والثاني استفهام تعجب من هذا الحكم ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٥٥) أي ألا تلاحظون ذلك فلا تتعظون به! (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) (١٥٦) أي بل ألكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله ، (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي دل على صحة دعواكم ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٥٧) في دعواكم. (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ) تعالى (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) أي إن قوما من الزنادقة يقولون : الله تعالى وإبليس إخوان ، فالله

٣٠٨

تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم. ويقولون : إبليس مع الله شريك ، فالله خالق الخير ، وإبليس خالق الشر ـ وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ـ (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨) أي ولقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار ، ويعذبهم بها ولو كانوا شركاء لله في استحقاق العبادة لما عذبهم ، ثم نزّه الله نفسه عما قالوا من الكذب فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٥٩) أي عما يقولون من الكذب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠) أي لكن عباد الله المخلصين لله بالاعتقاد والعبادة ، فإنهم لا يكذبون على الله ، وينزهون الله تعالى عما يصفه به تعالى الكاذبون ، وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة مناسبة فهو عند الله مخلص ممن الشرك ، (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) ، أي فإنكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم ، إلا أصحاب النار الذي سبق في علم الله كونهم من أهل النار ، فإنهم يصرون على الكفر بسوء اختيارهم. وهذا استثناء مفرغ.

وقرأ العامة «صال الجحيم» بكسر اللام ، لأنه منقوص حذفت منه لام كلمته لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن بضم اللام وسقوط الواو لالتقاء الساكنين ومن موحد اللفظ مجموع المعنى ، (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤) ، أنزل الله تعالى هذه الآية حكاية عن قول الملائكة وهي حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم ، أي وما منا ملك إلا له مكان معلوم في العبادة ـ قاله ابن مسعود وابن جبير – وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في السماء موضع قدم إلّا عليه ملك ساجد أو قائم» (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) أي المنزهون لله تعالى عما لا يليق به تعالى (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩) أي إن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون : لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله ، ولما كذبنا كما كذبوا ، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الشاهد على كل الكتب وهو القرآن ، (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠) عاقبة هذا الكفر والتكذيب ، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (١٧١) ، أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم وهو (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١٧٢) بالحجة (وَإِنَّ جُنْدَنا) وهم أتباع المرسلين (لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) على أعدائهم في الدنيا والآخرة ، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد ، فإن أساس أمرهم النصرة ، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من المحنة ، والحكم للغالب.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وقرئ «على عبادنا» بتضمين «سبقت» معنى حقت. وقرئ «كلماتنا». (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٤) ، أي أعرض عن كفار مكة إلى مدة يسيرة تؤمر فيها بجهادهم ، (وَأَبْصِرْهُمْ) وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا ومن العذاب في الآخرة (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٥) ما يقع عليهم من الأمور ، (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (١٧٦).

٣٠٩

روي أنه لما نزل (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) قالوا على سبيل الاستهزاء : متى هذا الموعود ، فنزل : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٧) أي فإذا نزل العذاب بقربهم فبئس صباح المنذرين صباحهم.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا : محمد والخميس ، ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر ، خربت خبير إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)» (١). والصباح : هو وقت نزول العذاب وإن وقع ليلا.

وقرئ «نزل» بتشديد الزاي وبالبناء للمفعول. (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٨) أي أعرض عنهم إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة. (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩) ، أي يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٨٠). وهذه كلمات محتوية على أقصى الدرجات في معرفة إله العالم ، فلفظة سبحان تنزيهه عما لا يليق بصفات الإلهية والربوبية دالة على كمال الرحمة ، والحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة وهي دالة على أنه تعالى قادر على جميع الحوادث ومنزه عن الشريك والنظير في الإلهية (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١). وهذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم ، فيجب على كل من سواهم الاقتداء بهم ، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢) على نجاة الرسل وسلامة الحال بعد الموت ، فالله تعالى غني رحيم ، والغني الرحيم لا يعذب.

__________________

(١) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (١٦٨).

٣١٠

سورة ص

ويقال لها سورة داود ، مكية ، ست وثمانون آية ، سبعمائة

واثنتان وثلاثون كلمة ، ثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(ص) قيل : إنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد كقولنا : صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، صمد. وقيل : معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله تعالى ، (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) أي ذي الشرف ، أو ذي البيان ففيه قصص الأولين والآخرين ، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من رؤساء قريش (فِي عِزَّةٍ) أي استكبار وامتناع من متابعة الغير (وَشِقاقٍ) (٢) أي إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف.

وقرئ «في غرة» ، أي في غفلة عما يجب عليه التنبيه له من دواعي الإيمان. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قريش (مِنْ قَرْنٍ) أي أمة ماضية ، (فَنادَوْا) بالاستغاثة عند نزول عذاب لينجوا من ذلك ، (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) أي والحال أنه ليس الحين حين منجى وغوث ، (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي وعجب قريش من أن جاءهم رسول من جنسهم ، وأنكروه أشد الإنكار فقالوا : إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي؟! (وَقالَ الْكافِرُونَ) أي المتوغلون في الكفر : (هذا) أي محمد (ساحِرٌ) فيما يظهره من الخوارق ، (كَذَّابٌ) (٤) فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال ، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد ، (إِنَّ هذا) أي القول بالوحدانية (لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) ، أي بليغ في التعجب.

روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا ، وشق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ، ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال ، فلا تمل كل الميل على قومك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماذا يسألونني؟ قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك» فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيتم

٣١١

إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟». قالوا نعم. فقال : «قولوا لا إله إلّا الله» (١). فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد إن هذا الشيء عجاب. وقرئ «عجاب» بالتشديد. (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي انطلق الرؤساء من قريش عتبة بن أبي معيط ، وأبو جهل ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب ، (أَنِ امْشُوا).

وقرأ ابن أبي عبلة بحذف «أن» ، أي قال بعضهم لبعض : اذهبوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي اثبتوا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٦) أي إن نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة محمد ليستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد ، أو إن الصبر على عبادة الآلهة شيء يراد أن لا ننفك عنه ، (ما سَمِعْنا بِهذا) أي التوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) ، أي في ملة عيسى عليه‌السلام ـ كما قاله ابن عباس ومحمد بن كعب ـ أو في ملة قريش ـ كما قاله مجاهد ـ أي ما سمعناه عن أسلافنا القول بالتوحيد ، (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٧) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا اختلاق من عند نفسه ، (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي أأنزل على محمد القرآن ، ونحن رؤساء الناس وأشرافهم ، فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية؟! (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨) أي إنكار كفار مكة للقرآن ليس عن علم بل هم في شك منه ، وسببه أنهم لم يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن ، وآمنوا به وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين ، (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩)؟ أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك من النبوة والكتاب فيعطونهما من شاءوا بمقتضى آرائهم. والمعنى : أن النبوة منصب عظيم عطية من الله تعالى ، فالقادر على هبتها يجب أن يكون كامل القدرة عظيم الجود ، فلم تتوقف هبته لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا ، أو فقيرا ، ولم يختلف ذلك بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه ، فهو تعالى الغالب الذي لا يغلب ، وهو الوهاب ، فله أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ، (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)؟ أي بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتحكموا في التدابير الإلهية التي ينفرد بها رب العزة ، (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١٠) أي إن كان لهم ذلك الملك فليصعدوا في طرق السموات التي يتوصل بها إلى العرش حتى يدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يختارون ، (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١) ، و «جند» خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للتحقير ، أو صفة له ، و «هنالك» ظرف لـ «مهزوم» و «مهزوم» ، وصفة ثانية لـ «جند» ، و «من الأحزاب» صفة ثالثة لـ «جند» ، أي هم جند ضعيفون من المتحزبين على رسول الله سيصيرون منهزمين في

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : القناعة ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٨٥) ، وفيه «أموالكم» بدل «أقوالكم».

٣١٢

الموضع الذي ذكروا فيه تلك الكلمات ، وذلك الموضع هو مكة ، وذلك الانهزام يوم فتح مكة فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما ومن أين لهم التصرف في الأمور الربانية؟ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك يا أكرم الرسل (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) (١٢) ، كان ينصب الخشب في الهواء ، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع ، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا ويتركه في الهواء إلى أن يموت.

وقال مجاهد : كان يمد المعذب مستليقا بين أربعة أوتاد في الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. قال السدي : ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل : إن عساكره كانوا كثيرين ، وكانوا كثيري الأهبة ، عظيمي النعم. وكانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام ، فعرف بها. (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الأشجار المجتمعة من قوم شعيب عليه‌السلام ، (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) (١٣) أي الذين تحزبوا على أنبيائهم عليهم‌السلام ، (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ما كل حزب منهم إلّا كذب الرسل كما كذبك قومك ، (فَحَقَّ عِقابِ) (١٤) أي فوقع على كل منهم عقابي ، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان ، وقوم هود بالريح ، وفرعون مع قومه بالغرق ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف ، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي وما ينتظر كفار مكة إن كذبوك إلا نفخة ثانية ، (ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥) أي من توقف.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الفاء. (وَقالُوا رَبَّنا) بطريق الاستهزاء عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي حظنا من العذاب الذي توعدنا به ، (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦) ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه النفخة الثانية. وقيل : إنهم قالوا ذلك حين ذكر الله في كتابه فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله. فالمعنى : عجل لنا صحيفة أعمالنا قبل يوم الحساب لننظر ما فيها ولنعلمه. وقيل : لما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد الله تعالى المؤمنين بالجنة فقالوا ذلك على سبيل السخرية. فالمعنى : عجل لنا نصيبنا من الجنة التي تقول في الدنيا ، وذلك لأنهم كانوا في غاية الإنكار للقول بالنشر والحشر. ولما بلغوا في السفاهة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من أمثال هذه المقالات الباطلة ؛ والوقف هنا تام. (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة على أداء الطاعة وعلى الاحتراز عن المعاصي ، (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧) أي رجاع في أموره كلها إلى طاعتنا ، (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى ، (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨) أي يقدسن الله تعالى بخلق الله تعالى فيها الكلام ، فكان داود يسبح عقب صلاته عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) ، أي وسخرنا الطير محشورة.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه

٣١٣

الطير ، فسبحت معه. واجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو الله.

وقرئ و «الطير محشورة» بالرفع على الابتداء والخبرية. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١٩) أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود رجاع إلى التسبيح ، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته ، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة ، (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) بالهيبة ، وكثرة الجنود.

عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله.

وعن عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه ، فقال داود : للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعى عليه ، فتأخر داود وقال : هو منام ، فأتاه الوحي بعد ذلك في اليقظة ، فأحضر المدعى عليه وأعلمه ان الله أمره بقتله. فقال : صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فقال الناس : إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه ، فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب ، فهذه الواقعة شدت ملكه. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوة وكمال العلم وإتقان العمل ، (وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل ، (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) أي خبر خصمي داود ، (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) ، أي إذا أتوا البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه من أعلاه ، أي تصعدوا حائطه المرتفع ، (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ).

روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه‌السلام ، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم ، وتسوروا المحراب ، فلما دخلوا عليه وجدوا عند أقواما يمنعونه منهم ، فخافوا ، فوضعوا كذبا فقالوا : خصمان أي نحن فريقان إلى آخر القصة ، فعلم عليه‌السلام غرضهم فهمّ بأن ينتقم منهم (بَغى بَعْضُنا) أي تطاول (عَلى بَعْضٍ) جئناك لتقضي بيننا ، (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي بالأمر الذي يطابق الحق (وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكومة ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢) أي دلنا إلى وسط طريق الحق ، (إِنَّ هذا أَخِي) في الدين ، أو في الصحبة ، (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي أنثى من الضأن ، (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ، أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣) أي غلبني في الكلام ، بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده.

وقرئ و «عازني» أي غالبني. (قالَ) داود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي والله لقد ظلمك أخوك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ) أي ليعتدي بعضهم (عَلى بَعْضٍ) ، فلم يراع حق الصحبة والشركة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) منهم ، فإنهم يتحامون على الظلم (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ، أي وهم قليل ، و «ما» مزيدة للتعجب من قلتهم. (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) و «ما» كافة زائدة ، أي وظن داود

٣١٤

أنا فتناه بهذه الواقعة ، لأنها جارية مجرى الامتحان فتنبه عليه‌السلام لذلك ، (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) مما همّ به من الانتقام منهم. وقيل : إن دخولهم على داود كان فتنة له إلّا أنه عليه‌السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله. وقيل : إن أوريا كان قد خطب المرأة ، فأجابوه ، ثم خطبها داود في حال غيبة أوريا في غزاته ، فزوجت نفسها منه عليه‌السلام لجلالته ، وعلى هذا فمعنى «وعزني في الخطاب» ، أي غلبني في خطبة المرأة.

وقيل : كان أهل زمان داود عليه‌السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها إذا أعجبته ، وكان داود عليه‌السلام ما زاد على قوله لأوريا : انزل لي عن امرأتك ، وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد ، فأحبها ومال قلبه إليها ، فسأل زوجها النزول عنها فاستحيا أن يرده عليه‌السلام ، ففعل ، فتزوجها ، وهي أم سلمان ، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين الناس ، غير مخل بالمروءة ، وعلى هذا فمعنى «أكفلنيها» : انزل لي عن تلك النعجة الواحدة ، وأعطينها ، فعوتب داود بشيئين :

أحدهما : خطبته على خطبة أخيه المؤمن.

والثاني : إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وهذا وإن كان جائزا في الشريعة إلّا أنه لا يليق بجنابه عليه‌السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل : إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس بسبب أوريا ، والمرأة وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه‌السلام مما نسب إليه من الكبائر ، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى والله أعلم. وكان داود استغفر ربه منه (وَخَرَّ راكِعاً) ، أي سقط داود للسجود مصليا فكأنه أحرم بركعتي استغفار ، (وَأَنابَ) (٢٤) أي أقبل إلى الله تعالى بالتوبة.

وروي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة ، أو لما لا بد منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب منه إلى رأسه ، ولا يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع ، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى يكاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له ـ يقال له : ايشا ـ على ملكه ، ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه.

قال الحسن : وكان داود عليه‌السلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ، ويصوم نصف الدهر ، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله ، وقام الليل كله.

وقال ثابت : كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسار ، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت. (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ما استغفر منه ، (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ، أي لقربة في الدرجات بعد المغفرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) أي حسن مرجع في الجنة ، (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ

٣١٥

خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي نبيا ملكا على بني إسرائيل نافذ الحكم عليهم ، (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي بالعدل ، لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقية الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه ، ولطلب مصالح دنياه ، عظم ضرره على الخلق ، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ، ووقوع الهرج والمرج في الخلق ، وذلك يفضي إلى هلاك الملك. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا ، (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، وهو يوجب سوء العذاب ، لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية ، وهو يمنع الاشتغال في طلب السعادات الروحانية ، (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الإيمان بالله ، وعن طاعة الله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦) أي بنسيانهم يوم الحساب ، أي بتركهم الإيمان بذلك اليوم وتركهم العمل لذلك اليوم ، (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي عبثا جزافا بلا أمر ولا نهي. وهذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا للأعمال ، لأنها حاصلة بين السماء والأرض ، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها. وهذه الآية تدل أيضا على الحشر والنشر والقيامة. وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم ، فإما أن يقال : إنه تعالى خلقهم لا للانتفاع ولا للإضرار ، فهذا باطل ، لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين أو للإضرار ، فهذا باطل ، لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم ، أو للانتفاع وذلك إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة فإن كان الانتفاع في حياة الدنيا فهو باطل ، لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة ، لا يليق بالحكمة ، فثبت القول بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيوية ، وذلك هو القول بالحشر والقيامة فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض ، وما بينهما باطلا وإذا لم بكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر ، لازما ، وكل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (ذلِكَ) أي خلق ما ذكر لا لأجل الأمر والنهي ، ولا لأجل الثواب والعقاب (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأمر البعث والجزاء (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢٧) أي فشدة العذاب للذين كفروا بالبعث بعد الموت بسبب النار المترتبة على ظنهم أن لا بعث ولا حساب ، وذلك نفي لحكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض وفي أمره تعالى ونهيه ، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث والجزاء لاستواء الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا ، بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، ورد الآخرين إلى أسفل سافلين. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كعلي بن أبي طالب ، وحمزة بن المطلب ، وعبيدة بن الحرث

٣١٦

كأشقياء الكفرة كعتبة وشيبة ـ ابني ربيعة ـ والوليد بن عتبة ، وهم الذين بارزوا يوم بدر عليا وحمزة ، وعبيدة فقتل على الوليد بن عتبة ، وقتل حمزة عتبة بن ربيعة ، وقتل عبيدة شيبة بن ربيعة. قيل : نزلت هذه الآية لما قال كفار مكة للمؤمنين ، إنا نعطي في الآخرة من الخير مثل ما تعطون وتقرير هذه الآية : إنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر ، والزمانة ، وأنواع البلاء ، ونرى الكفرة ، والفساق في الراحة والغبطة ، فلو لم يكن حشر ونشر ، ومعاد كان حال المطيع أدون من حال العاصي ، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة ثبت أن إنكار الحشر والنشر ، يوجب إنكار حكمة الله تعالى (كِتابٌ) أي هذا قرآن (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) صفة لكتاب (مُبارَكٌ) ، أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر مبتدأ مضمر.

وقرئ «مباركا» على الحال اللازمة ، لأن البركة لا تفارقه ، (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي ليتفكروا في معانيها اللطيفة ، وفي أسرارها العجيبة ، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) أي وليتعظ به ذوو العقول السليمة ، فإن من يتدبر ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم ، (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) من المرأة التي أخذها من أوريا ، (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ) أي سليمان (أَوَّابٌ) (٣٠) أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة ، مقبل إلى طاعة الله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) ، أي بعد الظهر (الصَّافِناتُ) ، أي الخيل التي تقوم على طرف سنبك يد أو رجل (الْجِيادُ) (٣١) ، أي سراع الجري. وعن إبراهيم التيمي أنها عشرون ألف فرس. (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي إني ألزمت حب الخيل لأجل كتاب ربي وهو التوراة فإن معنى الخير هو المال الكثير. والمراد به هنا الخيل ، (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣٢) أي استترت الصافنات عن النظر (رُدُّوها) أي الصافنات (عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣) ، أي فردوها عليه ، فأخذ سليمان عليه‌السلام يمسح سوقها وأعناقها ، وذلك أن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم ، كما أنه كذلك في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن سليمان عليه‌السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل ، وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله عن ذكر ربي ، ثم إنه عليه‌السلام أمر بتسييرها حتى غابت عن بصره ، وهو معنى قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت إليه شرع يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو ، ولأنه أراد أن يظهر أنه يتضع حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه ، وأنه يضبط السياسة والملك ، ولأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً).

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل : إن شاء الله فطاف عليهن ، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت

٣١٧

بشق رجل ، فجيء به على كرسيه ، فوضع في حجره فو الذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون». قال العلماء : والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه وهي محنته.

وقيل : إن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين : إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك ، فأمر السحاب ، فحمله ، فكان يربيه في السحاب ، فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على الله.

وقيل : إنه أصابه مرض شديد فصار يجلس على كرسيه وهو مريض وفتنته هو مرضه ، ولشدة المرض ألقاه الله على كرسيه والعرب تقول في الضعيف : إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ولما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي ، فحمله إلى أنطاكية ، فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم كيف يصعد عليه فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله ، فكسرها ، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا ، ومات بختنصر ، وحمل الكرسي إلى بيت المقدس فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه ، (ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) أي رجع إلى حال الصحة أو تاب من خطئه ، (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي ما صدر عني من الزلة ، وهو ترك الأفضل والأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصالحين هضما للنفس وإظهارا للذل والخشوع ، وطلبا للترقي في المقامات ، (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي غيري بحيث لا يقدر أحد على معارضته ليكون معجزة لي ، لأن المعجزة أن لا يقدر أحد على معارضتها فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥) بالملك والنبوة لمن شئت ، (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) إياها (رُخاءً) أي لينة في أثناء سيرها ، أما في أوله فهي عاصفة ، (حَيْثُ أَصابَ) (٣٦) إلى أي موضع قصده وأراده (وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ) يبنون له ما شاء من الأبنية وهو بدل من الشياطين ، (وَغَوَّاصٍ) (٣٧) في قعر البحر فيستخرجون اللؤلؤ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨) أي مسلسلين في أغلال الحديد ، وهم المردة من الشياطين الذين لا يبعثهم إلى عمل إلّا انقلبوا ، (هذا) أي الملك (عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩) لكثرته. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت ، أي غير محاسب علي منك وإمساكك أي ليس عليك حرج فيما أعطيت ، وفيما أمسكت من الأمر الذي أعطيناكه. وقيل : المعنى هذا أي تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فخل سبيلهم من الغل ، أو احبس من شئت في الغل من غير أن تحاسب وتأثم بذلك (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا) في الآخرة (لَزُلْفى) أي قربى عظيمة (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) ـ وهو الجنة ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) بن عيصن بن إسحاق عليه‌السلام ، (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) اسمه معيط (بِنُصْبٍ) أي بلاء (وَعَذابٍ) (٤١) ، أي وسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة.

٣١٨

روي أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله : نعم ، عبدي أيوب ، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ، ولا يلتفت إليه. فقال : يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله ، فكان الشيطان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ، ثم يحمد الله تعالى. فقال الشيطان : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده فجاء إليه وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية ، وأخبره به فلم يلتفت إليه. فقال : يا رب أيوب لا يبالي بولده فسلطني على جسده فأذن فيه ، فنفخ في جلد أيوب ، فحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه ، فمكث في ذلك البلاء سنين حتى صار بحيث استقذره أهل بلده ، فخرج إلى الصحراء ، وما كان يقرب منه أحد ، فجاء الشيطان إلى امرأته ليا بنت يعقوب عليه‌السلام ، وقال : إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها ، فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة ، وحين كان الألم على الجسد لم يذكر أيوب شيئا ، فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين ، فتضرع ، ومن الوساوس أن الشيطان كان يذكره النعم التي كانت ، والآفات التي حصلت ومنها : أنه كان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع ، فشق ذلك عليه عليه‌السلام فتضرع إلى الله تعالى وقال : إني مسني الشيطان بنصب وعذاب فإنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أكثر ، فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه بقوله تعالى : (ارْكُضْ) أي اضرب (بِرِجْلِكَ) الأرض ، فضربها ، فنبعت عين فقيل له : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) أي ماء تغتسل به فيبرأ ظاهرك (وَشَرابٌ) (٤٢) ، أي وتشرب منه فيبرأ باطنك أي إن الله تعالى أظهر من تحت رجل أيوب عينا باردة طيبة ، فاغتسل وشرب منها ، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ورد عليه أهله وماله كما قال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) بإحيائهم بعد هلاكهم كما قاله الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل (رَحْمَةً مِنَّا) أي لأجل رحمة عظيمة عليه على سبيل الفضل منا ، لا على سبيل اللزوم (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٣) ، أي ولتذكير أصحاب العقول بحاله عليه‌السلام ليصبروا على الشدائد كما صبروا ، ويلجئوا إلى الله تعالى كما لجأ ليظفروا كما ظفر ، (وَخُذْ بِيَدِكَ) يا أيوب (ضِغْثاً) أي قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة مختلطة الرطب باليابس (فَاضْرِبْ بِهِ) ، أي امرأتك رحمة بنت يوسف الصديق. لأنه قد حلف ليضربنها مائة ضربة ، لأنه لقيها إبليس في صورة طبيب فدعته إلى مداواة أيوب فقال : أداويه على أنه إذا برىء قالت : أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك ، فحلف ليضربنها وقال : ويحك ذلك الشيطان كذا حكاه ابن عباس. (وَلا تَحْنَثْ) أي لا تأثم في يمينك بترك ضربها ، ولقد شرع الله تعالى هذه الرخصة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) ، فيما أصابه في النفس والأهل والمال ، وليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك الصبر ، فإنه يسمى جزعا كتمني العافية ، وطلب الشفاء على

٣١٩

أنه عليه‌السلام قال ذلك خيفة الفتنة في الدين حيث كان الشيطان يوسوس إلى قومه ، بأنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلي به. ويروى أنه عليه‌السلام قال في مناجاته إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ولم يهنني ما ملكت يميني ولم آكل إلّا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ، ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان ، فكشف الله تعالى عنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤) أي مقبل إلى طاعة الله ، (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (٤٥) أي أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين فقوله تعالى : (أُولِي الْأَيْدِي) إشارة إلى القوة العاملة ، فأشرف ما يصدر عنها طاعة لله. وقوله : (وَالْأَبْصارِ) إشارة إلى القوة العالمة ، فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله وما سوى هذين القسمين باطل.

وقرأ ابن كثير «عبدنا» على التوحيد (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٤٦) ، أي إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة ، وهي استغراقهم في ذكر الدار الآخرة حتى نسوا الدنيا ، وقرأ نافع وهشام بإضافة خالصة ، أي إنا اختصصناهم بإخلاصهم ذكر الآخرة وتناسيهم عند ذكرها ذكر الدنيا ، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة ، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) أي لمن المختارين من أبناء جنسهم المستعلين عليهم في الخير ، (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) بن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ، ثم استنبئ وهو ابن عم إلياس واللام زائدة. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء (وَذَا الْكِفْلِ) وهو ابن عم يسع ، أو بشر بن أيوب (وَكُلٌ) أي كل المتقدمين من داود إلى هنا (مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨) أي وكلهم من المشهورين بالخيرية وهم أنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى ، (هذا) أي ما تقدم من ذكر محاسنهم (ذِكْرٌ) أي شرف لهم وثناء جميل في الدنيا ، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٩) أي مرجع في الآخرة (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (٥٠) منها ، فـ «جنات» عطف بيان و «مفتحة» حال منها ، وقرئتا مرفوعتين هي جنات عدن مفتحة ، (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي جالسين على السرر في الحجال ناعمين في الجنة ، (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) (٥١) ، أي يسألون في الجنة بألوان الفاكهة وألوان الشراب ، (وَعِنْدَهُمْ) في الجنة (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي جوار حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، (أَتْرابٌ) (٥٢) أي مستويات في السن والحسن ، (هذا) أي المذكور (ما تُوعَدُونَ) في الدنيا (لِيَوْمِ الْحِسابِ) (٥٣) أي لأجل وقوعه في يوم القيامة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة ، (إِنَّ هذا) أي ما ذكر من ألوان النعم (لَرِزْقُنا) أعطيناكموه (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤) ، أي فناء (هذا) أي الأمر هذا المذكور (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) أي للكافرين (لَشَرَّ مَآبٍ) (٥٥) أي مرجع في الآخرة (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) (٥٦) أي المفرش (هذا) أي عذاب جهنم ، (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (٥٧) فالحميم ماء حار يحرقهم بحره والغساق ماء بارد منتن يحرقهم ببرده.

٣٢٠