مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

يجبان إلّا في الصلاة ، فيجبان في التشهد ، وهما قولنا فيه : سلام عليك أيها النبي. وقولنا : اللهم صلّ على محمد ، وإنما أمرنا الله بالصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه يكفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته تعالى لإظهار تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منا شفقة علينا ليثيبنا عليه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه تعالى ولا حاجة له إليه. (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم من رحمته (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها. (وَأَعَدَّ لَهُمْ) مع ذلك (عَذاباً مُهِيناً) (٥٧) يصيبهم في الآخرة خاصة وإذاية الله تكون بالكفر كإنكار وجوده تعالى ووصفه تعالى بما لا يليق به كقول اليهود : يد الله مغلولة ، وإن الله فقير ، وعزير ابن الله. وقول النصارى : ثالث ثلاثة ، والمسيح ابن الله ، وقول المشركين : الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه ، وإذاية الرسول كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد ، وطعنهم في نكاح صفية ، وقولهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو شاعر ساحر كاهن مجنون. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بقول أو فعل (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي بغير جناية يستحقون بها الأذية (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) أي زورا (وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨) ، أي ذنبا ظاهرا موجبا للعقاب في الآخرة.

قيل : إن هذه الآية نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا ، ويسمونه ما لا خير فيه. وقيل : نزلت في أهل الإفك في شأن عائشة وصفوان. وقيل : في زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا عنها ، وكانوا لا يتعرضون إلّا للإماء ، ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر أيضا ، لأن زي الكل كان واحدا لأنهن ، يخرجن في درع وخمار ، فشكون ذلك إلى أزواجهن ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، ثم نهى الله تعالى الحرائر أن يتشبهن بالإماء بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَ) أي يرخين على نحورهن وجيوبهن (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أي ثيابهن التي يلتحفن بها ، (ذلِكَ) أي تغطي الأبدان (أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي أحق بأن يعرفن أنهن حرائر ، وأنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن ، لأن من تستر وجهها لا يطمع فيها أن تكشف عورتها ، (فَلا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن من جهة من يتعرض للإماء ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن من التفريط (رَحِيماً) (٥٩) بعباده حيث يراعي مصالحهم (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عبد الله بن أبيّ وأصحابه عن المكر والخيانة ، (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شهوة الزنا الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) بقولهم : غلب محمد وسيخرج من المدينة ، وسيؤخذ (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنأمرنك بإخراجهم من المدينة أو بقتالهم ، (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي لا يساكنون معك في المدينة وتخلو المدينة منهم بالإخراج أو بالموت (إِلَّا قَلِيلاً) (٦٠) أي إلّا زمانا يسيرا ، (مَلْعُونِينَ) أي مطرودين من باب الله ومن بابك ، وهو نصب على الشتم ، ويجوز عند الكسائي والفراء منصوبا بـ «أخذوا» الذي هو جواب الشرط ، وعلى الوقف ملعونين وقف كاف ، أي على غير هذا الإعراب (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي في أي مكان

٢٦١

وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١). وهذه الآية خبر بمعنى الأمر ، أي خذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف ، (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ، أي سن الله ذلك في الأمم الذين من قبلهم سنة وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم‌السلام ، وسعوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما وجدوا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢) ، أي هذه السنة ليست مثل الحكم الذي ينسخ ، فإن النسخ يكون في الأحكام ، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ ، (يَسْئَلُكَ النَّاسُ) أي كفار مكة واليهود (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت قيام القيامة ـ فإن المشركين يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء ، واليهود سألوا عنه امتحانا ـ (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا (وَما يُدْرِيكَ) أي أيّ شيء يعلمك بوقت قيامها أي لا يعلمك به شيء أصلا ، (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (٦٣) ، وهذا تخويف أي هي في علم الله فلا تستبطئوها ، فربما تقع عن زمان قريب (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) في الدنيا والآخرة ، (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (٦٤) أي نارا شديدة الاتقاد ، (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي حافظا يحفظهم من عذاب الله (وَلا نَصِيراً) (٦٥) ، يخلصهم منه ، (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وهو ظرف بـ «لا يجدون» (يَقُولُونَ) حال من ضمير «وجوههم». (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٦٦) (وَقالُوا) عطف على «يقولون» : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧) أي فصرفونا عن الدين.

وقرأ ابن عامر «ساداتنا» بألف بعد الدال ، وبالنصب بالكسرة الظاهرة ، أي إن الكافرين يقولون يوم تصرف أبدانهم في النار من جهة ، إلى جهة كلحم يشوى في النار ، أو يطبخ في القدور في الدنيا فلا تبتلي بهذا العذاب ، فيتحسرون ويندمون حيث لا تنفعهم الندامة والحسرة ، ثم يقولون : أطعنا السادة بدل طاعة الله تعالى ، وأطعنا الكبراء بدل طاعة الرسول ، وتركنا طاعة سادة السادات ، وأكبر الأكابر ، فبدلنا الخير بالشر ، ففاتنا خير الجنات ، وأعطينا شر النيران ، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون : (رَبَّنا آتِهِمْ) أي أعط الرؤساء (ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي مثلي العذاب الذي أعطيتناه ، (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٦٨) أي شديدا.

وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي لعنا عظيما. والباقون بالثاء المثلثة أي كثير العدد. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا) في إيذاء نبيكم (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) بأنواع الأذية كنسبته إلى عيب في بدنه من أدرة أو برص ، وكإغراء مومسة على قذفه عليه‌السلام بنفسها بدفع مال عظيم إليها وكغير ذلك. (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) أي أظهر الله براءته عليه‌السلام من قولهم.

روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى عليه‌السلام يغتسل وحده فقالوا : والله ما يمنع موسى أن

٢٦٢

يغتسل معنا إلّا أنه آدر ، فذهب يوما يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه ، فجعل موسى يجري عقبه ويقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس فوقف الحجر فأخذ موسى ثوبه فاستتر به وضرب الحجر حتى ظهر فيه ستة جروح» (١) اه. (وَكانَ) موسى (عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩) ، أي معظما رفيع القدرة.

قال ابن عباس : كان عظيما عند الله تعالى لا يسأله شيئا إلّا أعطاه. وقال الحسن : كان مجاب الدعوة. وقيل : كان محببا مقبولا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠) أي صوابا. والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب المائل عن العدل (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ).

قال ابن عباس : أي يتقبل حسناتكم ، وقال مقاتل : يزكي أعمالكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) باستقامتكم في القول والعمل ، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي (فَقَدْ فازَ) في الدارين (فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) أي نال جميع مراداته ، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ). والمراد بالأمانة : الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن من حملها أن لا يؤدينها فيلحقهن من العقاب أي فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن ، وإن عصيتن عوقبتن. قلن : لا يا رب نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا. وقلن ذلك خوفا وتعظيما لدين الله تعالى لا مخالفة لأمره ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي آدم قال الله تعالى لآدم : إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت ، فحملها آدم فقال : بين أذني وعاتقي الله تعالى أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابا ، واجعل للسانك لحيين وغلافا فإذا خشيت فأغلق عليه واجعل لفرجك لباسا ، فلا تكشفه على ما حرمت عليه. (إِنَّهُ) أي الإنسان (كانَ ظَلُوماً) أي متعبا لنفسه بحملها. وهذا الظلم ممدوح من الأنبياء (جَهُولاً) (٧٢) بعاقبته ، وإن النفس لا تطيق الدوام على حملها (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) فـ «اللام» للعاقبة متعلق بـ «حمل» ، أي حملها الإنسان وكان عاقبة حمله لها أن يعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ، (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي كان عاقبة حمله لها أن يقبل توبتهم ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للظلوم (رَحِيماً) (٧٣) على الجهول ، لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلّا الظلم العظيم الذي هو الشرك.

__________________

(١) رواه البغوي في شرح السنّة (٦ : ١٢) ، وابن كثير في التفسير (٦ : ٥٧٠) ، وكنز العمال (٣٩٣٣٩).

٢٦٣

سورة سبأ

مكية ، أربع وخمسون آية ، ثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة ، ألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أي له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد ، والإعدام ، والإحياء ، والإماتة جميع ما وجد فيهما ، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي له المنّة على أهل الجنة فيحمدونه ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١). فالحكيم هو الفاعل على وفق العلم فإن من يعلم أمرا ، ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له : حكيم. ومن يأت بأمر عجيب على سبيل الاتفاق من غير علم لا يقال له : حكيم. والخبير : هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها ، فهو حكيم في الابتداء ، يخلق كما ينبغي ، وخبير بالانتهاء يعلم ما ذا يصدر من المخلوق ، وما لا يصدر ، ومصير كل أحد. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالحيوان والنبات وماء العيون ونحوها. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد ، والأبخرة ، والأدخنة. (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢) ، أي الرحيم بإنزال الرزق وللحامدين عليه ، والغفور عند ما تعرج إليه الأرواح والأعمال ، وللمفرطين في الحمد. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ أبو جهل وأصحابه ـ : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي الساعة (عالِمِ الْغَيْبِ).

قرأ نافع وابن عامر بالرفع على المدح فالوقف على «لتأتينكم» حينئذ كاف ، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالجر نعت لـ «ربي» ، أو بدل منه. وقرأ حمزة والكسائي «علام» ، بالجر والوقف حينئذ على «بلى» ، وهو كاف كالوقف على الغيب. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي لا يغيب عن الله وزن نملة حمراء صغيرة. وقرأ الكسائي بكسر الزاي (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فقوله : (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه تعالى بالأرواح ، لأنها في السماء وقوله : (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه تعالى بالأجساد ، لأن أجزاءها في الأرض ، وإذا علم الله الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) أي من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) ، أي إلّا مكتوب في اللوح المحفوظ ، وجملة «ولا أصغر» إلى آخرها

٢٦٤

من مبتدأ وخبر مؤكدة لنفي العزوب ، أما على قراءة الفتح في «أصغر» و «أكبر» فهو اسم «لا» ، والخبر إلّا في كتاب (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

وهذا علة لقوله تعالى : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ). (أُولئِكَ) الموصوفون بالصفات الجليلة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) فإن الرزق يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يتسبب فيه لا يأتي ، ثم إن المغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور كما في حديث البخاري : «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان والرزق الكريم جزاء العمل الصالح». (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالإبطال أي كذبوها (مُعاجِزِينَ) أي متأخرين.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم ، وبغير ألف بعد العين أي مريدين التعجيز ، أو ظانين أنهم يفوتون الله ، أو مثبطين عن الإيمان من أراده (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) ، أي من جنس سوء العذاب (أَلِيمٌ) (٥) أي شديد.

وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع صفة لـ «عذاب» والباقون بالجر صفة لـ «رجز». (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله ومن علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وكعب وأضرابهما. (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن (هُوَ الْحَقَ) بالنصب على أنه مفعول ثان ، (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٦) الذي هو التوحيد. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أبو سفيان وأصحابه للسفلة : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) أي يحدثكم بعجب عجاب (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) أي إنكم تنشأون خلقا جديدا بعد أن تفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث تصير ترابا ، ويقصدون بذلك الرجل سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي أهو الرجل تعمد على الله كذبا ، إن كان يعتقد خلاف أخباره بأنهم يبعثون (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي إما فيه جنون إن كان لا يعتقد خلافه وهذا إما من تمام القائل أو لا أو من كلام السامع المجيب لذلك القائل. قال الله تعالى جوابا بالتردد مناديا عليهم بسوء حالهم : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨) ، لأن من يسمي المهتدي ضالا يكون هو الضال ، ومن يسمي الهادي ضالا يكون أضل (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، أي أفعلوا ما فعلوا من المنكر فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم فذلك يدل على وحدانية الله وكمال قدرته ، وذلك دليل على الإعادة (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسفناها بقارون وأصحابه (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) ، أي قطعا (مِنَ السَّماءِ) كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستحقاقهم ذلك.

وقرأ حفص بفتح السين. والباقون بسكونها. وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف» ، «أو يسقط» بالياء في الثلاثة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المحيط بالناظر من جميع الجوانب (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩) ، أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب تدل على قدرة الله على إحياء الموتى ،

٢٦٥

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي أعطيناه لصحة توبته نوعا من الفضل على سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو ما ذكر بعد (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي رجّعي مع داود النوحة على الذنب ، (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطفا على فضلا بمعنى : وسخّرنا له الطير ، لأن إيتاءها إياه تسخيرها له وقيل : كان داود ينوح على ذنبه بترجيع وتحزن ، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائدها ، والطير بأصواتها ، وقوله : (يا جِبالُ) إلخ بدل من «آتينا» بإضمار «قلنا» أو من «فضلا» بإضمار «قولنا». (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) أي جعلناه لينا في نفسه كالشمع يصرفه في يده كيف يشاء من غير حماء بنار ولا ضرب بمطرقة. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي أمرناه بأن اعمل دروعا واسعات ، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي توسط في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها ، أو لا تصرف جميع أوقاتك إلى النسج بل مقدار ما يحصل به القوت ، وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة ، (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي لستم مخلوقين إلّا للعمل الصالح ، فأكثروا منه وقدروا في الكسب (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١) فمن يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخر له الريح عوضا عن الخيل التي عقرها الله تعالى.

وقرأ شعبة برفع «الريح» على الابتداء والخبر مجرور قبله ، لأن الريح كانت لسليمان كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد. (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشي كذلك.

قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر ويروح من إصطخر فيبيت ببابل. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي النحاس المذاب يعمل به ما يشاء كما يعمل بالطين ، وكان ذلك بأرض اليمن.

وقيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) بالسخرة من البنيان وغيرها (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بأمره تعالى ، (وَمَنْ يَزِغْ) أي يمل (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢) أي عذاب النار الوقود في الآخرة (يَعْمَلُونَ لَهُ) ، أي في أيّ وقت يشاء (ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أي أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج ، (وَتَماثِيلَ) أي صور من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك. وقيل : هي صور الملائكة والأنبياء ، والعباد ، كانت تصور في المساجد ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة ، ويعبدوا ربهم على مثالهم.

وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد على الكرسي بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما. (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) أي قصاع كالحياض الكبار. وقيل : كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل.

وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف. وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا. والباقون بالحذف وقفا ووصلا. (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها

٢٦٦

لعظمها ، وكان يصعد عليها بالسلالم ، وكانت باليمن (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فـ «آل» منادى ، و «شكرا» مفعول به.

وروي أن سليمان عليه‌السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ، (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ) أي سليمان (الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ) أي آله (عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) ـ وهي الأرضة ـ (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه (فَلَمَّا خَرَّ) أي وقع سليمان على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي علمت الجن علما بيّنا (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤) ، أي أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كموت سليمان ، ما لبثوا في العذاب المهين وحينئذ يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، بل كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب.

وقال سليمان لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني. فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة ، فدعا الشياطين ، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض الله روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، وكان للمحراب كوي بين يديه وخلفه ، فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته ، وينظرون إلى سليمان عليه‌السلام فيرونه قائما متكئا على عصاه ، فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخرّ ميتا ، فعلموا بموته حينئذ ، فشكروا ذلك للأرضة ، فأينما كانت يأتونها بالماء والطين وقالوا لها : لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.

وحكي أن سليمان عليه‌السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه ، وكان عمره سبعا وستين سنة ، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان ملكه خمسين سنة ، وقرّب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ، ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء ، وقال : اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان ، وقوّيتني على بناء هذا المسجد ، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت وتوفني على ملتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني اسألك لمن دخل المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلّا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلّا أمنته ، ولا سقيم إلّا شفيته ، ولا فقيرا إلّا أغنيته ، والخامسة : أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا أو ظلما يا رب العالمين. (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) أي علامة دالة على قدرتنا.

وقرأ حمزة وحفص بسكون السين ، وفتح الكاف ، والكسائي بكسرها. والباقون «مساكنهم» بلفظ الجمع ، أي عند مواضع سكناهم ـ وهي باليمن يقال لها : مأرب ، بينها وبين

٢٦٧

صنعاء مسيرة ثلاثة أيام آية ـ دالة على وجود الصانع المختار القادر على كل ما يشاء. (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات ، وكان سبأ ثلاث عشرة قرية ، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا ، فقال لهم الأنبياء : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) من الثمار ونحوها ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) بالتوحيد ليديم لكم النعمة (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥) ، أي بلدتكم بلدة طاهرة عن المؤذيات ، لا حية فيها ، ولا عقرب ، ولا وباء ، ولا وخم. وربكم الذي رزقكم الطيبات وطلب منكم الشكر ، رب غفور لفرطات ممن يشكره. (فَأَعْرَضُوا) عن الإيمان ولم يشكروا.

قال وهب : أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعم الله عليهم ، وأنذروهم عقابه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة ، فقولوا لربكم : فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع ، (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أي سلّطنا عليهم سيل الوادي ـ والعرم : واد في اليمن يقال له ، وادي الشجر ، وكان فيه مسناة يحسبون الماء في الوادي ، وكان لها ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض ، فكانوا يسقون من الأعلى ، ثم من الثاني ، ثم من الثالث على قدر حاجاتهم ، فأخصبوا ، وكثرت أموالهم ـ فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأرة فنقبت الردم ، فهدم الله تلك المسناة وأهلكهم بذلك الماء ، وأهلك ما كان لهم من البساتين والبيوت وغير ذلك. (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي أذهبنا جنتيهم ، وآتيناهم بدلهما جنتين ذواتي ثمر بشع.

وقرأ أبو عمرو «أكل» بغير تنوين ، أي ثمر أراك (وَأَثْلٍ) أي طرفاء ، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦) أي قليل ثمره كثير شوكه ، له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا ، ولا ينتفع بورقه في غسل اليد ، وهو سدر بري ، وهذان معطوفان على «أكل» لا على «خمط». وقرئ «وأثلا وشيئا» عطفا على «جنتين». (ذلِكَ) أي التبديل (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) ، أي وما نجازي هذا الجزاء إلّا المبالغ في الكفران.

وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنون العظمة. والباقون بالياء على البناء للمفعول «الكفور». وقرئ على البناء للفاعل ـ وهو الله تعالى ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالماء والشجر (قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين أهل سبأ ـ وهم باليمن ـ وبين أهل الأردن وفلسطين ـ وهم بالشام ـ قرى يرى بعضها من بعض لتقاربها ، يرى سواد القرية من القرية الأخرى. قيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير بين قراهم والشام سيرا مقدرا من قرية إلى قرية ، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار ، فلا يحتاجون في السفر إلى حمل زاد وماء وقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (١٨) وهو أمر بمعنى الخبر ، أي تسيرون في تلك القرى إن شئتم

٢٦٨

ليالي ، وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوّفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرها ، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان غير مجاهر بالقصد والعداوة.

قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ، ولا جائعين ، ولا ظامئين كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضا ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه ، (فَقالُوا) على وجه الدعاء : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أي باعد بين المنازل التي تنزل فيها بأن يكون بين كل واحد والآخر مسافة بعيدة ، أي سألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام قفارا ليركبوا فيها الرواحل ، ويتزودوا الأزواد ، ويتطاولوا فيها على الفقراء ، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة ، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» بتشديد العين من غير ألف. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة ، وتركوا شكر تلك النعم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) بمن بعدهم ، فيتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ، ومعتبرين بعاقبتهم ، ويضربون مثلا فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ ـ والأيدي : بمعنى الأنفس أو الأولاد ـ (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم كل تفريق ، أي فلما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، فغسان لحقوا بالشام والأزد بعمان ، وخزاعة بتهامة ، والأوس والخزرج بيثرب. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التمزيق والإهلاك (لَآياتٍ) أي لعبرات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات ، (شَكُورٍ) (١٩) على النعم (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي وجد إبليس ظنه صادقا أنه يغوي بني آدم ، أو في أنه خير منهم ، فالمتبوع خير من التابع ، فإبليس امتنع من عبادة غير الله ، والمشركون يعبدون غير الله ، فإبليس كفر بأمر أقرب إلى التوحيد ، والمشركون كفروا بالإشراك.

وقرأ الكوفيون «صدق» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه ، أو جعل ظنه صادقا. وقرئ بنصب «إبليس» ، ورفع «ظن» مع تشديد «صدق» بمعنى : وجد ظنه صادقا ، ومع التخفيف بمعنى : قال له الصدق حين خيل له إغوائهم وبرفعها مع التخفيف على الإبدال (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) أي إلا فريقا هم المؤمنون ، فإن المؤمنين كلهم لم يتبعون في أصل الدين ، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين فإن المخلصين لم يتبعوه في العصيان (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ، أي وما كان تسلط إبليس على بني آدم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هم في شك منها فنجازي كلا منهما ، (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع ، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل يا أشرف الخلق لكفار مكة بني مليح ، وكانوا يعبدون الجن ، ويظنون أنهم الملائكة : ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. قال الله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي

٢٦٩

الْأَرْضِ) أي لا يملك آلهتهم وزن ذرة من نفع وضر في أمر من الأمور ، (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي وما لآلهتهم في السموات والأرض من شركة مع الله لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا ، (وَما لَهُ) تعالى (مِنْهُمْ) أي من آلهتهم (مِنْ ظَهِيرٍ) (٢٢) ، أي معين في تدبير أمرهما ، وفي خلق شيء بل الله تعالى هو المنفرد بالإيجاد ، فهو الذي يجب أن يكون معبودا ، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تقع الشفاعة عنده تعالى في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن الله له في الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن له» مبنيا للمجهول (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، أي حتى إذا أزيل الفزع الذي عند الوحي أي حين انحدر عليهم جبريل فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات ، ثم يزيل الله عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم ، فحتى غاية متعلقة بقوله تعالى قل : (قالُوا) أي الملائكة السائلون من جبريل : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) يا جبريل؟ (قالُوا) أي جبريل ومن تبعه : (الْحَقَ) أي قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها. وقرئ «الحق» بالرفع أي ما قاله الحق ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣) أي هو المنفرد بالعلو والكبرياء ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه (قُلْ) يا أشرف الخلق لكفار مكة : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات؟ (قُلِ اللهُ) أي فإن أجابوك وقالوا : الله ، فذلك ظاهر ، وإن لم يقولوا ذلك فقل : الله يرزق إذ لا جواب سواه. وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى ، ومنه تعالى فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضررا أو لم يدفع ، وسواء نفعكم بخير ، أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) أي وإن أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق بالعبادة ، والذين يشركون به في العبادة الجماد الذي لا يوصف بالقدرة لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين ، واختلاف الجارين للإعلام بأن المهتدي كمن استعلى منارا ينظر الأشياء والضال ، كأنه منغمس في ظلام لا يرى شيئا. (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أي أذنبنا (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) في كفركم لأنا بريئون منكم. وهذا أبعد من الجدل ، وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ) أي يحكم (بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي بالعدل بأن يدخل المحقّين الجنة والمبطلين النار ، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي البليغ الفتح لما انغلق ، (الْعَلِيمُ) (٢٦) بما ينبغي أن يحكم به. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ) تعالى (شُرَكاءَ) ، لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله في استحقاق العبادة هل يخلقون أو يرزقون؟ (كَلَّا) أي حقا لم يخلقوا شيئا ، ولم يرزقوا بشيء أو لا تشركوا بالله شيئا ، (بَلْ هُوَ) أي الله الذي ألحقتم به شركاء (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) أي الله الموصوف بالغلبة القاهرة وبالحكمة الباهرة ، فأين شركاؤهم التي هي

٢٧٠

أخس الأشياء؟ (وَما أَرْسَلْناكَ) يا أشرف الخلق (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي عامة لجميع الناس تكف الناس عن الكفر ، (بَشِيراً) بالجنة لمن آمن بالله ، (وَنَذِيراً) من النار لمن كفر به ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٨) عموم رسالته وكونه بشيرا ، وكونه نذيرا لغفلتهم لا لخفاء ذلك ، (وَيَقُولُونَ) بطريق الاستهزاء : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا أن يجمع بيننا ثم يقضي بيننا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٩)؟ مخاطبين لرسول الله والمؤمنين به. (قُلْ) لهم يا أكرم الرسل : (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) أي وعد يوم (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً) إن طلبتم التأخير عنه (وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠) أي إن طلبتم الاستعجال والإضافة في ميعاد يوم للتبيين.

وقرئ «ميعاد يوم» برفع الاسمين مع التنوين على البدل. وقرئ برفع «ميعاد» ، ونصب «يوم» مع التنوين فيهما أي أعني يوما ، وذلك يفيد التعظيم والتهويل. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أبو جهل بن هشام وأصحابه : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) الذي يقرؤه علينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولا بالذي قبل القرآن من التوراة والإنجيل ، والزبور ، وسائر الكتب الدالة على البعث. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى إذ المنكرون للبعث محبوسون في موقف المحاسبة ، راجعا بعضهم القول إلى بعض لرأيت أمرا عجيبا ، ثم فسر قوله تعالى : (يَرْجِعُ) إلخ بقوله تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي قهروا وهم السفلة ، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا عن الإيمان وهم القادة : (لَوْ لا أَنْتُمْ) مضلون إيانا وصادون إيانا عن الإيمان (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٣١) باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لرؤوسائهم (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٣٢). أي بل أنتم الصادون بأنفسكم بسبب كونكم راسخين في الإجرام. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) إبطالا لإنكارهم الصد : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) قبل إتيان الرسل ، (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي أعدالا ، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفى كل من الفريقين الندامة عن الآخر مخافة التعبير. ويقال : أظهر القادة والسفلة الندامة على ترك الإيمان بالله (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين رأوه ، (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الأتباع والمتبوعين جميعا (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)؟ أي لا يجزون إلا بما كانوا يعملونه في الدنيا (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أغنياؤها (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٣٤) أي جاحدون. (وَقالُوا) للرسل : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) منكم بسبب لزومنا لديننا ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٥) في الآخرة بديننا هذا ، كأنهم قالوا : حالنا عاجلا خير من حالكم ، ولا نعذب آجلا. قالوا ذلك إنكارا منهم للعذاب بالكلية ، أو اعتقادا لحسن حالهم أيضا ، قياسا على حالهم في الدنيا. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسط له (وَيَقْدِرُ) أي يقتر على من يشاء ، فسعة

٢٧١

الرزق لا تدل عن حال المحق ، كما أن ضيقه لا يدل على حال المبطل ، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) أن ضنك العيش وخصبها بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله تعالى ، وعلّم أولاده الخير ، وربّاهم على الصلاح (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) في الحسنات (بِما عَمِلُوا) من الصالحات ، (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي غرفات الجنة (آمِنُونَ) (٣٧) من جميع المكاره.

وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) أي يكذبونها (مُعاجِزِينَ) أي متأخرين عنها ، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا ، (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (٣٨) أي يخرجون منه ، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله ، (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة ، وفي الآخرة بالحسنات (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣٩) أي الواهبين للرزق ، وأفضل المعوضين. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي بني مليح والملائكة (جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) إهانة لهؤلاء الكفار ـ وقرأ حفص «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء ـ : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠) بأمركم؟ (قالُوا) أي الملائكة متبرئين منهم : (سُبْحانَكَ) أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا ، ومعبود كل خلق (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة (مِنْ دُونِهِمْ) أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا.

وقال الرازي : معنى «أنت ولينا من دونهم» ، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا ، (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين ، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين ، وكنا نحن كالقبلة لهم (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) ، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام ، وأما إذا قلنا : إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب ، أو على من في جميع الوجود ، (فَالْيَوْمَ) أي يوم الحشر (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي لا يقدر المعبودون ـ وهم الملائكة ـ على نفع العابدين ـ وهم الكفار ـ بالثواب ولا على دفع ضررهم ، (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) ، وهذا معطوف على قوله تعالى : (يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) أي ونقول : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها) أي بالنار (تُكَذِّبُونَ) (٤٢) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتُنا) الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك (بَيِّناتٍ) ، أي واضحات (قالُوا ما هذا) أي التالي (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) من الآلهة (وَقالُوا ما هذا) أي القول بالوحدانية (إِلَّا إِفْكٌ) أي كلام مصروف عن وجهه ،

٢٧٢

(مُفْتَرىً) بإسناده إلى الله تعالى ، (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) من غير تأمل فيه (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ) أي خيال (مُبِينٌ) (٤٣) ، أي ظاهر سحريته.

قال الرازي : وإن أعيد اسم الإشارة الثاني إلى القرآن كان اسم الإشارة هذا عائد إلى المعجزات ، فإنكار التوحيد كان مختصا بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمعجزات كان متفقا عليه بين المشركين ، وأهل الكتاب. ولذلك قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) على وجه العموم وهو بدل عن قوله تعالى : وقالوا للحق (وَما آتَيْناهُمْ) أي ما أعطينا كفار مكة (مِنْ كُتُبٍ) دالة على صحة الإشراك (يَدْرُسُونَها) أي يقرءونها (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٤٤) أي رسول يدعوهم إلى الإشراك وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الأمم المتقدمة (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) ، أي وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة وكثرة المال وطول العمر ، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٥) أي تغييري عليهم بالتدمير ، وما نفعتهم قوتهم وما لهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ ويقال : وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا قوم محمد من البيان والبرهان فإن محمدا أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ، وكتابه أكمل من سائر الكتب ، وأوضح ، ثم إن المتقدمين لما كذبوا الكتب والرسل أنكر عليهم وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل ، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. (قُلْ) يا أكرم الرسل لكفار مكة : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي ما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) فقوله تعالى : (أَنْ تَقُومُوا) بدل من «واحدة» فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به أما الاثنان فيتفكرون ، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه ، وأما الواحد فيفكر في نفسه بعدل فيقول : هل رأينا من هذا الرجل جنونا أو جربنا عليه كذبا ، وقد علمتم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما به من جنون بل علمتموه أرجح قريش عقلا ، وأوزنهم حلما ، وأحدّهم ذهنا ، وأرضاهم رأيا ، وأصدقهم قولا ، وأزكاهم نفسا ، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ، وإذا علمتهم بذلك كفاكم أن تطالبوه بآية ، وإذا جاء بها تبين أنه نبي صادق فيما جاء به ، ثم نبه الله تعالى على طريقة النظر بقوله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) نفي مستأنف ، فالوقف على «تتفكروا» تام عند أبي حاتم أي ما بصاحبكم محمد من جنون ، ويجوز أن يكون تتفكروا معلقا عن الجملة المنفية فهي في موضع نصب على إسقاط في ، أي ثم تتفكروا في عدم الجنون في صاحبكم ، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية على معنى «ثم تتفكروا» ، أي شيء بمحمد من آثار الجنون ، وعلى هذين الاحتمالين لا وقف على «تتفكروا». (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦) أي ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة ، إن لم تؤمنوا به. (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ

٢٧٣

أَجْرٍ) أي أيّ شيء سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة (فَهُوَ لَكُمْ). والمراد نفي السؤال بالكلية أي لا أسألكم على إنذاركم أجرا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فلا أطلب شيئا إلا عنده تعالى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤٧) يعلم صدقي وخلوص نيتي. (قُلْ) لمن أنكر التوحيد والرسالة : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي يلقيه في قلوب المحقين فإن الأمر بيده تعالى أو يقذف بالحق على الباطل فهو إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٤٨) أي ما غاب في السموات والأرض عن خلقه و (قُلْ) لهؤلاء : (جاءَ الْحَقُ) أي ظهر الإسلام (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٤٩) ، أي يزهق الشرك بحيث لم يبق له إبداء ولا إعادة فـ «ما» نافية ، وهذا جعل مثلا في الهلاك بالمرة. (قُلْ) للكفار الذين قالوا لك يا محمد ، تركت دين آبائك فضللت : (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي ضلالي على نفسي كضلالكم ، وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المبين. (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠) يسمع قول كل من المهتدي والضال ، وفعله ، وإن بالغ في إخفائهما ، (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) أي ولو ترى حالهم وقت فزعهم بخسف البيداء لرأيت أمرا هائلا.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة في آخر الزمان ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم الأرض وماتوا. (فَلا فَوْتَ) أي فلا يفوت منهم أحد (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٥١) أي من تحت أقدامهم وخسف بهم الأرض ، (وَقالُوا) عند ما خسف بهم الأرض : (آمَنَّا بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) ، أي ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٢). أي بعد الموت فلا يكون الإيمان إلا في الدنيا وهم في الآخرة ، فالدنيا من الآخرة بعيد (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) أي بمحمد أو بالعذاب الذي أنذرهم إياه (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل نزول العذاب ، (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٣) أي ويقولون ما لا يعلمون من وهمهم الفاسد ، وظنهم الخاطئ فإنهم قالوا في حق النبي ساحر شاعر كاهن ، وفي حق القرآن سحر شعر كهانة. ويقال : أي يسألون الرجعة إلى الدنيا بعد الموت. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من العود إلى الدنيا أو من لذات الدنيا ، (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) أي بأشباههم في الكفر (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم من الكفار فكل من جاءه الملك طلب التأخير ، ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل الإيمان منهم (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤) أي ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار.

٢٧٤

سورة فاطر

وتسمى سورة الملائكة أيضا ، مكية ، خمس وأربعون آية

مائة وسبع وتسعون كلمة ، ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما من غير مثال سبق ، (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي وسائط بين الله وبين أنبيائه ، والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة ، أو بينه تعالى وبين خلقه حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه ـ وهم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل وملك الموت والرعد والحفظة ـ (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد ، فمنهم من له جناحان يطير بهما ومن له ثلاثة أجنحة ، ومن له أربعة أجنحة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ) ، أي خلق الملائكة (ما يَشاءُ).

ويروى أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة ، فجناحان منها يلفون بهما أجسادهم وجناحان منها للطيران يطيرون بهما فيما أمروا به من جهته تعالى ، وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الزيادة والنقصان (قَدِيرٌ) (١) (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي أيّ شيء يرسل الله للناس من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة ، وأمن وعلم ، وحكمة إلى غير ذلك ، فلا أحد يقدر على إمساكها (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) ، أي أيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساكه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) أي كامل القدرة في الإرسال والإمساك ، وكامل العلم في ذلك. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي إنعام الله عليكم بنعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) أي هل خالق مغاير له تعالى موجود.

وقرأ حمزة والكسائي بجر «غير» نعت لـ «خالق» على اللفظ (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر وغيره ، (وَالْأَرْضِ) بالنبات وغيره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو الخالق الرازق (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣) أي فمن أين تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟ فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت ، وبأي سبب تعبدون غيره تعالى ، فإنه لا يقدر على خلق ولا على رزق ولا على غيرهما. (وَإِنْ

٢٧٥

يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي وإن استمروا على أن يكذبوك يا أشرف الخلق فيما بلغت إليهم من التوحيد والبعث ، والحساب والجزاء وغير ذلك بعد ما أقمت عليهم الحجة فتأس بأولئك الرسل في المصابرة على ما أصابهم من قبل قومهم ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤) في الآخرة ، فيجازي المكذبين والصابرين. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي يا أهل مكة إن وعد الله بالبعث بعد الموت والجزاء ثابت من غير خلف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ، ويلهيكم التلهي بزخارفها عن الطاعة لله وعن تدارك ما يهمكم يوم حلول الميعاد ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥) بفتح الغين ، أي ولا يغرنكم سبب حلم الله وإمهاله المبالغ في الغرور ـ وهو الشيطان ـ بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلا : اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعا ، فتعاطي الذنوب بهذا التمني مثل تناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة. (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عظيم ، فإن عداوته عداوة قديمة لا تكاد تزول ، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم ، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم ، فإذا فعلتم فعلا فتنبهوا له ، فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أتباعه في الضلال (لِيَكُونُوا) أي تلك الأتباع (مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦) ، أي النار الموقدة (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا بفوات مطلوبهم ، وفي الآخرة بالسعير. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي ستر لذنوبهم في الدنيا (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧) في الآخرة. (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي أبعد كون حالي الفريقين ـ كما ذكر ـ يكون من زين الكفر له الشيطان ، ونفسه الأمارة ، وهواه القبيح فرآه صوابا فانهمك فيه كمن عرف الحق فاختار الإيمان أو العمل الصالح؟! نزلت هذه الآية في أبي جهل ومشركي مكة ، (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أن يضله لاستحبابه الضلال ، وصرف اختياره إليه فيرده أسفل سافلين ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أن يهديه بصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لكثرة التحزن.

وقرأ أبو جعفر ، وقتادة ، والأشهب بضم التاء وكسر اللام مسند الضمير المخاطب «نفسك» مفعول به (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨) من القبائح فيجازيهم عليه (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ).

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» بالتوحيد ، أي أوجدها من العدم فهبوبها دليل ظاهر على الفاعل المختار ، وذلك لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك ، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين ، وقد يتحرك إلى الشمال ، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب ، وقد لا ينشئ ، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبر ومؤثر مقدر ، (فَتُثِيرُ سَحاباً) أي فتحركه وترفعه (فَسُقْناهُ) أي السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى مكان لا نبات فيه.

وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء (فَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بماء السحاب (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها ، وأسند الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق والإحياء إلى المتكلم ،

٢٧٦

لأن في الأول تعريفا بالفعل العجيب وهو الإرسال والإثارة ، وفي الثاني تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩) ، أي إحياء الأموات في سهولة الحصول ، فإن الأرض الميتة لما قبلت الحياة ، اللائقة بها كذلك الأعضاء الميتة تقبل الحياة ، وكما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت ، وكما أنا نجمع القطع السحابية بالريح كذلك نجمع أجزاء الأعضاء المتفرقة بالروح. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يريد يد العزة فليطلبها من عند الله بطاعته ، لأنه لا عزة إلّا لله ، فإن المشركين كانوا يتعززون بعبادة الأصنام ، ومن اعتز بالعبيد أذله الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الذي يطلب به العزة وهي كلمة : «لا إله إلّا الله» ، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) والضمير المستكن عائد لـ «الكلم» فإن مدار قبول العمل هو التوحيد ، ويؤيده القراءة بنصب «العمل» أو عائد لـ «العمل» فإنه لا يقوى الإيمان بلا عمل ، فإذا رجع الضمير البارز للعمل كانت الضمير المستكن عائدا لـ «الكلم» كما تقدم أو لله تعالى. (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يكسبون أصناف المكرات السيئات لهم عذاب شديد ، (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠) أي صنع أولئك هو يفسد ويهلك.

قيل : هي مكرات قريش بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة في إحدى ثلاث : حبسه ، وقتله ، وإخراجه من مكة.

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أهل الربا. وقال مقاتل : في أهل الشرك بالله. وقال الكلبي : المعنى يعملون السيئات وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وهو إشارة إلى بقاء العمل الصالح. وقوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) إشارة إلى فناء العمل السيئ. (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ، فكل أولاد آدم من تراب ومن نطفة ، لأن كلهم من نطفة ، والنطفة من غذاء ، والغذاء ينتهي إلى الماء والتراب (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) في وقته ونوعه وغير ذلك. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) ، أي وما يمد في عمر أحد (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي عمر أحد (إِلَّا فِي كِتابٍ) ، أي لوح محفوظ.

وعن سعيد : يكتب عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب أسفل ذلك ، ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي إلى آخره. وقيل : إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع ، وتسعين إن عصى ، فأيهما بلغ فهو كتاب والله تعالى بيّن كمال قدرته بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) وكمال علمه بقوله تعالى : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق وما في البطن بعده لا يعلم أحد حاله كيف ، والأم الحامل لا تعلم منه شيئا ، ونفوذ إرادته بقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فبين الله إنه هو القادر العالم ، المريد ، والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة فكيف يستحق واحد منها العبادة؟! (إِنَّ ذلِكَ) أي الخلق من تراب وكتابة الآجال (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١) لاستغنائه عن الأسباب فكذلك البعث ، (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا

٢٧٧

عَذْبٌ) أي لذيذ (فُراتٌ) أي يكسر العطش (سائِغٌ شَرابُهُ) أي يسهل انحداره إلى الخلق (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي مر زعاق لا يستطيع شربه (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي سمكا شهي المطعم ، (وَتَسْتَخْرِجُونَ) من الملح خاصة (حِلْيَةً) ، أي زينة وهي اللؤلؤ والمرجان (تَلْبَسُونَها). وقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته ، وهو دليل آخر على القدرة والوحدانية (وَتَرَى الْفُلْكَ) أي وترى السفن أيها الناس (فِيهِ) أي في كل منهما (مَواخِرَ) ، أي شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة وغيرها واللام متعلقة بمواخر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) ، أي ولتشكروا الله على نعمه ، (يُولِجُ اللَّيْلَ) أي يدخل زيادته (فِي النَّهارِ) فيكون النهار أطول من الليل بقدر نقصانه ، (وَيُولِجُ النَّهارَ) أي يدخل زيادته (فِي اللَّيْلِ) فيكون الليل أطول من النهار بقدر نقصانه ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم ، (كُلٌ) منهما (يَجْرِي) في فلكه (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة ، ومدة الجريان للشمس سنة ، وللقمر شهر. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الذي فعل هذه الأفعال هو الله الموجد لكم من العدم ، المربي بجميع النعم. (لَهُ الْمُلْكُ) كله ، وهو مالك كل شيء. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدون (مِنْ دُونِهِ) تعالى ـ وهم الأصنام ـ (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (١٣) أي لا يقدرون أن يفعلوا من ذلك قدر الشيء الذي تعلق به النواة مع القمع ، وقيل : القطمير هو القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة. وهذا استدلال على تفرده تعالى بالألوهية. (إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي المعبودات من غير الله (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ، لأنها جمادات (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل التقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي ما أجابوكم بجلب نفع ودفع ضرر لعجزهم عن الأفعال بالمرة ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي حين ينطقهم الله ينكرون عبادتكم إياهم بقولهم : ما كنتم إيانا تعبدون. (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤) أي ولا يخبرك أيها السامع أحد مثلي ، لأني عالم بالأشياء وغيري لا يعلمها. (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) أي إلى مغفرته ورحمته ورزقه في الدنيا ، وإلى جنته في الآخرة. وهذا يوجب عبادته (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١٥) أي والله مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء يقضي في الدنيا حوائجكم ، وإن آمنتم به يقضي في الآخرة حوائجكم فهو المستوجب للحمد. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم يا أهل مكة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦) أي بقوم آخرين مستمرين على الطاعة ، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه ، (وَما ذلِكَ) أي الإذهاب بهم والإتيان بآخرين (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧) أي بمتعسر (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل إنما تحمل كل منهما إثمها ، (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا إلى حمل بعض ذنوبها لم تجب تلك النفس المدعوة بحمل شيء من تلك الأوزار ، ويروى عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء الفوقية وكسر الميم

٢٧٨

شيئا ، أي لا تحمل تلك النفس المدعوة شيئا من الوزر ، (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي.

قال ابن عباس : يلقى الأب والأم الابن فيقولان له : يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا. فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي إنما ينفع إنذارك يا أشرف الرسل بهذه الإنذارات الذين يخشون عذاب ربهم وهو غائب عنهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي راعوها كما ينبغي (وَمَنْ تَزَكَّى) أي تطهر من المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي فتطهره لنفسه إذ نفعه لها كما أن من تدنس بالأوزار لا يتدنس إلا على نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨) فالمتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا ، فهي تظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء ، كما إن الوازر إن لم تظهره تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة ، إذ المرجع إلى الله (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١٩) ، أي الكافر والمؤمن (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٢٠) أي ولا الباطل والحق ، (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٢١) أي ولا الثواب والعقاب ، (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي وما يستوي المؤمنون والكفار ، أو العلماء والجهلة ، (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إن الله يفهم من يشاء ممن كان أهلا لفهم آياته تعالى. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢٢) أي وما أنت يا أشرف الخلق بمفهم من هو مثل الميت في القبور ، شبه الله الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٢٣) أي ما أنت إلّا رسول منذر وليس لك من الهدى شيء ، (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي إرسالا مصحوبا بالحق (بَشِيراً وَنَذِيراً) ، ويجوز أن يتعلق بالحق بما بعده ، أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق ، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤) أي ما من أمة إلّا مضى فيها نبي أو عالم ينذرهم ، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي وإن يكذبك أهل مكة فلا تبال بتكذيبهم ، لأنه قد كذب الذين من قبلهم من الأمم العاتية رسلهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الظاهرة الدالة على نبوتهم ، (وَبِالزُّبُرِ) أي بخبر الأولين كصحف إبراهيم ، (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (٢٥) أي الموضح لطريق الخير والشر كالتوراة والإنجيل والزبور ، (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالكتب والرسل بأنواع العذاب ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦) أي إنكاري بالعقوبة ، (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ) ، أي بذلك الماء (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) من الصفرة والخضرة والحمرة وغيرها ، (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) أي طرائق تخالف لون الجبل (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) ، فـ «مختلف» صفة لـ «جدد» أيضا و «ألوانها» فاعل.

وقال الرازي : الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها ، وحمر مختلف ألوانها ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص ، وقد يكون على لون التراب الأبيض ، وكذلك الأحمر ، (وَغَرابِيبُ) أي شديدة السواد (سُودٌ) (٢٧) وهو بدل من غرابيب (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ، أي ألوان ذلك البعض (كَذلِكَ) ، أي اختلافا كائنا

٢٧٩

كاختلاف الثمار والجبال ، (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالخشية بقدر معرفته المخشي والعالم يعرف الله ، فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد. ومعنى الآية في قراءة من قرأ بنصب «العلماء» ، ورفع اسم الجلالة إنما يعظم الله العلماء. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨) فكونه تعالى عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام ، وكونه تعالى غفورا للتائب عن العصيان يوجب الرجاء البالغ. (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يداومون على قراءة القرآن ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) كيفما اتفق من غير قصد إليهما (يَرْجُونَ تِجارَةً) أي تحصيل ثواب الطاعة (لَنْ تَبُورَ) (٢٩) ، أي لن تهلك بالخسران أصلا. وقوله تعالى : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حث على الإنفاق كيفما يتهيأ ، فإن تهيأ سرا فذاك وإلّا فعلانية ، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه : إنه مراء ، هو عين الرياء. (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) متعلق بـ «لن تبور» ، أي تنفق التجارة عند الله ليوفيهم الله أجور أعمالهم ما يرجونه (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل ، (إِنَّهُ غَفُورٌ) عند إعطاء الأجور ، (شَكُورٌ) (٣٠) عند إعطاء الزيادة (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) ، أي هو القرآن (هُوَ الْحَقُ) أي الصدق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أي مصدقا لما قبله من الكتب السماوية فيوافقه في العقائد وأصول الأحكام (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) ، أي عالم بالبواطن (بَصِيرٌ) (٣١) ، أي عالم بالظواهر فلا يكون الكتاب باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر ، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، أي ثم أعطينا القرآن أمتك الذين اخترناهم على سائر الأمم ، (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي راجع سيئاته (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي تساوت سيئاته وحسناته ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهو الذي ترجحت حسناته (بِإِذْنِ اللهِ) أي بتوفيق الله وهو متعلق بسابق (ذلِكَ) أي السبق بالخيرات ، (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢) من الله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) خبر لـ «جنات» ، أي هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن ، ومن دخلها لم يخرج منها.

وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسون على سبيل التزين في الجنة (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) فـ «من» الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين. (وَلُؤْلُؤاً) قرأه عاصم ونافع بالنصب عطفا على محل من أساور. والباقون بالجر عطفا على ذهب. (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي الجنة (حَرِيرٌ) (٣٣) وإكثار الزينة يدل على الغنى ، فلا يعجر عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة ، ويدل على الفراغ. (وَقالُوا) أي ويقول أهل الجنة في الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي كل حزن بحصول كل مطلوبه (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) للمذنبين (شَكُورٌ) (٣٤) للمطيعين (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا (مِنْ فَضْلِهِ) من غير أن يوجبه شيء من جهتنا (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب ، (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥) أي فتورنا شيء عن التعب ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليه بموت ثان ، (فَيَمُوتُوا)

٢٨٠