مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله مادا بها صوته ، ولا يقطعها ، ولا يتنفس فيها ، ولا يتمّها ، فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور ، وقامت القيامة تعظيما لله عزوجل» اهـ.

وينبغي لأهل لا إله إلا الله ، أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله : التصديق ، والتعظيم ، والحلاوة ، والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق. ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ، ومن ليس له الحلاوة فهم مراء ، ومن ليس له الحرية فهو فاجر. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) ، فحسن الأسماء لحسن معانيها. (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً) ، أي أليس قد أتاك خبر موسى حين رأى نارا.

روي أن موسى عليه‌السلام استأذن شعيبا في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق ، مخافة من ملوك الشام ، فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ، ولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية ، مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد حاد عن الطريق ، فقدح عليه‌السلام النار فلم تنوّر المقدحة شيئا فبينما هو في مزاولة ذلك ، إذ رأى نارا من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور ، (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) في مكانكم أي لا تتبعوني في الذهاب إلى النار ، (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها إبصارا بينا ، (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) ، أي لعلّي أجيئكم من النار بشعلة مقتبسة من معظم النار ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠) ، أي عند النار من يدلني على الطريق. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) أي فلما أتى النار رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، كأنها نار بيضاء ، فوقف متعجبا من شدة ضوء تلك النار ، وشدة خضرة تلك الشجرة ، فلا النار تغيّر خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجرة تغيّر ضوء النار ، فسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما ، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها ، فإذا حضرته ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك ، وضع يده على عينيه ، فنودي (يا مُوسى) (١١) (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي فلما نودي يا موسى أجاب سريعا فقال : لبيك ، من المتكلم؟ إني أسمع صوتك ولا أراك ، فأين أنت؟

فقال تعالى : أنا فوقك ، ومعك ، وأمامك ، وخلفك ، وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي ، ولا يكون إلا من الله فأيقن به وسمع الكلام بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذنا ، وسمعه من جميع الجهات. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمر عليه الصلاة والسلام بالخلع ، لأن الحفوة تواضع لله ، وحسن أدب معه تعالى ، (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) ، أي المبارك (طُوىً) (١٢) ، اسم الوادي ، أو اسم بئر قد طويت بالحجر في ذلك الوادي الذي كانت فيه الشجرة.

قال أهل الإشارة : والمراد بخلع النعلين ، ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة. كأنه تعالى أمره عليه‌السلام ، بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ، ولا يلتفت بخاطره إلى

٢١

ما سواه تعالى. والمراد من الوادي المقدس : طهارة عزة الله تعالى وجلاله. والمعنى : إنك لما وصلت إلى بحر المعرفة ، فلا تلتفت إلى المخلوقات اه. ويقال : معنى طوى قد طوته الأنبياء قبلك.

قال ابن عباس : إنه عليه‌السلام مرّ بذلك الوادي ليلا فطواه ، فكان المعنى : أنك بالوادي المقدس الذي طويته طيا ، أي جاوزته حتى ارتفعت إلى أعلاه وعلى هذا إن «طوى» مصدر خرج عن لفظه. (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) للرسالة والكلام الذي خصصتك به.

وقرأ حمزة : «وأنا اخترناك» بنون العظمة ، وبتشديد النون من «أنا» ، وبفتح الهمزة والكسر. وقرأ أبي بن كعب : «إني اخترتك» (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (١٣) أي فاستمع للذي يوحي إليك مني. وقوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) يفيد نهاية اللطف والرحمة. وقوله تعالى : (فَاسْتَمِعْ) يفيد نهاية الهيبة ، فكأنه تعالى قال : لقد جاءك أمر عظيم ، هائل ، فتأهب له ، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه. فأرسله الله تعالى في ذلك الوقت ، في ذلك المكان ، وكان عمره حينئذ أربعين سنة (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بدل مما يوحى ، (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وهذا إشارة للعقائد العقلية ، (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤) إي لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على كلامي ، أو لذكري إياك بالمدح والثناء ، أو لإخلاص ذكري لا تقصد بالصلاة غرضا آخر. وهذا إشارة للأعمال الفرعية. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي كائنة لا بد ، (أَكادُ أُخْفِيها) ، أي أكاد أظهرها ، أي قرب إظهارها.

ويؤيده قراءة فتح الهمزة أو المعنى ، أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب ، كقولك أشكلت الكتاب ، أي أزلت إشكاله ، وهذا إشارة إلى العقائد السمعية ، وهذه الثلاثة جملة الدين. فإن أصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة : علم المبدأ ، وعلم الوسط ، وعلم المعاد. فعلم المبدأ ، هو معرفة الله تعالى ، وهو المراد بقوله تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وعلم الوسط ، هو علم العبودية ، فقوله تعالى : (فَاعْبُدْنِي) إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله : (لِذِكْرِي) ، بمعنى لتكون ذاكرا لي غير ناس ، إشارة إلى الأعمال الروحانية ، فالعبودية أولها الأعمال الجسمانية ، وآخرها الأعمال الروحانية ، وعلم المعاد هو قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها). (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) برة أو فاجرة (بِما تَسْعى) (١٥) أي بما تعمل من خير أو شر فقوله : (لِتُجْزى) متعلق بـ «آتية» أو بـ «أخفيها». (فَلا يَصُدَّنَّكَ) أي فلا يصرفنّك يا موسى (عَنْها) ، أي عن ذكر الساعة ، (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ميل نفسه إلى إنكار الساعة ، فإن منكر البعث إنما أنكره اتباعا للهوى لا للدليل ، (فَتَرْدى) (١٦) أي فتهلك بالنار. فالله تعالى راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب ، لأنه قال لموسى أولا (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) وهو إشارة إلى الأمر ، بتطهير السر عما سوى الله تعالى ، ثم أمره بتحصيل ما يجب تحصيله من التكاليف ، وافتتحها بمحض اللطف ، وهو قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) واختتمها بمحض القهر وهو قوله تعالى : (فَلا

٢٢

يَصُدَّنَّكَ عَنْها) الآية تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة ، والرهبة ، والرجاء ، والخوف. (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) أي وما تلك مأخوذة بيمينك (يا مُوسى) (١٧) ، فقوله : (وَما تِلْكَ) ، إشارة إلى العصا ، وقوله : (بِيَمِينِكَ) إشارة إلى اليد.

أراد الله تعالى بالسؤال أن يثبت قلب موسى ، ويزداد علمه ، حتى إذا قلب الله تعالى العصا ثعبانا لا يخافه ولا يعتريه شك ، وكذا إذا أخرج الله من يد موسى شعاعا ، فيعرف أن ذلك بقدرة الله تعالى. والنكتة في ذلك السؤال ، أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة ، أراد ربّ العزة إزالتها ، فسأله عن أمر لا يغلط فيه وهي العصا. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال ، فالدهشة تغلبه ، والحياء يمنعه عن الكلام ، فتسأله الملائكة عن الأمر الذي لم يقع الغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد ، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. (قالَ هِيَ) أي التي قارة بيميني (عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها عند النهوض إلى القيام ، أو عند الإعياء ، أو عند المشي. (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي أخبط بها ورق الشجر لغنمي. وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين غير المنقوطة ـ وهو زجر الغنم وتعديته بـ «على» لتضمن معنى الأنحاء والإقبال أي أزجر الغنم بها منحيا ومقبلا عليها (وَلِيَ فِيها) أي العصا (مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) ، أي حاجات شتى.

وأجمل موسى عليه‌السلام ، رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب ، فيسمع كلام الله مرة أخرى ، ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ثم أراد الله أن يعرّفه عليه‌السلام ، أن فيها أعظم من مآربه التي هي : حمل الزاد ، والقوس ، وعرض الزند ، وإلقاء الكساء للاستظلال ، وطرد السباع وغير ذلك ، فأمره الله بإلقائها. (قالَ أَلْقِها) من يدك (يا مُوسى) (١٩) (فَأَلْقاها) من يده على الأرض ، (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠).

قيل كانت العصا أول انقلابها حية صفراء صغيرة في غلظ العصا ، ثم انتفخت وتزايد جرمها ، حتى صارت ثعبانا ، فأول حالها جان ، ومآلها ثعبان. وقيل : إنها كانت من أول الأمر في شخص الثعبان ، وسرعة حركة الجان ، وكان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين فكّيها أربعون ذراعا ، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار ، حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها ، وجوفها ، وعيناها تتّقدان كالنار ، وهي تشتد رافعة رأسها فلما عاين موسى ذلك ولى هاربا منها. (قالَ) تعالى له : (خُذْها) يا موسى بيمينك ، (وَلا تَخَفْ) منها ، (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى ، التي هي الهيئة العصوية.

فلما قال له ربه (لا تَخَفْ) ، ذهب خوفه حتى أدخل يده في فمها ، وأخذ بلحييها ، فعادت عصا كما كانت. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي أدخل كفك اليمنى في إبطك الأيسر وأخرجها ، (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي متبرقة مثل البرق ، أو مشرقة تضيء كشعاع الشمس ، تغطي البصر عن الإدراك. ثم إذا ردّها إلى كفّه صارت إلى لونها الأول بلا نور ، (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ،

٢٣

آيَةً أُخْرى) (٢٢) أي معجزة أخرى غير العصا. فقوله تعالى : (بَيْضاءَ) حال من الضمير في تخرج ، ومن غير سوء متعلق ببيضاء لما فيها من معنى الفعل ، وهو ابيضت. وآية أخرى حال من ضمير تخرج. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٣) في الإعجاز وهي اليد فإنها أكبر آيات موسى لأنها لم تعارض أصلا ، وأما العصا فقد عارضها السحرة. فقوله : (لِنُرِيَكَ) متعلق ، بقوله تعالى : (وَاضْمُمْ) أو بقوله : (تَخْرُجْ) وقوله : (مِنْ آياتِنَا) حال من الكبرى ، فـ «الكبرى» مفعول ثان «لنريك» ، والتقدير لنريك الآية الكبرى ، حال كونها بعض آياتنا الدالة على قدرتنا (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) بما رأيته من الآيتين العظيمتين ، وادعه إلى عبادتي وحذّره نقمتي. (إِنَّهُ طَغى) (٢٤) أي جاوز الحدّ في الكبر ، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. (قالَ) مستعينا بالله تعالى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٢٥) ، أي ليّن لي قلبي لأجترئ على مخاطبة فرعون ، وكان موسى يخاف فرعون لشدة شوكته ، وكثرة جنوده. فسأل الله تعالى أن يوسّع قلبه ليكون حمولا لما يستقبل من الشدائد والمكاره ، بجميل الصبر وحسن الثبات. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) أي هوّن عليّ تبليغ الرسالة إلى فرعون. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (٢٧) متعلق باحلل.

روي أنه عليه‌السلام كان في لسانه رتة ، لأنه حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها لما كان فيها من الجوهر ، فغضب فرعون وأمر بقتله ، وقال : هذا هو الذي يزول ملكي على يده ، وقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرّب منه التمرة ، والجمرة ، فقرّبا إليه فأخذ الجمرة ، فجعلها في فيه. (يَفْقَهُوا) أي يفهموا (قَوْلِي) (٢٨) عند تبليغ الرسالة. (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي) (٣٠). فـ «وزيرا» مفعول ثان لأنه نكرة ، و «هارون» مفعول أول لأنه معرفة ، وقدم الثاني اعتناء بشأن الوزارة ، و «أخي» عطف بيان ، ولي متعلق بمحذوف على أنه حال من وزيرا ، ومن أهلي متعلق بأجعل ، والمعنى واجعل من أهلي هارون أخي ، متحملا على الأعباء لي ، ومعينا على أمري ، يقوي أمري ، وأثق برأيه ، (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٣١) ، أي قوي بهارون ظهري ، وأعنّي به (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) أي اجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.

وقرأ العامة على صيغة الطلب وهي ضم الهمزة من «أشدد» وهي همزة وصل ، وفتح الهمزة من أشركه وهي همزة قطع. وقرأ ابن عامر وحده على صيغة الجواب ، وهو فتح همزة «أشدد» ، وضم همزة «أشركه» ، وكلاهما همزة قطع للمتكلم فيهما ، ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر ، أن يجعل أخي مرفوعا على الابتداء ، واشدد به خبره ويوقف على هارون. (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤) ، أي كي ننزهك عمّا لا يليق بك من الصفات ، والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ، ويقبله منه جماعته الباغية ، من ادّعاء الشركة في الألوهية ، ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ، والجمال ، والجلال ، زمانا كثيرا من جملته ، زمان دعوة فرعون ، وأوان المحاجة معه ، وهذا إشارة إلى أن للجليس الصالح ، والصديق الصديق ، أثرا عظيما في

٢٤

المعاونة على كثرة الطاعات ، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) أي عالما بأن ما دعوتك به مما يفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة ، وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به. (قالَ) الله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٣٦) أي قد أردت إعطاء مسؤولك ألبتة ، (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) ، أي في وقت غير هذا الوقت من غير سابقة دعاء منك وطلب. فلأن أنعم عليك بمثل تلك النعم التامة وأنت طالب له أولى. (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٣٨) أي ألهمنا أمك الذي يلهم ، أو أريناها في منامها الذي يرى ، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون. (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ، أي بأن تضعي الصبي في الصندوق ، (فَاقْذِفِيهِ) أي فألقي الصبي ، (فِي الْيَمِ) أي في بحر النيل ، (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) ، أي فيلقي بحر النيل هذا الصبي على الشط. والأمر بمعنى الخبر ، وحكمة صورة الأمر لوجوب وقوع ذلك ، لتعلّق الإرادة الربانية به.

روي أن أم موسى اتخذت تابوتا ، وجعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى عليه‌السلام ، وقيرت رأس التابوت ، وشقوقه بالقار ، ثم ألقته في نيل مصر ، وكان يشرع منه نهر كبير إلى دار فرعون ، فرفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأس البركة مع امرأته آسية بنت مزاحم ، إذ بتابوت يجيء به الماء ، فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراج ما فيه ، ففتحوا رأس التابوت فإذا صبي من أصبح الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبه شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) ، وهو فرعون.

فالأول : باعتبار الواقع لكفره وعتّوه.

والثاني : باعتبار ما يؤول إليه ، وما لو ظهر لفرعون حال موسى لقتله ، وفي هذا الأمر بقذفه في البحر ، وفي وقوعه في يد العدو ، لطف خفي مندرج تحت قهر صوري. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي وألقيت عليك محبة عظيمة حاصلة مني ، واقعة بخلقي ، فلذلك أحبتك امرأة فرعون ، حتى قالت لفرعون : «قرة عين لي ولك» لا تقتلوه.

ويروى أنه عليه‌السلام ، كانت على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) ، معطوف على علة مقدرة متعلقة بألقيت ، والتقدير وألقيت عليك المحبة ليعطف عليك ، ولتربى بالشفقة بحفظي. وقرأ العامة «لتصنع» بالبناء للمجهول ، بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وقرئ بكسر اللام ، وسكونها ، وبالجزم بلام الأمر. وقرأ الحسن وأبو نهيك ، بفتح التاء بالبناء للفاعل. أي ليكون تصرفك على رعاية مني. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ، مريم وكانت شقيقته ، وهي غير أم عيسى ، وهذا الظرف متعلق بألقيت ، أي ألقيت عليك محبة مني في وقت مشي أختك ، أو بتصنع أي لتربى ، ويحسن إليك في هذا الوقت ، (فَتَقُولُ) لفرعون وآسية : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) أي يربيه ، ويرضعه.

٢٥

ويروى أنه لما فشا الخبر بمصر ، أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها ، واضطروا إلى تتبع النساء. فخرجت أخته مريم لتعرف خبره ، فدخلت قصر فرعون ، فقالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم. ثم جاءت بالأم ، فقبل ثديها. فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) ، معطوف على محذوف. أي فقالوا : دلينا على من تكفله ، فجاءت بأمك فرددناك إلى أمك. (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) فتطيب نفسها بلقائك ورؤيتك. (وَلا تَحْزَنَ) أي ليزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك ، أو كي لا تحزن أنت بفراقها.

وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، قبل إلقائه في اليم. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) قبطيا طباخا لفرعون اسمه قاب قان ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثين سنة. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي من غم اقتصاص فرعون منه ، بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين ، ومن غم عقاب الله تعالى ، حيث قتله لا بأمر الله بالمغفرة ، وكان قتله للكافر خطأ. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي أوقعناك في محنة بعد محنة ، وخلّصناك منها.

فإنه ولد في عام يقتل فيه الولدان. وألقته أمه في البحر ، والتقطه آل فرعون ، وامتنع من ارتضاع الأجانب ، وهمّ فرعون بقتله ، ووضع الجمرة في فيه ، وقتل قبطيا ، ثم هرب إلى مدين. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ) أي مكثت عشر سنين ، (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهي بلدة شعيب عليه‌السلام ، على ثمان مراحل من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠) أي ثم جئت إلى المكان الذي أونس فيه النار ، ووقع فيه النداء كائنا على مقدار معين من الزمان وهو أربعون سنة ، فنبأتك وأرسلتك حينئذ. (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي اصطفيتك (لِنَفْسِي) (٤١) بالرسالة وبالكلام. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) أي وليذهب أخوك إلى فرعون ، وقومه ، وبني إسرائيل ، (بِآياتِي) أي مع آياتي التي هي العصا واليد ففي كل منهما آيات شتى.

فانقلاب العصا حيوانا آية ، وكونها ثعبانا عظيما لآية أخرى ، وسرعة حركته مع عظيم جرمه آية أخرى ، ثم إنه عليه‌السلام يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى ، ثم انقلابه عصا آية أخرى. وكذلك اليد فإن بياضها آية ، وشعاعها آية أخرى ، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) (٤٢) أي لا تضعفا عن تبليغ رسالتي ، فإن الذكر يطلق على كل عبادة ، والتبليغ من أعظم العبادات. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ).

روي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر ، أن يتلقى موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ طَغى) (٤٣) أي تكبر بادعائه الربوبية ، (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) فإن تليين القول ، مما يكسر سورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة ، وإن فرعون كان قد ربّاه عليه‌السلام ، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤) أي قولا له قولا ليّنا على أن تكونا راجيين لأن يقبل

٢٦

وعظكما أو يخشى الله فيرجع من الإنكار ، إلى الإقرار بالحق. فإن لم ينتقل من الإنكار ، إلى الإقرار لكنه إذا حصل في قلبه الخوف ترك الإنكار. وإن لم ينتقل إلى الإقرار ، فإن ترك الإنكار ، خير من الإصرار على الإنكار. وفائدة إرسالهما مع علم الله بأن فرعون لا يؤمن إلزام الحجة من الله ، وقطع المعذرة عن فرعون ، وإظهار الآيات. ويروى عن كعب أنه لمكتوب في التوراة : «فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن». (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي أن يعجّل علينا بالعقوبة ، بأن لا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. أي إنا نخاف فوات القيام لتبليغ الرسالة كما أمرتنا ، إذا قتلنا. وقرئ «يفرط» بضم الياء ، وكسر الراء ، أي نخاف أن يحمله حامل من ادعاء الربوبية ، أو حبه للرياسة ، والمملكة ، أو قومه المتمردين على المعالجة بالعقاب. (أَوْ أَنْ يَطْغى) (٤٥) ، أي يزداد تكبرا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجراءته عليك ، وقساوة قلبه. (قالَ) الله تعالى : (لا تَخافا) ، مما عرض في قلبكما من أذية فرعون لكما ، ومن ازدياد كفره. (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦) ، أي إنني حافظكما سميعا وبصيرا.

قال القفال : يحتمل أن يكون قوله تعالى : (أَسْمَعُ وَأَرى) مقابلا لقولهما (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) ، أي أن يعدو علينا بأن لا يسمع منا ، أو أن يطغى ، أي يغلب علينا بأن يقتلنا. فقال الله تعالى (إِنَّنِي مَعَكُما) أي معينكما ، وعالم بما يليق من حالكما معه ، أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما ، وأرى أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه. (فَأْتِياهُ) أي فلتكونا واصلين إلى فرعون ، (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) إليك ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، نذهب بهم إلى أرضهم ـ وفي ذلك إدخال النقص على ملكه ، لأنه كان محتاجا إليهم فيما يريده من الأعمال ، من بناء أو غيره ـ (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأمور الشاقة كالحفر ، ونقل الأحجار ، وقتل ذكور أولادهم ، عاما دون عام ، واستخدام نسائهم. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) ، أي بإثبات الدعوى ببرهانها. فهو بيان من عند الله. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤٧) ، أي السلامة في الدارين ، من عذاب الله لمن صدق آيات الله الهادية إلى الحق. وهذا من جملة قوله تعالى الذي أمرهما أن يقولاه لفرعون ، أي وفقولا له والسلام إلخ. (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) ، من جهة ربنا ، (أَنَّ الْعَذابَ) الدنيوي والأخروي ، (عَلى مَنْ كَذَّبَ) بآياته تعالى (وَتَوَلَّى) (٤٨) ، أي أعرض عن قبولها. (قالَ) أي فرعون بعد ما أتياه وبلّغا ما أمرا به ، (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩) ، لم يقل فمن ربي ، مع أن حق الجواب كذلك ، لغاية عتوّه أي إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما وتخصيص النداء بموسى ، بعد مخاطبته لهما معا لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون وزيره. (قالَ) أي موسى مجيبا له : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) ، من أنواع المخلوقات (خَلْقَهُ) أي صورته اللائق بما نيط به من الخواص ، والمنافع. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه وينتفعون به. وتقديم المفعول الثاني للاعتناء به. (ثُمَّ هَدى) (٥٠) ، إلى طريق الانتفاع من

٢٧

الأكل ، والشرب ، والجماع. (قالَ) أي فرعون لموسى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٥١) ، أي ما حال الأمم الماضية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة ، أي فلما ذكر موسى عليه‌السلام برهانا نيرا على هذا المطلوب ، خاف فرعون أن يزيد موسى في تصوير تلك الحجة ، فيظهر للناس صدقه عليه‌السلام ، وحقيقة مقالاته ، وتبين عندهم بطلان خرافات نفسه. فأراد فرعون أن يصرف موسى عليه‌السلام عن ذلك الكلام الذي يتعلق بالرسالة ، إلى الحكايات. فعسى يظهر منه نوع غفلة ، فيرتقي فرعون إلى أن يدعي قدام قومه نوع معرفة. فقال : ما حال القرون الحالية (قالَ) موسى : (عِلْمُها) أي علم حالهم (عِنْدَ رَبِّي) ، فلا يعلمها إلا الله ، وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه. (فِي كِتابٍ) ، أي ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، يكون المكتوب فيه يظهر للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم لكل المعلومات ، منزّه عن السهو ، والغفلة ، أو المعنى. إن بقاء المعلومات في علمه تعالى كبقاء المكتوب في الكتاب ، فلا يزول شيء منها عن علمه تعالى. (لا يَضِلُّ رَبِّي) ، أي لا يخطئ عن معرفة الأشياء ، ولا يخفى شيء عن علمه ، (وَلا يَنْسى) (٥٢) شيئا علمه. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا. وقرأ عاصم وحمزة بفتح الميم وسكون الهاء. والباقون بكسر الميم وفتح الهاء مع الألف. (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) ، أي جعل لكم في الأرض طرقا تذهبون وتجيئون فيها. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ، هذا تمام كلام موسى عليه‌السلام ، ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه ، تتميما لكلام موسى لخطاب أهل مكة فقال : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء ، (أَزْواجاً) ، أي أصنافا ، (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣) ، أي مختلفة في الطعم والرائحة والشكل والنفع ، بعضها صالح للناس ، وبعضها للبهائم ، على اختلاف وجوه الصلاح. وقيل : هذا من تمام كلام موسى عليه‌السلام ، كأنه يقول : ربي الذي جعل لكم كذا وكذا ، فأخرجنا نحن معشر عباده بذلك الماء بالحراثة ، أزواجا من نبات شتى. وقال صاحب الكشاف : إن كلام موسى عليه‌السلام تم عند قوله : (وَلا يَنْسى) ثم ابتدأ كلام الله ، من قوله (الَّذِي جَعَلَ) فهو خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير هو الذي جعل ، ويكون الانتقال من الغيبة إلى التكلم ، التفاتا للدلالة على كمال القدرة والحكمة. وللإعلام بأن ذلك لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن. (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) ، حال من ضمير ، أخرجنا على إرادة القول ، أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم : كلوا وارعوا أنعامكم ، أي مبيحين لكم الأكل وعلف الأنعام ، آذنين في الانتفاع بها. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اختلاف النبات في الشكل والطبع ، (لَآياتٍ) واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى ، في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، (لِأُولِي النُّهى) (٥٤) أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل. (مِنْها) أي الأرض ، (خَلَقْناكُمْ) وذلك إذا وقعت النطفة ، فيخلق الله الولد من النطفة ، ومن التراب. وأيضا أن تولّد الإنسان إنما هو من النطفة ، ودم الطمث ، وهما يتولّدان من الأغذية ، وهي تنتهي إلى

٢٨

النبات ، وهي إنما تحدث من امتزاج الماء والتراب. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) ، إلى الموضع الذي أخذ ترابكم منه مدفونين فيه. (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥) ، يوم البعث على الهيئة السابقة. (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) أي والله لقد بصّرنا فرعون (آياتِنا كُلَّها). روي أن موسى لما ألقى عصاه انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه ، بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على سور القصر ، وتوجّه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه ، فصاح فرعون يا موسى : أنشدك بالذي أرسلك ألا أخذته ، فأخذه ، فعاد عصا.

وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت ، ويقول فرعون : يا موسى أنشدك إلخ. ونزع موسى يده من جيبه ، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا ، خارجا عن حدود العادات ، قد غلب شعاعه شعاع الشمس ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة ، ولذلك أكدت بكلها. (فَكَذَّبَ) موسى عليه‌السلام ، (وَأَبى) (٥٦) أن يؤمن ويطيع لعتوّه (قالَ) لموسى خوفا من أن يتبعه الناس : (أَجِئْتَنا) من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا ، (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) مصر ، (بِسِحْرِكَ) أي الذي هو العصا واليد البيضاء ، (يا مُوسى) (٥٧) وليكون لك الملك فيها ، (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي مثل سحرك في الغرابة. (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) أي وعدا لإتيانك بالسحر ، (لا نُخْلِفُهُ) ، أي ذلك الوعد ، (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) ، فـ «موعدا» مفعول أول ، والظرف مفعول ثان. (مَكاناً) مفعول فيه منصوب بـ «اجعل» ، (سُوىً) (٥٨).

قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بضم السين ، أي تستوي مسافة المكان على الفريقين ، والباقون بكسرها ، أي غير هذا المكان الذي نحن فيه الآن. (قالَ) موسى : (مَوْعِدُكُمْ) أي أجلكم (يَوْمُ الزِّينَةِ) ، وهو يوم النيروز ، أو يوم عيد لهم ، وكان يوم عاشوراء. واتفق أنه في هذه الواقعة يوم سبت. وقرأ الحسن ، والأعمش ، وعيسى ، وعاصم ، وغيرهم «يوم» بالنصب أي موعدكم يقع يوم الزينة ، (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٥٩) ، عطف على الزينة أو على يوم. (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) ، أي انصرف عن المجلس وفارق موسى ، (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ، أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم ، (ثُمَّ أَتى) (٦٠) بهم الموعد وأتى موسى أيضا. (قالَ لَهُمْ). أي لأهل الكيد ، (مُوسى) بطريق النصيحة : (وَيْلَكُمْ) أي ألزمكم الله ضيقا في الدنيا ، (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) ، بإتيان السحر في معارضة آيات الله وبادعائكم أن الآيات التي ستظهر على يدي سحر (فَيُسْحِتَكُمْ).

قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء ، وكسر الحاء والبيخقون بفتحهما ، أي فيهلككم ، (بِعَذابٍ) في الدنيا بالاستئصال أو في الآخرة بالنار. (وَقَدْ خابَ) أي حرم عن المقصود (مَنِ

٢٩

افْتَرى) (٦١) على الله. (فَتَنازَعُوا) أي السحرة ، (أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) ، أي تشاوروا ليستقروا على شيء واحد حين سمعوا كلام موسى عليه‌السلام ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) (٦٢) من فرعون وملئه ، فقالوا في نجواهم : إن غلب علينا موسى آمنا به. ثم (قالُوا) بطريق العلانية ، أي قال السحرة ، وقيل : قال لهم فرعون ومن معه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ). قرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من «إن» ، وشدّدها الباقون. وشدّد ابن كثير نون «هذان» ، وقرأ عمرو «هذين» بالياء. (يُرِيدانِ) أي موسى وهارون ، (أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ، أي أرض مصر ، (بِسِحْرِهِما) الذي أظهراه لكم ، (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) (٦٣) ، أي يذهبا دينكم ، الذي هو أفضل الأديان بإعلاء دينهما. أو يقال : يذهبا بإشراف قومكم بميلهم إليهما لغلبتهما ـ وهم بنو إسرائيل ـ فإنهم ذوو علم ومال. (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ).

وقرأ أبو عمرو بفتح الميم ، وبوصل الهمزة ، أي فأجمعوا أدوات سحركم فلا تتركوا شيئا منها. وقرأ الباقون بكسر الميم ، وقطع الهمزة ، أي ليكن عزمكم مجمعا عليه لا تختلفوا ، (ثُمَّ ائْتُوا) للقاء موسى وهارون ، (صَفًّا) ، أي مصطفين مجتمعين لكي يكون الصف أنظم لأمركم ، وأشد لهيبتكم.

قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) (٦٤) ، أي وقد فاز بالمطلوب من غلب. ومرادهم بالمطلوب الأجر والتقريب من فرعون على ما وعدهم بذلك. ومرادهم بمن غلب أنفسهم جميعا ، أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة. (قالُوا) أي السحرة لموسى : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٦٥) ، أي اختر إما إلقاءك ما معك قبلنا ، وإما القاءنا ما معنا قبلك.

وهذا التخيير حسن أدب منهم ، وتواضع لموسى عليه‌السلام ، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع ، لم يضر ، بل نفعهم ، ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته. ثم إن موسى عليه‌السلام ، قابل أدبهم بأدب أحسن من أدبهم ، حيث بتّ القول بإلقائهم أولا لأنه فهم أن مرادهم الابتداء. (قالَ بَلْ أَلْقُوا) ، أي قال لهم موسى : لا ألقي أنا أولا بل ألقوا أنتم أولا إن كنتم محقين ، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي ، ميلا من هذا الجانب ، وميلا من هذا الجانب. (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي موسى ، (مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها) حيات (تَسْعى) (٦٦). «فإذا» ظرفية تطلب متعلقا ينصبها من فعل المفاجأة ، وجملة ابتدائية تضاف إليها. أي ففاجأ موسى إذا حبالهم وعصيهم ، مخيلة إلى موسى السعي ، كسعي ما يكون حيا من الحيات ، من أجل سحرهم ، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليه الشمس ، اضطربت واهتزت فخيّل إليه أنها تتحرك (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) أي أضمر موسى في قلبه بعض خوف من أن لا يظفر بهم ، فيقتلون من آمن به عليه‌السلام (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦٨) ، أي الغالب عليهم.

٣٠

وقيل : إن موسى خاف من مفاجأته بمقتضى طبع البشرية من النفرة من الحيات ، ومن الاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه ، فإن خوف البشرية مركوز في جبلّة الإنسان ، وذلك مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها. ولذلك قال تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق. (وَأَلْقِ) ، على الأرض (ما فِي يَمِينِكَ) ، يا موسى وإنما لم يقل وألق عصاك تعظيما لشأنها ، أي لا تحفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء عنده ، فألقه ، (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) ، أي تلقم ما طرحوا من الحبال والعصي ، الذي خيل إليك سعيها وخفتها.

وقرأ ابن عامر «تلقّف» بتشديد القاف ، وبالرفع. والعامة بالجزم ، وحفص بسكون اللام وبالجزم (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي لأن الذي صنعوه عمل ساحر. وقرأ حمزة ، والكسائي و «كيد سحر» بكسر ، فسكون ، على أن الإضافة للبيان. وقرأ مجاهد ، وحميد ، وزيد بن علي ، بنصب «كيد ساحر» ، على أنه مفعول به ، و «ما» كافة مزيدة ، (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) ، أي لا يحصل له مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا ، (حَيْثُ أَتى) (٦٩) أي أينما كان ، وهذا من تمام التعليل. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي فألقى موسى عصاه ، فتلقّفت حبال السحرة وعصيّهم فسجدوا ، فإنهم من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا ، فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيّهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود. روي أنهم في سجودهم رأوا الجنة ، ومنازلهم التي يصيرون إليها ، ثم رفعوا رؤوسهم ، (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠) قال رئيسهم : كنا نغالب الناس بالسحر ، وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا ، فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه؟! (قالَ) لهم فرعون : (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له ، (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ) أي أستاذكم ، (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ، وأنكم تلامذته في السحر ، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لشأنه وتفخيما لأمره ، (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) ، أي في حال كونها مختلفات ، والقطع من خلاف ، أن تقطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، لا كل واحد من العضوين ، فإن هذا يد ، وذاك رجل ، وهذا يمين وذاك شمال ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ، أي عليها ، وأتى بكلمة «في» ، للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا ، تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف ، (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) أي أنا أو موسى ، (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١). وهذا لقصد توضيع موسى عليه‌السلام والهزء به ، لأنه عليه‌السلام لم يكن من التعذيب في شيء. أو لإرادة أن إيمانهم كان على خوف من موسى ، حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم ، فخافوا على أنفسهم أيضا ، وفي ذلك تبجّح فرعون بما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب. (قالُوا) : أي السحرة لفرعون غير مكترثين بوعيده : (لَنْ نُؤْثِرَكَ) ، أي لن نختار اتباعك (عَلى ما جاءَنا) من الله تعالى على يد موسى عليه‌السلام ، (مِنَ

٣١

الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الظاهرة الدالة على صدق موسى. (وَالَّذِي فَطَرَنا) أي ولا على عبادة الذي خلقنا ، (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاصنع ما أنت صانعه ، (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٧٢) ، أي لأنك إنما تحكم علينا في الدنيا فقط ، وليس لك علينا سلطان في الآخرة ، وأنت تجزى على حكمك في الآخرة ، وما لنا من رغبة في حلاوة الدنيا ولا رهبة من عذابها. (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) ، أي شركنا ومعاصينا ، (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) ، أي وليغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى رغبة في خيرك ، ورهبة من شرك ، بإكراهك علينا في الحضور إليك من المدائن القاصية ، (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣) أي فخيره تعالى أبقى من خيرك لمن أطاعه ، وعذابه أبقى من عذابك لمن عصاه ، (إِنَّهُ) أي لأنه الشأن ، (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) يوم القيامة (مُجْرِماً) ، بأن مات على الكفر ، (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) ، فينتهي عذابه ويستريح (وَلا يَحْيى) (٧٤) ، حياة ينتفع بها. (وَمَنْ يَأْتِهِ) يوم القيامة (مُؤْمِناً) ، بما وعد من الثواب ، وأوعد من العقاب على لسان أنبيائه ، (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) التي جاءوا بها ، (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٧٥) ، أي المنازل الرفيعة في الجنان. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، وهي في وسط الجنان ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ) ، أي الدرجات العلى ، (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) (٧٦) ، أي تطهر من الذنوب. (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي).

قرأ نافع وابن كثير بكسر النون ، وهمزة وصل. أي سر ببني إسرائيل أول الليل من أرض مصر إلى البحر ، (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) ، أي اجعل لهم بالضرب بعصاك طريقا في البحر يابسا ليس فيه وحل ولا نداوة. (لا تَخافُ دَرَكاً) ، أي إدراك فرعون ، (وَلا تَخْشى) (٧٧) ، من الغرق. وقرأ حمزة «لا تخف» بالجزم جوابا للأمر. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) ، أي فلحقهم فرعون مع جموعه ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٧٨) ، أي فسترهم ما سترهم من البحر. (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) ، أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الهلاك في الدين والدنيا معا ، حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الدنيوي المتصل بالعذاب الأخروي. (وَما هَدى) (٧٩) أي ما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب دنيوي وأخروي.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر ، وكان موسى وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه ، فخرج بهم ليلا وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ، ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين ، وخرج فرعون في طلب موسى ، وعلى مقدمته ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب. فلما انتهى موسى إلى البحر قال : هاهنا أمرت ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، فضرب ، فانفلق ، فقال لهم موسى عليه‌السلام : أدخلوا فيه. فقالوا : وأرضه رطبة ، فدعا الله تعالى فهبت عليها الصبا فجفت. فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا ، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا ، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر.

٣٢

فأقبل فرعون إلى تلك الطرق ، فقال قومه له : إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى ، وكان على فرس حصان ، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة ، فسار جبريل بين يدي فرعون ، فأصبر الحصان الحجر ، فاقتحم بفرعون على أثرها ، فصاحت الملائكة في الناس : الحقوا الملك ، حتى إذا دخل آخرهم ، وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليها فغرقوا ، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم ، فقالوا : ما هذا يا موسى؟ قال : قد أغرق الله فرعون وقومه ، فرجعوا حتى ينظروا إليهم ، وقالوا : يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم ، فدعا ، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وقلنا : يا أولاد يعقوب ، (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه بإغراقهم ، (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) ، أي واعدناكم إتيان جانب الجبل الأيمن ، لمن انطلق من مصر إلى الشام. فإن الله أمر أن يأتي منهم سبعون مع موسى إلى طور سيناء لأخذ التوراة ، ففيه صلاح دينهم ودنياهم وأخراهم ، (وَنَزَّلْنا) في التيه ، (عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) (٨٠) ، فالمنّ : هو شيء «حلو أبيض مثل الثلج ، كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع». والسلوى : «هو السماني يبعثه الجنوب عليهم فيذبح الرجل منهم ما يكفيه». (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي من لذائذه. وقرأ حمزة والكسائي : «قد أنجيتكم» ، و «وعدتكم» ، و «رزقتكم» بتاء المتكلم. والباقون بنون العظمة ، واتفقوا على ونزلنا بالنون. وأسقط أبو عمرو ألف «واعدنا». (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي فيما رزقناكم بأن لم تشكروه.

قال ابن عباس : أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه ، (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) ، بكسر الحاء أي يجب عليكم عقوبتي. قرأ الأعمش والكسائي بضم الحاء أي ينزل (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٨١) ، أي هلك وو قرأ الكسائي بضم اللام الأولى. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) من الشرك والمعاصي ، (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به ، (وَعَمِلَ صالِحاً) أي مستقيما عند الشرع والعقل ، (ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢) أي استمرّ على الهدى من غير تقصير ، ومات على ذلك فلما ذهب موسى عليه‌السلام مع السبعين إلى الميقات تعجّل إلى الميعاد قبلهم ، قال الله له : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) (٨٣) أي وقلنا له : أي شيء أعجبك منفردا عن النقباء ، (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي هم معي ، وإنما سبقتهم بخطي يسيرة ظننت أنها لا تخلّ بالمعيّة ولا تقدح في الاستصحاب. (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (٨٤) عني بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك ، واعتنائي بالوفاء بعهدك ، (قالَ) تعالى : يا موسى (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) ، أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.

وهم الذين خلفهم موسى مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ، ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) ، حيث كان هو المدبّر في الفتنة ، واسمه موسى بن

٣٣

ظفر ، وكان منافقا قد أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان قد ربّاه جبريل فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة ، فيخرج له من أحدها لبن ، ومن الأخرى سمن ، ومن الأخرى عسل. وذلك لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان ، كانت المرأة من بني إسرائيل ، تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة أو كهف من جبل ، أو غير ذلك ، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية حتى يكبروا فيدخلوا بين الناس.

وقرئ وأضلّهم السامري على صيغة التفضيل ، أي أشدهم ضلالا السامري ، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) ، بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة (غَضْبانَ أَسِفاً) ، أي حزينا.

روي أنه لما رجع موسى سمع الصياح ، وكانوا يرقصون حول العجل ، فقال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة ، (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) بأن يعطيكم التوراة ، فيها ما فيها من الهدى؟ (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي أوعدكم ذلك فطال عليكم مدة الإنجاز ، ومدة نعم الله تعالى عليكم من إنجائه إياكم من فرعون ، أفنسيتم ذلك العهد أو تعمدتم المعصية؟! (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بسبب عبادة العجل (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (٨٦) ، بالإقامة على طاعة الله تعالى؟ (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا).

قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ، أي بسلطاننا وقوتنا. ونافع وعاصم ، بفتح الميم. وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر أي بأمر كنا نملكه ونريده. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحفص ، وابن عامر بضم الحاء ، وكسر الميم مشددة ، أي أمرنا أن نحمل أحمالا من حليّ القبط التي استعرناها منهم ، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس وفي الواقع ليس للعرس ، أي فإن موسى أمرهم باستعارة الحليّ والخروج بها. وقرأ حمزة والكسائي ، وأبو عمرو ، وعاصم ، في رواية أبي بكر بفتح الحاء والميم مخففة ، أي حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من حليّ آل فرعون ، (فَقَذَفْناها) أي فطرحنا الحليّ في النار بأمر السامري.

روي أنه قال لهم : إنما تأخر عنكم مجيء موسى عليه‌السلام لما معكم من الأوزار ، أي فهو محبوس عقوبة بالحلي ، فالرأي أن تحفروا لها حفيرة ، وتوقدوا فيها نارا ، وتقذفوها فيها لتخلصوا من ذنبها. (فَكَذلِكَ) ، أي فمثل ذلك القذف ، (أَلْقَى السَّامِرِيُ) (٨٧) ما كان معه منها ، (فَأَخْرَجَ) أي السامري (لَهُمْ عِجْلاً) أي صورة عجل من تلك الحلي المذابة ، أي فصاغ لهم السامري من الذهب الذي ألقوا في النار في ثلاثة أيام ، (جَسَداً) أي حال كون العجل جسدا صغيرا من ذهب بلا روح. (لَهُ خُوارٌ) أي صوت يسمع. أي أن السامري صوّر صورة على شكل العجل. وجعل فيها منافذ ومخارق ، بحيث تدخل فيها الرياح ، فيخرج صوت يشبه صوت العجل.

٣٤

قال ابن عباس : لا ، والله ما كان له صوت قط ، وإنما كان الريح يدخل في دبره فيخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك. (فَقالُوا) أي السامري ومن تبعه في بادئ الرأي لمن توقف من بني إسرائيل : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨) ، أي موسى أن إلهه هنا فيطلبه في الطور. وفي موضع آخر أو فنسي السامري الاستدلال على حدوث الأجسام ، وأن الإله لا يحلّ في شيء ولا يحل فيه شيء. (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) أي العجل ، (إِلَيْهِمْ قَوْلاً). أي ألا يتفكر السامري وأصحابه فلا يعلمون أنه لا يرجع إليهم كلاما. وقرئ «يرجع» بالنصب ، أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم ، قولا من الأقوال ، و «أن» الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين. (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩) أي ، ولا يقدر العجل على أن يدفع عنهم ضرا ، ولا أن يجرّ لهم نفعا فيخافوا كما يخافون فرعون ، ويرجوا منه كما يرجون من فرعون ، فكيف يقولون ذلك؟ (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل مجيء موسى عليه‌السلام : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ، أي أوقعتم في الفتنة بالعجل ، (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) أي إن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن. وإنما قال هارون ذلك شفقة منه على نفسه ، وعلى الخلق.

كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلممن أصبح وهمّه غيرالله فليس من الله في شيء،ومن أصبح لايهتمّ بالمسلمين فليس منهم»(١).

ويروى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أصحابه ، إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» (٢) ، فسمع الشاب ذلك فولّى ، فقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار ، وأنا أعلم أنه صادق ، فإذا كان الأمر كذلك ، فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتشعل النار بي حتى تبرّ يمينه ، ولا تشعل النار بأحد آخر. فهبط جبريل عليه‌السلام وقال يا محمد : بشّر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك ، وفدائه أمتك بنفسه ، وشفقته على الخلق. (قالُوا) في جواب هارون عليه‌السلام : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) ، أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل ، (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٩١). جعلوا رجوع موسى عليه‌السلام إليهم ، غاية لعكوفهم على عبادة العجل بطريق التعلل والتسويف ، وقد دسّوا تحت ذلك ، أن موسى لا يرجع بشيء مبين اعتمادا على مقالة السامري.

__________________

(١) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (٧ : ٢٥٣٠) ، والحاكم في المستدرك (٤ : ٣٢٠) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٨ : ٨٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٤٣٧٠٦) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٣ : ٤٨).

(٢) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٩ : ٥٢٩) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (٤ : ٢٨٢).

٣٥

واعلم أن هارون عليه‌السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الطرق ، لأنه زجرهم عن الباطل :

أولا : بقوله : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ، وهو إزالة الشبهات ـ لأنه لا بدّ قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق ـ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى.

ثانيا : بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ، لأنها الأصل ، وإنما خصّ هذا الموضع باسم الرحمن ، لأنه عليه‌السلام كان ينبئهم ، بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم ، لأنه هو الرحمن كما خلصهم من آفات فرعون برحمته ، ثم دعاهم.

ثالثا : إلى معرفة النبوة بقوله : فاتبعوني ، ثم دعاهم.

رابعا : إلى الشريعة بقوله : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) ، ثم إنهم لجهلهم وتقليدهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال ، بقولهم (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فجحدوا قول هارون كما هو عادة المقلّد. فكأنهم قالوا : لا نقبل حجّتك ، ولكن نقبل موسى.

روي أنهم لما قالوا ذلك : اعتزلهم هارون عليه‌السلام ، في اثني عشر ألفا ، وهم الذين لم يعبدوا العجل. (قالَ) موسى : (يا هارُونُ) حين سمع جوابهم له وهو مغتاظ : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (٩٢) بعبادة العجل ، (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) في حالي الغضب لله تعالى ، والمقاتلة مع من كفر به ، أي أيّ شيء دعاك إلى أن لا تتبعني في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعا أو كرها ، فلم تركت قتالهم وتأديبهم ، وتركت وصيتي ، وأنت نبي الله ، وأخي ، ووزيري ، وخليفتي في قومي؟ وأثبت الياء بعد النون ابن كثير ، وقفا ووصلا ، وأثبتها نافع وأبو عمرو ، وصلا لا وقفا ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) ، أي ألم تتبعني وعصيت أمري؟ وأمره عليه‌السلام هو ما حكاه الله تعالى عنه في قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فلما أقام هارون معهم ولم يبالغ في منعهم ، نسبه إلى مخالفة أمره. (قالَ) هارون لموسى : (يَا بْنَ أُمَ) ذكر هارون أمه ، مع أن موسى أخوه الشقيق ، ترقيقا لقلبه. قرأ حمزة والكسائي بكسر الميم (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ، أي ولا بشعر رأسي.

روي أن موسى عليه‌السلام أخذ شعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله من فرط غضبه لله. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، برأيك بسبب القتال تفريقا لا يرجى بعده الاجتماع. (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) ، أي ولم تنتظر قدومي ، فمن ذلك تركت القتال معهم. وإني رأيت أن الإصلاح ، في المداراة معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت ، (قالَ) موسى عليه‌السلام للسامري موبخا له بعد سماع الاعتذارين : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٩٥) أي فيما شأنك الداعي إلى ما صنعت ، وما مطلوبك مما فعلت من عبادة العجل؟ (قالَ) أي السامري مجيبا له عليه‌السلام : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) ، بضم الصاد فيهما. وقرأ حمزة والكسائي ، بالتاء على خطاب موسى وقومه ، أي رأيت ما لم يره بنو إسرائيل ، قال له

٣٦

موسى : وما رأيت دونهم؟ قال : رأيت جبريل لما نزل على دابة الحياة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) ، أي حفنة من تربة موطئ فرس الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة ، وأخذ التوراة. وقرأ الحسن «قبضة» بضم القاف. وقرئ «قبصت قبصة» ، بالصاد المهملة ، فالضاد المعجمة للأخذ بجميع الكف ، والمهملة للأخذ بأطراف الأصابع. (فَنَبَذْتُها) أي فطرحت المأخوذ في فم العجل المصوغ ودبره فخار ، أو في الحلي المذابة.

قال أبو مسلم الأصفهاني : إن موسى عليه‌السلام ، لما أقبل على السامري باللوم على الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) إلخ. أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق. وقد كنت أخذت شيئا من سنتك أيها الرسول فطرحتها ، وعلى هذا فالمراد بالأثر : الدين ، وبالرسول : سيدنا موسى عليه‌السلام.

قال الرازي : وهذا القول أقرب إلى التحقيق لأن جبريل لم يجر له فيما تقدم ذكره ، وليس بمشهور عندهم باسم الرسول ولأن إضمار الكلام خلاف الأصل ، ولأن جبريل ربّى السامري حال طفولته فلا يعرفه ، ولو عرفه بعد البلوغ لعرف قطعا أن موسى عليه‌السلام نبي صادق ، ولأنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة أن تراب فرس جبريل له خاصية الإحياء ، لاطلع موسى عليه‌السلام على شيء آخر يشبه ذلك ، فلأجله أتى بالمعجزات. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦) ، أي وزينت لي نفسي تزينا كائنا مثل ذلك التزيين الذي فعلته من القبص ، والنبذ ، فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري ، بل اتبعت هواي فيه. (قالَ) له موسى : (فَاذْهَبْ) يا سامري من بين الناس ، (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ، أي فإن قولك لا مساس ثابت لك في مدة حياتك لا ينفك عنك ، فكان يصيح بأعلى صوته : لا مساس ، أي إني لا أمسّ ولا أمسّ ، وإذا مسّه أحدّهم أخذت الحمّى الماسّ والممسوس ، فكان إذا أراد أحد أن يمسّه صاح خوفا من الحمى ، وقال : لا مساس. وحرّم موسى عليهم مكالمته ، ومبايعته ، وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس ، فكان يهيم في البرية مع السباع والوحوش ، ويقال : إن موسى همّ بقتل السامري ، فقال الله تعالى : «لا تقتله فإنه سخي». (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) لعذابك في الآخرة (لَنْ تُخْلَفَهُ).

قرأ أهل المدينة والكوفة ، بفتح اللام أي لن يخلفك الله ذلك الوعد. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو والحسن بكسر اللام ، أي لن تجد للوعد خلفا ولن يتأخر عنك. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ، أي الذي أقمت عابدا على إلهك ثم (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار. ويؤيده قراءة «لنحرقنّه» بضم النون ، وسكون الحاء أو «لنبردنّه» بالمبرد ، ويعضده قراءة أبي جعفر ، وابن محيصن «لنحرقنّه» بفتح النون ، وضم الراء ، أي لنبردنّه بعد أن أحميه بالنار ، حتى لان فهان على المبارد. (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧) أي لنذرينّه في هواء البحر ذروا إذا صار رمادا ، أو مبرودا ، كأنه هباء. ولقد فعل موسى عليه‌السلام ذلك كله حينئذ ، فلما فرغ موسى من إبطال ما

٣٧

ذهب إليه السامري ، عاد إلى بيان الدين الحق فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) أي إنما معبودكم المستحق للعبادة الله ، (الَّذِي لا إِلهَ) أي لا معبود لشيء من الأشياء موجود ، (إِلَّا هُوَ) ، وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء. وقرئ «الله لا إله إلا هو الرحمن رب العرش» ، (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨) ، أي وسع علمه كل شيء فيعلم من يعبده ومن لا يعبده. (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) ، أي نقص عليك يا أشرف الخلق ـ من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية ـ قصا مثل ذلك القصّ المارّ ، زيادة في معجزاتك ، وليكثر الاعتبار للمكلّفين بها في الدين. (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٩٩) أي ولقد أعطيناك من عندنا قرآنا مشتملا على هذه الأخبار. (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن ذلك الذكر ، (فَإِنَّهُ) أي المعرض عنه ، (يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (١٠٠) أي عقوبة ثقيلة ، (خالِدِينَ فِيهِ) أي في حمل العقوبة ، (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١) ، أي بئس لهم حملا عقوبتهم ، أو بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرا بالقرآن. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، النفخة الثانية.

قرأ الجمهور بالياء المضمومة ، وفتح الفاء ، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة ، وضم الفاء ، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له ، وقرئ بالياء المفتوحة ، والضمير لله تعالى ، أو لإسرافيل ، وإن لم يجر ذكره لشهرته. (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين ، (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ ينفخ في الصور (زُرْقاً) (١٠٢) أي زرق العيون ، سود الوجوه ، لأن زرقة العيون أبغض ألوان العين إلى العرب ، أو عميا ، لأن حدقة الأعمى تزرق ، أو عطاشا لأنهم من شدة العطش ، يتغيّر سواد عيونهم حتى تزرق ، أو طامعين فيما لا ينالونه. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) ، أي يقول بعضهم لبعض بطريق المخافتة لما يملأ صدورهم من الرعب ، (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (١٠٣) أي ما مكثتم في القبور إلّا عشرة أيام ، لأنهم يرون من شدة أهوال ذلك اليوم ، ما يقلل ذلك في أعينهم ، فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلّا عشرة أيام ، وهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك ، اعترافا به ، وتحقيقا لسرعة وقوعه ، كأنهم قالوا قد بعثتم ، وما لبثتم في القبور ، إلا مدة يسيرة. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) في ذلك اليوم أي ليس كما قالوا. (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً). أي أصوبهم رأيا (إِنْ لَبِثْتُمْ) ، أي ما مكثتم في القبور ، (إِلَّا يَوْماً) (١٠٤) ، ونسبة هذا القول إلى أفضلهم عقلا لكونه أدلّ على شدة الهول. (وَيَسْئَلُونَكَ) أي يسألك يا أشرف الخلق ، مشركو مكة على سبيل الاستهزاء ، أو بنو ثقيف ، (عَنِ الْجِبالِ) أي عن أمر الجبال كيف تكون يوم القيامة ، (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١٠٥) ، أي يصير الجبال كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح ، (فَيَذَرُها) أي فيترك الأرض بعد قلع الجبال ، (قاعاً) أي مستويا (صَفْصَفاً) (١٠٦) أي ملساء لا نبات فيها ، (لا تَرى فِيها) أي الأرض (عِوَجاً) أي لا تدرك فيها انخفاضا (وَلا أَمْتاً) (١٠٧) أي نتوءا يسيرا. (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) ، أي يوم إذ نسفت الجبال ، يتبع الناس

٣٨

صوت الداعي إلى المحشر بعد القيام من القبور ، فيقبلون من كل أوب إلى جهته. والراجح أن الداعي : جبريل ، والنافخ : إسرافيل ، (لا عِوَجَ لَهُ) ، أي لا يعدل الداعي عن أحد بدعائه ، بل يحشر الكل.

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) ، أي سكنت (لِلرَّحْمنِ) ، أي لهيبة الرحمن. (فَلا تَسْمَعُ) ، يا أشرف الخلق ، (إِلَّا هَمْساً) (١٠٨) ، أي وطأ خفيا كوطء الإبل ـ وهو خفق أقدامهم في مشيها إلى المحشر ـ وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وابن زيد. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) أي يوم إذ يتبعون الداعي ، لا تنفع الشفاعة أحدا من الخلق ، إلا شخصا أذن لأجله في أن يشفع له ، وقبل منه قولا واحدا من أقواله ، وهو شهادة «أن لا إله إلا الله» ، بأن مات على الإسلام وإن عمل السيئات ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفسّاق وهي نافعة لهم. (يَعْلَمُ) ، أي الرحمن (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، أي المتبعين للداعي وهم الخلق جميعهم ، (وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما مضى من أحوالهم وما بقي منها ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ) ، أي بما بين أيديهم وما خلفهم (عِلْماً) (١١٠) (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ، أي ذلّت المكلفون لله تعالى ذلّ الأسارى في يد الملك القهار. (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) ، أي خسر من أشرك بالله ولم يتب. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) ، أي بعضا من الصالحات وهو الفرائض ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، فإن الإيمان شرط في الصحة والقبول. (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي منعا من الثواب ، (وَلا هَضْماً) (١١٢) أي نقصا من ثوابه.

وقال أبو مسلم : الظلم : نقص من الثواب ، والهضم : عدم تمام حقه من التعظيم ، لأن الثواب مع كونه من اللذات ، لا يكون ثوابا ، إلا إذا قارنه التعظيم. فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين.

وقرأ ابن كثير : «فلا يخفّ» بالجزم على النهي ، أي فليأمن فالنهي عن الخوف والأمر بالأمن. (وَكَذلِكَ) ، ومثل إنزال هذه الآيات ، (أَنْزَلْناهُ) ، أي القرآن كله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليفهمه العرب ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) ، أي وكرّرنا في القرآن نوعا من الوعيد ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). أي لكي يتقوا الكفر والفواحش. (أَوْ يُحْدِثُ) ، أي القرآن (لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣). أي اتعاظا يدعوهم إلى الطاعات ، وفعل ما ينبغي ، فإن لم يحصل التقوى ، فأقلّ ما يحصل أن يحدث القرآن لهم شرفا وصيتا حسنا. (فَتَعالَى اللهُ) أي تنزّه عن مماثلة المخلوقات في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله. (الْمَلِكُ) ، النافذ أمره ونهيه ، (الْحَقُ) ، أي الثابت في ملكه. (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). أي ولا تستعجل يا أشرف الخلق بقراءة القرآن ، من قبل أن يفرغ جبريل من قراءة القرآن عليك. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا ألقى إليه جبريل الوحي ، يتبعه عند تلفّظ كل حرف ، وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالحفظ ، فنهي عن ذلك ، وأمر باستزادة العلم من الله تعالى فقيل : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤) أي فهما لإدراك حقائقه ، فإنها غير متناهية.

٣٩

روى الترمذي ، عن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم انفعني بما علمتني ، وعلّمني ما ينفعني ، وزدني علما والحمد لله على كل حال ، وأعوذ بالله من حال أهل النار» (١). وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية ، قال : اللهم زدني علما ويقينا. (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) ، أي وصّيناه أن لا يأكل من الشجرة ، (مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل أكله منها ، (فَنَسِيَ) عهدنا وأكل منها.

وقرئ «فنسي» بالبناء للمجهول ، وبتشديد السين ، أي فنسّاه الشيطان. (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥). أي تصميما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد. فهو إنما أخطأ في الاجتهاد ، أو لم نجد له عزما على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمّد ، وهذا أقرب إلى المدح ، فـ «عزما» مفعول به ، و «له» حال منه ، أو متعلّق بـ «نجد» ، أو بـ «عزما» (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، أي واذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه ، حتى يتبين نسيانه لك ، وفقدان صبره عما نهيناه عنه ، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) ، رئيسهم (أَبى) (١١٦) ، أي أظهر الإباء ، (فَقُلْنا) عقب ذلك : (يا آدَمُ إِنَّ هذا) الذي تكبّر عليك ، (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء ، لأن إبليس رأى آثار نعم الله تعالى ، في حق آدم عليه‌السلام ، فإنه كان شابا عالما وإبليس كان شيخا جاهلا فأثبت فضله بفضيلة أصله ، وهو النار. وبينها وبين أصل آدم وهو الماء ، والتراب ، عداوة فثبتت تلك العداوة. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) ، بوسوسته (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧). أي فتتعب ففي طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة.

روي أنه هبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها) أي الجنة ، (وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) ، أي لا تعطش (فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩) ، أي لا يصيبك حرّ الشمس ، أو تعرق.

فالجوع : ذل الباطن. والعري : ذلّ الظاهر. والظمأ : حرّ الباطن. والضحو : حرّ الظاهر. فنفى الله عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن ، وحرّ الظاهر والباطن.

وقرأ نافع ، وأبو بكر ، و «إنك» بكسر الهمزة استئناف أو عطف على «أن» الأولى. والباقون بفتحها عطف على «أن لا تجوع». (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) ، أي أنهى إليه وسوسته ، ثم بيّن الله صورة الوسوسة بقوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠). أي لا يزول ولا يختل ، أي هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها خلّد ، ولا يموت أصلا ودام ملكه ، إما على حاله ، أو على أن يصير ملكا. (فَأَكَلا مِنْها) ، أي الشجرة

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب : ١٢٨ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : الانتفاع بالعلم والعمل به.

٤٠