مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) أي أن الشياطين لممنوعون عن الاستماع للوحي كيف لا : ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلا من فنون الشرور. قال بعضهم : وهذا إشارة إلى أنه ليس للشياطين استعداد تنزيل القرآن ولا قوة حمله ، وسمع فهمه ، لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمنين عليها ، وتقول : جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي فإذا لم يكن لهم استطاعة على حمل القرآن ، ولا قوة على سمعه كيف يمكن لهم تنزيله؟ وإن وجد فيهم السمع الذي هو الإدراك لأنهم حرموا الفهم المؤدي للاستجابة لما دعوا إليه (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي فلا تعبد مع الله إلها غيره (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) (٢١٣).

قال بعضهم : وهذا يشير إلى أن طلب غير الله من الدنيا والآخرة بتوجه القلب إليه أمارة عذاب الله وهو البعد من الله ، فمن يكون أبعد من الله يكون عذابه أشد فكل طالب شيء يكون قريبا إليه بعيدا عما سواه. فطالب الدنيا قريب من الدنيا ، بعيد عن الآخرة. وطالب الآخرة قريب من الآخرة بعيد عن الدنيا. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسنات الأبرار سيئات المقربين». فالأبرار أهل الجنة ، وحسناتهم طلب الجنة والمقربون أهل الله وحسناتهم طلب الله وحده بلا شريك له وهذا الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود غيره كما هو شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد الخطاب لأحد وجهه إلى الرؤساء في الظاهر ، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك ، فلهذا أفرده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمخاطبة بقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤) الأقرب منهم فالأقرب. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا بني عبد المطلب يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا» ، ثم قال : «يا عائشة بنت أبي بكر ، ويا حفصة بنت عمرو ، ويا فاطمة بنت محمد ، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا» (١). وروى محمد بن إسحاق عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال. لما نوزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية دعاني فقال : «يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فاصنع لي صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع بني المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به». ففعلت ما أمرني ، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلا فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب. فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته ، فجئت له ، فلما وضعته تناول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : «كلوا باسم الله» ، فأكل القوم حتى شبعوا ، ثم قال : «اسق القوم». فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا فلما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال :

__________________

(١) رواه ابن حجر في فتح الباري (٧ : ٤١٦) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٤٧٨٩) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١٤ : ٣١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٠٠).

١٦١

سحركم محمد صاحبكم! فتفرق القوم ، فقال : «يا علي ، إن هذا الرجل قد سبق إلى ما سمعت من القول» فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت ، ففعلت ، ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقدمته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا بني عبد المطلب ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم جميعا عن ذلك الكلام ، فقلت : يا رسول الله أنا أكون وزيرك عليه قال : «علي» فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برقبتي ثم قال : «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا» (١). فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع.

وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام أن قريشا جاءته فأنذرهم ، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك. وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار ، ويجعل الصخرة ذهبا. فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده أخبرهم بأن أعطي ما سألوه ولكن إن أراهم كفروا عوجلوا ، فاختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢١٥) أي لين جانبك لهم و «من» للتبيين ، لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو قرابة أو نسب (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢١٦) ولا تبرأ منهم وقل لهم ، قولا بالنصح ، لعلهم يرجعون إلى قبول الدعوة منك. والمعنى : فبعد إنذار عشيرتك فتواضع لمن آمن منهم ، وتبرأ من عمل من خالفك منهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٢١٧) أي فوّض أمرك إلى الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته.

وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» بالفاء على الإبدال من جواب الشرط. والباقون بالواو على العطف على أنذر (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) (٢١٨) من نوم أو غيره إلى الصلاة منفردا (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢١٩) أي ويرى تصرفك في الصلاة بالقيام والركوع والسجود ، والقعود مع المصلين جماعة إذ كنت إماما لهم. ويقال : ويراك منتقلا في أصلاب المؤمنين ، وأرحام المؤمنات ، من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة ، فجميع أصول سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجالا ونساء مؤمنون ، فلا يدخلهم الشرك ما دام النور المحمدي في الذكر وفي الأنثى. فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد غير الله ، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم. وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٢٠) فيسمع ما تقوله ، ويعلم ما تنويه وتعمله. (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) (٢٢١)؟ أي أهل أخبركم يا كفار مكة على من تنزل الشياطين؟ أي لمّا قال الكفار. لم لا يجوز أن يقال : إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة ،

__________________

(١) رواه النّسائي في كتاب الحج ، باب : إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام.

١٦٢

وبالشعر على الشعراء؟ فرق الله تعالى بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الكهنة والشعراء فقال : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (٢٢٢) أي تنزل الشياطين على كل من اتصف بالكذب الكثير والإثم الكبير ؛ وهو مسيلمة الكذاب ، وسطيح ، وطليحة. (يُلْقُونَ السَّمْعَ) ، وهذه الجملة إما حال من فاعل «تنزل» المستتر أي يصغي الشياطين سمعهم إلى الملائكة ليسترقوا شيئا ، ويلقون الشيء المسموع إلى الكهنة. وإما صفة لكل أفاك أثيم أي يصغي الكهنة سمعهم إلى الشياطين ، أو يلقون ما سمعوه منهم إلى عوام الخلق (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢٢٣) فالشياطين يسمعون الكهنة ما لم يسمعوا من الملائكة ، كما جاء في الحديث : «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ، والكهنة يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم». (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (٢٢٤) أي الراوون الذين يروون هجاء المسلمين ، أي وشعراء الكفار يتكلمون بالكذب ؛ منهم عبد الله بن الزبعري ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومسافع بن عبد مناف ، وأبو عزة عمرو بن عبد الله ، وأمية بن أبي الصلت. وقالوا : نحن نقول مثل ما يقول محمد. وقالوا شعرا ، واجتمع إليهم سفهاء قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ويرون عنهم قولهم.

وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (٢٢٥)؟ أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الشعراء يسيرون في طرق مختلفة سير الحائرين من طرق القيل والقال؟ فإنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس ، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس ، لأنهم لا يطلبون بشعرهم الصدق (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (٢٢٦) فإنهم يمدحون الجود ويحثون عليه ولا يفعلونه ، ويذمون البخل ويصرون عليه ، ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم ، ثم أنهم لا يفعلون الفواحش وذلك يدل على الضلالة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) فلم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى ، والحث على طاعته ، وفي الحكمة والموعظة والزهد في الدنيا ، والزجر عن الاغترار بزخارفها. (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي فلا يذكرون هجو أحد إلا من يهجوهم من الكفار وذلك رد على هجو الكفار لرسول الله وأصحابه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة لحسان : «اهج المشركين فإن جبريل معك» (١) وعن أنس رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :

اليوم نضربكم على تنزيله

 

خلوا نبي الكفار عن سبيله

ويذهب الخليل عن خليله

 

مضربا يزيل الهام عن مقيله

فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي حرم الله تقول شعرا! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٣٣٢٥١).

١٦٣

«خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» (١). وعن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل»(٢). وعن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من الشعر لحكمة» (٣). وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر ، وكان عثمان يقول الشعر ، وكان علي أشعر من الثلاثة. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧) أي سيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهجوا رسول الله وأصحابه ، وبالإعراض عن تدبر هذه الآيات أنهم ينقلبون كمال انقلاب ، لأن مصيرهم إلى النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العذاب ، وهو أشر مرجع ، فالمنقلب : هو الانتقال إلى ضد ما هو. فيه والمرجع هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها ، فصار كل مرجع منقلبا وليس كل منقلب مرجعا.

وقرئ «أيّ منفلت ينفلتون» ، أي وسيعلم الظالمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات فإنهم يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى ، و «أي» منصوب بـ «ينقلبون» ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم ، لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها ، لأن الاستفهام معنى ، و «ما» معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب : ما جاء في الشعر ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٦٩).

(٢) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٥).

(٣) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٠١) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ : ١٦).

١٦٤

سورة النمل

مكية ، وهي أربع وتسعون آية ، ألف ومائة وتسع وأربعون

كلمة ، أربعة آلاف وسبعمائة وسبع وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(طس) أي هذا مسمى بطس (تِلْكَ) أي تلك السورة (آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) (١) ، أي مظهر للحكم والأحكام وأحوال الآخرة.

وقرأ ابن أبي عبلة برفع «كتاب مبين». (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، هما حالان من آيات ، أي هادية إلى الله ومبشرة بالوصول إلى الله بهدايته للمصدقين بتلك الآيات أو بدلان منها ، أو خبران آخران لتلك كما قال تعالى : «ألا من طلبني وجدني من طلبني بدلالات القرآن وجدني بالعيان». (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يأتون بالصلوات الخمس بشروطها ووضعها في حقها. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطونها بشرائطها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٣) أي هؤلاء هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان لا من عداهم ، لأن تحمل مشاق العبادات لخوف العقاب ورجاء الثواب. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) بأن خلقنا في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه بما فيها من المضار والآفات ، (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٤) أي ينهمكون فيها (أُوْلئِكَ) أي الموصوفون بعدم الإيمان بما في الآخرة وبالعمد في الأعمال (الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) وهو عمي القلوب وصممه وبكمه ، (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٥) أي أشد الناس خسرانا لفوات الثواب واستحقاق العقاب ، ولأنهم خسروا الدنيا والآخرة ولم يربحوا المولى وذلك لأن قوما من المختصين بتوفيق من الله يحبهم ويحبونه قد خسروا الدنيا والآخرة بتركهما وعدم الالتفات إليهما في طلب المولى ، فربحوا المولى. فلهذا لمّا وجد أبو يزيد في البادية قحف رأس مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبّله وقال هذا رأس صوفي. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) ، أي وإنك يا أشرف الخلق لتؤتى القرآن من عند ذات مصيب في أفعاله لا يفعل شيئا إلا على وفق علمه. عليم بكل شيء سواء كان ذلك العلم مؤديا إلى العمل أو لا. وقال بعضهم : أي إنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يتلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل ، والرسالات

١٦٥

من لفظه وحيا وإنك تلقى حقائق القرآن من عند الله تعالى ، وإن كنت تلقى القرآن بتنزيل جبريل على قلبك ، فالله تعالى علمك حقائق القرآن بأن جعلك بحكمته مستعدا لقبول فيض القرآن بلا واسطة. وهو أعلم حيث يجعل رسالته (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) أي زوجته بنت شعيب حيث تحيّر في الطريق عند مسيره من مدين إلى مصر (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) يعرف به الطريق (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ). وقرأ الكوفيون بتنوين شهاب ، فالقبس بدل منه أو صفة له ، أي بشعلة نار مأخوذة من أصلها. والباقون بالإضافة أي بشهاب من قبس (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٧) أي لكي تدفئوا بها (فَلَمَّا جاءَها) أي تلك التي ظنها موسى نارا (نُودِيَ) من قبل الله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي بورك من في مكان النار ـ وهي البقعة المباركة ـ ومن حول مكانها ، ويدل عليه قراءة أبيّ «تباركت الأرض ومن حولها». وعنه أيضا «بوركت النار». وقيل : المراد بمن في النار هو موسى عليه‌السلام لقربه منها ، ومن حولها الملائكة ، أي نودي ببركة من النار أي بتطهيره مما يشغل قلبه من غير الله ، وتخليصه للنبوة والرسالة أي ناداه الله تعالى بأنا قدّسناك واخترناك للرسالة ، وهذه تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) وهو من كلام الله مع موسى نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه‌السلام وإعلاما بأن ذلك الأمر مكونه رب العالمين ، ولدفع ما قد يتوهمه موسى بحسب الطبع البشري الجاري على العادة الخلقية من أن الله المتكلم به في مكان أو في جهة. ومن أن الكلام الذي يسمعه موسى في ذلك المكان بحرف وصوت حادث ككلام الخلق ، وقد علم موسى عليه‌السلام أن النداء من الله لما دل على ذلك من أن النار كانت مشتعلة على شجرة خضراء لم تحترق. (يا مُوسى إِنَّهُ) أي إن مكلمك (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) أي أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام ، كقلب العصا حية ، وأمر اليد الفاعل ما أفعله بحكمة بالغة و «أنّا» خبر «إنّ» و «الله» بيان له و «العزيز الحكيم» صفتان «لله» ، ممهدتان لما أراد الله أن يظهره على يد موسى عليه‌السلام من المعجزات (وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على «بورك» ، فكلاهما تفسير لـ «نودي» ، فألقاها فانقلبت حية كبيرة جدا تسعى ، فأبصرها متحركة بسرعة واضطرب ، (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي تضطرب في تحركها (كَأَنَّها) أي العصا (جَانٌ) أي حية صغيرة في سرعة الحركة (وَلَّى مُدْبِراً) أي هرب موسى منها مدبرا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يلتفت إليها من خوفها لظنه أن ذلك لأمر أريد به ولذلك قال تعالى : (يا مُوسى لا تَخَفْ) منها (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (١٠) في حالة الإيحاء والإرسال ، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم كما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١) أي لكن من ظلم ، ثم عمل حسنا بعد سوء ، فإني غفور رحيم وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه‌السلام من وكزه القبطي. وجعل الأخفش والفراء وأبو عبيدة «إلا» حرف عطف بمنزلة الواو ، وفي التشريك في اللفظ. والمعنى : وقرئ «ألا من ظلم»

١٦٦

بحرف التنبيه ، و «من» شرطية وجوابها «فإني غفور رحيم». (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في إبطك ـ وكان له عليه‌السلام مدرعة صوف لا كم لها ـ (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها إشراق (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي آفة (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) وقوله : (فِي تِسْعِ) متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير «تخرج» ، أي حال كون اليد مندرجة في جملة تسع آيات. وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف حال من فاعل أدخل أي حال كونك مرسلا بها إلى فرعون والظاهر أن قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف حال من فاعل ألق وأدخل وإن قوله : (فِي تِسْعِ) متعلق بمحذوف حال من مفعولهما ، أي ألق وأدخل ، أي حال كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع ، فإن الآيات إحدى عشرة : العصا واليد والفلق ، والطوفان والجراد ، والقمل والضفادع ، والدم والطمسة ، والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ، وحال كونك مبعوثا إلى فرعون والقبط. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١٢) أي خارجين من ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) على يد موسى عليه‌السلام (مُبْصِرَةً) كل من ينظر إليها ويتأمل فيها ، هادية إلى الطريق الأقوم.

وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم ، والصاد أي مكانا يكثر فيه التبصر. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٣) أي هذا الذي أتى به موسى خيال لا حقيقة له ، واضح في أنه خيال (وَجَحَدُوا بِها) أي كذبوا بتلك الآيات بألسنتهم (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي وقد علمتها قلوبهم علما يقينا أنها حق. (ظُلْماً وَعُلُوًّا) حال أخرى من الواو في جحدوا ، أو علة للجحد ، أي ظالمين للآيات حيث سموها سحرا وحطوها في رتبتها الرفيعة ، ومترفعين عن الإيمان بها أو جحدوا بها للظلم للآيات وللتكبر عنها. وقرئ «عليا» ، و «عليا» بالضم والكسر كما قرئ «عتيا» (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤) من إغراقهم في البحر على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين. (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي أعطينا كل واحد منهما جزءا من العلم لائقا به من علم الحكم والسياسة ومختصا به كعلم داود صنعة لبوس ، وتسبيح الجبال ، والطير ، وعلم سليمان سائر نطق الطير والدواب. (وَقالا) شكرا لما أعطيناه من العلم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بما أعطانا من العلم (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٥) ممن لم يؤت علما مثل علمنا. وفي هذا دليل على فضل العلم وشرف أهله ، وتحريض للعالم بأن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من العلم ، ويعتقد أنه قد فضل عليه كثير وإن فضل على كثير فلا يفتخر ولا يتكبر وإن يشكر الله تعالى في أنه ينفع بعلمه المسلمين ، (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي ملكه بأن قام مقامه فيه دون سائر أولاده ، وكان لداود تسعة عشر ابنا ، وزيد له تسخير الريح والشياطين. وداود أشد تعبدا من سليمان. وروي أن سليمان أعطي هذا الملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، أما داود فقد عاش مائة سنة. (وَقالَ) سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله تعالى وللتنويه بها.

١٦٧

(يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) وهذه النون يقال لها : نون الواحد المطاع ، وكان سليمان عليه‌السلام ملكا مطاعا لا يتكبر ، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح ، فيصير ذلك التعظيم واجبا.

روي عن كعب الأبار رضي‌الله‌عنه أن سليمان عليه‌السلام أخبر عن منطق جملة من الطيور :

الورشانة : تقول : لدوا للموت ، وابنوا للخراب.

والفاختة : تقول : ليت ذا الخلق لم يخلق.

والطاوس : يقول : كما تدين تدان.

والهدهد : يقول : من لا يرحم لا يرحم.

والصرد : يقول : استغفروا الله يا مذنبين ؛ وهو الذي دل آدم على مكان البيت ، ومن ثمّ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله.

والطيطوي : يقول : كل حي ميت وكل جديد بال.

والخطاف : يقول : قدموا خيرا تجدوه ؛ وهو الذي آنس الله آدم به بعد خروجه من الجنة فهي لا تفارق بني آدم أنسألهم.

والحمام : يقول : سبحان ربي الأعلى.

والغراب : يدعو على العشار فكان يقول : اللهم العن العشار.

والحدأة : تقول : كل شيء هالك إلا الله.

والقطاط : تقول : من سكت سلم.

والبغبغان : وهي الدرة تقول : ويل لمن الدنيا همه.

والقمري : يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن.

والباز : يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده.

والعقاب : يقول : في البعد عن الناس أنس.

والديك : يقول : ذكروا الله يا غافلين.

والنسر : يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي أعطينا شيئا كثيرا. وكان له عليه‌السلام ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع منصته في في وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء عليهم‌السلام على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وحولهم الوحش ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء

١٦٨

والأرض : إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مر بحراث فقال : لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود (إِنَّ هذا) أي التعليم والإعطاء (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) أي الذي لا يخفى على أحد. وقصده عليه‌السلام بذلك القول : الشكر والحمد ، أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر عساكره (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) أي يمنعون من التقدم في السير حتى يجتمعوا ليكون مسيره عليه‌السلام مع جنوده على ترتيب.

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : كان سليمان عليه‌السلام إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل ، فيطبخ الطباخون ، ويخبز الخبازون. وهو بين السماء والأرض. واتخذ ميادين الدواب فتجري بين يديه والريح تهوي ، فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما وصل إليها قال سليمان : هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه. ولما وصل مكة رأى حول البيت أصناما تعبد ، فجاوزه سليمان ، فبكى البيت ، فأوحي إليه ما يبكيك؟ قال : يا رب أبكاني إن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يصلوا عندي ، والأصنام تعبد حولي فأوحى الله تعالى إليه : لا تبك فإني سوف أملأك وجوها سجدا ، وأنزل فيك قرآنا جديدا ، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي ، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني ، أفرض عليهم فريضة يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها ، والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان. ثم ساروا (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) وهو واد بالشام كثير النمل : على ما قاله مقاتل وقتادة ، وبالطائف : على ما قاله كعب ؛ وهو نمل صغار على المشهور. (قالَتْ نَمْلَةٌ) قولا مشتملا على حروف وأصوات ، وكانت عرجاء ، ذات جناحين ، وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أم محال ؛ ويقال لها : منذرة وقيل : اسمها حرميا. وقيل : ظاخية. وقيل : عيجلوف (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) أي جحركم (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٨) أي لا تبرزوا فيدوسنكم سليمان وجنوده في حال كونهم لا يشعرون بدوسهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير ، وكأنهم أرادوا النزول عند الوادي ، لأنه دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف دوسهم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أي تعجبا من قول النملة بفصاحتها واهتدائها إلى تدبير مصالح بني نوعها ، وسرورا بما آتاه الله من سمعه كلامها ، وفهمه بمعناه وبشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أنواع المخلوقات. (وَقالَ) سليمان : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي

١٦٩

اجعلني أكف شكر نعمتك عندي عن أن ينقلب عني ، حتى أكون شاكرا لك أبدا أو وفقني لأن أؤدي شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ؛ هما داود وأم سليمان ، وهي في الأصل زوجة أوريا التي امتحن الله بها داود عليه‌السلام. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) لأن العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل كما قيل :

فما حسناته الا ذنوب

 

إذا كان المحب قليل حظ

(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩) إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين ـ كما قاله ابن عباس ـ لأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يهمّ بمعصية أثبت اسمي في أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي بحث أحوال الطير فلم ير الهدهد فيما بينها ، أي نزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء فطلبوه ، فلم يجدوه فطلب الهدهد ليدل على الماء ، لأنه يعرف موضع الماء قربه وبعده فينقر الأرض ، ثم تجيء الشياطين فيحفرونها ويستخرجون الماء في ساعة يسيرة. (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) اسمه عنبر ـ كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن ـ أي ما لي لا أراه لساتر ستره ، أو لسبب آخر ثم ظهر له أنه غائب فانتقل عن ذلك الكلام فقال : (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) (٢٠)؟ فتقدر «أم» بـ «بل» أو بالهمزة ، أو بهما.

روي أن سليمان عليه‌السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة ، وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير إلى اليمن ، فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها فنزل بها ليتغدى ويصلي ، فلم يجد الماء فتفقد الهدهد ؛ وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء ، فنزل إلى بستان بلقيس فإذا هو بهدهد آخر ، وكان اسم هدهد سليمان : يعفور؟ وهدهد اليمن : عفير. فقال عفير ليعفور : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال : ومن سليمان؟ قال : ملك الإنس والجن. والشياطين. والطير. والوحش. والرياح. قال يعفور : ومن ملك هذه البلاد. قال عفير : امرأة يقال لها : بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة ، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل ، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ، ولها اثنا عشر ألف قائد ، مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وذهب معه لينظر إلى بلقيس وملكها فما رجع يعفور إلا بعد العصر ، فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموه فتفقد الهدهد ، فلم يره فدعا عريف الطير ـ وهو النسر ـ فسأله عن الهدهد فقال : أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته إلى مكان! فغضب سليمان عند ذلك وقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ) بسبب غيبته فيما لم آذن فيه (عَذاباً شَدِيداً) بنتف ريشه ، فهذا عذاب

١٧٠

الطير (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بالسكين ليعتبر به أبناء جنسه ، (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١) أي إلا أن يأتيني بحجة تبيّن عذره فلا أذبح ولا أعذب ، ثم دعا العقاب وهو أشد الطير طيرانا فقال له : علي بالهدهد الساعة ، فارتفع العقاب في الهواء ، فالتفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد من نحو اليمن ، فانقض العقاب نحوه يريده ، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني ولم تتعرض لي بسوء ، فتركه العقاب وقال له : ويلك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك ، أو يذبحك ، فطارا متوجهين نحو سليمان ، فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له : ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله. وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد : أو ما استثنى نبي الله فقالوا : بلى إنه قال : أو ليأتيني بسلطان مبين فقال : نجوت إذا ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب : قد أتيتك به يا نبي الله. (فَمَكَثَ) أي الهدهد (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي زمانا غير طويل حتى جاءه.

وقرأ عاصم بفتح الكاف. والباقون بضمها. فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له : أن كنت لأعذبنك عذابا شديدا؟ فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى. فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال : ما الذي أبطأك عني؟ (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي علمت ما لم تعلم أيها الملك ، وبلغت إلى ما لم تبلغ ، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ).

وقرأ أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة من غير تنوين ، يراد به القبيلة والمدينة والأصل اسم للقبيلة ، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. والباقون بالجر والتنوين اسم للحي سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) أي بخبر حق عجيب. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يقال لها : بلقيس بكسر الباء وهي بنت شراحيل بن مالك بن الريان. وأمها فارعة الجنية ـ كما أخرج عن زهير بن محمد ـ وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، وورث الملك من أربعين أبا ، ولم يكن له ولد غيرها ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه بامرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن : إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد من الجن وهم على صور الظباء ، فيخلي عنهم ، فظهر له ملك الجن ، وشكره على ذلك واتخذه صديقا ، فخطب ابنته فزوجه إياها. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) أي سرير حسن كبير ، طوله ثمانون ذراعا ، وعرضه أربعون ذارعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا مصنوع من الذهب والفضة ، مكلل بالجواهر ، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ، ودر وزمرد ، وعليه سبعة أبيات ، على كل بيت باب مغلق (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) أي لقيتهم مجوسا (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي يعبدون الشمس

١٧١

متجاوزين عبادة الله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الهدى ، (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٤) بسبب ذلك (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) مفعول له للصد أو التزيين على حذف اللام ، أي فصدهم لأن لا يسجدوا له تعالى ، أو زين لهم أعمالهم ، لأن لا يسجدوا بتخفيف اللام. فالأحرف تنبيه واستفتاح ، و «يا» بعدها حرف تنبيه أيضا ، أو نداء. والمنادى محذوف تقديره : يا هؤلاء اسجدوا ، و «اسجدوا» فعل أمر ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون «يا اسجدوا» ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يا» ، وهمزة الوصل خطأ لما سقطا لفظا ، ووصلوا الياء بسين «اسجدوا» فاتّحدت القراءتان لفظا وخطا ، واختلفا تقديرا ، وعلى هذه القراءة فالوقف على «يهتدون» تام ، ولو وقف على «يا» بمعنى : ألا يا هؤلاء ، ثم ابتدئ بـ «اسجدوا» جاز بخلاف قراءة الباقين بإدغام النون في «لا» ، فالوقف على «لا يهتدون» جائز.

وقرأ الأعمش «هلا» وهي حرف ، وعبد الله بقلب الهمزة هاء. وقرأ أبي «ألا يسجدون أي لم لا يسجدون لله كما قاله ابن عباس. وعن عبد الله «هلا تسجدون» بمعنى «ألا تسجدون» على الخطاب ، و «هلا» يحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله تعالى ، أو من سليمان عليه‌السلام.

قال أهل التحقيق : قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) يجب أن يكون بمعنى الأمر ، لأنه لو كان بمعنى المنع من السجود لم يكن معنى لوصفه تعالى باستحقاق السجود للاتصاف بكونه تعالى قادرا على إخراج الخبء عالما بكل شيء. (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والجار المجرور متعلق بالخبء أي الذي يظهر المخفي فيهما من المطر والنبات ، ومتعلق بـ «يخرج» على أن فيه معنى «من» كما قاله الفراء (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٢٥) من الأحوال فيجازيكم بها. وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فتأويل قراءة حفص في «ألا يسجدوا» أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ والخطاب على قراءة الكسائي ظاهر. والباقون بالغيبة لتقدم ضمائر الغيبة في قوله : (أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ) فهم وهي غير ظاهرة. وقرئ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ، ويعلم سركم وما تعلنون». (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦) أي فعرش الله عظيم بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض وما بنيهما. وقرئ «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب ، ولما ذكر الهدهد قصة بلقيس لم يتغير سيدنا سليمان عليه‌السلام لذلك ، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم ، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله ، اغتاظ سيدنا سليمان وأخذته حمية الدين ، وجعل يبحث عن تحقيق. (قالَ) سليمان للهدهد : (سَنَنْظُرُ) أي سنتعرف في مقالتك بالتجربة (أَصَدَقْتَ) فيه (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٧) وفي هذا دليل على أن خبر الواحد لا يثبت العلم ، وعلى أن الوالي يجب أن يقبل عذر من في صورة المجرمين إذا صدق في اعتقاده ، (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) أي إلى من يعبدون الشمس (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح إلى مكان

١٧٢

قريب تتوارى فيه ليكون ما يقوله بسمع منك. (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨) أي تعرف أي شيء يرجع بعضهم إلى بعض من القول ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض مأرب من اليمين على ثلاث مراحل من صنعاء ، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فألقى الكتاب على نحرها وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة ، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، فعند ذلك (قالَتْ) لأشراف قومها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ـ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاثمائة واثني عشر رجلا ـ (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) (٢٩) أي لأنه مكرم بختمه ، ولغرابة شأنه حيث وصل إليها على غير معتاد ، ولحسن ما فيه من كونه مشتملا على إثبات الصانع ، الحي المريد ، القادر الرحيم. وعلى النهي عن التكبر ، والأمر بالانقياد ، ولكونه من عند ملك كريم ؛ فقد عرفت أن المرسل أعظم ملكا منها. (إِنَّهُ) أي إن عنوان الكتاب (مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) أي إن مضمونه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣٠) (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) فـ «أن» مفسرة ، و «لا» ناهية ، أي لا تتكبروا علي كما تفعل الملوك.

وقرأ ابن عباس «لا تغلوا» بالغين المعجمة أي لا تترفعوا علي ولا تمتنعوا من الإجابة (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١) أي مؤمنين. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته ، (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (٣٢) أي عادتي معكم أن لا أفعل أمرا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في الأجساد والآلات (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شجاعة مفرطة وثبات في القتال (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي هو موكول إليك ، (فَانْظُرِي) أي تأملي (ما ذا تَأْمُرِينَ) (٣٣) ، ونحن مطيعون لك فمري بنا بأمرك ، ولما أحست منهم الميل إلى الحراب لم ترض به لمّا علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. وذلك يدل دلالة بينة على رسالة مرسلها ، بل مالت للصلح ، ولذلك بينت السبب في رغبتها فيه. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) من القرى على منهاج الحراب (أَفْسَدُوها) بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة. (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤) وهذا من جملة كلامها ذكرته توكيدا لما وصفته من حال الملوك أي إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك ، فإن ذلك عادتهم المستمرة. (إِنِّي مُرْسِلَةٌ) رسلا (بِهَدِيَّةٍ) عظيمة (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥).

روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري ، وحليهن الأساور والأطواق ، والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع ، وبعثت العود والمسك والعنبر ، وحقا فيه درة عذراء ، وجزعة معوجة الثقب. وبعثت

١٧٣

رجلا من أشراف قومها ـ المنذر بن عمر ـ وآخر ذا رأي وعقل ، وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية وقالت : إن كان نبيا ، ميز بين الغلمان والجواري وأخبركم بما في الحق قبل أن يفتحه ، وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا من غير علاج أنس وجن ، ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبي فانطلق الرسول بالهدايا ، فأقبل الهدهد إلى سليمان عليه‌السلام فأخبره بذلك ، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر مختلفة ألوانها حتى إن لدواب البحر أجنحة وأعرافا ونواصي ، فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير أن أقيموا على يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ، ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لين الذهب والفضة بهتوا ، وتقاصرت إليهم أنفسهم ، ووضعوا ما معهم من الهدايا في ذلك الموضع فلما وقفوا بين يدي سليمان أقبل عليهم بوجه طلق وسألهم عن حالهم ، فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال : أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه فقال سليمان لهم : إن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة ، ثم أمر بالأرضة ، فأخذت شعرة في فيها ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجرة فأمر بالدودة البيضاء ، فأخذت خيطا بفيها ونفذت في الجزعة ، فجعل رزقها في الفواكه ، وأمر الغلمان والجواري بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ، ثم تغسل به وجهها والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها ، والغلام يصبه على ظهره ، فميز عليه‌السلام بين الغلمان والجواري ، ثم رد الهدية كما أخبر الله عنه بقوله : (فَلَمَّا جاءَ) أي رسول الملكة بلقيس وهو منذر (سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي قال سليمان عليه‌السلام مخاطبا للرسول والمرسل : لا ينبغي لكم يا أهل سبأ أن تعاونوني بالمال ، لأن الله تعالى قد أعطاني منه ما لم يعط أحدا ، ومع ذلك أكرمني بالنبوة والدين (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (٣٦) فالمصدر إما مضاف لفاعله أي تفرحون بما تهدونه افتخارا على أمثالكم واعتدادا به من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثله وإما مضاف لمفعوله أي تفرحون بما يهدي إليكم حبا في كثرة أموالكم وحالي خلاف حالكم ، فلا أفرح بالدنيا من حاجتي. وقيل : بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون بأخذها إن ردت إليكم ثم قال للمنذر : (ارْجِعْ) أيها الرسول (إِلَيْهِمْ) أي إلى بلقيس وقومها بهديتهم وقيل : ـ الخطاب للهدهد ـ أي ارجع يا هدهد حاملا كتابا آخر (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي فو الله لنأتينهم بجموع لا طاقة لهم بمقاومتها.

١٧٤

وقرأ ابن مسعود «بهم» بضمير جمع الذكور (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي من سبأ (أَذِلَّةً) أي حال كونهم ذليلين بذهاب ملكهم وعزهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧) أي مهانون بوقوعهم في أسر واستعباد وبإغلال أيمانهم إلى أعناقهم.

قال ابن عباس : لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت : قد عرفت والله ما هذا بملك ولا لنا به من طاقة وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في داخل بعض ، ثم غلقت عليه سبعة أبواب وجعلت عليها حراسا يحفظونه ، ثم تجهزت للمسير ، فارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك من ملوكها تحت كل ملك ألوف. فخرج سليمان يوما فجلس على سريره ، فسمع رهجا قريبا منه فقال : ما هذا؟ قالوا : بلقيس وقد نزلت بهذا المكان ـ أي الذي على مسيرة فرسخ من سليمان عليه‌السلام ـ فأقبل سليمان على جنوده (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) فأراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرته تعالى ، وعلى صدقه في نبوته ، وكان سليمان إذ ذلك في بيت المقدس ، وعرشها في سبأ بلدة باليمن وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه ، لأن العرش سرير المملكة (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣٨) أي مؤمنين ، فإنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها (قالَ عِفْرِيتٌ) أي قوي (مِنَ الْجِنِ) ـ كان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه. وكان مسخرا لسليمان واسمه : ذكوان. وقيل : صخر. وقيل : كوزن ـ (أَنَا آتِيكَ بِهِ) وهو اسم الفاعل ، أي أنا آت بعرشها (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي من مجلسك للقضاء وكان مجلس قضائه إلى انتصاف النهار (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي على الإتيان به (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (٣٩) أي لقوي على حمله ، أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) المنزل على الأنبياء قبل سليمان كالتوراة.

قال ابن عباس وقتادة : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

قال ابن عباس : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك. فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن ، ودعا آصف ، فبعث الله الملائكة ، فحملوا السرير يجدون به تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان قيل : كان الدعاء الذي دعا به يا حي يا قيوم ـ كما روي ذلك عن عائشة قال بعضهم : أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر : إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه. قال له : عالم من بني إسرائيل أنت النبي بن النبي ، وليس أحد أوجه منك عند الله ، فإن دعوت الله كان العرش عندك فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت.

١٧٥

قال الرازي : وهذا القول أقرب والمخاطب به العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه‌السلام إظهار معجزة فغالبه أولا ، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرض ما لا يتهيأ للعفريت. قيل : خرّ سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان وإنما هذا أقرب ، لأن سليمان كان أعرف بالكتابة من غيره لأنه نبي وأن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف لاقتضى ذلك تفضيله على سليمان ، ولو افتقر إليه في ذلك لاقتضى ذلك نقص حال سليمان في أعين الخلق ، ولأن ظاهر قوله : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) يقتضي أن يكون إتيان العرش بدعاء سليمان (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي رأى سليمان العرش حاضرا لديه (قالَ) سليمان ـ شاكرا لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق : (هذا) أي إتيان العرش في هذه المدة القصيرة (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي من إحسانه إلي من غير استحقاق له من قبلي (لِيَبْلُوَنِي) أي ليختبرني (أَأَشْكُرُ) فأعترف بكون ذلك فضلا منه تعالى (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أثبت لنفسي تصرفا في ذلك أو أترك شكرا (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) فإن نفع الشكر عائد إلى الشاكر فإنه يخرج عن علقة وجوب الشكر عليه وأنه يستحق المزيد ، وأنه مشتغل بالمنعم. أما المعرض عن الشكر فهو مشتغل باللذات الحسية (وَمَنْ كَفَرَ) أي ترك شكر النعمة (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره لا يضره تعالى كفرانه (كَرِيمٌ) (٤٠) أي لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر. (قالَ) سليمان : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي غيروا سريرها من هيئة ، فزيدوا فيه وانقضوا منه. وروي أنه جعل أعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأخضر أحمر ، وبالعكس ، فأراد سليمان عليه‌السلام اختبار عقلها (نَنْظُرْ) بالجزم على أنه جواب الأمر.

وقرئ بالرفع على الاستئناف أي نعلم (أَتَهْتَدِي) أي أتعرف أن ذلك العرش عرشها أو أتعرف الجواب اللائق بالمقام (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) (٤١) أي لا يعرفون ذلك (فَلَمَّا جاءَتْ) أي بلقيس سليمان : (قِيلَ) لها من جهة سليمان (أَهكَذا عَرْشُكِ) أي أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك وأغلقت عليه الأبواب وجعلت عليه حراسا؟ (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي كأن عرشي هو هذا. وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل : نعم ، خوفا من أن تكذب ، ولم تقل : لا ، خوفا من التكذيب. فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ، ولم تنكر. ولو قيل لها : أهذا عرشك؟ لقالت : نعم ، لمعرفتها للعرش (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) أي وأعطينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها بما سمعناه من رسولنا المنذر من الآيات الدالة على ذلك (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (٤٢) من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس كأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ). وهذا من كلام الله تعالى أي ومنع بلقيس عن إظهار الإسلام عبادتها القديمة للشمس فـ «ما كانت تعبد» فاعل «صد»

١٧٦

أو أن «ما كان» مجرورا بـ «عن» مقدرة ، وفاعل «صد» راجع إلى «سليمان» ، أي وصرفها سليمان عن الذي كانت تعبده وهو الشمس. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (٤٣) تعليل لعبادة غير الله ، أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر ، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بينهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان ، أو استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من مجوس يعبدون الشمس فلا تعرف إلا عبادتها. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بفتح الهمزة على أن هذه الجملة مجرورة بحرف العلة ، أو بدل من «ما كان كانت تعبد» ، أي ومنعها عن إظهار دعواها الإسلام كونها من قوم كافرين أو وصرفها سليمان عن صيرورتها كافرة. (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي البلاط المتخذ من زجاج.

روي أن سيدنا سليمان أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة ويجعلوا سقفها زجاجا أبيض شفافا يضعوا فيها ماء وسمكا ، وضفدعا وغير ذلك من حيوانات الماء وصار الماء ، وما فيه من هذا الزجاج ، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح لذي تحته الماء ولا يمسه الماء ، ومن لم يكن عالما بالحال يظن هذا ماء مكشوفا ليس له سقف يمنع من الخوض فيه ، ووضع سيدنا سليمان عليه‌السلام سريره في صدر ذلك السطح ، فجلس عليه.

قال وهب ومحمد بن كعب : والسبب في ذلك أن الجن قالوا لسيدنا سليمان : إن في عقل بلقيس شيئا وإن رجليها كرجلي حمار ، وإنها شعراء الساقين. وغرضهم في ذلك تنفيره عن تزوجها لأنهم ظنوا أنه سيتزوجها ، وكرهوا ذلك لأن أمها كانت جنية ، فخافوا أن تفشي له أسرار الجن ، ولأنهم خافوا أن يأتي له منها أولاد فيسخّرون الجن ، فيدوم عليهم الاستخدام والذل ، فأراد سليمان عليه سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها فإذا فيها ما يدل على كمال رزانة رأيها ورصانة فكرها ، وأن ينظر إلى قدميها ببناء ذلك البلاط ، لأنه أراد أن ينكحها ليعلم أن ما قالت الجن في حقها صدق أو كذب. (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت ذلك الصرح (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ماء غمرا (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) على عادة من أراد خوض الماء لأجل أن تصل إلى سليمان.

قال وهب بن منبه فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق ، وتعجبت من كون كرسيه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فرفعت ثيابها عن ساقيها ، فرآهما فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما سليمة مما قالت الجن فيها ، إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها ، فلما علم الحال صرف بصره عنها (قالَ) عليه‌السلام حين رأى منها الدهشة والرعب : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) أي إن الذي ظننته ماء سقف مملس من زجاج تحته ماء فلا تخافي واعبري عليه. (قالَتْ) بعد أن دعاها سليمان إلى الإسلام وقد رأت حال العرش والصرح : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالثبات على الكفر فيما تقدم من الزمان. وقيل : بسوء ظني بسليمان أنه يغرقني في اللّجة (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) أي ودخلت في دين الإسلام مصاحبة له في

١٧٧

الدين ، مقتدية به (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤). قيل : لما أراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته ، فكانتا من يومئذ ، فلما تزوجها سليمان أحبها حبا كثيرا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها ، ورزق منها بولد اسمه داود وأقرها على ملكها وأمر الجن ، فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة قصور لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، وكان يزورها في الشهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام ، وكان يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان ، فسبحان من لا يزول ملكه ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) (٤٥) ، أي فريق مؤمن ، وفريق كافر فالذي آمنوا ، لأنهم عرفوا صحة حجة صالح فيكونون خصماء لمن لم يقبلها. والاختصام في باب الدين حق وإبطال للتقليد. (قالَ) صالح للفرقة الكافرة : (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي لما توعد صالح للمكذبين بالعذاب فقالوا على وجه الاستهزاء : ائتنا بعذاب الله فعند ذلك قال صالح : يا قوم قد أمكنكم التوصل إلى رحمة الله تعالى ، فلما ذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكانوا لجهلهم يقولون : إن صدق إيعاد صالح بنزول العذاب تبنا حينئذ ، فحينئذ يدفع الله العذاب عنا وإلا فنحن على ما كنا عليه ، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) أي هلا تطلبون غفران الله قبل نزول العذاب بتوحيد الله وبالتوبة من الشرك (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٦)؟ بقبوله التوبة ، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر ، وإن قبول التوبة لا يمكن عند نزول العذاب. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشاء منا بك وبمن في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد من القحط والاختلاف مذ اخترعتم دينكم. (قالَ) صالح : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي السبب الذي منه يجيء شدتكم ورخاؤكم قدره تعالى إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧) بزينة الدنيا فلا تعرفون قدر نعم الله في حقكم.

وقال ابن عباس : أي أنتم تختبرون بالخير والشر. وقال محمد بن كعب : أي تعذبون (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) أي في الحجر (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي أشخاص. قال ابن عباس : أساميهم : رعمي ، ورعيم ، وهرمي ، وهريم ، وداب ، وصواب ، ورباب ، ومسطع ، وقدار بن سالف ـ عاقر الناقة ـ وأسماؤهم عن وهب قد نظمهم بعضهم في بيتين فقال :

عمير سبيط عاصم وقدار

 

رباب وغنم والهذيل ومسطع

 الا أن عدوان النفوس جوار

 

و سمعان رهط الماكرين بصالح

(يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) (٤٨) أي لا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح (قالُوا تَقاسَمُوا) ، أي قال بعضهم لبعض ـ في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه‌السلام ـ غب ما أنذرهم بالعذاب أحلفوا (بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٤٩).

١٧٨

وقرأ حمزة والكسائي «لتبيتنه» بتاء فوقية بعد اللام وبالرفع للجمع ، و «لتقولن» بتاء فوقية وبالرفع للجمع. وقرأ عاصم «مهلك» بفتح الميم ، وحفص بكسر اللام. والباقون بضم الميم مع فتح اللام فقط. والمعنى : أنهم توافقوا وحلفوا بالله : لندخلن على صالح ومن ـ آمن به وهم أربعة آلاف ليلا ـ بغتة ونقتلهم جميعا ، ثم لنقولن لولي دم صالح : ما حضرنا قتلهم أو وقته أو مكانه فلا ندري من قتلهم! وإنا لصادقون في إنكارنا لقتلهم. أي لو اتهمنا قوم صالح حلفنا لهم أنا لم نحضر. (وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذه الكيفية (وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠) قيل : إنهم خرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء صالح يصلي في مسجده قتلناه ، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله تعالى صخرة ، فطبقت فم الشعب عليهم فهلكوا ، وهلك الباقون بالصيحة. وقيل : جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة ، يرون الأحجار ولا يرون راميا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) بصالح (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١) أي أنا أهلكنا التسعة بالحجارة ، وأهلكنا قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه‌السلام. وقرأ الكوفيون «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة إما بدل من «عاقبة» على أنه فاعل «كان» ، و «كيف» حال ، أي فتفكر في أي وجه حدث تدميرنا إياهم. إما خبر لمبتدأ محذوف ، أي هي أي العاقبة تدميرنا إياهم (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) أي خالية ساقطة.

وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف (بِما ظَلَمُوا) أي ظلمهم بعبادتهم غير الله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التدمير العجيب (لَآيَةً) أي لعبرة عظيمة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥٢) أي يفهمون إشارات القرآن (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صالحا ومن معه من المؤمنين (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣) أي المعاصي. وقتل الناقة وهم أربعة آلاف ، وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت ، فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت ، ثم بنوا مدينة ـ يقال لها : حاضوراء ـ (وَلُوطاً) منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا في صدر قصة صالح ، أي وأرسلنا لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ـ فـ «إذا» ظرف للإرسال لما فارق عمه إبراهيم عليه‌السلام ـ : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي الفعلة المتناهية في السماجة (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٥٤) ، أي والحال أنكم تعلمون علما يقينا أنها قبيحة؟! (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) أي لأجل الشهوة فقط فهو كالبهائم ليس فيها قصد إعفاف ولا قصد ولد (مِنْ دُونِ النِّساءِ)! أي حال كونكم متجاوزين ، النساء (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٥٥) أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا وريثا وزوجته المؤمنة (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) سذوم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٥٦) أي يتنزهون عن الأقذار ـ قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) المنافقة (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٥٧) أي قدرنا عليها أن تكون من الباقين في العذاب.

١٧٩

وقرأ شعبة بتخفيف الدال. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على كل من كان منهم خارج المدينة (مَطَراً) هو طين محرق (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) مطرهم (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هلاك الكفار (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أي اصطفاهم الله بالإسلام من السابقين واللاحقين (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩). وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء التحتية أي أالله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم ما يشركون به تعالى من الأصنام ـ؟ والباقون بالتاء على الخطاب أي أالله خير أم آلهة تشركونها بالله تعالى يا أهل مكة؟

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأها قال : «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» (١). (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي بل من خلقهما (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي وأنزل لأجل منفعتكم من السماء نوعا من الماء ـ هو المطر ـ (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي بساتين (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي حسن يفرح به الناظر؟ (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي ما كان لم مقدرة أن تنبتوا شجر البساتين (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي أإله آخر كائن مع الله الذي ذكر بعض شؤونه. وقرئ أإلها مع الله. أي أتعبدون إلها آخر من الله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٦٠) أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور. وقيل : قوم يماثلون بالله غيره (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي بل من جعل الأرض مسكنا فيستقر عليها الإنسان والدواب ، (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي صيّر أوساطها أنهار جارية ينتفعون بها ، (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت تمنعها أن تميد بأهلها (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي العذب والمالح ، (حاجِزاً) أي برزخا معنويا مانعا الممازجة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في إبداع هذه البدائع؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١) كمال قدرته تعالى وحكمته ، واستغنائه عن الشريك. (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) أي بل من يجيب الذي أحوجه مرض ، أو فقر ، أو نازلة إلى التضرع إلى الله تعالى ، (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) ، أي يدفع ما يحزن الإنسان مما يطرأ عليه (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ)! أي متوارثين سكناها ممن قبلكم فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في فعل ذلك؟ (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٢).

قرأ أبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالخطاب ، وعلى كل من القراءتين فـ «الذال» مفتوحة مشددة لإدغام التاء فيها ، و «ما» مزيدة ، و «القلة» كناية عن العدم ، أي أنكم ما تتعظون لا كثيرا ولا قليلا. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي بل من يهديكم إلى مقاصدكم في ظلمات الليالي فيهما ، أو مشتبهات الطرق فيهما؟ (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)! أي قدام المطر.

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٥٨٧١) ، وابن سعد في الطبقات (١ : ١ : ٧٩).

١٨٠