مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

أي لا يستريحون بالموت بل عذابهم دائم ، (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ، أي جهنم طرفة عين (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء ، (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (٣٦). وقرأ أبو عمر «يجزى» بالبناء للمفعول ، و «كل» بالرفع. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي يصيحون في جهنم بقولهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) منها (نَعْمَلْ صالِحاً) أي خالصا في الإيمان (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) في الدنيا من الشرك فيقول الله لهم توبيخا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي ألم نمهلكم يا معشر الكفار ولم نطل أعماركم زمانا يتعظ فيه من أراد أن يتعظ ، وهو ستون سنة ـ كما قاله ابن عباس ـ أو أربعون سنة ـ كما قاله الحسن ـ (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي رسول من الله تعالى أو عقل ، أو شيب ، أو حمى ، أو موت الأقارب ، فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. والمراد : أي رسول كان ، لأن هذا الكلام مع الكفار على الإطلاق قال تعالى (فَذُوقُوا) ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧) أي لأنه ليس للذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها. وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مانع من عذاب الله ، (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨) وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد لما أطاع الله ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي خلفاء من قبلكم من الأمم تعلمون أحوال الماضين ممن كذب الرسل ، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي عقوبة كفره ، (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) (٣٩) ، أي إن الكفر لا ينفع عند الله فلا يزيدهم إلّا بغضه الشديد ولا ينفعهم في أنفسهم بل لا يفيدهم إلّا الخسار ، فإن العمر كرأس المال ، فمن اشترى به رضا الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ). وجملة قوله : (أَرُونِي) بدل اشتمال من «أرأيتم» ، أي أخبروني عن آلهتكم التي زعمتم أنها شركاء الله تعالى الذين تعبدونها من غير الله ، أروني أيّ جزء خلقوا من الأرض ، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي بل ألهم شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية؟ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) ، أي بل أعطينا الشركاء كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء؟ (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ).

وقرأ أبو عمرو وحمزة ، وابن كثير ، وحفص «بينة» بالإفراد. والباقون «بينات» بالجمع ، أي فالشركاء على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) (٤٠) ، أي بل ما يعد الأسلاف للأخلاف والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى المنزلة ، وبأنها تشفع لهم في الآخرة فتضر وتنفع إلّا باطلا. (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن الله يمنعهما من أن تزولا عن مكانهما لأن مقتضى شركهم زوالهما ، (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي والله لئن زالتا عن مكانهما ما يمسكهما أحد من بعد زوالهم (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) إذا أمسكهما فما ترك الله تعذيب المشركين إلّا حلما منه

٢٨١

تعالى ، وإلّا فكانوا يستحقون إسقاط السموات وانطباق الأرض عليهم (غَفُوراً) (٤١) أي محّاء لذنوب من تاب. وإن استحق العقاب (وَأَقْسَمُوا) أي كفار مكة (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ، أي غاية اجتهادهم في الإيمان (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ، أي لما بلغ قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم ، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أسرع إجابة من كل الأمم ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي فما صح لهم مجيء رسول وهو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا ، وأشرفهم نسبا ، وأكرمهم خلقا (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤٢) ، أي تباعدا عن الحق (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) ، إعراضا عن الإيمان وهو بدل من «نفورا». (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) وهو معطوف على «نفورا» ، وهو جميع ما صدر منهم من القصد إلى الإيذاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار ، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، أي ولا يحيط المكر السيئ إلّا بفاعله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي ما ينتظرون إلا عادة الله في الأولين من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم ، فإن سنة الله الإهلاك بالشرك والإكرام على الإسلام (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) لأنه سنة من سنن الله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) فإن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا ينقل عن مستحقه إلى غيره ، فبهذا يتم تهديد المسيء. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي اقعدوا في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا) أي من قبلهم (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وقد كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم ، وأملهم كان فوق أملهم لطول أعمارهم ، وشدة اقتدارهم ، وعملهم كان دون عملهم ، لأنهم لم يكذبوا محمدا ، ولا مثل محمد ، وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه من الرسل. فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم فما نفعهم طول المدى ، وما دفع عنهم شدة القوى (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله ، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بأفعالهم وأقوالهم (قَدِيراً) (٤٤) على إهلاكهم واستئصالهم (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من السيئات كما فعل بأولئك الأولين (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي على وجه الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) أي من ذوى روح تدب عليها (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي إلى وقت معلوم عند الله تعالى ، فللعذاب أجل ، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم ، فإن الإنسان ظلوم جهول ، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي وحصول يأس الناس عن إيمانهم ، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥) ، أي فإذا جاء أجلهم وهو يوم القيامة ، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو يوم القتل والأسر ، فإن الله يجازيهم عند ذلك بأعمالهم ، لأن الله تعالى كان بصيرا بعباده. وهذا تسلية للمؤمنين ، وذلك لأن الله تعالى لما قال ما ترك على ظهرها من دابة قال فإذا جاء الهلاك في الدنيا فالله بصير بالعباد ، إما أن ينجي المؤمنين أو يميتهم تقريبا من الله لا تعذيبا.

٢٨٢

سورة يس

وتسمى أيضا : القلب ، والدافعة ، والقاضية ، والمعممة. مكية ، ثلاث

وثمانون آية ، سبعمائة وتسع وعشرون كلمة ، وثلاثة آلاف حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(يس) (١) أي وهذه يس ، أو اقرأ يس ، (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) أي المتضمن للحكمة. اعلم أن العبادة قلبية ولسانية وجارحية ، وكل واحدة منها قسمان قسم علم معناه ، وقسم لم يعلم. أما القلبية : فمنها ما لم يعلم دليله عقلا ، وإنما وجب الإيمان به كالصراط الذي هو أرق من الشعرة ، وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف ، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر ، وكيفيات الجنة والنار ، لأن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ، ووقوعها مقطوع به بالسمع ، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم ، كمقادير النصب وعدد الركعات فالعبد. إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان به إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي للفائدة فقط ، وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده : انقل هذه الحجارة من هاهنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال : انقلها فإن تحتها كنزا هو لك فإنه ينقلها ، وإن لم يؤمن ، فكذلك العبادات اللسانية ، فمنها ما لا يفهم معناه فإذا تكلم به العبد علم أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي ، فإذا قال : يس ، حم ، الم ، طس ، علم الله أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل هو يتلفظ به إقامة لما أمر به (إِنَّكَ) يا أشرف الخلق (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) أي ثابت على شريعة شريفة ، فإن شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوم الشرائع ، وقوله : (عَلى صِراطٍ) خبر ثان لـ «إن». (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥).

وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة والكسائي بالنصب على الحال أو على المدح بإضمار أعني أي حال كون القرآن تنزيل المانع عن أشياء المطلق لأشياء ، أو المنتقم لمن لا يؤمن ، الرحيم لمن آمن. والباقون بالرفع أي هذا تكليم العزيز. وقرئ بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه تعالى قال : والقرآن الحكيم ، تنزيل العزيز الرحيم ، إنك لمن المرسلين ، (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ

٢٨٣

آباؤُهُمْ) أي لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة ، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فـ «ما» نافية ، والجملة صفة لـ «قوما» ويصح كونها موصولة أي الذين أنذر آباؤهم الأقدمون ويصح كونها مصدرية فيكون نعتا لمصدر مؤكد ، أي لتنذر قوما إنذارا كائنا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب (فَهُمْ) أي القوم وآباؤهم الأقربون (غافِلُونَ) (٦) عن أمر الآخرة ، جاحدون بها ، أو فهؤلاء القوم غافلون عما أنذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) ، أي لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثر أهل مكة أبي جهل وأصحابه ، (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) أي في علم الله وقتلوا يوم بدر على الكفر (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) أي فالأغلال منتهية إلى أذقانهم فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم ، له (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (٨) ، أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ، أي وجعلنا مع ما ذكر من أمامهم سدا عظيما ، ومن ورائهم كذلك (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) أي فغطينا بهذين السدين أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا ، وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا) إلخ كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء ، وهو تمثيل حالهم بحال من غلت أعناقهم ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فلا يبصرون الحق لمكان السد ، ولا ينقادون لك لمكان الغل. وقيل : نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزومين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر ، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرا ليرميه ، فلما أومأ إليه رجفت يداه إلى عنقه ، والتصق الحجر بيده إلى عنقه ، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى قال الوليد بن المغيرة ، أنا أرضخ رأسه فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر ، فأعمى الله بصره ، فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال : والله ما رأيته ولقد سمعت صوته! فقال الرجل الثالث : والله لأشدخن رأسه ، ثم أخذ الحجر وانطلق ، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه ، فقيل له : ما شأنك؟ قال : شأني عظيم رأيت الرجل ، فلما دنوت منه فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلا أعظم منه ، حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي إنا جمعنا أيمانهم إلى الأذقان حين أرادوا أن يرجموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة وهو في الصلاة فها هم مغلولون من كل خير ، محرومون ، (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي وجعلنا من أمامهم سترا حيث أرادوا أن يرجموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة وهو في الصلاة ، فلم يبصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خلفهم سدا حتى لا يبصروا أصحابه ، فغطينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤذوه.

٢٨٤

وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص «سدا» بفتح السين. والباقون بالضم في الموضعين. (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي مستو عند بني مخزوم ، أبي جهل وأصحابه إنذارك بالقرآن إياهم وعدمه. وأما الإنذار بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو سبب في زيادة سيادته عاجلا وسعادته ، آجلا (لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) في علم الله (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي إنما ينفع إنذارك يا سيد الرسل من آمن بالقرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي خاف عقابه ، وهو تعالى غائب عنه ، أي عمل صالحا ، فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية ، فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر ، فالخوف منه أتم أن يقطع عنه النعم المتواترة ، (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) عظيمة (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١) أي ثواب حسن في الجنة فالغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل الصالح ، (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي نبعثهم بعد مماتهم.

وعن الحسن : إنا نخرجهم من الشرك إلى الإيمان (وَنَكْتُبُ) في صحف الملائكة (ما قَدَّمُوا) أي ما أسلفوا من الأعمال ، صالحة كانت أو فاسدة (وَآثارَهُمْ) أي التي أبقوها من السنن الحسنة كالكتب المصنفة ، والقناطر المبنية والحبائس التي وقفوها من المساجد والرباطات ، ومن السنن السيئة كوظيفة وظفها بعض الظّلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم ، وآلات الملاهي ، وأدوات المناهي المعمولة الباقية (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء (أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢) أي كتبناه في أصل مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون ، وهو اللوح المحفوظ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي بين لأهل مكة صفة أهل أنطاكية كيف أهلكناهم ، (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (١٣) وهم رسل عيسى عليه‌السلام إلى أهلها ، فرسول رسول الله بإذن الله رسول الله ، وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل ، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أي رسولين وهما : يوحنا وبولس. وقيل : سمعان وثومان (فَكَذَّبُوهُما) ، أي فأتياهم ، فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة ، (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون.

وقرأ شعبة بتخفيف الزاي (فَقالُوا) أي جميعا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (١٤) (قالُوا) أي أهل أنطاكية مخاطبين للثلاثة : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا يجوز رجحانكم علينا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) أي فما نزلتم من عند الله ، وما أنزل الله إليكم أحدا فكيف صرتم رسلا لله. أو يقال : إن الله ليس بمنزل شيئا في هذا العالم فإن تصرفه في العالم العلوي ، وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم ، فالله تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم؟ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) (١٥) أي ما أنتم إلّا كاذبون في دعوى رسالته تعالى. (قالُوا) أي الرسل : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (١٦) استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم مع تحذيرهم معارضة

٢٨٥

علم الله تعالى (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧) أي وما علينا من جهة ربنا إلّا تبليغ رسالته تبليغا ظاهرا بلغة تعلمونها بالآيات الشاهدة بالصحة ، فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا. (قالُوا) للرسل لما ضاقت عليهم الحيل ، وعيت بهم العلل : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاء منا بكم بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالهم ، إن لم يؤمنوا ، فكانوا ينفرون عنه. وقيل : إنما تطيروا لما بلغهم من أن كل نبي إذا دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم هذه (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨) ، أي وليصيبنكم منا بسبب الرجم عذاب أليم ، أي نديم الرجم عليكم إلى الموت (قالُوا) أي الرسل : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي سبب شؤمكم معكم لا من قبلنا وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي إن وعظتم بما فيه سعادتكم تطيرتم ، وتوعدتم بالرجم والتعذيب (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩) أي ليس التذكير سببا للشؤم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان فلذلك أتاكم الشؤم. (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) وهو حبيب النجار ، وهو ينحت أصنامهم ، وهو ممن آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبع وورقة بن نوفل وغيرهما. وقيل : إنه كان إسكافا وقيل : إنه كان قصارا (يَسْعى) أي يسرع في المشي حيث سمع بالرسل (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٢٠) الذي أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل ، (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) فإنهم لو كانوا متهمين بعدم الصدق لسألوكم المال (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) أي عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق ، قالوا له : تبرأت منا ومن ديننا ، ودخلت في دين عدونا فقال لهم : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني اختراعا وهو مالكي ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) بعد الموت فكيف لا تعبدونه. والعابد على أقسام ثلاثة : عابد يعبد الله لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم ، وعابد يعبد الله للنعم الواصلة ، إليه وعابد يعبد الله خوفا. فجعل القائل نفسه من القسم الأول وهو الأعلى (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الذي خلقني (آلِهَةً) أي لا أعبد آلهة من غيره تعالى (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣) أي إن يصبني الرحمن بعذاب لا تنفعني تلك الأصنام نفعا ولا تدفع عني ذلك العذاب (إِنِّي إِذاً) أي إذا اتخذت من دونه آلهة (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) أي خطأ ظاهر ، (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥). وهذا خطاب من حبيب للرسل ، وذلك لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين وقال : إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي بالإيمان عند الله تعالى. وقيل : الخطاب للكفرة خاطبهم بذلك إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل ففيه بيان للتوحيد وذلك لأنه لما قال : أعبد الذي فطرني ، ثم قال : آمنت بربكم فهم أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني ، وهو الذي بعينه ربكم بخلاف ما لو قال : آمنت بربي فيقول : الكافر وأنا آمنت بربي أيضا ، وعلى هذا فمعنى الآية آمنت بربكم فاسمعوا ما

٢٨٦

قلته لكم وأطيعوني بالإيمان ، فأخذوه ، وقتلوه ، وصلبوه ، ووطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره وألقي في بئر ـ وهي الرس ـ وهم أصحاب الرس. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي إنه قتل ثم قيل له بعد القتل : ادخل الجنة إكراما له بدخولها حينئذ كسائر الشهداء. (قالَ) بعد موته : (يا) حرف تنبيه (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (٢٦) (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي الذي غفر لي ربي وهو التوحيد ، أو بمغفرة ربي لي. ويقال : قيل : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) عقب قوله : (آمَنْتُ) إلخ قال في حياته كأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم : يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت بأي شيء غفر لي ربي (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧) ، فإن الإيمان والعمل الصالح يوجبان الغفران والإكرام. وحاصل هذه القصة أن عيسى عليه‌السلام بعث رسولين من الحوارين إلى أهل أنطاكية ، فلما قربا إلى المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له ـ وهو حبيب بن إسرائيل النجار ـ فسلما عليه فقال : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى عليه‌السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال : أمعكما آية؟ قالا : نعم ، نشفي المريض ، ونبرئ الأكمه والأبرص ، بإذن الله تعالى فقال : إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا : فانطلق بنا ننظر حاله ، فأتى بهما إلى منزله ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ، فآمن من حبيب ، وفشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى ، وكان لهم ملك اسمه أنطيخا ، وكان من ملوك الروم ، فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما فقال لهما : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى عليه‌السلام. وفيم جئتما؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. قال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك. فقال لهما : قوما حتى أنظر في أمركما ، وأمر بحبسهما ، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، ثم بعث عيسى عليه‌السلام رأس الحوارين شمعون لينصرهما ، فدخل البلد متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوه خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه فقال يوما للملك : بلغني أنك حبست رجلين في السجن ، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال : لا ، فقد حال الغضب بيني وبين ذلك قال : إنا رأيي أيها الملك أن تدعوهما حتى تطّلع على ما عندهما ، فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء ، وليس له شريك. فقال : صفاه وأوجزا. قالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال لهما شمعون : وما آيتكما قالا : ما يتمنى الملك. فدعا الملك بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فتعجب الملك فقال شمعون له : أيها الملك إن شئت أن تغلبهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك. قال الملك : لا يخفى عليك أنها لا تبصر ، ولا تسمع ، ولا تقدر ، ولا تعلم. فقال شمعون : فإذا ظهر الحق من جانبهم فآمن الملك وقوم وكفر آخرون ، وكانت الغلبة للمكذبين ،

٢٨٧

وأجمعوا على قتل الرسل وقومهم ، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين ولما قتلوه غضب الله له فجعل لهم العقوبة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة ، فماتوا عن آخرهم فذلك قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم ذلك الرجل الذي هو حبيب وهم أصحاب القرية الذين رجموه (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد قتله ، (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لإهلاكهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (٢٨) أي إنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار في الأزمنة الماضية ، بل نهلكهم بغير الملائكة إما بالحاصب أو بالصيحة ، أو بالخسف ، أو بالإغراق وإنما جعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار من قومك تعظيما لشأنك ، (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من جبريل ، أخذ جبريل الباب فصاح فيهم صيحة واحدة وذلك لحقارة أمرهم عندنا. (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢٩) أي ميتون لا يتحركون. (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ، وهذا ما من كلام الملائكة ، أو من كلام المؤمنين ، أي يا شدة التحزن على العباد تعالى هذا وقتك فاحضري ، وهو وقت الاستهزاء بالرسل ، فالمستهزئون بالناصحين أحقاء بأن يتحزنوا ويتحزن عليهم المتحزنون. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ) أي بذلك الرسول (يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) وهذا سبب الندامة (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم أهل مكة الذي أنكروا رسالتك (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي الأمم الماضية ، (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣١) أي أنهم أهلكوا إهلاكا لا رجوع لهم إلى من في الدنيا يقال : إن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، والوجه الأول أشهر نقلا ، والثاني أظهر عقلا. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢).

وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لمّا» بتشديد الميم إلّا أي ما كلهم إلّا مجموعون عندنا ، محضرون للحساب. والجزاء ، والباقون بالتخفيف ، والمعنى عند الكوفيين كما تقدم ، وعند البصريين وإن كلهم لمجموعون عندنا محضرون للحساب (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) ، أي وعلامة عظيمة لهم على قدرتنا على البعث ، وعلى وحدانيتنا الأرض الميتة أحييناها بأنواع النبات فيها ، فالذي أحيا الأرض إحياء كاملا ، منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا (وَأَخْرَجْنا مِنْها) أي الأرض (حَبًّا) أي جنس الحب ، كالحنطة والشعير والأرز ، (فَمِنْهُ) أي من ذلك الحب (يَأْكُلُونَ) (٣٣) فهو أكثر ما يعاش به (وَجَعَلْنا فِيها) ، أي الأرض (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي من أنواع النخل والعنب (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) (٣٤) ، أي فتحنا في الأرض بعضا من العيون (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر ، ما ذكر من الجنات ، أو من ثمر الله لأنه الذي خلقه.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) وهو ما يتخذ من ذلك الثمر

٢٨٨

من العصير والدبس ونحوهما فـ «ما» موصولة عطف على ثمره ، ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من «عملته» ، فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها.

وقيل : «ما» نافية ، ومحل الجملة نصب على الحالية. والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ، (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٣٥) أي أيتنعمون بهذه النعم فلا يشكرونها فيرجعون عن عبادة غير الله ، وفي ذلك استدلال على وحدته تعالى وتعديد للنعم ، فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها ، فهي نعمة ، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية ، فإنها تصير أنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة ، فإن قوتهم يصير في مكانهم ، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة ، لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى ، فيقول الله تعالى : كما فعلنا في موت الأرض ، كذلك نفعل في الأموات في الأرض ، فنحييهم ونعطيهم ما لا بد منه في بقاءهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والأذن وغير ذلك ، ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل ، فكأنه تعالى قال : نحيي الموتى إحياء تاما ، كما أحيينا الأرض إحياء تاما. (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي تنزيها للذي خلق الأنواع كلها. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من نجم وشجر ومعدن (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من ذكر وأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين وغيره تعالى ، لم يخلق شيئا وإنما ذكر الله تعالى كون الكل مخلوقا لينزه الله تعالى عن الشريك ، فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق والتوحيد الحقيقي لا يحصل إلّا بالاعتراف بأن لا إله إلّا الله ، فلا تشركوا بالله شيئا مما تعلمون ، ومما لا تعلمون (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي وعلامة عظيمة لأهل مكة على قدرتنا على البعث الليل نزيل عنه النهار الذي هو كالساتر له ، (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) أي داخلون في الظلام ، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي لحد معين ينتهي إليه دورها فتقف في مستقرها ، ولا تنتقل عنه ومستقرها هو مكان تحت العرش تسجد فيه كل ليلة عند غروبها ، فتستمر ساجدة فيه فيطول الليل ، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولا فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق ، بل يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من المغرب.

وقرئ «إلى مستقر لها». وعن ابن عباس لا مستقر لها أي لا سكون لها ولا وقوف ، فإنها جارية أبدا إلى يوم القيامة. وقرئ «لا مستقر لها» على أن «لا» بمعنى ليس. (ذلِكَ) أي جري الشمس (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٨) أي تدبيره وتسخيره إياها ، (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي جعلنا له منازل ثمانية وعشرين منزلة في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، ويستتر ليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما ، (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩) أي حتى يصير في رأى العين كالعذق المقوس اليابس إذا حال عليه الحول ، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ

٢٨٩

تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي فالشمس لم تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر ، وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار ، (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا الليل يطلع سلطان النهار فيذهب ضوءه ولكن يعاقبه (وَكُلٌ) من الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) أي دائرة (يَسْبَحُونَ) (٤٠) ، أي يدورون ولفظ «كل» يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا ، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا ، وللشمس فلكان أحدهما : مركزه العالم ، وثانيهما : مركزه فوق مركز العالم ، وهو مثل بياض البيض بين صفرته والقيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة ، فإذا حصلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال : إنها في الأوج وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض ، وللقمر فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه ، وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة ، وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس ، وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مفرق فيها ، ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل المائل ، والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير (وَآيَةٌ لَهُمْ) ، أي لأهل مكة على قدرتنا على البعث (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ).

وقرأ نافع وابن عامر «ذرياتهم» على الجمع ، أي أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم ، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤١) أي المملوء ، ومع ذلك نجاه الله من الغرق. وقال علي بن أبي طالب : حمل الله تعالى النطف في بطون النساء تشبيه بالفلك المشحون ، (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) أي مما يماثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) في البر من الإبل ونحوها وفي البحر من الزواريق ونحوها ، (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) مع ركوبهم في الفلك ونحوه ، (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ، أي فلا مغيث لهم من الغرق (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) (٤٣) ، أي ولا ينجون من الغرق بعد وقوعه ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤) فالإنقاذ ينقسم إلى قسمين إما أن ينقذه الله لرحمة منه فيمن علم الله منه أنه يؤمن أو ينقذه للتمتيع باللذات زمانا إلى انقضاء أجله ، وليزداد إثما فيمن علم الله أنه لا يؤمن ، فالإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لأهل مكة بطريق الإنذار : (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) أي ما أمامكم من أمر الآخرة فإنهم مستقبلون لها ، (وَما خَلْفَكُمْ) من أمر الدنيا فإنهم تاركون لها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥) أي راجين أن ترحموا فإن الله لا يجب عليه شيء أعرضوا حسب ما اعتادوه ، ويقال : اتقوا ما بين أيديكم من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق وغيرهما ، وما خلفكم من الموت الطالب لكم ، فإنكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه ، (وَما تَأْتِيهِمْ) أي كفار مكة (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها) ، أي تلك الآية (مُعْرِضِينَ) (٤٦) على وجه التكذيب والاستهزاء ، فلا تنفعهم الآيات ومن كذب بالبعض هان عليه

٢٩٠

التكذيب بالكل وقوله تعالى : (مِنْ آيَةٍ) فـ «من» زائدة ، وقوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) تبعيضية وقوله : (إِلَّا كانُوا) إلخ جملة حالية (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) بطريق النصيحة. (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين ، فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) استهزاء بهم (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) على زعمكم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٧) حيث تأمروننا بما يخالف مشيئته تعالى.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما كان بمكة زنادقة من قريش إذا أمروا بالتصدق على المسكين. قالوا : لا والله أيفقره تالله ونطعمه نحن وكانوا يسمعون من المؤمنين ، يعلقون أفعال الله بمشيئته يقولون : لو شاء الله لأغنى فلانا ، ولو شاء لأعز ، ولو شاء لكان كذا ، فاخرجوا هذا الجواب استهزاء بالمؤمنين ، وما كانوا يقولون بتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل : إن المؤمنين لما قالوا لكفار قريش : أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم إنه لله تعالى ، وهو ما جعلوه لله من حرثهم وأنعامهم قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه : لكنا ننظره تعالى لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم مما نرى من فقرهم ، فنحن أيضا لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه ، (وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) بقيام الساعة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨) فيما تعدونا به منه؟ قال الله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما ينتظر قومك إذ كذبوك إلّا النفخة الأولى الميتة (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٤٩) ، أي يتخاصمون في السوق.

قرأه حمزة بسكون الخاء وكسر الصاد ، والمعنى : يخصم بعضهم بعضا. والباقون بحركة الخاء وتشديد الصاد وأصله «يختصمون» فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا. فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة الصاد إلى الساكن قبلها نقلا كاملا ، وأبو عمرو ، وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخطأ أصلها. والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان ، لذلك فكسروا أولهما ، لأن الساكن إذا حرك حرك بالكسر (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) في شيء من أمورهم إن كانوا فيما بين أهليهم ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (٥٠) إن كانوا خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتوا حيثما كانوا ، وقد صح من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة ، وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» (١). (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي وينفخ في القرن النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون سنة ،

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب صلاة الخوف ، باب : التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب ، وسلم في كتاب الجهاد ، باب : ١٢٠ ، والترمذي في كتاب السير ، باب : ٣ ، النّسائي في كتاب النكاح ، باب : البناء في السفر ، والموطأ في كتاب الجهاد ، باب : ما

٢٩١

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ) أي إلى مالك أمرهم (يَنْسِلُونَ) (٥١) أي مخرجون بسرعة بطريق الإجبار دون الاختيار. (قالُوا) أي الكفار بعد ما خرجوا من القبور : (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا ، احضر فهذا أوانك (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا).

وقرئ «من أهبنا» ، وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما من بعثنا على أنها جار ومجرور متعلق بـ «ويل». وقرئ «من هبنا» بـ «من» الجارة والمصدر (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) أي هذا البعث ما وعدنا به الرحمن ، (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٥٢) أي صدقونا فيه.

وقيل : الوقف على هذا بجعله بدلا من مرقدنا ، وجعل ما وعد الرحمن خبر المبتدأ محذوف أي هو ما وعدنا الرحمن به في الدنيا من البعث ، وعلى ذلك التفسير فهذا إلخ من كلام الكافرين حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسل عليهم‌السلام فيجيبون به أنفسهم ، أو يجيب بعضهم بعضا وقيل : قالت لهم الحفظة تذكيرا لكفرهم : هذا ما وعد الرحمن على ألسنة الرسل في الدنيا وصدق المرسلون فيما أخبروكم به البعث بعد الموت ، (إِنْ كانَتْ) أي ما كانت نفخة البعث (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) حصلت من نفخ إسرافيل في الصور ، (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا) أي مجموع عندنا (مُحْضَرُونَ) (٥٣) للحساب ، (فَالْيَوْمَ) وهو يوم القيامة (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد على سيئات أحد ، (وَلا تُجْزَوْنَ) في الآخرة (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤) أي إلّا بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا ، (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي أهل الجنة (الْيَوْمَ) وهو يوم القيامة ، (فِي شُغُلٍ) أي شأن يشغلهم عما سواه ، (فاكِهُونَ) (٥٥) أي متلذذون في النعمة ، كالتزاور وضيافة الله وافتضاض الأبكار ، وضرب الأوتار وسماعه (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد (عَلَى الْأَرائِكِ) أي السر والمزينة بالثياب والستور التي هي داخل الحجال ، (مُتَّكِؤُنَ) (٥٦) أي جالسون مع التمكن ، أو الميل على شق وفي هذا إشارة إلى الفراغ (لَهُمْ فِيها) أي الجنة (فاكِهَةٌ) كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه ، (وَلَهُمْ) فيها (ما يَدَّعُونَ) (٥٧) أي يشتهون.

وقال الزجاج : أي ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وعلى هذا فيكون الافتعال بمعنى الفعل ، ويعضده القراءة بسكون الدال (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) أي سلام عليهم أخص قولا من رب رحيم ، وعلى هذا فيكون حكاية لما سيقال لهم من جهته تعالى يومئذ كما في قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) فيكون الله تعالى أحسن من عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم

__________________

جاء في الخيل والمسابقة بينها ، والنفقة في الغزو ، وأحمد في (م ٣ / ص ١٠٢).

٢٩٢

نور ، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عزوجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» (١). (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩) أي ويقال للمشركين : انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين حين يسار بهم إلى الجنة إذ لا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) أي ألم أوص إليكم (يا بَنِي آدَمَ) على لسان رسلي (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوه ، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠) أي ظاهر العداوة ، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء فانظر إما أن يكون ذلك موافقا لأمر الله أولا ، فإن لم يكن موافقا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به ، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان ، وإن دعتك نفسك إلى فعل ، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولا ، فإن لم يكن مأذونا فيه فنفسك هي الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتبعته فقد عبدته ، ثم إن الشيطان يأمر أولا بمخالفة الله ظاهرا فمن أطاعه فقد عبده ، ومن لم يطعه فيقول له : اعبد الله كي لا تهان وليرتفع شأنك عند الناس وينتفع بك إخوانك ، فإن أجاب إليه فقد عبده ، (وَأَنِ اعْبُدُونِي) ، أي أطيعوني موحدين بي (هذا) أي التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) أي طريق قريب آمن فاسلكوه وفي ضمن قوله تعالى : (هذا صِراطٌ) إشارة إلى أم الإنسان مار في الدنيا لا مقيم فيها. (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي وبالله لقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا قبلكم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه ، فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢) ، أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم ، أو أفلم تكونوا تعلمون ما صنع الشيطان بهم.

وقرأ نافع وعاصم «جبلا» بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وأبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة. والباقون بضمهما واللام مخففة (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) أي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم‌السلام بمقابلة عبادة الشيطان ، وبهذا يخاطب الكفار بعد تمام التوبيخ عند أشرافهم على شفير جهنم ، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٦٤) أي ادخلوا جهنم من فوق ، وقاسوا فنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) أي يعلمون من الشر ، ورأى أنهم حين يسمعون قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ينكرون كفركم فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فيختم الله على أفواههم وينطق الله

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ٣٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٨٥٨) ، وابن سعد في الطبقات (١ : ١ : ١٣٥) ، والقرطبي في التفسير (١٥ : ٧٦).

٢٩٣

غير لسانهم من الجوارح ، فيقرون بذنوبهم ولا يقدرون على الإنكار فكل عضو ينطق بما صدر منه فشهادتهم هو إقرارهم ، (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) ، أي ولو نشاء أن نطمس على أعينهم لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق ، (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (٦٦) ، أي فلو أرادوا سلوك الطريق الواضح المألوف لهم لا يقدرون عليه. والمراد أن قدرتنا إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد في الطريق لمصالحهم ولكن أبقينا عليهم نعمة البصر فضلا وكرما ، فحقهم أن يشكروا عليها ولا يكفروا فهذا توبيخ ، لهم كمال توبيخ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ).

وقرأ شعبة «مكاناتهم» على الجمع ، (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (٦٧) ، أي ولو نشاء لحولنا صورهم وأبطلنا قواهم في منازلهم فلا يقدرون أن يبرحوا مكانهم بإقبال ولا إدبار ولا يرجعون إلى الحال الأول.

وعن ابن عباس : أي حولناهم قردة وخنازير. وقيل : أي حولناهم حجارة وعن قتادة لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم ، (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي ومن نطل عمره إطالة كثيرة نقلبه في خلق جسده وقواه الباطنية ، فكل منهما ينقلب حاله فيرجع من القوة إلى الضعف حتى صار كأنه طفل.

وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى ، وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة ، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٦٨) أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على الطمس والمسخ ، وإن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.

وقرأ نافع وابن ذكوان «تعلقون» بالخطاب (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) ، أي وما علمنا محمدا الشعر وليس القرآن بشعر ، وهذا رد لما كانوا يقولون في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن محمدا شاعر وما يقوله شعر ، (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي وما كان الشعر يليق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يصلح له ، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ، فالشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى ، والشاعر يكون المعنى منه تبعا للفظ ، لأنه يقصد لفظا يصح به وزن الشعر أو قافيته ، فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ ، ولو صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعرا لعدم قصده اللفظ ، وإنما قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي ما القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين ، (وَقُرْآنٌ) أي كتاب جامع للأحكام كلها (مُبِينٌ) (٦٩) أي ظاهر أنه ليس من كلام البشر (لِيُنْذِرَ) ، أي محمد كما يدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء على الخطاب أو القرآن ، (مَنْ كانَ حَيًّا) أي عاقلا منهما أو مؤمنا في علم الله تعالى وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠) ، أي ولتثبت كلمة العذاب على المصرين على

٢٩٤

الكفر ، أو وليثبت المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل الدينية على كفار مكة فإن في القرآن ذكر الدلائل التي ثبتت بها المطالب. (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يتفكروا ، ولم يعلموه علما يقينا (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لأجل انتفاعهم (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي ما عملناه بقدرتنا وإرادتنا (أَنْعاماً) هي الإبل والبقر والغنم ، وهو مفعول خلقنا (لَها مالِكُونَ) (٧١) بتمليكنا إياهم لها بحيث يتصرفون فيها بوجوه التصرفات (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي صيرناها منقادة لهم بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي فبعض منها مركوبهم ، (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) (٧٢) ، أي وبعض منها يأكلون لحمه. (وَلَهُمْ فِيها) أي الأنعام (مَنافِعُ) غير المركوب والأكل كالجلود ، والأصواف ، والأوبار ، والنسل ، والحرث عليها والحمل ، (وَمَشارِبُ) من ألبانها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٧٣)؟ أي أيشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها فيعبدونه. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (٧٤) أي وعبد كفار مكة من غير الله أصناما راجين أن ينصروهم من عذاب الله تعالى (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) ، أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٧٥) أي والمشركون لآلهتهم بمنزلة الجند ، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد ويخدمونها ، ويغضبون لها في الدنيا ، أو المعنى وآلهتهم وهي الأصنام ، جند للعابدين محضرون معهم في النار ، فلا يدفع بعضهم عن بعض ، ويقال : والمشركون جند لآلهتهم يشيعونها عند مساقها إلى النار. (فَلا يَحْزُنْكَ) يا أشرف الخلق (قَوْلُهُمْ) ، أي تكذيبهم إياك.

وقرئ «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي وهو لغة بني تميم. أما القراءة المشهورة التي هي بفتح الياء وضم الزاي فهي لغة قريش. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من النفاق أو من المكر بك أو من العقائد الفاسدة ، (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٦) من الشرك أو من الكفر بك ، أو من الأفعال القبيحة أي إنا نجازيهم بجميع جناياتهم الخافية والبادية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم علما يقينا (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) قذرة خسيسة (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أي ناطق بالباطل (مُبِينٌ) (٧٧) أي مبين النطق في نفي البعث (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي أورد الإنسان في شأننا أمرا عجيبا وهو إنكاره قدرتنا على إحياء الموتى مع شهادة العقل والنقل في ذلك ، (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي وترك الإنسان ذكر بدء خلقه من المنى ، (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨) أي بالية أشد البلاء بعيدة عن الحياة غاية البعد ، ونزلت هذه الآيات في العاصي بن وائل ؛ كما نقل عن مجاهد أو في أبي بن خلف ؛ كما قاله عكرمة والسدي ، أو في عبد الله بن أبي كما نقل عن ابن عباس أو أمية بن خلف ؛ كما حكاه ابن عساكر.

وروي أن جماعة من كفار قريش تكلموا فقال لهم أبي بن خلف : ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال : واللات والعزى لأذهبن إليه ولأخصمنه ، فأخذ عظما باليا ،

٢٩٥

فجعل يفتته بيده ، وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنك يا محمد تقول : إن إلهك يحيي هذه العظام فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم». (قُلْ) له يا أكرم الرسل : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي يحيي العظام من خلقها من العدم أول مرة من النطفة ، فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده ، وإن لم يبق شيئا مذكورا (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧٩) أي فيعلم الله أجزاء الأشخاص المفتتنة في المشارق والمغارب والتي بعضها في أبدان السباع ، وبعضها في جدران الرباع سواء كانت أجزاء أصلية ، أو فضلية ، للآكل ، أو للمأكول فيعيد الله كلا من ذلك النمط السابق مع القوى التي كانت قبل ويجمعه وينفخ روحه ، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) والموصول بدل من الموصول الأول ، أي الذي خلق لأجل منفعتكم نارا من المرخ والعفار ، فالمرخ شجر سريع القدح ، والعفار بفتح العين شجر تقدح منه النار فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين ، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار ، فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى ؛ وهذا قول ابن عباس.

وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العناب (فَإِذا أَنْتُمْ) يا أهل مكة (مِنْهُ) أي من الشجر الأخضر (تُوقِدُونَ) (٨٠) فمن قدر على أحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة ، لها كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها. (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي أليس الذي أنشأ العظام أول مرة ، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما يقدر على أن يخلق مثل الأناسي في الصغر ، ثم أجاب الله نفسه بقوله : (بَلى) هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨١) ، أي وهو كامل القدرة وشامل العلم (إِنَّما أَمْرُهُ) أي شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) من الأشياء (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) ، أي أن يعلق بذلك الشيء قدرته تعالى (فَيَكُونُ) (٨٣) ، أي فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا.

وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على «يقول». (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزه عن الشريك والعجز من في قبضته مملكة كل شيء وخزائنه ، (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ) (٨٣) بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم وقرأ زيد بن علي بالبناء للفاعل.

٢٩٦

سورة الصافات

مكية ، مائة واثنان وثمانون آية ، ثمانمائة وستون

كلمة ، ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالصَّافَّاتِ) أي والملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة ، أو الصافات أقدامها في السماء لأداء العبادات ، أو الباسطات أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد (صَفًّا) (١) بديعا ، (فَالزَّاجِراتِ) أي الملائكة التي تزجر السحاب ، أي يأتون بها من موضع ، إلى موضع أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي بالإلهامات ، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء ، وعن استراق السمع (زَجْراً) (٢) بليغا. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) أي الملائكة التاليات الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام وغيرها من التسبيح والتقديس ، والتحميد ، والتمجيد. (إِنَّ إِلهَكُمْ) يا أهل مكة (لَواحِدٌ) (٤) بلا شريك ، إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة ، فكان غير حكيم. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مالكهما (وَما بَيْنَهُما) من الموجودات ، (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥) أي مشارق الشمس فإنها ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم في مغرب منها (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي القربى من أهل الأرض (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦).

قرأ أبو بكر عن عاصم بتنوين «زينة» ، ونصب «الكواكب» ، أي بتزييننا الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها ، وحمزة وحفص كذلك إلّا أنهما خفضا «الكواكب» بدل من «زينة».

والباقون بإضافة «زينة» إلى «الكواكب» ، أي بتزيين ضوء الكواكب السماء.

وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوين «زينة» ، ورفع «الكواكب» ، أي بزينة في الكواكب أو بتزيين الكواكب فالأول في قوة البدل والثاني في قوة المضاف للفاعل (وَحِفْظاً) عطف على زينة باعتبار المعنى ، أي إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) أي عال على الله عن طاعته برمي الشهب ، (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم

٢٩٧

بفتح السين وتشديدها ، وتشديد الميم أي كيلا يتطلب الشياطين السماع إلى كلام أشرف الملائكة. والباقون بسكون السين ، (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون بالشهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٨) أي من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها (دُحُوراً) أي للطرد (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٩) أي دائم بالشهب في الدنيا إلى النفخة الأولى وبالنار في الآخرة ، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) ، و «من» في محل رفع بدل من الواو في «لا يسمعون» أي لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الذي اختلس الكلمة من كلام الملائكة على وجه المسارقة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠) ، أي لحقه شهاب مضيء يحرقه ، أو يخبله أو يقتله (فَاسْتَفْتِهِمْ) ، أي سل يا أشرف الخلق هؤلاء المنكرين للبعث من مشركي مكة ، (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أصعب خلقا وأشق إيجادا ، (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي أم التي خلقناها من هذه الأشياء أصعب وهي السموات والأرض ، وما بينهما والمشارق والمغارب ، والشياطين الذي يصعدون الفلك والملائكة ، والكواكب والشهب الثواقب ، (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) أي كل إنسان (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (١١) أي لاصق لشدة اختلاط بعضه ببعض ، فإن الحيوان إنما يتولد من المني وهو يتولد من الغذاء ، ثم النبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (١٢) ، أي بل عجبت يا أشرف الرسل من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك ومن تقريرك للبعث ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به ، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي.

وقرأ حمزة والكسائي «عجبت» بضم التاء وهو قراءة ابن عباس ، وابن مسعود ، وإبراهيم ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش. والمعنى : عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله وممن كثرت مخلوقاته وكملت قدرته ، ويسخروا ممن يجوز البعث. وقال بعض الائمة : معنى قوله : (بَلْ عَجِبْتَ) بالضم بل جازيتهم على عجبهم ، أي إن هؤلاء المنكرين أقروا بأن الله تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد ، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على الأسهل الأيسر ، ومع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء القوم مصرّين على إنكار البعث والقيامة ، وهذا في موضع التعجب الشديد ، (وَإِذا ذُكِّرُوا) أي إذا وعظوا بشيء من المواعظ (لا يَذْكُرُونَ) (١٣) أي لا يتعظون ، ولا ينتفعون بذكر دلائل صحة البعث لغاية بلادتهم وقصور فكرهم ، (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي معجزة تدل على صدق القائل بالبعث كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤) يبالغون في السخرية. (وَقالُوا إِنْ هذا) أي ما هذا الذي يرونه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٥) أي ظاهر سحريته أي إن الرسول أثبت جهة رسالته بالمعجزات ، ثم قال لما ثبت بهذه المعجزة : كوني رسولا من عند الله صادقا فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق ، ثم إن هؤلاء المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة باهرة حملوها على كونها سحرا واستهزءوا منها. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١٧).

٢٩٨

وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو على أنها معطوفة على الضمير في «مبعوثون». والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف ، فالمعنى أو تبعث آباؤنا ويقال أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا ، أي أن القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون : من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ، وبلغوا هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يستسخرون ممن سلك هذا المذهب الحق. (قُلْ) لهم تبكيتا : (نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨) أي نعم تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون حال كونهم وهم ذليلين حقيرين ، (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي لا تستبعدوا البعث ، لأنه إنما هي صيحة واحدة (فَإِذا هُمْ) أي الخلائق قائمون من مراقدهم أحياء (يَنْظُرُونَ) (١٩) أي يبصرون كما كانوا ، وينتظرون ما يفعل بهم (وَقالُوا) أي الكفار إذا قاموا من القبور : (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر ، فهذا أوان حضورك. (هذا يَوْمُ الدِّينِ) (٢٠) أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي يوم القضاء بينكم وبين المؤمنين (الَّذِي كُنْتُمْ) في الدنيا (بِهِ) أي بهذا اليوم (تُكَذِّبُونَ) (٢١). والوقف على «ويلنا» تام إن جعل هذا يوم الدين من كلام الملائكة جوابا لهم ، فالمعنى : هذا يوم جزاء الأعمام وإن جعل من كلام الكفار ، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم ، فالوقف التام على يوم الدين لأن هذا يوم الفصل إلى آخره من كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ. وقيل : هو من كلام بعضهم لبعض فيقول الله للملائكة : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي رؤساء الكفار من مقامهم إلى الموقف (وَأَزْواجَهُمْ) أي أحزابهم ونظراءهم من الكفرة. وقيل : قرناؤهم من الشياطين. وقيل : نساؤهم اللاتي على دينهم. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢٢) (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غيره من الأصنام ونحوها ، (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢٣) أي سوقوهم إلى طريق جهنم (وَقِفُوهُمْ) أي احبسوهم في الموقف أو على النار ، (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤) عن عقائدهم وأعمالهم. وقيل : المراد سألتهم خزنة النار بنحو قولهم : ألم يأتكم رسل منكم بالبينات. قالوا : بلى.

وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام العلة ، أي قفوهم لأجل سؤال الله إياهم وتقول لهم خزنة جهنم : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥) أي أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا ـ كما قاله ابن عباس ـ وذلك لأن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر. فيقال لهم يوم القيامة : ما لكم غير متناصرين كما كنتم تزعمون في الدنيا ، (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (٢٦) أي منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم في دفع تلك المضار ، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٧) أي يتخاصمون. يقول الأتباع : غررتمونا ، ويقول الرؤساء : لم قبلتم منا. (قالُوا) أي الاتباع للرؤساء (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) في الدنيا (عَنِ الْيَمِينِ) (٢٨) أي عن القوة والقهر وتقصدوننا عن الغلبة حتى تحملونا على الضلال ، أو عن الحلف فإن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم. (قالُوا) أي الرؤساء للأتباع :

٢٩٩

(بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢٩) أي لم نمنعكم من الإيمان بل لم تؤمنوا باختياركم ، (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قهر. والمعنى : فلا قدرة لنا عليكم حتى نقهركم على متابعتنا (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) (٣٠) أي غالين في معصية الله تعالى (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) (٣١) أي فثبت وعيد ربنا إنا لذائقوا العذاب. والمعنى : إن الله تعالى لما أخبر عن وقوعنا في العذاب فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقا ، ولما كان خبر الله أمرا ثابتا كان الوقوع في العذاب الأليم لازما ، ولما حق علينا وعيد ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب ، (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٢) أي إنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية فلا لوم علينا ، (فَإِنَّهُمْ) أي الأتباع والمتبوعين (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فِي الْعَذابِ) أي في وقوعهم في العذاب (مُشْتَرِكُونَ) (٣٣) كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية ، (إِنَّا كَذلِكَ) أي كما نفعل بعبدة الأوثان (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (٣٤) ، أي المشركين غير هؤلاء كالنصارى واليهود (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥) ، أي عبدة الأوثان كانوا إذا قيل لهم : قولوا لا إله إلّا الله ، يتعاظمون عن النطق بكلمة التوحيد وعلى من يدعوهم إليها ، (وَيَقُولُونَ) في تكذيب النبوة (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٣٦) أي أإنا لتاركوا عبادة آلهتنا لأجل قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي بل جاء محمد بالدين الحق ، لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الشريك (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (٣٧) أي وصدق محمد المرسلين في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشرك ، فإن التوحيد دين كل الأنبياء (إِنَّكُمْ) بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) (٣٨).

وقرئ بنصب «العذاب» على تقدير النون. وقرئ «لذائقون العذاب» على الأصل (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٩) أي إلا بما كنتم تعملونه من السيئات ، وكأنه قيل : فكيف يليق بالرحيم الكريم المتنزه عن النفع والضر أن يعذب عباده ، فأجاب الله عن ذلك بقوله : (وَما تُجْزَوْنَ) إلخ. والمعنى : أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والنهي عن القبيح ولا يكمل المقصود منهما إلّا بالترغيب في الثواب ، وبالترهيب بالعقاب ، وإذا وقع الإخبار عن ذلك وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب ، فلهذا السبب وقعوا في العذاب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠).

وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام ، أي المعصومين من الكفر. والباقون بالكسر أي المخلصين للطاعة. وهذا استثناء منقطع من ضمير «ذائقو». فالمعنى إنكم لذائقوا العذاب الأليم لكن عباد الله الموحدين المخلصين بالعبادة ليسوا كذلك ، ثم قال أبو السعود : ولا وجه لجعله استثناء من ضمير «تجزون» على معنى أن الكفرة لا يجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون أضعافا مضاعفة اه. (أُولئِكَ) أي المخلصون (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) (٤١) ، أي معروف الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ، ولذة طعم ،

٣٠٠