مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «الريح» بالإفراد. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «نشرا» بضم النون والشين ، وابن عامر بضم النون وسكون الشين ، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين أي تجمع السحاب. وقرأ عاصم بالموحدة المضمومة وبسكون الشين أي طيبة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ أي ليس مع الله إله فعل ذلك (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣). أي تنزه الله عن وجود ما يشركونه بالله تعالى بعنوان كونه إلها. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي بل من يبتدئ الخلق من النطفة ، ثم يعيده بعد الموت بالبعث و «أم» في الجمل الخمس انتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام بجهة من الجهات (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)؟ أي بأسباب سماوية وأرضية كالمطر والحر والبرد والنبات ، والمعادن والحيوان (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ أي إله آخر موجود مع الله حق يجعل شريكا له في العبادة. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي قل يا أشرف الخلق للمشركين : هاتوا برهانكم عقليا أو نقليا يدل على أن معه إلها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤) في دعواكم أن مع الله آلهة شتى. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمشركين الذين سألوك عن وقت قيام الساعة : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). فـ «من» في محل نصب مفعول ، والغيب بدل منها ، و «الله» فاعل ، أي لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى ، وإن جعل «من» فاعلا لـ «يعلم» و «الغيب» مفعوله كان اسم الجلالة مبتدأ خبره محذوف والاستثناء منقطع ، أي لا يعلم الذي ثبت في السموات والأرض ـ وهم الملائكة والإنس الغائب ـ كوقت الساعة ونزول العذاب لكن الله يعلمه.

قال بعضهم : وللغيب خمس مراتب.

أحدها : غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء ، وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين : الأول : ما غاب في الأرض الصورية وسمائها ، فالغائب في الأرض مثل غيبة شخص عنك ، أو غيبة أمر من الأمور فلك إمكان إحضار الشخص ، والاطلاع على ذلك الأمر. والغائب في السماء مثل علم النجوم والهيئة ، فلك إمكان تحصيله بالتعلم. والثاني : ما غاب في أرض المعنى وهي أرض النفس ، فإن فيها مخبآت من الأوصاف والأخلاق فلك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة ، والرياضة ، والذكر ، والفكر. وما غاب في سماء القلب فإن فيها مخبآت من العلوم والحكم والمعاني فلك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس في مقامات القلب.

وثانيها : غيب أهل الأرض في الأرض والسماء وليس للإنسان إمكان الوصول إليه بإرادة الله تعالى كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

وثالثها : غيب أهل السماء في السماء والأرض وليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعظيم الله تعالى مثل الأسماء فإن الله تعالى كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة ، وذلك بتعليمه علم الأسماء كلها.

١٨١

ورابعها : سبيل غيب لا سبيل لأهل السموات والأرض إلى علمه إلا من ارتضى له الله تعالى كما قال تعالى : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] وبهذا يستدل على فضيلة الرسل على الملائكة ، لأن الله تعالى اختصهم بإظهاره تعالى إياهم على غيبه دون الملائكة ، ولهذا أسجدهم لآدم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم فتجلى فيه».

وخامسها : غيب انفرد الله بعلمه وهو قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله تعالى كما قال تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٦٥) أي متى ينشرون من القبور. وقرئ بكسر الهمزة. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ). وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بل أدرك» بسكون اللام وفتح الهمزة وسكون الدال على وزن «أكرم». والباقون بكسر اللام ووصل الهمزة وتشديد الدال وبعدها ألف ، وأصله «تدارك» وبه قرأ أبيّ.

قال ابن عباس : أي بل اجتمع علمهم على أن الآخرة لا تكون ، أي فلم يعتقدوها (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي من نفس الآخرة كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا ، (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) أي لا يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم والله تعالى وصف المشركين أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم وصفهم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ثم وصفهم بأنهم يخبطون في شك ، ثم وصفهم بأن قلوبهم عمي فهم كالبهائم لا يخطرون ببالهم حقا ولا باطلا ويستقر همهم على البطون والفروج. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) أي أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا رميما ترابا؟ (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل مجيء وعد محمد (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨)! أي ما هذا الذي تعدنا يا محمد إلا أحاديث الأولين التي لا حقيقة لها. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها أيها الجاهلون ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦٩) أي كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث ، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر ، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي ، لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يا أكرم الرسل فيما مضى لإصرارهم على الكفر. (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠) أي ولا تكن في ضيق قلب من مكرهم في المستقبل.

وقرأ ابن كثير بكسر الضاد. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي العذاب الموعود (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٧١) في إخباركم بمجيء العذاب؟ (قُلْ) لهم يا سيد الرسل : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢) فـ «عسى ولعل ، وسوف» بمنزلة الجزم في مواعيد الملوك ، أي لا بد أن يكون بعض الذي تستعجلونه حلوله لحقكم ، وهو عذاب يوم بدر واللام مزيدة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي إنه متفضل عليهم بتأخير عقوبتهم على ما يفعلونه من المعاصي (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٧٣) بتأخير العذاب لأنهم لا يعرفون حق النعمة فيه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ

١٨٢

صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم عليه تعالى. وقرأ ابن محيصن وابن السميقع ، وحميد «تكن» بفتح التاء وضم الكاف ، (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٤) من الأفعال والأقوال (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) الذي تقرأ عليهم يا سيد الرسل (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يبين لليهود والنصارى (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦) ـ كالتشبيه والتنزيه وشأن عزير والمسيح ـ (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَهُدىً) من الضلالة ، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) ، وذلك لأن بعض الناس لما تأمل القرآن فوجد فيه من الدلائل العقلية على التوحيد ، والنبوة ، والحشر ، وبيان نعوت جلال الله تعالى. ووجد ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول ، ووجده مبرأ عن التناقض ، ووجد القوى البشرية عاجزة عن جمع كتاب على هذا الوجه علم أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزا من هذه الجهة ، وكان هدى ورحمة من هذه الجهات. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين اليهود والنصارى ، أي بين المصيب والمخطئ منهم (بِحُكْمِهِ) أي بالحق لأنه تعالى لا يحكم إلا بالعدل ، أو بحكمته كما يدل عليه قراءة من قرأ «بحكمه» بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٧٨) أي هو القادر الذي لا يمنع فلا يرد حكمه ، العالم بالحكم فلا يكون إلا الحق. (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ثق بالله الذي هذه أوصافه فإنها توجب على كل أحد أن يفوض جميع أموره إليه (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩) أي الدين الظاهر ، فالمحق حقيق بنصرة الله تعالى ، ثم قطع الله تعالى طمع سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بني إسرائيل بتبيين أحوالهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء من الدلائل ، فإن قطع الطمع عنهم يقوي القلب على إظهار المخالفة وعلى إظهار الدين كما ينبغي فقال : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٨٠) أي إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت لا سبيل إلى إسماعه ، وكالأصم الذي لا يسمع برفع الصوت ولا يفهم بالإشارة. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى ، وأعمى قلبه عن الإيمان.

وقرأ ابن كثير «ولا يسمع الصم» بالتحتية وفتحها وبفتح الميم ورفع «الصم». وقرأ حمزة «تهدي العمي» بالمضارع المفيد للخطاب وبنصب «العمي» (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١) أي ما تسمع سماعا يجدي السامع إلا من هو في علم الله أنهم يصدقون بالقرآن ، لأنهم منقادون للحق (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وإذا ثبت نزول العذاب على الكفار وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وهو يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) من جبل الصفا بمكة ـ وهي فصيل ناقة صالح عليه‌السلام ـ فإنه لما عقرت أمه هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ، ثم انطبق عليه الحجر فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان. وعن علي رضي‌الله‌عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا

١٨٣

يخرج كل يوم إلا ثلثها. وعن الحسن رضي‌الله‌عنه : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام وفي الحديث : «إن طولها ستون ذراعا بذراع آدم عليه‌السلام لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب». (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢).

قرأ الكوفيون بفتح أن بتقدير الباء ، كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود بـ «أن» بتصريح الباء أي تحدثهم بأن الناس كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها. وقرأ أبيّ «تنبئهم» ، وإضافة الآيات إلى نون العظمة ، لأنها حكاية من الله تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها. وقرأ الباقون بكسر «إن» على الاستئناف ، فعلى هذا فالوقف على تكلمهم تام وعليه أيضا يجوز أن يكون بمعنى تجرحهم مع إفادة معنى التكثير ويدل عليه قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن زرعة ، والجحدري «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام. والمراد بالجرح : الوسم بالعصا والخاتم.

روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه‌السلام فتنكت نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر ، ثم تقول لهم : أنت يا فلان من أهل الجنة ، وأنت يا فلان من أهل النار. (وَيَوْمَ نَحْشُرُ) للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٨٣) أي واذكر لهم وقت جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة ، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة ، (حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف السؤال والجواب (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً)؟ أي قال الله تعالى موبخا لهم على التكذيب : أكذبتم بآياتي الناطقة بلقاء يومكم هذا بادئ الرأي ، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقتها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤)؟ أي بل أيّ شيء كنتم تعملون في الكفر؟ والمعنى : لم يكن لكم عمل غير الكفر. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي نزل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب تكذيبهم بآيات الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (٨٥) بحجة واعتذار (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)؟ أي ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا أنا جعلنا الليل مظلما ليستريحوا فيه بالقرار والنوم والنهار مضيئا ليطلبوا فيه معايشهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في جعل الليل والنهار كما ذكر (لَآياتٍ) أي دلالات ظاهرة على التوحيد والبعث والنبوة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦) أما وجه دلالته على التوحيد ، فلأن التقلب من النور إلى الظلمة وعكسه لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية ، وأما وجه دلالته على الحشر ، فلأنه لما ثبت قدرة القادر على هذا التقليب ثبت قدرته على التقليب من الحياة إلى الموت مرة ، ومن الموت إلى الحياة مرة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأن هذا

١٨٤

التقليب لمنافع الخلق وأن في بعثة الأنبياء إلى الخلق منافع عظيمة فقد ثبت أن هذه الكلمة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، أي واذكر لهم وقت نفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية ، فإذا سمع الخلق شدة صوت ذلك النفخ بحيث لا تتحمله طبائعهم يفزعون عنده ويموت كل من كان حيا ذلك الوقت لم يسبق له موت أو كان ميتا ، لكنه حي في قبره كالأنبياء والشهداء. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع.

قيل : هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش ، فإنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم. وقيل : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام. وقيل : الحور وخزنة النار وحملة العرش. وقيل : منهم موسى عليه‌السلام لأنه صعق مرة. وقال القشيري : والأنبياء داخلون في الشهداء لأن لهم الشهادة. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧) أي كل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروا الموقف للسؤال والجواب ، والحساب ذليلين مطيعين.

وقرأ حفص وحمزة «أتوه» بصيغة الفعل الماضي وهو بقصر الهمزة وفتح التاء. والباقون بصيغة اسم الفاعل فهو بمد الهمزة وضم التاء. وقرئ «أتاه» باعتباره لفظ كل. (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وتبصر الجبال وقت النفخة تظنها ثابتة في أماكنها. والحال أنها تمرمر السحاب التي تسيّرها الرياح سيرا سريعا ، فسير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي صنع الله الذي أحسن خلقه ، وأتى به على الحكمة ذلك النفخ في الصور وما تفرغ منه من الأمور صنعا و «صنع» منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام وحضور الكل الموقف وما فعل بالجبال ، إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨) أي إنه تعالى عالم بما يعمله أهل السعادة والشقاوة من الخير والشر.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالفوقية على الخطاب (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء يوم القيامة بكلمة الشهادة فله من الجزاء ما هو خير منها ، باعتبار أن الثواب دائم ، وأنه من فعل الله ، وأنه حاصل من جهة الله تعالى ، فإن المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا جزاؤها المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ، ولذة النطر إلى وجه الله تعالى (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٨٩).

وقرأ الكوفيون «فزع» بالتنوين فحينئذ كان «يومئذ» ظرفا لـ «آمنون» ، أو المحذوف هو صفة لـ «فزع» أي والذين جاءوا بالحسنات آمنون من فزع كائن ، يوم إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة ، وعلى هذا فالفزع على نوعين فزع من خوف العقاب ، وفزع شديد مفرط الشدة لخوف النار أما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد. وقرأ الباقون بإضافة «فزع» ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح الميم من «يومئذ» وهو فتحة بناء لإضافة «يوم» المبني.

١٨٥

والباقون بكسرها وهو كسرة إعراب. وهذا يقتضي الأمن جميع فزع ذلك اليوم. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالشرك بالله (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا في النار على وجوههم ، وتقول لهم خزنة جهنم وقت كبهم على وجوههم في النار : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)؟ أي ما تجزون الآن إلا جزاء أعمالكم من الشرك والمعاصي في الدنيا ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لأهل مكة تنبيها لهم على أنه قد أتم أمر الدعوة : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) وهي مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما لا يسفك فيها دم إنسان ، ولا يصاد صيدها ، ولا يقطع حشيشها الرطب.

قرأ الجمهور «الذي» صفة لـ «رب».

وقرأ ابن عباس وابن مسعود «التي» صفة لـ «البلدة» (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وتصرفا من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١) أي بأن أثبت على ملة الإسلام ، وبأن أكون من المنقادين لها. وهذا إشارة إلى أن المسلم الحقيقي من يستعمل الشريعة مثل استعمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي أمرت أن أقرأ عليكم القرآن بطريق تكرير الدعوة ، وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه ، (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اهتذى باتباعه إياي في العبادة والإسلام ، وتلاوة القرآن فإنما منافع اهتدائه راجعة إليه لا إلي ، (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢) ، أي ومن ضل بمخالفتي فيما ذكر فقل في حقه : إنما أنا من المنذرين فلا علي شيء من وبال ضلاله. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة. وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي سيريكم الله تعالى في الدنيا آياته الباهرة ـ كخروج الدابة وسائر أشراط الساعة ـ (فَتَعْرِفُونَها) أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣).

وقرأ نافع وابن عامر ، وحفص بالتاء على الخطاب أي وما ربك بغافل عما تعلم أنت من الحسنات ، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله. والباقون بالياء على الغيبة أن وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم المسببة للعذاب.

١٨٦

سورة القصص

وتسمى أيضا سورة موسى ، مكية ، وقيل : إلا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ

الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) فإنها نزلت بالجحفة ـ بين مكة والمدينة ، ثمان وثمانون

آية ، ألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، خمسة آلاف وثمانمائة حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) أي إن آيات هذه السورة آيات الكتاب الذي بيّن بفصاحته أنه من كلام الله ، وبيّن صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيّن خبر الأولين والآخرين وبيّن كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) ، أي نقرأ عليك بواسطة جبريل بعض خبر موسى وفرعون ملتبسا بالحق لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن ، فإنهم المنتفعون به. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي تجبّر في مملكته أرض مصر ، (وَجَعَلَ أَهْلَها) أي أهل مملكته (شِيَعاً) أي أصنافا في استخدامه ، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل.

قال ابن عباس : إن بني إسرائيل لمّا كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا المعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) كثيرا صغارا. وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه‌السلام بشروا بمجيئه عليه‌السلام ، وفرعون كان قد سمع ذلك ، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة. وهذا الوجه أولى بالقبول. قال وهب : قتل القبط في طلب موسى عليه‌السلام تسعين ألفا من بني إسرائيل. قوله : (يَسْتَضْعِفُ) حال من فاعل «علا» أو خبر ثان لأن «أو» بدل اشتمال من «علا». وقوله : (يُذَبِّحُ) بدل اشتمال من «يستضعف». (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) قيل : أي يستخدمهن كبارا (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) في كفره بدعائه إلى غير عبادة الله وقتل خلق كثير من أولاد الأنبياء (وَنُرِيدُ) بإرسال موسى (أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ، أي أن نتفضل على من قهروا في أرض مصر ـ وهم بنو إسرائيل ـ بإنجائهم من بأس

١٨٧

فرعون. وقوله تعالى : (وَنُرِيدُ) إلخ معطوف على قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) إلخ لأنهما وقعا تفسيرين لنبأ موسى وفرعون أو حال من «طائفة» بتقدير المبتدأ ، أي ونحن نريد (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة إلى الخير متقدمين في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين لآخرين ، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) لملك فرعون وأرضه وما في يده ، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ننفذ أمرهم في أرض مصر والشام يتصرفون فيها ما يشاءون ، (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦) أي ونري ، رؤية بصرية ، فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من المستضعفين من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل.

وقرأ حمزة والكسائي «ويرى» بالياء المفتوحة وبفتح الراء مع الإمالة ورفع ما بعده. (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي ألهمنا أم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب أن أرضعي هذا الصبي ، (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي اشتد خوفك عليه من الذبح بأن يفطن بن جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي بحر النيل (وَلا تَخافِي) من هلاكه بالغرق ونحوه. (وَلا تَحْزَنِي) بسبب فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) من قريب لتكوني أنت المرتضعة له (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) إلى أهل مصر والشام.

قال ابن عباس : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى ـ قابلة وكانت مصافية لأم موسى ـ وقالت لها : لينفعني اليوم حبك إياي ، فجلست القابلة تعالجها ، فلما نزل موسى إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها فقالت : يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حبا شديدا ، فاحفظي ابنك ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحارس بالباب فلفته بخرقة ووضعته في تنور مسجور ، فطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع ، فدخل ، فإذا التنور مسجور ، ورأى أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقال : لم دخلت القابلة عليك؟! قالت : إنها حبيبة لي دخلت للزيارة ، فخرج من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : أين الصبي؟ قالت : لا أدري! فسمعت بكاء في التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما ، فأخذته ، ثم إن أم موسى عليه‌السلام لما رأت جد فرعون في طلب الولد خافت على ابنها ، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتا ، ثم تقذف التابوت في النيل ، فذهبت إلى نجار من قوم فرعون ، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها : ما تصنعين به؟ فقالت : لي ابن أخبؤه فيه ، فلما انصرفت ذهب النجار إلى الذباحين ليخبرهم بذلك ، فلما جاءهم ، أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده ، فضربوه وطردوه ، فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم ، فأخذ الله لسانه وبصره فجعل لله تعالى إنه إن رد عليه بصره ولسانه لا يدلهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق ، فرد الله عليه ذلك وانطلقت أم موسى وألقته في

١٨٨

النيل ، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها ، فقالوا : أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها ، فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة ، فقال فرعون : ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب ، فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها ، فعالجته ، ففتحته ، فإذا هي بصبي صغير ، وإذا نور بين عينيه ، فألقى الله محبته في قلوب آسية وفرعون ، فأخرجوه من التابوت وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت في الحال ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقالت الغواة من قوم فرعون : أيها الملك ، إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك ، فهمّ فرعون بقتله ، فاستوهبته آسية من فرعون ، فوهبه لها ، فترك قتله ، وتبنته فقيل لآسية : سميه فقالت : سميته موشى بالشين المعجمة لأنا وجدناه في الماء والشجر فإن معنى مو ماء ومعنى شا شجر فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة وذلك قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي أخذت موسى جواري فرعون من بين الماء والشجر يوم الإثنين ، وذهبن به إلى امرأة فرعون (لِيَكُونَ) أي موسى (لَهُمْ عَدُوًّا) من بعد ما يجيء إليهم بالرسالة (وَحَزَناً) بذهاب ملكهم.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزي. والباقون بفتحهما. (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) فيما كانوا عليه من الكفر والظلم ، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم. وقال الحسن : معنى «كانوا خاطئين» أي كانوا لا يشعرون أن موسى هو الذي يذهب بمكلهم. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) وهي آسية ـ لفرعون حين أخرجته من التابوت وهمّ فرعون بقتله لقول الغواة : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) أي هذا الغلام قرة عين لي ولك يا فرعون.

قال ابن عباس : لما قالت آسية ذلك قال فرعون : يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. قال ابن إسحاق : إن الله تعالى ألقى محبته عليه‌السلام في قلبه لأنه كان في وجهه ملاحة فكل من رآه أحبه ، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور ، ولأنها لما فتحته رأته يمتص إصبعه ، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال. (لا تَقْتُلُوهُ) خاطبته بلفظ الجمع تعظيما لأجل أن يعاونها فيما تريده (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فنصيب منه خيرا لو كان له أبوان معروفان (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، إذا لم يعرف له أبوان وكانت آسية لا تلد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩). وهذا ابتداء كلام من الله تعالى أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم في يده وبسببه. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل.

١٨٩

وقال ابن عباس : أي هم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه‌السلام. وقال آخرون : هذا من تمام كلام امرأة فرعون ، أي بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه وأنه ليس منا. (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) ، أي وصار قلب يوحانذ صفرا من العقل لفرط الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون. وقيل : أي خاليا من الحزن لغاية وثوقها بوعد الله تعالى أو لسماعها أن فرعون تبناه ، (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي إنها كادت لتظهر بأمر موسى من فرط الدهشة أو من شدة الفرح بتبني امرأة فرعون. وقال ابن عباس : كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني بعد أن نسب إلى فرعون ، وقال أيضا في رواية عكرمة كادت تقول : وا ابناه من شدة حزنها عليه حين رأت الموج يرفع ويضع.

وقال الكلبي : ذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شب أنه ابن فرعون (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي لولا حفظنا قلبها بإلهام الصبر لأبدت قصة موسى ، (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠) أي من المصدقين بوعد الله تعالى برده إليها بأن يكون من المرسلين ، أو من الواثقين بحفظ الله تعالى لا بتبني امرأة فرعون وتعطفها (وَقالَتْ) أم موسى (لِأُخْتِهِ) الشقيقة مريم ـ وقال الضحاك : اسمها كلثمة. وقال السهيلي : اسمها كلثوم ـ : (قُصِّيهِ) أي فتشي خبره وانظري إلى أين وقع ، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي فأبصرت مريم ذلك الغلام كائنة من مكان بعيد اختفاء عن الناس (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١١) بغرضها وبأنها أخت موسى. (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ) أي منعناه أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه.

قال الضحاك : كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها.

وروي أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا وهو يصبح ، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له وقربها منه هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ (فَقالَتْ) ، أي أخت موسى لآل فرعون ـ عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات ـ (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يضمنون رضاعه يقومون بجميع مصالحه لأجلكم (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢) أي وهم لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه ، ولا يخونكم فيه.

قال السدي : لما قالت مريم ذلك أخذوها وقالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت : ما أعرفه! وقالت : إنما أردت أنهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك. وقيل : قالوا لها : من هم؟ قالت أمي. قالوا : أو لأمك ابن؟ قالت : نعم هارون. قالوا : صدقت ، فأتينا بها فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها ، وجعل يمصه حتى امتلأت جنباه ريا. فقالوا : أقيمي عندنا ، فقالت : لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت عدم الرغبة فيه نفيا للتهمة ، فرضوا بذلك ، فرجعت به إلى بيتها.

١٩٠

قال الضحاك : لما قبل ثديها قال هامان : إنك لأمه! قالت : لا ، قال : فما حالك قبل ثديك من بين النسوة! قالت : أيها الملك ، إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي. قالوا : صدقت ، لم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر. (فَرَدَدْناهُ) أي موسى (إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تطيب نفسها بوصول موسى إليها وتربيتها له في بيتها ، (وَلا تَحْزَنَ) على موسى بفراقه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ) في رده إليها وجعله من المرسلين (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) ، أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق لا خلف فيه بمشاهدة بعضه ، وقياس بعضه عليه ، فهذا هو الغرض الديني وما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع ، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته ، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار ، فأتت به فرعون واستمر عنده يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل ، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي كمال قوته الجسمانية (وَاسْتَوى) أي تكامل عقله (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي أعطيناه علم الحكماء والعلماء ، (وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الذي أعطينا موسى من الحكم والعلم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٤) أي الصالحين بالعلم والحكمة ، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي ودخل موسى مدينة منف في وقت اشتغال أهلها عند نصف النهار.

ومنف : بفتح الميم وسكون النون أصلها مآفة ، ومعناها بلغة القبط ثلاثون ، لأنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان نزلها مصر بن حام في ثلاثين رجلا فسميت مافت ، ثم عربت منف. قيل : إن موسى عليه‌السلام لما بلغ أشده وآتاه الله العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق ، وعاب دينهم ، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن خافوه ، وخافهم. وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به ، ويسمعون منه ، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفا ، فدخلها يوما وقت كونهم قائلين (فَوَجَدَ فِيها) أي المدينة (رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يلازمان مقدمات القتل من الضرب والخنق (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن تابع موسى على دينه وهم بنو إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي ممن خالف موسى في دينه ـ وهم القبط ـ فالقبطي : الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه واسمه : فليثون أوفاتون : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على القبطي وأن يخلصه منه ، (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفعه بأطراف الأصابع. وقيل : بقبضها.

وقرأ ابن مسعود فلكزه موسى وقال بعضهم الوكز : في الصدر ، واللكز : في الظهر. (فَقَضى عَلَيْهِ) أي أنهى موسى حياة القبطي وخفي هذا على الناس فلم يعرف به أحد لما هم فيه من الغفلة فندم موسى عليه‌السلام عليه فدفنه في الرمل (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي هذا القتل من عمل الشيطان لأني لم أومر به أو هذا المقتول من جند الشيطان (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥) أي

١٩١

ظاهر العداوة والإضلال (قالَ) مناجيا مع الله تعالى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتل القبطي من غير أمر ، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به (فَاغْفِرْ لِي) أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون (فَغَفَرَ لَهُ) أي فستره عن الوصول إلى فرعون (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) أي المبالغ في ستر ذنوب عباده وفي رحمتهم (قالَ) موسى : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧) أي أقسم بإنعامك علي بالقوة والمعرفة فلن أكون معينا لأحد من المشركين ، بل أكون معاونا للمسلمين أي إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين ، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. قال الفراء : وفي قراءة عبد الله فلا تجعلني ظهيرا للمجرمين (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي فصار موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب بذلك القتل يترقب أي ينتظر نصرة الله إياه ، (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) أي فإذا الإسرائيلي الذي استعان بموسى على القبطي (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يطلب من موسى نصرته بصياح على قبطي آخر يريد أن يستخدم الإسرائيلي (قالَ لَهُ) أي للقبطي : (مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) في تسخير هذا الإسرائيلي (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي فلما أراد موسى أن يأخذ عدوه وعدو الإسرائيلي بسطوة لخلاصة من عدوهما ، لأن القبطي لم يكن على دينهما ، ولأن القبط أعداء بني إسرائيل (قالَ) أي القبطي ، وكان عرف القصة من الإسرائيلي أو كان توهم من زجر موسى للإسرائيلي أنه هو الذي قتل الرجل بالأمس : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) اليوم (كَما قَتَلْتَ نَفْساً) قبطيا (بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أي ما تريد يا موسى إلا أن تفعل ما تريده في أرض مصر من ضرب وقتل ، من غير نظر في العواقب (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) أي المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وانتشر حديث هذه الواقعة في المدينة ، وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله (وَجاءَ رَجُلٌ) هو مؤمن من آل فرعون اسمه : سمعان ، وكان ابن عم فرعون (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي من آخرها (يَسْعى) أي يسرع في مشيه (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) أي أولياء المقتول (يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلوك (فَاخْرُجْ) من هذه المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) أي المشفقين (فَخَرَجَ) موسى عليه‌السلام (مِنْها) أي المدينة (خائِفاً) على نفسه من آل فرعون (يَتَرَقَّبُ) أي ينتظر لحوق الطالبين ويكثر الالتفات وينظر هل يلحقه أحد يطلبه (قالَ) عند ذلك (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١) أي خلصني منهم واحفظي من لحوقهم. وهذا يدل على أن قتله عليه‌السلام لذلك القبطي لم يكن ذنبا (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي لما قصد الذهاب إلى مدين لأنها ليست تحت ملك فرعون ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وهو منهم ولم يكن له علم بالطريق ، بل اعتمد على فضل الله تعالى (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) ، وهي من إضافة الصفة للموصوف

١٩٢

أي الطريق الوسط ، وكان لمدين ثلاث طرق ، فأخذ موسى الطريق الوسطي ، وأخذ الطلاب الآخريين.

وقال ابن إسحاق : خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد ولا مركوب وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي لما وصل إلى بئر مدين (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي فوق شفيرها (أُمَّةً) أي جماعة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) مواشيهم وكانوا أربعين رجلا (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تحبسان غنمهما عن الماء من ضعفهما حتى يفرغ القوم.

وقال ابن إسحاق اسم الكبرى صفوراء والصغرى ليا. (قالَ) موسى لهما : (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما؟ (قالَتا لا نَسْقِي) أي لا نقدر أن نسقي غنمنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ).

قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال ، أي حتى يرجعوا من سقيهم. والباقون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (٢٣) لا يستطيع أن يسقي ، وليس له أحد يعينه غيرنا ، (فَسَقى لَهُما) أي فسقى موسى غنمهما لأجلهما. قيل : عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة لا يرفعها إلا عشرة رجال فنحاها بنفسه ، واستقى الماء من ذلك البئر (ثُمَّ تَوَلَّى) أي انصرف موسى (إِلَى الظِّلِ) أي ظل سمرة فجلس فيه ليستريح من حر الشمس ، وهو جائع لم يذق طعاما في سبعة أيام (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤) أي رب إني بسبب ما أنزلت إلي خير الدين ، صرت فقيرا في الدنيا وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة ، فقال ذلك رضا بهذا البدل وفرحا به ، وشكرا له.

روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا ، رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ـ وهي الكبرى عند الأكثرين ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) واسمها صفوراء (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مائلة عن الرجال رافعة كمها على وجهها (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) مواشينا.

روي أن موسى عليه‌السلام أجابها ، فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه‌السلام. (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء موسى شعيبا (وَقَصَ) موسى (عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي فراره من فرعون. (قالَ) شعيب له : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥) من أهل مصر فإن فرعون لا سلطان له في أرضنا.

قال الضحاك : لما دخل على شعيب قال له : من أنت يا عبد الله؟ فقال : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب. وذكر له جميع أمره من لدن ولادته ، وأمر

١٩٣

القوابل والمراضع والقذف في اليم ، وقتل القبطي ، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. فقال شعيب : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، أي لأنا لسنا في مملكة فرعون.

وروي أن موسى لما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع ، فقال شعيب : تناول يا فتى فقال موسى عليه‌السلام : أعوذ بالله. قال شعيب : ولم ذلك؟ قال : لأنا من أهل البيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف عوضا. فقال شعيب : عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف ، فجلس موسى فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله. (قالَتْ إِحْداهُما) ـ وهي التي دعته إلى أبيها ، وهي التي تزوجها موسى ـ (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) اتخذه أجيرا لرعي أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦).

روي أن شعيبا أخذته الغيرة فقال : وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فذكرت ما شاهدته منه عليه‌السلام من كيفية السقي ورفع الصخرة من فم البئر ، ومن غض بصره حال ذودهما الماشية ، وحال سقيه لهما ، وحال مشيه أمامها إلى أبيها. (قالَ) أي شعيب لموسى عند ذلك : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) أي الحاضرتين (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي مشروطا على أن تأجرني نفسك في رعي غنمي ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) من السنين في العمل (فَمِنْ عِنْدِكَ) أي فالتمام من عندك بطريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام عليك ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام أتم الأجلين ، ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي بل أساهلك فيها بقدر الإمكان ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) في حسن المعاملة وغيره ، وإنما قال شعيب : إن شاء الله ، للتبرك ولتفويض أمره إلى معونته تعالى ، لا لتعليق صالحه بمشيته تعالى. (قالَ) موسى : (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذلك الشرط ثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا ، (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي أيّ أحد الوقتين وفيتكه بأداء الخدمة فيه فلا إثم علي فكما لا إثم علي في قضاء الأكثر لا إثم علي في قضاء الأقصر فقط. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) من الشرط الجاري بيننا (وَكِيلٌ) (٢٨) ، أي شاهد ، ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه وفي بعض الأخبار أن موسى لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغدو أراد الرعي ، قال له شعيب عليه‌السلام : اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق ، فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك ، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنينا عظيما فأخشى عليك وعلى الأغنام منه ، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر ، فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا ، ثم إن موسى عليه‌السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى ، فقاتلته حتى قتلته ، وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى ، رأى العصا دامية والتنين مقتولا فارتاح لذلك ، وعلم أن لله تعالى في تلك العصا آية ، وعاد إلى شعيب وكان ضريرا فمس الأغنام ، فإذا هي أحسن حالا مما

١٩٤

كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصة ، ففرح بذلك وعلم أن لموسى وعصاه شأنا ، فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال : إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء التي تسقي الغنم منه ، ففعل ، ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه ، (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي أتمه (وَسارَ) نحو مصر لصلة رحمه ، وزيارة أمه وأخيه (بِأَهْلِهِ) أي بزوجته وابنه منها والخادم بإذن من شعيب عليه‌السلام ، (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أي رأى من جهة جبل الطور عن يسار الطريق نارا ولما عزم على السير.

قال لزوجته : اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي انزلوا هاهنا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً).

وقرأ حمزة «لأهله» في الوصل بضم الهاء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي من عند النار بخبر الطريق ، وقد كان موسى تحيّر في الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ) أي عود غليظ (مِنَ النَّارِ). وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها. والباقون بالكسر (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٩) أي لكي تدفئوا بها.

روي أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة ، فرقت ماشيته وأصابهم مطر ، فوجدوا بردا شديدا ، فعند ذلك أبصرنا بعيدة ، فسار إليها يطلب من يد له على الطريق (فَلَمَّا أَتاها) أي النار التي أبصرها ، (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي أتاه النداء من الشاطئ الأيمن بالنسبة إلى موسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) فإنه حصل لموسى عليه‌السلام في تلك البقعة ابتداء الرسالة ، وتكليم الله تعالى إياه والجار والمجرور متعلق بـ «نودي» (مِنَ الشَّجَرَةِ) أي من جهة الشجرة ، وهي شجرة عناب أو شوك. وهذا بدل اشتمال من شاطئ (أَنْ يا مُوسى) فـ «أن» مفسرة (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) والعامة على كسر همزة إني على تضمين النداء معنى القول. وقرئ بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر تقديره أي يا موسى اعلم أني أنا الله ، (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) من يدك. وهذا معطوف على «أن يا موسى» مفسر أيضا لـ «نودي» ، فألقاها فصارت ثعبانا ، فتحركت رافعة رأسها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) أي شبيهة بالحية الصغيرة في سرعة حركتها مع غاية عظم جئتها ولم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعت حتى إن موسى سمع صرير أسنانها ، وقعقعة الشجر ، والصخر في جوفها (وَلَّى مُدْبِراً) هاربا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع ، ولم يلتفت إليها قال الله : (يا مُوسى أَقْبِلْ) إليها (وَلا تَخَفْ) منها (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (٣١) من شرها ، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت قال الله له : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي أدخل كفك اليمين في طوق قميصك وأخرجها (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها ضوء كضوء

١٩٥

الشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي عيب (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي أدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك ، فتعود إلى حالتها ، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك. وقيل : من أجل الخوف إذا أرهبت بها الناس.

وقال ابن عباس : إن الله تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الخوف عند معاينة الحية ، فمعنى من أجل الرهب ، أي إذا أصابك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك.

وقال مجاهد : وكل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع. (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي فالعصا واليد حجتان نيرتان ، كائنتان من الله تعالى ، واصلتان إلى فرعون وقومه ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢) أي خارجين عن عبودية الله ، فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) ـ هو القبطي ـ (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٣٣) بمقابلتها ، فيفوت المقصود بقتلي (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أي أبين مني كلاما ، (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي معينا.

وقرأ نافع «ردا» بتنوين الدال وحذف الهمزة ، (يُصَدِّقُنِي) أي أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة فربما حصل المقصود من تصديق فرعون. والمراد بتصديق هارون تلخيصه بلسان فصيح وجوه الدلائل. وجوابه عن الشبهات ، ومجادلته الكفار.

وقرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة لـ «ردأ». ويروى عن أبي عمرو أيضا. والباقون بالجزم وهو المشهور عن أبي عمرو (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤) بالرسالة ، لأن لساني لا يطاوعني عند المحاجة بسبب العقدة التي حصلت بسبب الجمرة. (قالَ) الله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي سنقوي ظهرك بهارون ونعين أمرك به. (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي غلبة بالحجة في الحال ، وغلبة في المملكة في ثاني الحال. (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا). فالآية التي هي قلب العصاحية تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما‌السلام ، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة ، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء فصارت مانعة من وصولهم إليهما بالقتل وغيره. (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥) على فرعون وقومه بالبرهان : والدولة. وقوله : (بِآياتِنا) متعلق بـ «لا يصلون» أو بـ «الغالبون» (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) وهي العصا واليد ، ففي كل منهما آيات عديدة (بَيِّناتٍ) أي واضحات الدلالة على صحة رسالة موسى من الله تعالى. (قالُوا ما هذا) أي الذي جئتنا به ، (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر ، أو سحر كذب هو من تلقاء نفسك ، لا إن الذي أظهرته معجزة صادرة من الله تعالى وإنما أنت تفتري على الله تعالى. (وَما سَمِعْنا بِهذا) أي الذي تدعو إليه من التوحيد والذي تدعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعا (فِي آبائِنَا

١٩٦

الْأَوَّلِينَ) (٣٦) وقد كذبوا فإنهم سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه‌السلام. (وَقالَ) لهم (مُوسى) ـ وقرأ ابن كثير بغير واو ـ : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ، أي ربي عالم بمن جاء بالرسالة من عنده ، وبمن تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا وهي أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان ، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فالدنيا خلقت مزرعة للآخرة ومجازا إليها. والمقصود بالذات هو الثواب للمطيعين العابدين فيكون الثواب هو العاقبة الأصلية ولا اعتداد بعاقبة السوء ، لأنها من نتائج أعمال الفجار ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣٧) أي يظفر المشركون بالنجاة والمنافع كما قال القائل من بحر الطويل :

وليتك ترضى والأنام غضاب

 

فليتك تحلو والحياة مريرة

وبيني وبين العالمين

 

وليت الذي بيني وبينك عامر

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) ، بعد ما جمع السحرة لمعارضة موسى فكان من أمرهم ما كان : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي بعد اتخاذه لبنا ولم يقل فرعون. اطبخ لي الآجر لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلم صنعته لهامان. (فَاجْعَلْ لِي) منه (صَرْحاً) أي قصرا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي أنظر إليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي موسى عليه‌السلام (مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) في ادعاء وجود إله غيري فليس في السماء من إله.

واعلم أن عادة فرعون متى ظهرت حجة موسى يدفعها بشبهة يروجها على أغمار قومه ، وهي قوله : لا دليل على وجود إله غيري ، فلا أثبته بل أظن موسى كاذبا في دعواه ، وذلك نفى إله غير نفسه. وقوله : ولا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره ، فهذا هو ادعاؤه الإلهية لا ادعاؤه كونه خالقا للسماء والأرض ، ومن مكر فرعون ودهائه أنه لما دل سيدنا موسى عليه‌السلام فرعون بقوله : رب السموات والأرض أو هم فرعون ببناء أغمار قومه أن موسى قال : إن إلهه في السماء وأمر فرعون وزيره ببناء الصرح. قيل : لما أمر فرعون ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ، ونجر الخشب ، وسبك المسامير ، فبنوا الصرح ورفعوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه راكبا على البراذين ، فأمر بنشابة ، فضرب نحو السماء ، فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال : قد قتلت إله موسى فبعث الله جبريل عليه‌السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه ، فقطعه ثلاث قطع : قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منه ألف رجل ، وقطعة وقعت في البحر ، وقطعة وقعت في المغرب. ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ملتبسين بغير استحقاق ، (وَظَنُّوا) أي فرعون وجموعه القبط (أَنَّهُمْ إِلَيْنا) أي إلى حكمنا (لا يُرْجَعُونَ) (٣٩) بالنشور.

١٩٧

وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم فهو من الرجوع. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم فهو من الرجع (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) عقب ما بلغوا أقصى الغايات في العتو ، وفي هذا استحقار لهم واستقلال لعددهم ، وإن كانوا كبيرا كثيرا وتعظيم لشأن الأخذ فشبههم الله تعالى بحصيات أخذهن آخذ في كفه ، فطرحهن في البحر وذلك قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فألقيناهم في البحر.

قيل : هو بحر يسمى أسافا من وراء مصر ـ حكاه ابن عساكر ـ (فَانْظُرْ) يا أشرف الخلق (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠) أي كيف صار آخر أمر المشركين وبينه لقومك ليعتبروا به. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي رؤساء (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى ما يؤدي إلى النار من الكفر والمعاصي.

وقرأ أبو عمر ونافع وابن كثير «أيمة» ، بإبدال الهمزة الثانية ياء (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١) فلا يمكن التخلص من العقاب الذي سينزل بهم ، لأنهم بلغوا أقصى النهايات في باب المعاصي حتى صاروا قدوة للضلال (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي إبعادا من الرحمة ، ولا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون خلفا عن سلف ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) أي من المطرودين عن الرحمة ومن الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) ، أي حال كون الكتاب أنوارا لقلوب الناس ، فإنه يستبصر به في باب الدين (وَهُدىً) إلى كل خير ، فإن الكتاب يستدل به والمتمسك به يفوز بمطلوبه من الثواب (وَرَحْمَةً) لأن الكتاب من نعم الله تعالى على من تعبد به فكل من عمل به ينال رحمة الله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣) أي ليكونوا على حال يرجى منه التذكر.

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أهلك الله تعالى قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة». (وَما كُنْتَ) يا أفضل الخلق (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي في المكان في شق الغرب من جبل الطور ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه‌السلام الذي رأى فيه النار ، (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي حين أوحينا إلى موسى أمر الرسالة حيث أمرنا بالإتيان إلى فرعون وقومه ، (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤) لموسى وما جرى عليه (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى أمما كثيرة ، (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فتغيرت الأحكام ، وخفيت عليهم الأخبار لا سيما على آخرهم ، فاقتضى الحال إظهار الأحكام الجديدة ، فأوحينا إليك ، فإخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور لها دلالة ظاهرة على نبوتك ، (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي وما كنت

١٩٨

يا سيد الرسل مقيما في أهل مدين من شعيب والمؤمنين به (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي تقرأ على أهل مدين آياتنا الناطقة بالقصة على طريق التعلم منهم. ويقال : وما كنت مقيما في أهل مدين وقت تلاوتك القرآن على قومك أهل مكة ، تخبرهم قصة أهل مدين مع موسى ، ومع شعيب حتى تنقلها بطريق المشافهة ، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي لا عن مشاهدة للمخبر عنه ، وذلك قوله تعالى : (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥) إياك ، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وما كنت يا سيد الخلق بجانب جبل زبير حين نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة. ويقال : إذ نادينا أمتك. قال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رب أرنيهم. قال : إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال : بلى يا رب. فقال الله تعالى : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب آبائهم ، فأسمعه الله تعالى أصواتهم ، ثم قال : أجبتكم قبل أن تدعوني ، (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن أرسلنا بالقرآن لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس.

وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي لكن هي رحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي لكي تخوف بالقرآن من العقاب على المعصية قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى ، وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل بناء على القول بأن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) أي يتعظون بإنذارك (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) أي ولولا أنهم قائلون بلسان الحال إذا عوقبوا يوم القيامة بسبب اكتسابهم في كفرهم أنواع المعاصي ، لم لم ترسل إلينا رسولا مع الكتاب قبل هذا العذاب ، فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع كتابك ، ونصدق بكل ما أتى به رسولك؟ ما أرسلناك إليهم وإنما أرسلنا الرسول قطعا لمعاذيرهم بالكلية ، أي لكي لا يكون لهم حجة علينا ، (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي فلما جاء الرسول بالكتاب المعجز أهل مكة (قالُوا) ـ أي كفار مكة ـ تعنتا : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي هلا أعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزّل جملة واحدة ومن قلب العصا حية ، ومن اليد البيضاء وغير ذلك قال تعالى ردا عليهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي ألم يكفر كفار مكة من قبل القول بما أعطى موسى من الكتاب كما كفروا بهذا القرآن ، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات ، فلما طلبوا من سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزات سيدنا موسى عليه‌السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول ، لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت (قالُوا) أي كفار مكة : (سِحْرانِ تَظاهَرا).

وقرأ الكوفيون بكسر السين وسكون الحاء والمعنى : أن ما أوتي محمد وما أتي موسى

١٩٩

سحران تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر. وقرأ الباقون «ساحران» بصيغة اسم الفاعل ، أي محمد وموسى ساحران أعان كل منهما صاحبه على سحره. روي أن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة ليسألهم عن شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوهم عنهم فقالوا : إنا نجده في التوراة بصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا : إن موسى كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال تعالى في حقهم : أولم يكفروا بما أوتي موسى (وَقالُوا) أي كفار مكة (إِنَّا بِكُلٍ) من التوراة والقرآن أو من محمد وموسى (كافِرُونَ) (٤٨) غير مصدقين (قُلْ) لهم تعجيزا لهم وتوبيخا : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) ، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح في هداية لخلق منهما ، (أَتَّبِعْهُ) أي فإن أتيتم به أتبعه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٩). أي في قولهم أن التوراة والقرآن سحران مختلفان (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما فاعلم أنهم ليس لهم مستند وإنما لهم محض هواهم الفاسد. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي لا أضل منه لأنه أضل من كل ضال ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠) لأنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى ، والأعراض عن الآيات الهادية إلى الحق ، (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي أنزلنا القرآن منجما يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى تنبيه كفار مكة ، فإنهم كل يوم يطلعون على فائدة ، فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر أو جعلنا القرآن أنواعا من المعاني من قصص وعبر ونصائح ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١) فيؤمنون بما في القرآن. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل مجيء القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) وهم مؤمنو أهل الكتاب (وَإِذا يُتْلى) ، أي القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ) أي القرآن (الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) ، أي من قبل قراءة القرآن علينا (مُسْلِمِينَ) (٥٣) ، أي مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بإيمانهم بمحمد قبل بعثته وبعد بعثته (بِما صَبَرُوا) على طعن الكفار وأذاهم متى بينوا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم ودخلوا في دينه.

قال مقاتل : هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران : أجر على الصفح ، وأجر على الإيمان. وقال السدي : إن اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول : سلام عليكم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون بالطاعة المعصية وبالعفو الأذى ، وبالامتناع من المعاصي فإن نفس الامتناع حسنة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٥٤). وقال سعيد بن جبير : وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له : يا نبي الله ، إن لنا أموالا فإن أذنت انصرفنا فجئنا بأموالنا ، فواسينا بها المسلمين ، فأذن لهم ، فانصرفوا ، فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فنزلت هذه الآيات الثلاث (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) أي ما لا ينفع في دين ودنيا (أَعْرَضُوا عَنْهُ) أي اللغو

٢٠٠