مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

ولا تنطفئ بالدوس عليها بوضع القدم (وَيَقُولُ) ـ قرأ نافع والكوفيون بالياء ـ أي الله تعالى أو بعض ملائكته بأمره ، والباقون بالنون : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا. قال تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦) أي إن تعذرت العبادة عليكم في بعض الأرض فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال.

وقرأ بفتح الياء ابن عامر والباقون بتسكينها ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٥٧) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ، فراجعة إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالها لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فقال لهم : إن ما تكرهون لا بد من وقوعه ، فإن كل نفس ذائقة مشاق الموت ، والموت مفرق الأحباب ، فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله ، فيجازيكم عليه ، فلا تخافوا من بعد الوطن ، أو المعنى : إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار». وقرأ أبو بكر بالياء التحتية (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة.

وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» بالمثلثة ، أي لنقيمنهم في علال من الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي ففي موضع الأنهار بساتين كبار ، وزروع ، ورياض ، وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي. (خالِدِينَ فِيها) أي في الغرف (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٥٨) أي نعم أجر العاملين الأعمال الصالحة ، هذا الأجر (الَّذِينَ صَبَرُوا) على شدائد المهاجرة ، وعلى أمر الله والمرازي (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٥٩) أي الذين لم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي وكثيرا من الدواب لا تطيق حمل رزقها لضعفها ، ولا تدخر شيئا لساعة أخرى.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت هذه الآية (اللهُ يَرْزُقُها) أي الدابة على ضعفها ، وهي لا تدخر (وَإِيَّاكُمْ) مع قوتكم ، لأن رزق الكل بأسباب هو تعالى وحده المسبب لها فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠) فيسمع قولكم هذا ، ويعلم ضمائركم وحاجتكم ، ويسمع إذا طلبتم الرزق ، ويعلم مقدار حاجتكم إذا سكتم ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على هذا النظام (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لإصلاح الأقوات ، ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع؟ (لَيَقُولُنَّ اللهُ) إذ لا سبيل لهم إلى إنكار ذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٦١) أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده تعالى في الإلهية مع إقرارهم بتفرده تعالى في الخلق والتسخير. (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي الله يوسع المال ويقتر على من يشاء في أي وقت يوافق الحكمة ، فيفعل كلا من البسط والتضييق في وقته ومحله. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٢)

٢٢١

فيعلم مقادير الأرزاق ومقادير الحاجات ، ألا ترى أن الملوك يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم بكل شيء. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي كفار مكة (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) ، أي يبوستها؟ (لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه تعالى الموجد للممكنات بأسرها ، ثم إنهم يشركون به تعالى بعض مخلوقاته (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على أن أظهر حجتك عليهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣) شيئا من الأشياء فلذلك لا يعلمون بمقتضى قولهم ، هذا فيشركون به تعالى أخس مخلوقاته ولا يعرفون فساد هذا التناقض ، (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي إن الدنيا سريعة الزوال ، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم ، فإنهم يجتمعون عليه ، ويفرحون به ساعة ، ثم يتفرقون عنه ، فالإعراض عن الحق لهو ، والإقبال على الباطل لعب. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي إن الحياة الثانية لهي الحياة الدائمة التي لا موت فيها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) أن الحياة المعتبرة هي حياة الآخرة لما آثروا عليها الدنيا (فَإِذا رَكِبُوا) أي كفار مكة (فِي الْفُلْكِ) في البحر ولقوا شدة (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) صورة حيث لا يدعون غير الله تعالى بالنجاة ، وألقوا الأصنام التي حملوها معهم في البحر وقالوا : يا رب ، لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد عنهم إلا الله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) من البحر (إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٦٥) أي عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدّنيا وأشركوا بالله الأوثان (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من عرض الدنيا (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي وليتلذذوا بمتاع الدنيا.

وقرأ ورش ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم بكسر اللام وهي إما لام العاقبة والمال ، وإما لام الأمر على سبيل التهديد. والباقون بالتسكين فهي لام الأمر (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦) فساد عملهم حين يرون العذاب (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٦٧) ، أي ألم ينظر كفار مكة ولم يشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما مصونا من النهب. والحال أنه يختلس من حولهم قتلا وسبيا مع كون أهل مكة قليلين قارين في مكان ، غير ذي زرع أبعد ظهور الحق بالباطل خاصة من الأديان يصدقون! وبنعمة الله التي أعطاهموها يكفرون! والمعنى : إنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى ، وفي آمن ما حصلتهم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض ، لأن دعائكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير ، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله ، كيف تكفرون بها وقد قطعتم في حال الخوف إنه لا أمن من الأصنام حيث ألقيتموها في البحر كيف آمنتم بها في حال الأمن؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالما يستحق العقاب منه ، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك؟ ومن كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان

٢٢٢

ظالما ، فكيف من كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب؟ فإذا ليس أحد أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ، ويكذب الله في تصديقه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكذب النبي في رسالة ربه ، ويكذب القرآن المنزّل من الله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٦٨) أي ألا يستحقون الإقامة في جهنم ، وقد فعلوا افتراء على الله تعالى ، وتكذيبا بالحق الصريح أو يقال : ألم يعلموا أن في جهنم منزلا للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، أي والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا. ويقال : والذين نظروا في دلائلنا لنحصل فيهم العلم بنا (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩) أي لمعينهم في القول والفعل بالتوفيق والعصمة.

وهذا إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأن الله تعالى يقول : من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب ـ وهم الكفار ـ ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم الله تعالى ويقربهم ، ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه تعالى يعلم الأشياء منه تعالى ولا يعلمه من الأشياء فقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) إشارة إلى الأول. وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) إشارة إلى الثاني. وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) إشارة إلى الثالث.

٢٢٣

سورة الروم

مكية ، ستون آية ، ثمانمائة وثماني عشرة كلمة ، ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي في أقرب أرض العرب منهم ـ وهي أطراف الشام ـ فالروم : اسم قبيلة وسميت باسم جدها ، وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، وسمي عيصو : لأنه كان مع يعقوب في بطن فعند خروجهما تزاحما ، وأراد كل أن يخرج قبل أخيه فقال عيصو ليعقوب : إن لم أخرج قبلك خرجت من جنب أمي فتأخر يعقوب شفقة لها ، فلذا كان أبا الأنبياء ، وعيصو أبا الجبارين. (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي من بعد مغلوبهم (سَيَغْلِبُونَ) (٣) فارس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وسبب نزول هذه الآية أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل الكتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم ، واستعمل عليهم رجلا يقال له : شهريار ، وجعل قيصر جيشا ، واستعمل عليهم رجلا يدعى : بخنس فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أقرب الشام إلى أرض العرب ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون ، وفارس أميون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآية ، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى كفار مكة ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا ، فو الله لتظهرن الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له أبيّ بن خلف الجمحي : كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله. فقال له : اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه ، فناحبه على عشر قلائص ، وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر به أبو بكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البضع ما بين الثلاث إلى التسع» (١). فزايده في الخطر ومادده في الأجل ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه في أحد بعد

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٣٣).

٢٢٤

رجوعه إلى مكة ، ثم أقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي إلى الفرس ، وظهرت الروم على فارس عند رأس سبع سنين من مناحبتهم ، ومات كسرى وذلك يوم الحديبية ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ ، وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «تصدق به» ـ وكان ذلك قبل تحريم القمار ـ وهذه الآيات تدل على علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوقت الغلبة ، لكن لم يأذن الله تعالى في إظهاره ، لأن الكفار كانوا معاندين ، فالمعاند يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في الكلام ، والوقت يمكن فيه الاختلاف.

وقرئ «غلبت» على البناء للفاعل و «سيغلبون» على البناء للمفعول. والمعنى : أن الروم غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم ، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل غلبة الروم على فارس ومن بعدها فكل من كون الروم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ) أي ويوم إذ يغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون بتغليب الله من له كتاب على من لا كتاب له ، ويفرحون بغلبتهم المشركين ببدر.

قال السدي : فرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. والجار والمجرور متعلق بـ «يفرح» (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر من عباده على عدوه من ضعيف وقوي. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٥) أي وهو تعالى المبالغ في الغلبة والمبالغ في الرحمة (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه ، أي وعدهم الله بالنصر وبالفرج وعدا ، (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أيّ وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه تعالى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٦) وعده تعالى بنصرهم ووعد الله لا خلف فيه ، (يَعْلَمُونَ) أي أكثرهم (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم ، ولا يعلمون باطنها ، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها ، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) أي وهم جاهلون بأمر الآخرة تاركون لعملها ولا يعلمون أن الدنيا مجاز إلى الآخرة (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)! فلو تكفروا في أنفسهم لعلموا وحدانية الله ، وصدقوا بالحشر. أما دلالة الإنسان على الوحدانية ، فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزءا من ألف جزء ، وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه. والآخر : لخروجه منه ، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا ، ثم يخرج من المنفذ الآخر ، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا ، صلابا كالمصفاة ، فينزل منها الصافي إلى الكبد ، وبنصب الثفل إلى الأمعاء ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق ، وينذرف في العروق الدقاق المذكورة ، وفي الكبد يستغنى عن ذلك الماء فيتميز

٢٢٥

عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ، ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها ، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول ، والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع ، ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان ، وهذه كفاية معرفة كون الله فاعلا مختارا ، قادرا عالما ، ومن يكون كذلك يكون واحدا ، وإلا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضد ما أراده ، وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال ، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال ، فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه تعالى على هذا الوجه للفناء عبثا ، لأن من يفعل شيئا للعبث لو بالغ في إتقانه يضحك منه فإذا خلق الله الإنسان للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها. (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقها عبثا بغير حكمة بالغة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة الدالة على وجود صانعها ، ووحدته ، وقدرته ، وعلمه بأجل معين قدره الله تعالى لبقائها إلى أن تنتهي إليه ، وهو وقت قيام الساعة وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية. وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) إشارة إلى معاد الإنسان فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨) أي وإن كفار مكة لمنكرون بلقاء حسابه تعالى وجزائه بالبعث. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسيروا في أقطار الأرض فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذبوا رسلهم كعاد وثمود ، (كانُوا) أي من قبلهم (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في الجسم ، وأقدر منهم على التمتع بالحياة (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي قلبوها للزراعة والغرس أكثر مما حرث أهل مكة (وَعَمَرُوها) بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي أكثر مما عمر أهل مكة كما وكيفا وزمانا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الظاهرات وبالمعجزات فكذبوهم ، فأهلكهم الله. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكه إياهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٩) بتكذيب الرسل (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى).

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم «كان» ، و «السوأى» خبرها ، وهي جهنم ، أي ثم كان آخر أمر الذين عملوا السيئات نار جهنم. وقرأ الباقون بنصب «عاقبة» على أنها خبر «كان» ، واسمها «السوأى» تأنيث الأسوأ ، أو أن كذبوا أي ثم كان تكذيبهم واستهزاؤهم آخر أمر الذين أشركوا بالله وعملوا الفعلة السوأى ، وهي اسم النار ـ كما تقدم ـ (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) بدل من «السوأى». وقيل : «كذبوا» إلخ تفسير لـ «أساءوا» (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشئهم من النطفة ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١١) إلى موقف الحساب والجزاء. وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة. والباقون

٢٢٦

على الخطاب للمبالغة في الترهيب (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١٢) أي وقت رجعهم إليه تعالى يسكت المشركون متحيرين وييأسون من كل خير ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمونه ، (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) (١٣) أي وكان عبدة الأصنام بآلهتهم متبرئين منهم يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ) بعد تمام الحساب (يَتَفَرَّقُونَ) (١٤) أي جميع الخلق فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) (١٥) أي فهم في جنة يسرّون بكل مسرة. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم ، وفي آخر القوم أعرابي فقال : يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أعرابي إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة»(١).

وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع ، بعث الله تعالى ريحا تحت العرش فتقع في تلك الأشجار ، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) بالبعث بعد الموت (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١٦) أي لا غيبة لهم عن العذاب ولا فتور له عنهم ، أما من يؤمن ويعمل السيئات فليس دائم الحضور في العذاب ، وليس من المحبورين غاية الحبور في رياض بل له منزلة بين المنزلتين ، (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (١٨) أي نزهوه تعالى عن صفات النقص ، وصفوه بصفات الكمال في هذه الأوقات ، واحمدوه ؛ وإنما خصّ بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح ، لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى تحصيل مأكول ومشروب ، وملبوس ، ومركوب ، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار ، وآخره ، ووسطه فإن الله يطهره في أوله ـ وهو دنياه ـ وفي آخره ـ وهو عقباه ـ وفي وسطه ـ وهو حالة كونه في قبره ـ وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام معترضين بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة ، وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بيّن لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله ، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه ، ثم إن التنزيه المأمور به يشمل التنزيه بالقلب ، وهو الاعتقاد الجازم واللسان ـ وهو الذكر ـ الحسن ، وبالأركان ـ وهو العمل الصالح ـ فالإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه ، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله ، وأفعاله ، واللسان ، ترجمان الجنان ، والأركان ، برهان اللسان ، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان ، وهي مشتملة على الذكر باللسان ، والقصد بالجنان : وهو تنزيه في التحقيق ، فيجب حمل التسبيح على كل ما هو تنزيه ،

__________________

(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى (٤ : ٢٩١).

٢٢٧

فيكون هذا أيضا أمرا بالصلاح. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من نطفة والطير من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النطفة والبيضة من الحيوان.

وقال بعضهم : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، ويقال : يخرج اليقظان من النائم ، والنائم من اليقظان ، فإحياء الميت عنده تعالى كتنبيه النائم ، وإماتة الحي كتنويم المنتبه. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبوستها (وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الإخراج (تُخْرَجُونَ) (١٩) من قبوركم.

وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على أنكم تبعثون (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) فإنا خلقنا من نطفة وهي من الغذاء ، وهو من النبات ، وهو من التراب. (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (٢٠) أي ثم بعد أطوار كثيرة فاجأتم وقت كونكم بشرا تتمتعون على وجه الأرض. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على البعث والجزاء : (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أي لأجلكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم (أَزْواجاً) أي إناثا (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتميلوا إليها ، وتطمئنوا بها ، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي بين المرأة والزوج (مَوَدَّةً) أي محبة (وَرَحْمَةً) أي شفقة ويقال : مودة للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلقهم من تراب ، وخلق أزواجهم من جنسهم وإلقاء المودة والرحمة بينهم (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) فيما خلق الله. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على أمر البعث : (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من حيث إن خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاش البشر ومعاده ، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي لغاتكم العربية ، والفارسية ، وغير ذلك. والأصح أنه اختلاف كلامكم ، فإن الأخوين إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر (وَأَلْوانِكُمْ) ببياض الجلد وسواده ، وتوسطه. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلق السموات والأرض ، واختلاف الألسنة والألوان (لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢٢).

وقرأ حفص وحده بكسر اللام ، أي لآيات عظيمة في أنفسها ، كثيرة في عددها للمتصفين بالعلم. والباقون بفتح اللام في ذلك دلالة على كمال وضوح الآيات على أحد من الخلق كافة. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على القدرة والعلم : (مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فالنوم بالنهار مما تعدّه العرب نعمة من الله ، ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فيهما. وهذا إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الليل والنهار (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣) سماع تفهم حيث يستدلون بذلك على شؤونه تعالى. (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ، أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته تعالى : إراءتكم للبرق (خَوْفاً) للمسافر من المطر أن يبل ثيابه (وَطَمَعاً) للمقيم في المطر أن يسقي حروثه ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. (فَيُحْيِي بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ) بالنبات

٢٢٨

(بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبوستها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المطر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٤) أي لدلالات على الفاعل المختار لمن له عقل ، وإن لم يتفكر تفكر تاما. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن آياته الدالة على القدرة استمرار السماء والأرض على ما هما عليه بإرادته تعالى له ، (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥) أي ثم إذا دعاكم الله على لسان إسرافيل بعد انقضاء الأجل من الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال : أيها الموتى اخرجوا فاجأتم الخروج منها وقول : (مِنَ الْأَرْضِ) متعلق بـ «دعاكم». (وَلَهُ) خاصة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين خلقا ، وملكا ، وتصرفا ، (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢٦) أي منقادون لفعله (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موتهم (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) بالقياس على قوانينكم من أن الإعادة للشيء أهون من ابتدائه ، وإلا فالأفعال كلها بالنسبة إلى قدرته تعالى متساوية في السهولة ، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله تعالى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه ، (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) ، أي وهو كامل القدرة على الممكنات ، شامل العلم بجميع الموجودات ، فيجري الأفعال على سنن الحكمة. (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي بيّن الله لكم يا معشر الكفار مثلا مأخوذا من أحوال أنفسكم (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أي هل لكم شركاء فيما رزقناكم من الأموال كائنون بالنوع الذي ملكت أيمانكم ، (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فأنتم وعبيدكم فيما رزقناكم مستوون في التصرف (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي تخافون أن تنفردوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من الأحرار المشاركين لكم فيما ذكر أي أنتم لا ترضون بأن يشارككم مماليككم ، وهم أمثالكم في البشرية فكيف تشركون به تعالى في المعبودية مخلوقة تعالى؟ (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التفصيل الواضح (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبينها بالدلائل القطعية والأمثلة والمحاكيات الإقناعية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٨) أي يستعملون عقولهم في تدبر الأمور ، (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ، ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم الزائغة من غير علم ، وأثبتوا شركاء من غير دليل (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي لا يقدر أحد على هداية من خلق الله فيه الضلال ، (وَما لَهُمْ) أي لمن أضله الله تعالى (مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩) يخلصونهم من الضلال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي أقبل بكلك على الدين غير ملتفت يمينا وشمالا (حَنِيفاً) أي مائلا عن كل ما عدا الدين (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزم دين الله ـ وهو التوحيد ـ فإن الله خلق الناس عليه في بطون أمهاتهم ، وحيث أخذهم الله من ظهر آدم ، وسألهم ألست بربكم؟ فقالوا : بلى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا تبدلوا دين الله ـ كما قاله مجاهد وإبراهيم ـ وقيل : أي لا تغير للوحدانية حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون : الله. لكن الإيمان الفطري غير كاف. (ذلِكَ) أي لزوم دين الله (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الحق الذي لا عوج فيه (وَلكِنَ

٢٢٩

أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٣٠) أن ذلك هو الدين الحق ، فيصدون عنه صدودا (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي أقيموا وجوهكم للدين مقبلين عليه ، (وَاتَّقُوهُ) من مخالفة أمره بل داوموا على العبادة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣١) ، أي ولا تشركوا بعد الإيمان وهاهنا وجه آخر وهو أن الله أثبت التوحيد الذي هو خروج عن الإشراك الظاهر بقوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) وأراد الله إخراج العبد عن الشرك الخفي بقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ، ولا تطلبوا إلا رضا الله ، ثم أبدل الله قوله : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم.

وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بألف ، أي تركوا دينهم الذي أمروا به ، (وَكانُوا شِيَعاً) أي وصاروا فرقا فيما يعبدونه ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢) أي وإذا أصاب كفار مكة شدة دعوا ربهم برفع الشدة مقبلين إليه بالدعاء ، (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ) أي من الضر (رَحْمَةً) أي خلاصا (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي الكفار (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (٣٣) ويقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني ، (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) فاللام للعاقبة (فَتَمَتَّعُوا) يا أهل مكة : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣٤) عاقبة تمتعكم.

وقرئ بالياء على أن «تمتعوا» فعل ماض وقرئ وليتمتعوا (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) (٣٥) أي هل أنزلنا على أهل مكة كتابا ، فذلك الكتاب يدل على الأمر الذي بسببه يشركون فـ «أم» بمعنى الهمزة فقط عند الكوفيين ، وبمعنى بل والهمزة عند البصريين كما هو شأن «أم» المنقطعة. (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) من صحة وسعة (فَرِحُوا بِها) بطرا لا شكرا ، فإن قيل لك : الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] ، وهاهنا ذمهم الله على الفرح بالرحمة ، فكيف ذلك؟ قلت : هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وهاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله ، وهو كما أن الملك لو حطّ عند أمير رغيفا على السماط ، أو أمر غلمانه بأن يحطوه عنده ، ففرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا فرح به ، ففرح الأمير بكون ذلك الرغيف من الملك ، وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي شدة ضيق (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بشؤم معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦) أي ييأسون من رحمة الله غير صابرين بها.

وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ، ويضيقه لمن يشاء اختبارا هل يصبر أم يجزع؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التوسيع والتضييق (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣٧) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة. (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من الصلة والصدقة وسائر

٢٣٠

المبرات (وَالْمِسْكِينَ) سواء كان ذا قرابة أم لا. (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر من صدقة التطوع (ذلِكَ) أي المذكور من الصلة والعطية والإكرام (خَيْرٌ) أي ثواب في الآخرة ، (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يقصدون بمعروفهم جهة التقرب إليه تعالى لا جهة أخرى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٨) أي الناجون من السخط (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ، أي وما أعطيتم من عطية خالية من العوض ليزيد في أموال الناس بأن تعطوا شيئا ، وتطلبوا ما هو أفضل منه فليس لكم فيه أجر ، وليس عليكم فيه إثم.

وقرأ نافع «لتربوا» بتاء الخطاب وسكون الواو ، أي لتصيروا ذوي زيادة. وقرأ ابن كثير «وما أتيتم» بقصر الهمزة ، أي وما جئتم به من إعطاء عطية. واختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب عوضها وقال : إنما أردت العوض ، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الموهوب له ، فله ذلك عند مالك رضي‌الله‌عنه وذلك كهبة الفقير للغني ، وهبة الخادم لصاحبه ، وهبة الشخص لمن فوقه ولأميره. وقال أبو حنيفة : لا يكون له عوض إذا لم يشترط. وهذان القولان جاريان للشافعي رضي‌الله‌عنهم. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩) أي وما أعطيتم من صدقة تطوع إلى المساكين تبتغون وجهه تعالى ، فأولئك هم الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب ، ويحفظ أموالهم في الدنيا وبالبركة لها (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) نسما في بطون أمهاتكم ، ثم أخرجكم وفيكم الروح (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) إلى الموت (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء مدتكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث بعد الموت ، (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)؟ أي هل من آلهتكم يا أهل مكة من يقدر أن يفعل من ذلك شيئا؟ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠) أي لا تصفوه تعالى بالإشراك.

وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي تبين الفساد في البر والبحر كالجدب وكثرة الحرق ، والغرق ، وموت دواب البر والبحر ، وقلة اللؤلؤ بسبب كسب الناس المعاصي.

قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذبا ، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار ، وصار ماء البحر ملحا زعاقا (١) ، وقصد الحيوانات بعضها بعضا ، (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي بعض جزاء الذين عملوا ، فإن تمامه في الآخرة.

وقرأ قنبل «لنذيقهم» بالنون (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١) عما كانوا عليه (قُلْ) يا محمد لأهل مكة : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) كقوم ونوح وعاد وثمود ليشاهدوا

__________________

(١) الزعاق : بضم الزاي : الماء المرّ والكثير الملح الذي لا يطاق شربه [القاموس المحيط ، مادة : زعق.

٢٣١

آثارهم (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (٤٢) ، وكان بعض الهلاك بغير الشرك كالفسق ومخالفة الأمر (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ). قال الزجاج : أي أقم صدرك واجعل وجهك اتباع دين الإسلام (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) متعلق بـ «يأتي» أو بـ «مرد» ، أي لا يقدر أحد على رده من الله تعالى ، ولا يرده الله تعالى لتعلق إرادته تعالى بمجيئه (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (٤٣) أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم يتفرقون : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي من كفر بالله فعليه عقوبة كفره وهو خلوده في النار (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٤٤) أي ومن عمل صالحا في الإيمان فيفرشون منازلهم في الجنة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) ، والجار والمجرور متعلق بـ «يمهدون» أو بـ «يصدعون» ، أي يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزي الله كلا منهما بحسب أعمالهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥) أي يعاقبهم. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) لخلقه بالمطر وبصلاح الأهوية ، والأحوال ، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد ، فرياح الرحمة : هي الشمال ، والصبا ، والجنوب. وأما الدبور فهي ريح العذاب (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وهي المنافع التابعة للرياح (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفن بسوقها (بِأَمْرِهِ) أي بمشيئته في البحر (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بتجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٤٦) نعمة الله فيما ذكر (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا أكرم الرسل (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك فكذبوهم ، (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي أهلكنا الذين كذبوهم ، (وَكانَ حَقًّا) أي واجبا (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) أي وكان الانتقام حقا ، فلم يكن ظلما ، ثم استأنف الله بقوله تعالى : (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذا بشارة لمن آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقال نصر المؤمنين : كان واجبا علينا وهذا تأكيدا لبشارة ، لأن كلمة «على» تفيد معنى اللزوم فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى ، والنصر : هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي فترفع سحابا ثقالا بالمطر (الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) أي فينشر الله السحاب كمال الانتشار متصلا بعضه ببعض تارة في جو السماء كيف يشاء ، سائرا ، وواقفا ، ومطبقا ، وغير مطبق (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي ويجعل الله السحاب قطعا تارة أخرى (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من خلال السحاب (فَإِذا أَصابَ) أي الله (بِهِ) أي بالودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي أراضيهم ، (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٨) أي يفرحون بمجيء الخصب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٤٩) ، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل الاستبشار لآيسين من المطر ، (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) من النبات والأشجار والثمار ، فالرحمة : هي المطر ، وأثرها هو النبات.

٢٣٢

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص «آثار» بالألف ، والباقون بغير ألف. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر إلى إحياء الله تعالى للأرض بإخراج النبات بعد يبوستها (إِنَّ ذلِكَ) أي الذي يحيي الأرض (لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي لقادر على إحيائهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠) أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (٥١) ، أي وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفا ، فرأوا الزرع مصفرا بعد خضرته لصاروا من بعد صفرته يكفرون بنعمته تعالى السالفة ، (فَإِنَّكَ) يا أشرف الخلق (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم ، فإنهم موتى صم عمي. ومن كان كذلك لا يهتدي ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٥٢) أي إذا أعرضوا مدبرين عن الحق (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس شغلك هداية العميان إلى الحق.

وقرأ حمزة «تهدي» بتاء الخطاب الداخل في المضارع ، ونصب «العمي». (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما تسمع دعوتك إلا من يؤمن بكتابنا ، فإن إيمانهم يدعوهم إلى قبوله (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٥٣) أي مطيعون (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي من أصل ضعيف هو النطفة ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) أي من بعد كونه جنينا وطفلا مولودا ، ورضيعا ، ومفطوما (قُوَّةً) أي حالة البلوغ والشباب ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) للكهولة (وَشَيْبَةً) ـ وهو بياض الشعر الأسود ـ أي فإن ذلك الضعف والقوة والشباب والشيبة ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٥٤) فالترديد في الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي توجد القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي يحلف الكافرون بالله (ما لَبِثُوا) في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) ، أي غير قدر ساعة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الصرف (كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٥٥) ، أي يصرفون من الحق إلى الباطل ، ومن الصدق إلى الكذب. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) من الملائكة والإنس : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) في القبور (فِي كِتابِ اللهِ) أي بحسب ما علمه الله وقدره (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) من القبور (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم توعدون في الدنيا والذي أنكرتموه ، (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٥٦) أنه حق ولا تقرون بوقوعه فتستعجلون به استهزاء ، وتطلبون الآن تأخير الساعة ، فصار مصيركم إلى النار (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا).

وقرأ الكوفيون «لا ينفع» بالياء التحتية ، أي فيوم القيامة لا ينفع الذين أشركوا اعتذارهم في إنكارهم له (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧) ، أي لا يطلب منهم إزالة العتب من التوبة كما طلبت منهم في الدنيا لأنها لا تقبل منهم (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي وبالله لقد بينا لهم في هذا القرآن كل حال وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كأنها في غرابتها مثل (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) يا أشرف الخلق (بِآيَةٍ) من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) (٥٨) أي ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا كاذبون ويقال : ولئن

٢٣٣

جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل. يقولون : أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مزورون (كَذلِكَ) ، أي مثل ذلك الطبع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٥٩) أي لا يطلبون العلم ولا يقصدون الحق ، (فَاصْبِرْ) على ما تشاهد منهم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وقد وعدك بالنصرة وإظهار الدين (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠) ، أي لا يحملنك على الخفة وترك الصبر الذين لا يصدقون بالآيات.

وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر : إنه منقلب الرأي لا ثبات له ، والله أعلم بالصواب.

٢٣٤

سورة لقمان

مكية ، أربع وثلاثون آية ، خمسمائة وثمان وأربعون كلمة ، ألفان ومائة وعشرة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم) (١) قيل : قسم أقسم الله به (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٢) ، أي هذه السورة آيات القرآن ذي الحكمة (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحالية من الآيات ، وبالرفع على قراءة حمزة خبران آخران لاسم الإشارة (لِلْمُحْسِنِينَ) (٣) أي العاملين للحسنات. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يتقنون جميع ما أمروا به فيها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) كلها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) ، أي وهم يصدقون بالبعث بعد الموت ، فالصلاة ترك التشبه بالسيد ، فالله تعالى تجب له العبادة ، ولا تجوز عليه العبادة والزكاة تشبه بالسيد ، فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد في أمور ، كما أن ترك التشبه لازم على العبد في أمور فلا يجلس العبد عند جلوس السيد ولا يتكئ عند اتكائه ، وعبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد ، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد ، وبهما تتم العبودية. (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) أي الناجون من كل مهروب والفائزون بكل مطلوب (وَمِنَ النَّاسِ) وهو النضر بن الحرث (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي أباطيل الحديث (لِيُضِلَ) بذلك (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي على دينه الحق الموصل إليه تعالى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، أي ليستمر على ضلاله عن قراءة كتاب الله تعالى الهادي إليه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي يشتري بغير علم بحال ما يشتريه (وَيَتَّخِذَها هُزُواً). وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب عطفا على «يضل». والباقون بالرفع عطفا على «يشتري» ، والضمير البارز للسبيل وهو دين الإسلام أو للقرآن. (أُولئِكَ) أي من يشتري ذلك (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦) أي ذو إهانة لإهانتهم الحق ، (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ) أي المشتري (آياتُنا) أي التي هي آيات الكتاب الحكيم (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أي أعرض عنها مبالغا في التكبر عن الإيمان بها ، (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه لم يسمع الآيات (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي مشبها حاله حالا من في أذنيه ثقل مانع من السماع ، (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧) أي فأعلمه يا أشرف الخلق بأن العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) (٨) أي نعيم جنات فـ «لهم» خبر إن ، و «جنات» مرفوع على الفاعلية. (خالِدِينَ فِيها) حال من «جنات النعيم» ، أو من ضمير

٢٣٥

«لهم» ، (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم الله جنات النعيم وعدا وحق ذل حقا فهما مصدران مؤكدان الأول : لنفسه ، والثاني : لغيره ، لأن قوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) في معنى وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حقا فدل على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ، (الْحَكِيمُ) (٩) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي بغير دعائم (تَرَوْنَها).

فهذا إما راجع للسموات وهو استئناف جيء به للاستشهاد على خلقه تعالى لها ، غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك ، أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك وإما راجع للعمد وهو صفة له أي بغير عمد مرئية ، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت.

قال ابن عباس : هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض ، وهي سبعة عشر جبلا منها : قاف ، وأبو قبيس ، والجودي ، ولبنان ، وطور سينين ، وثبير ، وطور سيناء أخرجه ابن جرير (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي كراهة أن تميل الأرض بكم (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي فرق الله في الأرض من كل نوع من أنواع ذي روح ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) ، أي في الأرض بسبب ذلك الماء (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠) أي من كل جنس حسن فتحت كل جنس نوعان لأن النبات إما شجر أو غير شجر ، فالشجر إما مثمر أو غير مثمر. (هذا) أي الأشياء المعدودة (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي) أي فأخبروني يا أهل مكة ، (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله مما تعبدونه فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق؟! (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١) أي بل المشركون في خطأ بيّن وأنتم يا أهل مكة منهم (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) وهو توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة ، فمن تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع ، فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال : إنه حكيم لعدم علمه به أولا ، بل هو يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس والإنسان إذ علم أمرين أحدهما أهم من الآخر ، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة وأن الأهم كان مخالفا للعلم ، ولم يكن من الحكمة في شيء قيل : ولقمان هو ابن باعوراء من أولاد آزر ، ابن أخت أيوب عليه‌السلام ، وعاش حتى أدرك داود عليه‌السلام ، وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه وروي أنه كان نائما في نصف النهار فنودي : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم على فسمعا وطاعة فإني أعلم أن الله تعالى إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت وهو لا يراهم : يا لقمان هل لك في الحكمة؟ قال : فإن الحاكم يغشاه المظلوم من كل مكان إن عدل نجا وإن أخطأ الطريق

٢٣٦

أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) فـ «أن» مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول ، فإن شكر الله تعالى أهم الأشياء (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ، أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن منفعته مقصورة عليها ، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٢) أي ومن كفر النعمة فالله غير محتاج إلى شكره حتى يتضرر بكفران الكافر ، وهو تعالى في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه. (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) ثاران. وقيل : أنعم. وقيل : مشكم. (وَهُوَ يَعِظُهُ) ويبدأ في الوعظ بالأهم (يا بُنَيَ) تصغير محبة.

وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير ، وكسرها الباقون. (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل : كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى أسلم ، ومن وقف على تشرك جعل بالله قسما (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) ، لأن الشرك وضع للنفس الشريف ، ولأنه وضع العبادة في غير موضعها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) ، أي أمرناه بالبر بهما (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته أمه في بطنها تضعف ضعفا فوق ضعف ، كلما كبر الولد في بطنها كان أشد عليها (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه في تمام عامين ـ وهي مدة الرضاع عند الشافعي ، ومدة الرضاع عند أبي حنيفة ثلاثون شهرا ـ (أَنِ اشْكُرْ لِي) بالطاعة لأني المنعم في الحقيقة (وَلِوالِدَيْكَ) بالتربية ، لأنهما سبب لوجودك.

قال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) أي إلى الرجوع فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر. (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله ، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) ، أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة ، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) بالتوحيد والإخلاص في الطاعة وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقيل : هو أبو بكر الصديق ، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. وقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال : نعم هو صادق فآمنوا ، ثم حملهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام بإرشاد أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مرجعك أيها الإنسان ، ومرجع والديك ، ومرجع من أناب (فَأُنَبِّئُكُمْ) عند رجوعكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥) بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر. (يا بُنَيَ) ، روى أن ابن لقمان قال : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال : يا بني (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي أن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تلك مثلا في الصغر كحبة الخردل.

٢٣٧

وقرأ نافع مثقال بالرفع وكان تامة وضمير «إنها» للقصة ، أي إن الشأن أن يوجد وزن حبة الخردل ، (فَتَكُنْ) أي تلك الخصلة (فِي صَخْرَةٍ) تحت الأرضين وهي التي عليها الثور ، وهي لا في الأرض ولا في السماء (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها ويحاسب عليها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه إلى كل خفي (خَبِيرٌ) (١٦) بكنهه (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) بجميع حدودها (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإحسان ، (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي القبيح من القول والعمل ، (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد والمحن ، لا سيما بسبب الأمر والنهي (إِنَّ ذلِكَ) أي الصبر أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٧) أي من الأمور الواجبة المقطوعة ، فلم يرخص في تركه (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي لا تعرض وجهك من الناس تكبرا. ويقال : لا تحقر فقراء المسلمين (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي اختيالا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١٨) فالمختال من يكون به خيلاء ، وهو الذي يري الناس عظمة نفسه ، وهو التكبر والفخور ، من يكون مفتخرا بنفسه ، وهو الذي يرى عظمة نفسه وهو التكبر والفخور من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه. (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي توسط في المشي بين الدبيب والإسراع (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه ، وهذا إشارة إلى التوسط في الأقوال (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) أي إن أقبح أصوات الحيوانات صوت الحمير ، أوله صوت قوي وآخره صوت ضعيف. (أَلَمْ تَرَوْا) أي ألم تعلموا أيها المشركون (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي أن الله جعل لأجلكم ما في السموات من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ، والمطر ، وما في الأرض من الشجر والدواب منقادا للأمر فإن الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي وأتم عليكم نعمة محسوسة معقولة ، معروفة لكم ، وغير معروفة.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص «نعمة» بفتح العين وبالهاء آخره. والباقون بسكون العين وبتاء منونة آخره. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث ، وأبيّ بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الله تعالى وفي صفاته (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل (وَلا هُدىً) من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠) أنزله الله تعالى بل بمجرد التقليد ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لمن يخاصم (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على نبيه من القرآن ، (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي قالوا : نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل من آبائنا ، وهو عباد الأصنام (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أي قال الله تعالى أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم فيما هم عليه من الشرك (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١) فهم يقتدون بهم (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) ، أي ومن يفوض إليه تعالى مجامع أموره ، ويقبل عليه تعالى بكليته وهو آت بأعماله جامعة بين الحسن الذاتي والوصفي فقد تمسك بحبل لا انقطاع له ، وترقى بسببه إلى أعلا المقامات ، (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢) فيجازيه أحسن الجزاء ، (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن إذا كفر كافر (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) في

٢٣٨

الدنيا من الكفر والمعاصي بالعقاب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٣) فلا يخفي عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) أي زمانا قليلا مدة حياتهم ، (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤) ثم نردهم في الآخرة إلى عذاب شديد ، أي فإنهم لما كذبوا الرسل ، ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وهذا يصدقك في دعوى الواحدانية ، ويبين كذبهم في الإشراك (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ظهور صدقك وكذب مكذبيك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٥) ، أي ليس لهم علم يمنعك من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يستحق العبادة فيهما غيره تعالى (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٦) ، أي الغني عن العالمين ، المستحق للحمد ، وإن لم يحمده أحد. (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ، أي ولو كانت الأشجار أقلاما والبحار السبعة من بعد نفاذ البحر المحيط مدادا ، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب ، فإن العجائب بقوله تعالى : (كن) و «كن» كلمة ، وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز كما يقول الشجاع لمن يبارزه : أنا موتك وكما يقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك ، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح : كلمة ، لأنه كان أمرا عجيبا لوجوده من غير أب ، ولذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه تعالى ، فالمخلوق هو الحرف والتركيب هو عجيب. أما الكلمات فهي من صفات الله تعالى ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي كامل القدرة فلا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) (٢٧) أي كامل العلم فلا يخرج عن علمه أمر (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلقكم وبعثكم إلا كخلق نفس واحدة بعثها في سهولة الحصول ، إذ لا يشغله تعالى شأن ، لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢٨) أي سميع لما يقولون كيف يبعثنا بصير بما يعملون (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا أيها الغافل (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل كل واحد منهما في الآخر ويضمه إليه ، فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة لهما ، (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) في كل وقت من الخير والشر (خَبِيرٌ) (٢٩). فمن شاهد مثل ذلك الصنع لا يغفل عن كون صانعه محيطا بجلائل أعماله ودقائقه (ذلِكَ) أي ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع ، (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الثابت الوجود وألوهيته ، (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ، وبسبب بيان بطلان إلهية ما يعبدونه من غيره تعالى.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «يدعون» بالغيبة. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣٠) أي وبيان أنه تعالى هو العلي في صفاته ، الكبير في ذاته ، أكبر من كل ما يتصور ،

٢٣٩

فلا يكون جسما في مكان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) أي بالريح التي هي بأمر الله ، وبإحسانه تعالى في تهيئة أسباب الجري (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ليريكم بإجراء السفينة بنعمته بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) عظيمة في ذاتها ، كثيرة في عددها (لِكُلِّ صَبَّارٍ) في الشدة (شَكُورٍ) (٣١) في الرخاء ، فالتكاليف أفعال وتروك ، فالتروك : صبر عن المألوف. والأفعال : شكر على المعروف (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي أحاط بهم (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) ، أي كالجبال في الارتفاع (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، أي مفردين له تعالى بالدعوة بأن ينجيهم ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ، أي مقيم على الطريق المستقيم الذي هو التوحيد ، ومنهم من يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي كثير الغدر ، ولا يكون الغدر إلا من قلة الصبر (كَفُورٍ) (٣٢) أي مبالغ في كفران نعم الله تعالى. (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي يا أهل مكة أطيعوا ربكم (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يقضي فيه والد عن ولده في دفع الآلام ، (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) في دفع الإهانة ، فـ «مولود» مبتدأ ، و «هو» مبتدأ ثان ، و «جاز»خبره. والجملة خبر«مولود».

وقرئ «لا يجزئ» بضم الياء ورفع الهمزة أي لا يغني. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب (حَقٌ) أي لا يمكن إخلافه أصلا (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فإنها زائلة لوقوع اليوم الذي لا مجازاة بين الوالد وولده بالوعد الحق (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي بسبب حلم الله (الْغَرُورُ) (٣٣) أي الشيطان ، أو الدنيا فمن الناس من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ، ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويقول : إنك تحصل بها الآخرة ، أو تلتذ بها ، ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة ، أي كونوا من الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم وقت قيام القيامة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) إلى محله في إبانه.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعصام بفتح النون وتشديد الزاي. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، تام أو ناقص (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما لا تدري في أي وقت تموت.

روي أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه‌السلام ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل : من هذا؟ قال ملك الموت. فقال : كأنه يريدني! فمر الريح أن تحملني وتلقيني ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال الملك لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي مبالغ في العلم بكل شيء (خَبِيرٌ) (٣٤) أي عالم ببواطن الأشياء كما يعلم ظواهرها.

٢٤٠