مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

(وَقالُوا) للاغين : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا ديننا ولكم دينكم ، (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وهو سلام إعراض وفراق ، لا سلام تحية فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا ، (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥). أي لا نطلب صحبتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم. (إِنَّكَ) يا أشرف الخلق (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦).

قال الزجاج : أجمع المسلمون على أن هذه الآية نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند قرب موته : يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمدا وصدقوه ، تفلحوا ، وترشدوا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول : لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى. قال : يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكن أكره أن يقال جزع : عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب ، وهاشم ، وعبد مناف ، ثم مات اه. وهذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ، لأن الله هو الذي هداه بعد أن أيس منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما الأحاديث الدالة على عذابه ودخوله النار ، فهو إما لترك النطق بالشهادتين أو لغيره ، وذلك إن لم يعتد بما نطق به من الشهادة ، فالعذاب يكون لترك النطق بالشهادة وإن اعتد به فالعذاب يكون في مقابلة ترك فرض آخر ومما يدل على أنه آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد وصى قريشا عند موته باتباع رسول الله. وقال : والله لقد دانت له العرب والعجم فلا يسبقنكم إليه سائر العرب فيكونوا أسعد به منكم ، فعلى هذا قد حصل منه التصديق بقلبه. وعن عبد الله بن ثعلب العذري أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا ، وأنه قال : ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك في الكتب ، وأنه قال عند قرب موته مخاطبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ولقد صدقت وكنت قبل أمينا

 

و دعوتني وعلمت أنك صادق

من خير أديان البرية دينا

 

و دعوتني وعلمت أنك صادق

لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

 

لولا الملامة أو حذار مسبة

واعلم أنه لو ترك شخص النطق بالشهادتين بعد المطالبة لا لإباء عن الإسلام ولا لعناد له ، بل لخوف من ظالم أو من ملامة ، أو مسبة عند من يعظم ذلك ، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكون كافرا بينه وبين الله ، بل لو تكلم بالكفر والحالة هذه لا يضره.

٢٠١

وقال الحليمي : لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير كلمة لا إله إلا الله حتى لو قال : لا إله غير الله ولا إله ما عدا الله ، أو ما سوى الله ، أو ما من إله إلا الله ، أو لا إله إلا الرحمن ، أو لا رحمن إلا الله أو إلا البارئ فهو كقوله : لا إله الا الله اه. وكذا قال : محمد نبي الله أو مبعوثه أو نحو ذلك ، أو ما يؤدي إلى ذلك باللغات العجمية صح إسلامه وحكم بكونه مسلما وفي الحديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آدم ومن دون تحت لوائي وإن عبد المطلب يعطي نور الأنبياء وجمال الملوك»(١). وعن جعفر بن محمد الصادق قال : ويحشر عبد المطلب له نور الأنبياء وجمال الملوك ، ويحشر أبو طالب في زمرته ، أي إنما يعطى عبد المطلب نور الأنبياء ، لأنه كان على التوحيد ، ولأنه مستقل لا تابع ، وهو من أهل الفترة وإنما يعطى جمال الملوك ، لأنه كان سيد قريش في زمانه فهو في ذلك ملحق بالملوك الذين عدلوا وما ظلموا ، ومما يدل على أن أبا طالب مؤمن ماروي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث قال : قال العباس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أترجو لأبي طالب خيرا؟ قال : «كل الخير أرجو من ربي» (٢) رجاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم محقق ولا يرجو كل الخير إلا لمؤمن. وماروي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب ، وأخ كان لي في الجاهلية»(٣). أورده المحب الطبري أي وهو الأخ من الرضاعة. وفي الحديث : «إني ادخرت شفاعتي جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا». اه. وما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أبا طالب أخرج من طمطام النار وغمراتها إلى ضحضاح ، منها وخفف عنه من عذابها وجعل أخف أهل النار عذابا ألبس نعلين من النار ، فما مست النار إلا تحت قدميه ، ولو كان كافرا لكان عذاب الكفر فوق عذاب الكبائر قطعا ، ولو وجد مؤمن من عاص أخف عذابا من أبي طالب لزم الخلف في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث جعله أخف أهل النار على الإطلاق فوجب أن يكون عذابه كعذاب عصاة المؤمنين في مقابلة كبيرة كذا في رسالة السيد رسول البر زنجي. (وَقالُوا) أي أهل مكة : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي إن نوحد الله معك يا محمد نطرد من مكة.

روي أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا ، أي أن يجتمعوا على

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٣٣).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ : ٣٧٨).

(٣) رواه الحاكم في المستدرك (٤ : ٣٠٦) ، والبغوي في شرح السنّة (١٤ : ٢٢٤) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ١٥١).

٢٠٢

أي ألم نجعل مكانهم حرما ذا أمن (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي يحمل إليه من كل ناحية ألوان كل شيء من الثمرات.

وقرأ نافع بالتاء الفوقية. (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) فإذا كان حالهم ما ذكر مع كونهم عبدة أصنام ، فكيف يخافون أن نسلط عليهم الكفار إن ضموا إلى حرمة!؟ البيت ، حرمة الإيمان فـ «رزقا» إما مصدر مؤكد لـ «يجبي» أو مفعول له ، أو حال من «ثمرات» بمعنى مرزوق. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) إنا جعلنا الحرم آمنا وإنا سقنا إليه الرزق من كل جهة (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في إدرار الرزق حتى طعنوا بالنعمة في زمن حياتها فأهلكناهم وخربنا ديارهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هلاكهم (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا في زمن قليل يسكنها المسافرون ومارو. الطريق (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) أي المالكين لها بعد هلاك أهلها ، (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي مهلك أهل القرى ، (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي في أعظمها (رَسُولاً). فعاد الله أن يبعث الرسل في المدن ، لأن أهل أفطن وغيرهم يتبعهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) الدالة على الحق والداعية إليه بالترغيب والترهيب ، وذلك لقطع المعذرة (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٥٩) أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أشرافهم رسولا يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا ، وبالكفر بآياتنا. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أي وما أعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم ، فهو شيء عادته أن ينتفع به ويتزين به أيام حياتكم. وقرئ «فمتاعا الحياة» بنصب الكلمتين على المصدر ، وعلى الظرف أي يتمتعون متاعا في الحياة الدنيا. (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي فمنافع الآخر لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا ، فنصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فكيف قلتم تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية! (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)؟ أي أفمن وعدنا وعدا بالجنة فهو مدرك الموعود به من غير شك كمن أعطيناه المال والخدم في الدنيا ، ثم هو يوم القيامة نحضره للعذاب؟

قال محمد بن كعب : نزلت هذه الآية في حمزة وعلي ، وفي أبي جهل. وقال غيره : في حمزة أو عثمان بن عفان وفي أبي جهل. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) معطوف على يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦٢)؟ أي ويوم ينادي الله المشركين فيقول توبيخا لهم : أين الذين عبدتموهم من دوني ، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة ، تزعمون أنهم يشفعون لكم ، أين هم لينصروكم من هذا الذي نزل بكم؟! (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي الذين ثبت عليهم مدلول

٢٠٣

قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا).

قال أبو علي : «الذين أغوينا» خبر لاسم الإشارة ، و «أغويناهم» مستأنف. والمعنى : هؤلاء هم الذين أضللناهم فصاروا أتباعا آثروا الكفر على الإيمان ، فضلوا باختيارهم ضلالا مثل ضلالنا باختيارنا وكنا سببا في كفرهم فقبلوا منا وما أكرهناهم عليه (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومن عقائدهم وأعمالهم (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٦٣) أي ما كانوا يطيعوننا ، وإنما كانوا يطيعون أهواءهم ، (وَقِيلَ) للكفار تبكيتا لهم : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولا انتفعوا بهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) (٦٤) أي أبصر المشركون العذاب لو أنهم يبصرون شيئا ، فإنهم لما خاطبهم الله تعالى بقوله : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) اشتد الخوف عليهم حتى يصيروا بحيث لا يبصرون شيئا. أو المعنى : لما قيل : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) دعوا الأصنام مرارا كثيرة حتى كان الأصنام يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين. أو المعنى : وعلم الكفار حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون.

قال الرازي : وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطف ما قبله سئلوا أولا : عن إشراكهم. وثانيا : عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك (فَيَقُولُ) الله تعالى : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٦٥) إليكم بما دعوكم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سئلوا عن ذلك (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب النافع ، لأنهم يتساوون جميعا في العجز عن الجواب المنجي لفرط الدهشة ، فلا نطق ولا عقل. (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَمِلَ صالِحاً) أي خالصا فيما بينه وبين الله (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٦٧) أي فليطمع في الفلاح والنجاة من العذاب (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أن يخلقه (وَيَخْتارُ) ما يشاء اختياره. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم الاختيار المؤثر عنهم ، وليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل.

قال العلماء : لا ينبغي لأحد أن يقوم على أمر من أمور الدنيا إلا حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك بأن يصلي صلاة الاستخارة بالكيفية المشهورة ، وأهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم ، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض ، فلا يرضيهم ، إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده ، فيمضيه ، وروي أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة حين قال : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ويقصد بذلك الوليد بن المغيرة ، أو أبا مسعود الثقفي ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله تعالى : (وَرَبُّكَ) إلخ ، والمعنى : لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار

٢٠٤

المرسل إليهم. (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨) أي تنزيها له تعالى عن أن يزاحم اختياره تعالى اختيار. والمقصود أن يعلم العبد أن الإعزاز والإذلال مفوّض إليه تعالى ليس لأحد في الخلق ، والاختيار شركة له تعالى (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يُعْلِنُونَ) (٦٩) من الطعن في الرسول بألسنتهم (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي وهو المستحق للعبادة لا أحد يستحقها إلا الله. (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لأن الثواب غير واجب عليه ، بل هو تعالى ، يعطيه فضلا وإحسانا منه تعالى ، فله الحمد في الدنيا والآخرة لأنه معطي النعم كلها ، فيحمده المؤمنون في الآخرة فرحا بفضله ، والتذاذا بحمده بقولهم : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، الحمد لله الذي صدقنا وعده (وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغير في الدنيا والآخرة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠) بالخروج من القبور. (قُلْ) يا أفضل الخلق لأهل مكة : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أي دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، بإسكان الشمس تحت الأرض ، أو تحريكها حول الأفق غير المرئي (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) يخرجكم من مشقة الظلام؟ (أَفَلا تَسْمَعُونَ) (٧١) هذا الكلام الحق سماع تفهم تطيعون من يفعل ذلك! (قُلْ) لهم : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ، استراحة عن متاعب الأشغال؟ (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٧٢) ، هذه المنفعة الظاهرة ولا تنتظرون بقلوبكم ما أنتم عليه من الخطأ! (وَمِنْ رَحْمَتِهِ) أي نعمته تعالى (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) لأغراض ثلاثة (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في أحدهما وهو الليل ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في الآخر ، وهو النهار بأنواع المكاسب. ففي هذا مدح للسعي في طلب الرزق كما ورد في الحديث : «الكاسب حبيب الله وهو لا ينافي التوكل». (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣) أي لكي تشكروا على المنفعتين معا. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي أذكر يوم ينادي الله المشركين يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٧٤)؟ أي أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصهم من الهلاك؟ (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي أخرجنا من كل أمة نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه في كل زمان ، فيدخل فيه الأحوال التي في أزمنة الفترات ، وفي الأزمنة التي حصلت بعد سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقُلْنا) لهم : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدينون به (فَعَلِمُوا) أي كل أمة يومئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي أن حقيقة الإلهية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥) أي زال عنهم ما كانوا يعبدون في الدنيا بالكذب (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى).

روى أبو إمامة الباهلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان قارون من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله تعالى» ـ قيل هو ابن عم موسى ـ وعن ابن عباس كان ابن خالته ، ثم قيل : إنه

٢٠٥

كان يسمى المنور ولحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، إلا أنه نافق كما نافق السامري (فَبَغى عَلَيْهِمْ) ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره ، كما قاله القفال ، وقال ابن عباس : تكبر عليهم اه ـ ، ثم حسد موسى على رسالته ، وهارون على إمامته في الذبح فكفر بعد ما آمن بهما بسبب كثرة ماله.

ويروى أن موسى عليه‌السلام لما قطع البحر جعل الحبورة والقربان لهارون فقال قارون : يا موسى لك الرسالة ، ولهارون الحبورة ـ وهي إمامة الذبح ـ ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه‌السلام : والله ما صنعت ذلك لهارون ، ولكن جعله الله له. فقال : لا والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون فأمر موسى عليه‌السلام بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصا ، فجاءوا بها ، فحزمها موسى ، فألقاها في قبة له ، فباتوا يحرسون عصيهم ، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون. فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى عليه‌السلام ولا يجالسه (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطينا قارون من الأموال المدخرة الذي أن مفاتيح صناديقه لتثقل الجماعة الكثيرة الأقوياء وأخرج الدينوري عن خيثمة قال : قرأت في الإنجيل أن مفاتيح كنوز قارون وقر ستين بغلا كل مفتاح منها على قدر إصبع ، لكل مفتاح منها كنز (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) أي المؤمنون من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ) بكثرة المال فالفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقا. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٧٦) بزخارف الدنيا (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي اطلب ثواب الله تعالى بسبب المال بأن تصرفه إلى ما يؤديك إلى الجنة كصدقة وصلة رحم ، وإطعام جائع ، وكسوة عار ونفقة على محتاج (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي لا تترك العمل في الدنيا للآخرة ، وخذ ما تحتاجه من الدنيا وأخرج الباقي كما في الحديث : «اغتنم خمسا : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك» (١). (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى عباد الله تعالى إحسانا كإحسان الله تعالى إليك فيما أنعم إليك ، فيدخل في الإحسان الإعانة بالمال والجاه ، وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٧٧) أي أنه تعالى يعاقب المفسدين بسوء أفعالهم. (قالَ) قارون مجيبا لناصحه : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي أنما أعطيت هذا المال حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي ، وفضلت به على الناس

__________________

(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى (١٠ : ١٦٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٤٧).

٢٠٦

بالمال والجاه ، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة ، واستحقاقي لذلك ، أي لأنه أقرأ بني إسرائيل للتوراة كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي اه ـ.

وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كان موسى عليه‌السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء ، فعلّم قارون ثلث العلم ، ويوشع ثلثه ، وكالب ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة ، والنحاس فيجعله ذهبا ، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أعلم قارون ما ادعاه ، ولم يعلم أن الله قد أهلك من هو أقوى منه ، وأغنى ، وأكثر جماعة حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته؟! (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨) ، أي لا يسأل الله عن صفة ذنوب المجرمين وعددها إذا أراد أن يعاقبهم لأنه تعالى عالم بكل المعلومات ، (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج قارون يوم السبت متزينا مع أتباعه كانوا أربعة آلاف على زيه ، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج ، وكانت بغلته شهباء سرجها من ذهب وكان على سرجها الأرجوان ـ بضم الهمزة والجيم ، وهو قطيفة حمراء ـ وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر ، ومعهم ألوان السلاح.

وقال ابن زيد : خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) من المؤمنين جريا على طريقه الجبلة البشرية من الرغبة في السعة (يا) للتنبيه (لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) من هذه الأموال وهذه الزينة (إِنَّهُ) أي قارون (لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٧٩). أي لذو بخت وافر من الدنيا. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الدنيا والآخرة للراغبين في الدنيا : (وَيْلَكُمْ) أي ضيق الله عليكم الدنيا. وهذا زجر عن ذلك التمني (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) من هذه النعم ، لأن الثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ، ودائمة ، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاثة. (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٨٠) أي ولا يعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح إلا الصابرون على أمر الله ، والمرازي. أو ولا يعطى الجنة التي هي الثواب إلا الصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة. (فَخَسَفْنا بِهِ) أي بقارون (وَبِدارِهِ الْأَرْضَ).

روي أن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه‌السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وكذلك سائر الأشياء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه ، فوجده شيئا كثيرا ، فلم تسمح نفسه بذلك ، فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت سيدنا وكبيرنا ، فمرنا بما شئت. قال : نبرطل فلانة البغي كي تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك رفضه بنو إسرائيل ، فدعوها ، فجعل قارون لها طشتا من ذهب مملوءا ذهبا ، فلما كان يوم عيد قام

٢٠٧

موسى خطيبا فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن كان محصنا رجمناه. فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا قال : إن بني إسرائيل يقولون : إنك فجرت بفلانة قال موسى : ادعوها فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة ألا تصدقين فتداركها الله بالتوفيق ، فقالت : كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخرّ موسى ساجدا يبكي وقال : يا رب ، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل عنه ، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وهم في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويقول له : قارون بالله والرحم ، وموسى عليه‌السلام لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم. فانطبقت الأرض عليهم ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم ؛ إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. (فَما كانَ لَهُ) أي لقارون (مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره بدفع العذاب عنه (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١) أي من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله تعالى ، (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي وصار الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب ، (يَقُولُونَ) متنبهين على خطأهم في تمنيهم لمّا شاهدوا الخسف (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي أعجب أنا ، لأن الله يوسع المال على من يشاء من عباده ؛ وهو مكر منه تعالى ـ كما كان لقارون ـ ويقتر على من يشاء ؛ وهو نظر منه تعالى فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف تندموا على تمنيهم حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله ، ولا تضييقه لهوانه عنده فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ و «وي» اسم فعل بمعنى : أعجب أنا ، والكاف للتعليل.

وقال أبو الحسن و «وي» اسم فعل ، والكاف حرف خطاب و «أن» على إضمار اللام. وقيل : «وي» اسم فعل ، و «كأن» للتحقيق أي أعجب أنا وقد علمت أن كلا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى ، وليس البسط للكرامة والقبض للهوان (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالإيمان والرحمة (لَخَسَفَ بِنا) كما خسف بقارون (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢). وقيل «وي» كلمة للزجر ، والكاف حرف خطاب ، و «أن» معمولة لمحذوف أي انزجر عن تمنيك.

واعلم أنه لا ينجو المكذبون برسول الله من عذاب الله (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي نعطيها لمن لا يريدون غلبة وتكبرا (وَلا فَساداً) أي

٢٠٨

ظلما على العباد كدأب فرعون وقارون ، (وَالْعاقِبَةُ) الحميدة ـ وهي الجنة ـ (لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣) أي الذين يتقون ما لا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي من جاء يوم القيامة متصفا بالحسنة ، المقبولة ، الأصلية ، المعمولة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي فله بمقابلتها ثواب خير منها ذاتا ، وصفة ، وقدرا بالمضاعفة. ومثل المعمولة ما في حكمها كما لو تصدق عن غيره ، فخرج بالمعمولة ما لو همّ بحسنة فلم يعملها لمانع ، فإنها يجازى عليها من غير تضعيف ، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف له ، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي ما يذم فاعلها شرعا (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) أي الإجزاء مثل ما كانوا يعملون (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن والعمل بما فيه من الأحكام لرادك إلى مكة. فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الغار ليلا وسار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة ، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل وقال له : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم». فقال جبريل : إن الله تعالى يقول :(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي مكة غالبا عليهم (قُلْ) يا أشرف الخلق للمشركين : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وما يستحقه من الثواب والإعزاز بالإعادة إلى مكة (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨٥) وما يستحقونه من العقاب والإذلال في بلدهم يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك نفسه والمشركين ، (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت قبل مجيء الرسالة إليك ترجو إنزال القرآن عليك ، وكونك نبيا فإنزاله عليك ليس عن ميعاد وكونك نبيا ليس عن تطلب سابق منك ولكن أنزل إليك القرآن وتجعل نبيا لأجل الترحم من ربك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٨٦) أي معينا لهم بالإجابة إلى طلبتهم (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا تركن إلى أقوال الكافرين فيصدوك عن اتباع آيات الله بعد وقت إنزالها عليك وإيجاب العمل بها (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي ادع الناس إلى دين ربك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٨٧) بإعانتهم في الأمور ، لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ، (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) أي معدوم في حد ذاته فإن وجوده كلا وجود ، لأن وجوده ليس ذاتيا (إِلَّا وَجْهَهُ) أي ذاته تعالى.

وقيل : معنى كونه هالكا : كونه قابلا للهلاك والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله :

من الخلق والباقون في حيز العدم

 

ثمانية حكم البقاء يعمها

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

 

هي العرش والكرسي ونار وجنة

(لَهُ الْحُكْمُ) النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ) أي إلى جزائه بالعدل عند البعث (تُرْجَعُونَ) (٨٨).

٢٠٩

سورة العنكبوت

مكية ، تسع وستون آية ، وألف وتسعمائة واحدى وثمانون

كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) أي أظن الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق ، لا بل يمتحنون ليتميز الراسخ في الدين من غيره. نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد ، وسلمة بن هشام. وكانوا يعذبون بمكة ، فكانت صدورهم تضيق بذلك. والمقصود : الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله ، لكن القلب ترجمان وهو اللسان وله مصدقات ، هي الأعضاء ولها مزكيات فإذا قال الإنسان باللسان : آمنت فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود ، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإسلام حصل له على دعواه شهود مصدقات ، فإذا بدل نفسه وماله في سبيل الله وزكى أعماله بترك ما سوى الله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله ، فحينئذ يحرر اسمه في جرائد المحبين ويقرر قسمه في أقسام المقربين (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي ابتلينا الماضين كسيدنا إبراهيم ألقى في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) أي فليظهرن الصادقين في قولهم آمنا من الكاذبين في ذلك ، فمن الناس من لا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء ، فهو من الكاذبين ، ومنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء ، فهذه صفة الصادقين ، ومنهم من لا يستمتع في العطاء بل يؤثر في حال الرخاء ، ويستريح إلى البلاء ، ويستعذب مقاساة العناء ، وهذا أجل الكبراء (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أي بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤) أي بئس الذين يحكمونه حكمهم ذلك (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) ، أي من كان يطمع في ثواب الله فليعمل عملا صالحا ، فإن الوقت المضروب له لجاء لا شك في مجيئه (وَهُوَ السَّمِيعُ

٢١٠

الْعَلِيمُ) (٥) ، فيسمع ما قالوه ، ويعلم ما يعملونه ، فللعبد أمور ثلاثة من أصناف حسناته عمل قبله ، فهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم ، وعمل لسانه فهو يسمع ، وعمل أعضائه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ، ولمرئيه ما لا عين رأت ، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد ، (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي ومن صبر على الشدة في محاربة الكفار وفي مخالفة النفس فإن منفعة صبره له لا لله تعالى. (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦) فلا حاجة له إلى طاعتهم ، وإنما أمرهم بطاعة الله توجيها لهم للثواب بمقتضى رحمته (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧) ، أي بأحسن جزاء أعمالهم فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه ، وتكفر سيئاته به فلا يخلد في النار فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير الجنة ، وهو ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر أن يكون هو رؤية الله تعالى. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما لأنهما سبب وجود الولد (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن أمراك أن تشرك بي ما ليس لك بإلهيته علم فلا تطعهما في الإشراك فقوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إشارة إلى أن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه ، وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه؟!

روي أن حمية بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما سمعت بإسلام ولدها سعد بن أبي وقاص الزهري ، وهو من السابقين إلى الإسلام قالت له : يا سعد بلغني إنك قد صبأت فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد ، فأبى سعد وكان أحب أولادها إليها ولبثت هي ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ، ولا تأكل ، ولا تشرب حتى غشي عليها وقال لها : والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد عليه‌السلام! فإن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت ، ثم جاء سعد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما كان من أمرها فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ) الآية. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي عاقبتكم إلى ، وإن كان اليوم مجالستكم بالآباء والأولاد والأقارب. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) فلا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون ، فتوافقون الحاضرين في الحال فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه فأجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩) أي لنجعلهم في عداد المجردين الذين لا فساد لهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي في دين الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) مع ضعفها وانقطاعها (كَعَذابِ اللهِ) الأليم الدائم في الآخرة حتى كفر. نزلت هذه الآية في المنافقين ـ كعياش بن أبي ربيعة المخزومي ـ فإنهم قالوا للمؤمنين : إيماننا كإيمانكم فإذا همّ الكفار بالضرب بالسياط جعلوا ذلك الأذى صارفا لهم عن الإيمان كما أن عذاب الله في النار دائما

٢١١

صارف للمؤمنين عن الكفر (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) وهو فتح مكة وغنيمتها (لَيَقُولُنَ) أي عياش وأصحابه ، (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي في الإيمان وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأشركونا في الغنيمة ، لأننا على دينكم قال تعالى تكذيبا لهم في قولهم : أنا على دينكم. (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (١٠) من الإخلاص في الإيمان والنفاق فيه ، ثم أسلم عياش وأصحابه بعد ذلك وحسن إسلامهم (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالإخلاص ، فثبتوا على الإسلام عند البلاء (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١) بترك الإيمان عند البلاء ، أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ وهو الوليد ابن المغيرة ، وأبو جهل وأصحابهما ـ (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ـ كعلي وسلمان وأصحابهما ـ : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي ديننا في عبادة الأوثان (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي ذنوبكم عنكم يوم القيامة.

وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر ، وهو لغة الحجاز وليس هذا أمرا في الحقيقة وردّ الله عليهم بقوله : (وَما هُمْ) أي الكفار (بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ) أي من ذنوب المؤمنين (مِنْ شَيْءٍ) يوم القيامة (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٢) في مقالتهم (وَلَيَحْمِلُنَ) أي الكفرة (أَثْقالَهُمْ) أي أوزار ما اقترفته أنفسهم كاملة ، (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وأوزار الذين يضلونهم مع أوزارهم ، (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣) في قولهم ولنحمل خطاياكم فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ، ومن اعتقادهم أن لا حشر ، ويقال لهم : أما قلتم أن لا حشر؟ ويقال لهم : احملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون. ويقال لهم : لم افتريتم؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى التوحيد فلم يجيبوه.

قال ابن عباس : كما عمر نوح عليه‌السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي الماء الكثير المحيط بهم والمرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعا ، (وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤) أي والحال أنهم مصرون على كفرهم. (فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي ومن ركب في السفينة معه عليه‌السلام ، من أولاده وأتباعه ـ وكانوا ثمانين ـ (وَجَعَلْناها) أي السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١٥) أي علامة دالة على قدرة الله تعالى وعلمه ، ووحدته ليتعظوا بها ؛ وذلك أن السفينة اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحا بذلك لما اشتغل بها ، فلا تحصل لهم النجاة ، وأن الله أمر نوحا بأخذ قوم معه وأقواتهم ، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ، ولولا ذلك لما حصل لهم النجاة.

قال أبو السعود : عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أي وأرسلناه حين تكامل عقله وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق (اعْبُدُوا اللهَ) وحده (وَاتَّقُوهُ) أن

٢١٢

تشركوا به شيئا فقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) إشارة إلى إثبات الإله الواحد. وقوله : (وَاتَّقُوهُ) إشارة إلى نفي عيره وأيضا فـ «اعبدوا الله» إشارة إلى الإتيان بالواجبات فيدخل فيه الاعتراف بالله ، واتقوه إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ، فيدخل فيه الامتناع من الشرك (ذلِكُمْ) أي عبادة الله وتقواه (خَيْرٌ لَكُمْ) عقلا واعتبارا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٦) الدلائل والاعتبارات ، فإن ضد عبادة الله تعطيل ، وضد تقواه تشريك ، وكلاهما شر عقلا واعتبارا أما عقلا : فلأن الممكن لا بد له من مؤثر واجب الوجود ، ثم إن شريك الواجب إن لم يكن واجب الوجود فكيف يكون شريكا ، وإن كان كذلك لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويختلفان في الإلهية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين ، فيلزم التعطيل. وأما اعتبارا : فلأن الشرف إما أن يكون ملكا أو قريب ملك ، فالإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين ، فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك فلا يكون قربه إلا بعبادة ، فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتباره بوجود ملك فلا مرتبة له أصلا ، ثم من يكون سيده لا نظير له يكون أعلا رتبة ممن يكون لسيده شركاء خسيسة ، فإن من يقول : إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول : سيدي صنم منحوت. فثبت أن عبادة الله وتقواه خير للناس. (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أي أحجارا لا تستحق العبادة. (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة ، وتدعون أنها شفعاؤكم.

وقرئ «تخلقون» بتشديد اللام للتكثير في الخلق الذي بمعنى الكذب. وقرئ «تخلقون» بحذف إحدى التاءين من «تخلق» بمعنى : تكذب. وذكر سيدنا إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه ، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور أربعة :

إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه.

وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة.

وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره راجيا منه أمرا في المستقبل.

وإما لكونه خائفا منه.

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي فاطلبوا من الله تعالى كل الرزق (وَاعْبُدُوهُ) لكونه مستحقا للعبادة لذاته ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) لكونه سابق النعم بالخلق ومعطي النعم بالرزق (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) فيرجى الخير منه لا من غيره. (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فلا تضرونني بتكذيبكم ، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل ـ وهم شيث ، وإدريس ، ونوح عليهم‌السلام ـ فلم يضرهم تكذيبهم شيئا. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٨) ، أي إلا ذكر

٢١٣

المسائل وإقامة البرهان عليه. (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظر هؤلاء القوم ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية في الظهور؟ (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) أي يخلقهم ، ولم يكونوا شيئا مذكورا ، ويخلقهم من نطفة من غذاء هو ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة ، فإن الإعادة ، مثل البدء (ثُمَّ يُعِيدُهُ)؟ أي الخلق كما بدأهم (إِنَّ ذلِكَ) أي الإعادة (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩) إذ لا يفتقر فعله تعالى إلى شيء أصلا (قُلْ) يا إبراهيم لقومك : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سيّروا فكركم في الأرض ، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أي فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقا ، (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) ، فإن من علم قدرته تعالى على جميع الأشياء لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعد ما أخبر الله به ، (يُعَذِّبُ) بعد النشأة الآخرة (مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه وهم المنكرون لها ، (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أن يرحمه وهم المصدقون بها (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) (٢١) ، أي فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات إليه تعالى إيابكم وعليه حسابكم ، وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم ، (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) بممتنعين منه تعالى أي لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله.

وهذا خطاب لقوم فيهم النمروذ الذي حاول الصعود إلى السماء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعكم ، (وَلا نَصِيرٍ) (٢٢) أي مانع يمنعكم من عذاب الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته ، وصفاته ، وأفعاله (وَلِقائِهِ) أي بالبعث بعد الموت ، (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٣). وذلك لأن الله تعالى في كل شيء آية دالة على وحدانيته ، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله ، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله وأخرج نفسه عن محل رحمة الله ، وإذا جعل له آلهة لم يقر بالحاجة إلى طريق متعين فييأس من رحمة الله ، ولما أنكر الحشر وقال : لا عذاب عذبه الله تحقيقا للأمر عليه فعدم الرحمة يناسب الإشراك ، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ، أي قال بعضهم لبعض : لا تجيبوا إبراهيم عن براهينه الدالة على التوحيد والنبوة والحشر ، واقتلوه بسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلا ، أو حرقوه بالنار ، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار ، وإما أن يموت بها إذا أصرّ على دينه ، فقذفوه في النار (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي بجعلها بردا.

روي أنه في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٤) أي في إنجاء الله تعالى إبراهيم من النار لعبرات لقوم يصدقون بقدرة الله ، فإن الله حفظ إبراهيم من حرها ، وجعلها خامدة في زمان يسير فلا تؤذيه ، ولكن أحرقت وثاقه ، وأنشأ في وسطها بستانا. (وَقالَ)

٢١٤

إبراهيم بعد إنجائه من النار (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ).

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي برفع «مودة» غير منونة ، وجر «بينكم» ، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودة» منونة ونصب «بينكم» ، وحمزة وحفص بنصب «مودة» غير منونة ، وجر «بينكم». ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة ، ونصب «بينكم» لإضافته إلى المبني فالرفع خبر «إن» أي إنّ الذين اتخذتموهم أوثانا صلة بينكم ، والنصب مفعول له ، وخبر «إن» محذوف أي إن الذين اتخذتموه أوثانا معبودة لكم لأجل المودة لا ينفعونكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). والمعنى : إن اتخاذكم أصناما مودة بينكم ليس إلا في الحياة الدنيا ، وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم لي ما فعلتم لأجل مودتكم له انتصارا مني ، أي لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار ، وقال : إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب فليس هذا إلا تقليدا ، فإن بين بعضكم محبة طبيعية فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في الأحوال ، وبينكم وبين آبائكم صلة فورثتموهم ، وأخذتم مقالتهم ، ولزمتم ضلالتهم. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) فيقول العابد : ما هذا معبودي! ويقول المعبود : ما هؤلاء عبدتي! (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيقول المعبود لذاك : أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول العابد : لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون ، بل هم مجتمعون في النار كما هم مجتمعون في هذه الدار كما قال تعالى : (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي هي منزلكم فلا ترجعون منه أبدا (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥) يخلصونكم من تلك النار ، كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي صدقه لوط في جميع مقالاته فقال لإبراهيم : صدقت يا إبراهيم ـ ولوط هو ابن أخيه هاران ـ (وَقالَ) إبراهيم : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي إني خارج من قومي إلى مكان أمرني ربي بالتوجه إليه.

روي أنه هاجر من كوثي سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشام ، فنزل فلسطين ، ونزل لوط سذوم. وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا وسبعين سنة. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٦) فيمنع أعدائي عن إيذائي ولا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. (وَوَهَبْنا لَهُ) بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة (إِسْحاقَ) من عجوز عاقر ، (وَيَعْقُوبَ) نافلة ، (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ) أي ذرية إبراهيم (النُّبُوَّةَ) فكل الأنبياء بعده من ذريته ، (وَالْكِتابَ) ، فلم ينزل بعده كتاب إلا على أولاده ، (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على هجرته (فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧). فإن الله بدل جميع أحواله في الدنيا بأضدادها فبدل وحدته في النار بكثرة ذريته حتى ملأت الدنيا ، وبدل أقاربه الضالين المضلين بأقارب مهتدين هادين ، وبدل ذلته وخموله بالجاه ، وكثرة المال حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب ، وكانت الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة ، فصار معروفا بشيخ المرسلين ،

٢١٥

وكان في الآخرة باقيا على ما ينبغي ، (وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا إلى قومه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي اللواطة ، (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بتلك الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٨) كلهم من الإنس والجن ، (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي أدبار الرجال ، (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي سبيل الولد بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ـ ويقال : وتقطعون على من مر بكم من الغرباء ـ (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)! أي وتعملون في مجلسكم الجامع لأصحابكم المنكر : كالجماع ، والضراط ، وحل الإزار ، والحذف بالبندق ، ومضغ العلك والفرقعة.

قيل : إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان يأخذ ما معه ويلوطه ، ويغرمه ثلاثة دراهم قاض بذلك. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩) في قولك : بمجيء عذاب الله علينا إن لم نؤمن ، أي إن لوطا كان مداوما على إرشاد قومه فقالوا أولا استهزاء : ائتنا بعذاب الله. ثم لمّا كثر منه ذلك ولم يسكت عن فعلهم قالوا : أخرجوا آل لوط من قريتكم. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠) أي بإنزال العذاب على هؤلاء المفسدين ـ وهم الذين ابتدعوا الفاحشة وأصروها ، واستعجلوا العذاب بطريق الاستهزاء ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي لما جاء جبريل ومن معه من الملائكة إلى إبراهيم بالبشارة بالولد والنافلة (قالُوا) لإبراهيم : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ـ أي قرية سذوم ـ (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) (٣١) بإصرارهم على أنواع المعاصي. (قالَ) إبراهيم : (إِنَّ فِيها) أي في تلك القرى (لُوطاً) فكيف تهلكونها؟ (قالُوا) أي الرسل من الملائكة : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) أي من لوط وغيره (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) ابنتيه زاعورا ورينا (إِلَّا امْرَأَتَهُ) المنافقة واعلة (١) (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢) أي من المنغمسين في العذاب بسبب أن للدال على الشر نصيبا كفاعله ، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي جاءه ما أحزنه بمجيئهم على صورة البشر بأحسن صورة خلق الله فخاف عليهم من قومه ، (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق بتدبير أمرهم طاقته ، وعجز عن مدافعة قومه ، (وَقالُوا) للوط : (لا تَخَفْ) علينا (وَلا تَحْزَنْ) لأجلنا فإنا ملائكة ، (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) مما يصيبهم من العذاب. ونصب «أهلك» معطوف على محل الكاف (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٣) أي من الباقين في الهلاك ومن الرائحين الماضي ذكرهم ، (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) هي سذوم (رِجْزاً) أي عذابا مزعجا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٣٤) أي بسبب فسقهم المستمر.

__________________

(١) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٢ : ١٣٣).

٢١٦

وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي القرية (آيَةً بَيِّنَةً) أي علامة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) وهي آثار ديارهم الخربة وظهور الماء الأسود على وجه الأرض ، وهي بين القدس والكرك ، (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبا. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي اعملوا لليوم الآخر وإنما قال شعيب بلفظ الرجاء ، لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٣٦) أي لا تعملوا المعاصي في الأرض. ويمكن أن يقال نصب «مفسدين» على المصدر كما يقال : قم قائما ، أي قياما (فَكَذَّبُوهُ) فيما أخبرهم به ، لأن شعيبا كأنه قال : الله واحدا فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرم فلا تقربوه. وهذه الأشياء فيها إخبارات. فالتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي التي ترجف الأرض والأفئدة إذ قيل : إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ورجفت قلوبهم منها ، (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧) أي فصاروا في مجمعهم ميتين لا يتحركون ، (وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا قوم هود وقوم صالح. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم من جهة منازلهم الكائنة في الحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم عليها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي عبادتهم غير الله (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن عبادة الله ، (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) أي عاقلين ، ألبّاء ، صحيحي النظر. (وَقارُونَ) أي وأهلكناه ـ وهو ابن عم موسى ـ (وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) ـ وزير فرعون ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ، أي بالحجج الظاهرات ، (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) عن الإيمان بالآيات ، وعن عبادة الله (وَما كانُوا سابِقِينَ) (٣٩) أي فارين من عذاب الله ، (فَكُلًّا) أي كل واحد من المذكورين (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) ، أي عاقبناه بسبب ذنبه ، (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي حجارة محمّاة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر ـ وهم قوم لوط وعاد ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) ؛ هو هواء متموج ، فإن الصوت سببه وصول الهواء المتموج إلى الصماخ ـ وهم قوم شعيب وصالح ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) أي غمرناه في التراب ـ وهو قارون ومن معه ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) بالماء ـ وهم قوم نوح وفرعون وقومه ـ فحصل العذاب بالعناصر الأربعة : النار والريح والتراب والماء. والإنسان مركب منها وبسببها بقاؤه فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه وما به بقاؤه سببا لفنائه ، (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بالهلاك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) ، بالإشراك ، أي وما كان الله يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته ، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) فإن أدنى مراتب البيت أن لا يصير سبب افتراق ، فبيت العنكبوت : يصير سبب

٢١٧

انزعاج العنكبوت ، فإنه إذا داوم في زاوية لا يخرج منها ، فإذا نسج على نفسه بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه ، ويمسحه بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت ، فكذلك العابد ينبغي أن يستحق الثواب بسبب العبادة أو لا يستحق العذاب به ، والكافر يستحق العذاب بسبب عبادته ، وأن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا ، فكذلك أعمالهم للأوثان. وهذا إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا فإن من عبد الله رياء فقد اتخذ وليا غير الله فمثله مثل العنكبوت تتخذ نسجها بيتا فلا يقيها من حر ولا برد ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١) شيئا من الأشياء لجزموا أن مثلهم كمثل العنكبوت وأن أضعف ما يعتمد به في الدين دينهم. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن الله يعلم الذين يعبدونهم من غير الله من شيء : صنم ، أو إنسي ، أو جني ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤٢) أي وهو قادر على إهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة.

وقرأ عاصم وأبو عمرو «يدعون» بالتحتية. والباقون بالفوقية. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نبينها لهم تقريبا لما بعد من أفهامهم ، (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٤٣) أي وما يفهم صحتها وفائدتها إلا المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي متقنا مراعيا للمصالح (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلقهما (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤) أي لدلالة للمؤمنين على شؤونه تعالى ، واختص المؤمنون بالذكر ، لأنهم المنتفعون بتلك الآية (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ، ومحاسن الآداب ، ومكارم الأخلاق. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي دوام على إقامتها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، أي تنهى عن التعطيل والإشراك ، فالتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول : الله أكبر. فبقوله : الله ، ينفي التعطيل. وبقوله : أكبر ، ينفي التشريك. لأن الشرك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال : (بِسْمِ اللهِ) [الفاتحة : ١] ، نفى التعطيل ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١] ، لأن الحرمن من يعطي الوجود بالخلق ، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق ، فإذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أثبت خلاف التعطيل ، وإذا قال : رب العالمين أثبت خلاف الإشراك ، فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] نفى التعطيل والإشراك ، وكذا إذا قال : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] وإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ) [الفاتحة : ٦] نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد ، والمعطل لا مقصد له. وإذا قال : (الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] نفى التعطيل لأن طالب المستقيم هو الأقرب ، والمشرك يعبد الأصنام ، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة ، فإذا قال فيها : أشهد أن لا إله إلا الله فقد نفى الإشراك ، والتعطيل. ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها سبب للانتهاء عنهما ، لأنها مناجاة الله

٢١٨

تعالى فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته وإعراض كلي عن معاصيه. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ذكر الله إياكم بالمغفرة والثواب أكبر من ذكركم إياه بالصلاة. وقيل : ذكركم الله بسائر أنواعه أفضل من الطاعات التي ليس فيها ذكر الله. وقيل : المراد بالذكر نفس الصلاة أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥) من الذكر ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة ، (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تخاصموا اليهود والنصارى إلا بالأحسن أي بعدم استخفاف آرائهم ، وبعدم نسبة آبائهم إلى الضلال لأنهم جاءوا بكل حسن غير الاعتراف بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم آمنوا بإنزال بالكتب وإرسال الرسل ، وبالحشر ، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله وبالقول بثالث ثلاثة ، فتجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم. فاللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من التوراة والإنجيل.

روي أنه كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية»(١) وفي رواية : «وقولوا : آمنا بالله وبكتبه وبرسله. فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم» (٢). (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له في الألوهية ، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦) أي مطيعون لا لغيره (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي كما أنزلنا سائر الكتب على من تقدمك أنزلنا عليك القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم الأنبياء (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن ، (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من أهل الكتاب ـ كعبد الله بن سلام وأصحابه ـ (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي بالقرآن الذي ظهرت دلالته على المعاني ، وعلى كونه من عند الله تعالى (إِلَّا الْكافِرُونَ) (٤٧) ـ ككعب بن الأشرف وأصحابه ، وأبي جهل وأصحابه ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي وما كنت يا أشرف الخلق تقرأ كتابا قبل إنزالنا القرآن إليك ، ولا تكتب الكتاب بيدك. والأصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يحسن الخط والشعر ، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه ، (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) أي لو كنت قارئا أو كاتبا لشك اليهود والنصارى ، لأن في كتابهم أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب. (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل القرآن آيات واضحات ثابتة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن ،

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٥١) ، والسيوطي في جمع الجوامع (١٠٣٠٧).

(٢) رواه ابن حبان في المجروحين (١ : ٣٣) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٣ : ١١٣٣).

٢١٩

فليس مما يشك فيه لكونه محفوظا من غير أن يلتقط من كتاب بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب ، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف. والمعنى : إن المؤمنين يقرءون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيا منك ، وبعضهم من بعض وأنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤٩) أي المتجاوزون للحدود في الشر من اليهود والنصارى ، والمشركين. (وَقالُوا) أي الظالمون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هلا أنزل على محمد آيات ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى عليهم‌السلام.

وقرأ نافع وأبو عمر ، وابن عامر ، وحفص «آيات» بالجمع. والباقون بالإفراد (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها أو لا ينزلها فلا تتعلق بي (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠) أي لست إلا رسولا مخوفا لأهل المعصية بالنار بلغة تعلمونها ، وليس لي عليه تعالى حكم بشيء (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) الدال على نبوتك (يُتْلى عَلَيْهِمْ) في كل زمان ومكان ، فهو معجزة ظاهرة باقية أتم من كل معجزة ، وقد وصل إلى المشرق والمغرب ، وسمعه كل أحد بخلاف قلب العصا ثعبانا فإنه لم يبق لنا منه أثر ، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الكتاب ، (لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١) أي فإن الكتاب رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق ، فإن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله فلو لم يظهر الكتاب لبقي الخلق في ورطة تكذيب الصادق ، أو تصديق الكاذب ، لأنه لو لم تكن هذه المعجزة لزم أن لا يتميز النبي عن المتنبي وبهذا الكتاب يتذكر كل من يكون من المؤمنين ما بقي الزمان (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بأني رسلوه.

روي أن كعب بن الأشرف وغيره ، قالوا : يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله. فنزلت هذه الآية. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأمور التي منها شأني وشأنكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) ، وهو ما سوى الله ، (وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٢) لأنهم ضيعوا الأدلة السمعية الموجبة للإيمان. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) على طريقة الاستهزاء بقولهم : متى هذا الوعد؟ ونحو ذلك. نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين. (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) لوقت عذابهم (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) وقت استعجالهم (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فإتيان العذاب بغتة حكمة ، لأنه لو كان وقته معلوما عندهم لكان كل أحد يعتمد على علمه بوقته فيفجر معتمدا على التوبة قبل الموت ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٣) بإتيانه ، ويظنون أنه لا يأتيهم أصلا. (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٥٤) ، أي يستعجلونك بالعذاب في الدنيا ، والحال أن العذاب سيحيط بهم يوم يأتيهم ، (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي يوم يلحقهم العذاب من جميع جهاتهم ، فنار جهنم تنزل من فوق

٢٢٠