مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

بعضكم طائف على بعض ، طوافا ، كثير اللجاجة يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فوجده نائما وقد أغلق عليه الباب فدق الغلام عليه الباب ، وحركه ورده ودفعه فناداه ودخل فاستيقظ عمر ، فانكشف منه شيء. فقال عمر : وددت أن الله تعالى ينهى آباءنا وأبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ، ثم انطلق معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية ، فحمد الله تعالى وخرّ ساجدا شكر الله تعالى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما ذاك يا عمر؟» فأخبره بما فعل الغلام ، فتعجب رسول الله من صنعه وقال : «إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف» (١). (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) (٥٨) ، فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشا ومعادا (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب سن نزول المنى سواء رأى منيا أو لا. (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) إذا أرادوا الدخول عليكم في جميع الأوقات (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي استئذانا كاستئذان الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) الآية. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي هكذا ينزل الله لكم آياته واضحة الدلالة على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمور خلقه (حَكِيمٌ) (٥٩) فيما دبره لهم ، (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي والعجائز الكائنة من النساء اللاتي لا يحتجن إلى الزوج لكبرهن بحيث إذا رآهن الرجل استقذرهن ، (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي أن ينزعن بحضرة الرجال عنهن ثيابهن الظاهرة فوق الثياب الساترة كالملحفة.

وعن ابن عباس أنه قرأ : «أن يضعن جلابيبهن» ، وعن السدي عن شيوخه أنه قرأ «أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن». وعن بعضهم أنه قرأ «أن يضعن من ثيابهن». (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير مظهرات لمحاسنها ولزينتها الخفية ، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي استعفافهن بعدم إلقاء الجلباب خير لهن من الإلقاء لبعده من المظنة ، فعند المظنة يلزمهن أن لا يلقين ذلك ، كما يلزم مثله في الشابة ، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة ، (عَلِيمٌ) (٦٠) بمقاصدهن (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الطوائف مأثم في أكلهم مع السالمين من هذه النقائص الثلاثة ، فإنهم تركوا مؤاكلة الأصحاء. فقال الأعمى : إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الأرد ، أو خاف الأعرج والمريض أن يفسد الطعام على الأصحاء. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : كان العرجان والعميان

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب البيوع ، باب : الرجل يأكل من مال ولده.

١٢١

والمرضى يتبعدون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ليس عليكم مأثم في أن تأكلوا من بيوت أولادكم بغير إذن بالعدل لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»(٢). (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) من الأب أو الأم ، أو منهما بالنسب أو الرضاع (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ).

قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام ، فيتحرج لأنه ليس ثمّ رب البيت. فأنزل الله تعالى هذه الرخصة : (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).

روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية : أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غائبون ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ، وهذا قول عائشة رضي‌الله‌عنها (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي بيت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية ، ونزل هذا في حق مالك بن زيد ، والحرث بن عمار ، وكانا صديقين. ونقل عن ابن عباس ومقاتل بن حبان : نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى : يجوز الأكل من بيوت من ذكر إذا علم رضاه بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه وإن كانت ضعيفة ، كما علم بالعادة في طيب أنفسهم فإن العادة كالإذن في ذلك ، والمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة ، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي مأثم في (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً). قيل : نزلت هذه الآية في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. وقال أكثر المفسرين : نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة حيث كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحافلات ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب البيوع ، باب : الحث على الكسب ، وابن ماجة في كتاب التجارات ، باب : الحث على المكاسب ، والدارمي في كتاب البيوع ، باب : في الكسب وعمل الرجل بيده ، وأحمد في (م ٦ / ص ٣١).

(٢) رواه السهمي في تاريخ جرجان (٤٥٣).

١٢٢

من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي‌الله‌عنهما. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي إذا دخلتم بيوتا من البيوت المذكورة فسلموا على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية ، فالله تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقال ابن عباس : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من قبل ربنا ، وإذا دخل المسجد فليقل : السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال القفال : وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام على من اتبع الهدى. (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) منصوب على المصدر من معنى فسلموا أي فحيوا تحية ثابتة بأمره ، مطلوبة من عنده. (مُبارَكَةً) أي مضاعفة في الثواب ؛ كما قاله الضحاك ، (طَيِّبَةً) أي تطيب بالتحية نفس المستمع.

وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» (١). (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يفصل شرائعه لكم ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) ، أي لتفهموا عن الله أمره ونهيه. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي الرسول (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوهما في جميع الأحكام ، كما إذا كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر موجب للاجتماع في شأنه لم يتفرقوا عنه حتى يطلبوا منه الإذن فيأذن لهم.

قال الكلبي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظرون يمينا وشمالا فإذا لم يرهم أحد خرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفا ، فكان المؤمن إذا أراد أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر قام بحيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) رعاية للأدب معك وتعظيما لهذا الأمر (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي يعملون بمقتضى الإيمان.

قال الضحاك ومقاتل : المراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وذلك أنه خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فاستأذنه في الخروج إلى أهله لعلة كانت به ، فأذن له وقال : ارجع إلى المدينة فلست بمنافق ، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي أمرهم المهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) لما علمت في ذلك من مصلحة.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ٦٤).

١٢٣

قال ابن عباس : إن عمر استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمرة فأذن له ، ثم قال : يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك. وهذه الآية تدل على أنه تعالى فوّض إلى رسوله أمر الدين ليجتهد فيه برأيه. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لفرطات العباد (رَحِيمٌ) (٦٢) بالتسهيل عليهم (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تجعلوا دعاءه لكم في الاعتقاد وغيره ، وأمره إياكم في أمر من الأمور كدعوة بعضكم لبعض فتستبطئون عنه ، بل أجيبوه فورا ، وإن كنتم في الصلاة إذ كان أمره فرضا لازما. وهذا قول المبرد والقفال ، ومختار أبي العباس. وأقرب إلى نظم الآية كما قاله ابن عادل والرازي وغيره. وقيل : لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم فإنه قد يجاب وقد يرد ، فإن دعوات الرسول مستجابة فاحذروا سخطه فإن دعاءه مجاب ، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وروي عنه أيضا لا تجعلوا نداءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنداء بعضكم لبعض باسمه ، ورفع الصوت ، والنداء من وراء الحجرات ، بل نادوه بغاية التوقير وبلقبه المعظّم. وذلك بمثل قولك : يا رسول لله ، يا نبي الله مع التواضع وخفض الصوت ، فلا تنادوه باسمه ولا بكنيته بأن تقولوا : يا محمد يا أبا القاسم. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي قد علم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية ، مستترين ببعض فـ «لواذا» حال ، أو مصدر لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذا أي يستتر بعضهم بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي يعرضون عن أمره (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي محنة في الدنيا من تسليط جائر عليهم وإسباغ نعمه استدراجا بهم (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) في الآخرة والكناية ترجع إلى الله ، لأنه الآمر حقيقة أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه المقصود بالذكر (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا. وهذا دليل على قدرته تعالى على المجازاة بثواب وعقاب ، وعلى علمه تعالى بما يخفيه المكلف ويعلنه ، (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ) أيها المكلفون (عَلَيْهِ) من المخالفة في الدين والنفاق ، (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) أي ويعلم يوم يرجع المنافقون إليه تعالى للجزاء (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) في الدنيا من الأعمال ـ كمخالفة الأمر ـ فلا يعاقبهم إلا بعد إخبارهم بما عملوا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤) لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

١٢٤

سورة الفرقان

مكية ، سبع وسبعون آية ، ثمانمائة واثنتان وسبعون

كلمة ، ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) أي تعالى الله الذي نزل القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذاته وصفاته وأفعاله ، فتعالت ذاته عن جواز التغيّر والفناء. وعن مشابهة شيء من الممكنات وتعالت صفاته عن حدوث ، وتعالت أفعاله عن عبث.

ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد في أقصى مراتب العبودية ، (لِيَكُونَ) أي ذلك العبد أو الذي نزل الفرقان (لِلْعالَمِينَ) أي المكلفين من الثقلين (نَذِيراً) (١) أي مخوفا من عذاب الله بالقرآن (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدل من الموصول الأول أو خبر مبتدأ محذوف (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) عطف على الصلة. وهذا رد على النصارى واليهود وبعض مشركي العرب (الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ) أي في ملك السموات والأرض فهو المنفرد بالإلهية. وهذا معطوف على الصلة أيضا وهو رد على الثنوية وعباد الأصنام والنجوم ، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) أي أحدث كل موجود إحداثا جاريا على طريق التقدير بحسب ما اقتضته إرادته وهيّأه لما أراد به مما يصلح له مثاله أنه تعالى خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المستوي الذي تراه فيقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة ، فقدره لأمر ما ، ومصلحة ما موافقا لما قدر غير متأخر عنه. (وَاتَّخَذُوا) أي المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) أي جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله غيره آلهة لا يقدرون على خلق شيء أصلا ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) كسائر المخلوقات (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا يقدرون لأنفسهم على دفع ضرر ما وعلى جلب نفع ما فمن لا ينفع نفسه لا ينفع غيره ، (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣) أي ولا يقدرون على اماتة الأحياء واحياء الموتى ، وبعثهم ، فالا له يجب أن يكون

١٢٥

قادرا على جميع ذلك. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي قال النضر بن الحرث : ما القرآن الا كذب مصروف عن وجهه اختلقه محمد من تلقاء نفسه ، وأعانه على اختلاقه غير قومه ، وهم اليهود جبر ويسار أبو فكيهة الرومي.

قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر ، وهؤلاء كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرءون التوراة ، ويحدثون أحاديث منها في مكة ، فلما أسلموا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعهدهم ، فزعم النضر أنهم يلقون اليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار الأمم الماضية ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبر عنها بعبارات من عنده ، فهذا معنى اعانتهم له فمن أجل ذلك قال النضر ما قال ، فرد الله تعالى ذلك بقوله تعالى (فَقَدْ جاؤُ) أي قائلو هذه المقالة (ظُلْماً) عظيما حيث جعلوا الحق البحت إفكا مفترى من قبل البشر (وَزُوراً) (٤) أي كذبا كبيرا حيث نسبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو بريء منه. (وَقالُوا) أي النضر وأصحابه : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) أي هذا القرآن ما سطره المتقدمون من الخرافات انتسخها محمد بن عداس ويسار وجبر ، أي أمرهم بكتابتها له وقراءتها عليه لأنه أمي (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) أي فتلك الأساطير تقرأ على محمد بعد طلبه منهم كتابتها غدوة وعشيا ليحفظها من أفواههم من ذلك المكتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة. وهذا على قول جمهور المفسرين فإن قوله : (تُمْلى) ألخ من كلام القوم الكافرين.

وقال الضحاك : معنى قولهم ذلك : وما يملى على محمد بكرة يقرأه عليكم عشية ، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة خلافا للحسن حيث قال : إن ذلك من محض كلام الله تعالى ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال : إن هذه الآيات تلقى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي مني حالا بعد حال ، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين ، (قُلْ) لهم ردا عليهم : (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس ذلك القرآن مما يفتعل بإعانة قوم وكتابتهم من الأحاديث الملفقة ، بل هو أمر سماوي أنزله الله الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء فيعلم ما تسرونه من كيدكم لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ، وما تقولونه زور ، ويعلم براءة رسوله مما تتهمونه به وهو مجازيكم على ما علم منكم وما علم منه. (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦) أي إنما أنزل القرآن لأجل الإنذار فوجب أن يكون غير مستعجل في العقوبة. وهذا تنبيه على أنهم استحقوا بمكايدتهم هذه أن يصب الله عليهم العذاب صبا ، ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفورا رحيما فيمهلهم ولا يعجل عليهم العذاب. (وَقالُوا) أي أبو جهل وأصحابه ، والنضر وأصحابه ، وأمية ابن خلف وأصحابه : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي سبب حصل لهذا الذي يدّعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل ، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله ، فمن أين له

١٢٦

الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور؟ (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ) أي هلا ينزل على صورته (مَلَكٌ) لا يأكل ولا يشرب (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧) أي فيكون معينا له في الإنذار يشهد له ويرد من خالفه (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) من السماء ، فينفقه ، فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها).

وقرأ الأعمش وقتادة «يكون» بالياء التحتية ، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل» بالنون. (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي المشركون أبو جهل ، والنضر ، وأمية وأصحابهم للمؤمنين : (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون أيها المؤمنون (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨) أي مختل النظر والعقل (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي انظر يا أفضل الخلق كيف اشتغل القوم بضرب هذه التي لا فائدة فيها من الأقوال العجيبة الخارجة عن العقول ، (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩) أي فأرادوا القدح في نبوتك ، فضلوا عن طريق المحاجة ، فلم يجدوا سبيلا إلى القدح في نبوتك وفي معجزاتك ، وضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه. (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) أي تكاثر خير من الذي إن شاء (جَعَلَ لَكَ) في الدنيا شيئا (خَيْراً) لك (مِنْ ذلِكَ) الذي قالوه (جَنَّاتٍ) أي بساتين كثيرة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (١٠) أي بيوتا مشيدة رفيعة في الدنيا ، فقوله تعالى : (جَنَّاتٍ) بدل من خير.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر برفع «يجعل» على أنه معطوف على جواب الشرط ، لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع ، أو مستأنف بوعد ما يكون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة. وقرأ الباقون بإدغام لام «يجعل» في لام «لك» إما بتقدير الجزم على أنه معطوف على محل جواب الشرط وهو جزم ، أو بتقدير الرفع ، وإنما سكن اللام لأجل الإدغام ، فعلى الرفع حسن الوقف على «الأنهار» فإن المعنى : وسيجعل لك قصورا في الآخرة وعلى الجزم لا يحسن الوقوف على «الأنهار» فإن المعنى : إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا.

روي عن طاوس عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وجبريل عليه‌السلام عنده قال جبريل عليه‌السلام : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا ، وبين أن يجمعها لك في الآخرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل يجمعها جميعا في الآخرة» (١) فنزل قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) الآية. (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ). وهذا جواب ثالث كأنه تعالى قال : ليس ما تعلقوا به شبهة علمية في نفس المسألة لأنهم لا يعتقدون فيك كذبا بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بوجود

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ٦٨).

١٢٧

وقت الجزاء استثقالا للاستعداد له ، فإنهم لا يتحملون مشقة النظر ، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١) أي جعلنا نارا عظيمة شديدة الاشتعال معدة لمن كذب بوجود القيامة ، (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من مسيرة عام كما قاله الكلبي والسدي (سَمِعُوا لَها) أي النار (تَغَيُّظاً) أي صوت غليانها ، (وَزَفِيراً) (١٢) أي صوتا شديدا كصوت الحمار (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها) أي النار (مَكاناً ضَيِّقاً).

وقرأه ابن كثير بسكون الياء (مُقَرَّنِينَ) في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم (دَعَوْا هُنالِكَ) أي في ذلك المكان (ثُبُوراً) (١٣) بأن يقولوا : يا ثبور هذا زمانك ويتمنوا موتا.

وقال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون ، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال ابن عمر : إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح. وتقول لهم : خزنة جهنم (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) فإن ما أنتم فيه من العذاب مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن لغاية شدته وطول مدته (قُلْ) لهم تحسيرا على ما فاتهم : (أَذلِكَ) السعير التي هيئت لمن كذب بوجود القيامة (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) التي لا ينقطع نعيمها (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي التي وعدها من يجتنبون الكفر. وهذا يحسن في مقام التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فأبى واستكبر ، فضربه ضربا وجيعا وقال له على سبيل التوبيخ ، هذا أحب إليك أم ذاك (كانَتْ) أي تلك الجنة (لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) (١٥) أي مسكنا فما وعد الله به فهو كائن لا بد من وقوعه ، فكأنه قد كان ، ولأنه كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمان متطاولة : أن الجنة جزاؤهم ومستقرهم. (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) فكل فريق منهم مشتغل بما فيه من اللذات فلا يلتفتون إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ، وفي هذا تنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة. (خالِدِينَ) حال من الهاء في «لهم» فإن من شرط نعيم الجنة أن يكون دائما إذ لو انقطع لكان مخلوطا بنوع من الغم كنعيم الدنيا ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل : وما هو يا رسول الله؟ فقال : «سرور يوم» (كانَ) أي ما يشاءونه (عَلى رَبِّكَ) يا أفضل الخلق (وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦) أي موعودا مطلوبا لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، فإن المكلفين سألوه بلسان الحال ، لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته تعالى كان ذلك قائما مقام السؤال وما في «على» من معنى الوجوب لاستحالة الخلف في وعده تعالى ، فإن تعلق إرادته تعالى بالوعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز ، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ).

وقرأ ابن كثير وحفص بالياء. والباقون بالنون (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غيره ، أي ويوم القيامة يحشر الله العابدين لغير الله ومعبوديهم (فَيَقُولُ). قرأ ابن عامر بالنون. والباقون بالياء كأن يخلق في الأصنام الحياة فينطقها أو كأن جوابها بلسان الحال كما ذكره بعضهم

١٢٨

في تسبيح الموات وفي شهادة الأيدي والأرجل أي يقول الله للمعبودين تقريعا للعابدين (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) بأن دعوتموهم لعبادتكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧) أي أم هم ضلوا عن السبيل بأنفسهم بتركهم النظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد وعبدوكم بهوى أنفسهم. (قالُوا) أي المعبودين متبرئين عن العابدين : (سُبْحانَكَ) أي قالوه تعجبا مما قيل لهم أو إشعارا بأنهم منزّهون الله تعالى عما لا يليق به ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده أو قصدا لتنزيهه تعالى عن الأنداد (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) فنتخذ متعد لواحد ، و «من أولياء» مفعول ، و «من» زائدة ، و «من دونك» حال ، لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا. وعن أبي جعفر وابن عامر أنهما قرءا «تتخذ» بالبناء للمفعول فهو متعد لمفعولين ، والمفعول الأول نائب الفاعل ، و «من أولياء» مفعول ثان ، و «من» للتبعيض وتنكير «أولياء» من حيث إنهم أولياء مخصوصون ، وهم الجن والأصنام. ومعنى الآية : لا يستحق لنا أن يتخذ بعضنا أولياء. والحاصل إن كان معبودهم ملائكة قالت : نحن عبيدك فلا يستقيم لعبيدك أن يتخذوا من غيرك أحباء يعبدونهم فإذا كنا نعتقد أن غيرك لا يجوز أن يكون معبودا ، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا وإن كان أصناما قالت : لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا أن ندعي أننا من المعبودين فما أضللناهم. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) أي ولكن يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي تركوا الإيمان بالقرآن (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨) أي وصاروا قوما هالكين فاسدة القلوب. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي فقال الله تعالى عند ذلك : فقد كذبكم أيها الكفرة معبودكم في قولكم : إنهم آلهة. فالباء بمعنى في أو هي صلة للتكذيب على أن الجار والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب ، أي فقد كذبوا قولكم : إنهم آلهة. وانظر كيف أظهر الله صدق الأصنام وكذب الكفار ، وتقولون بالتاء الفوقانية باتفاق العشرة.

وقرئ شاذة بالياء ، أي كذبوكم بقولهم : (سُبْحانَكَ) الآية. (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً). وقرأ حفص بالتاء على الخطاب ، أي فما تستطيعون أيها الكفار صرف الأصنام والملائكة عن شهادتهم عليكم ولا نصر أنفسكم في إضافة الصدق إلى أنفسكم ولا تستطيعون دفع العذاب عنكم ولا منعه عنكم بأنفسكم ولا بغيركم. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة أي فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ويحتالوا لكم ، ولا أن ينصروكم بوجه من الوجوه. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩) أي ومن يكفر منكم يا معشر المؤمنين ، أو ومن يستمر منكم يا معشر الكفار على ما أنتم عليه من الكفر والعناد نذقه عذابا كبيرا في الدنيا والآخرة والعامة. قرءوا «نذقه» بنون العظمة. وقرئ بالياء والضمير عائد لله تعالى أو للظلم المفهوم من الفعل على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) و «إن» مكسورة باتفاق العشرة و «اللام» لام

١٢٩

الابتداء زيدت في الخبر ، والجملة الواقعة بعد إلا حالية ، أي وما أرسلنا قبلك يا أشرف الخلق أحدا من المرسلين إلا وحالهم آكلون وماشون فأنت مثلهم في ذلك. وقرئ «يمشون» على البناء للمفعول ، أي يمشيهم حوائجهم (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي وجعلنا كل أمة كافرة فتنة لرسولها المبعوث إليها كأن يقول بعض الكفار لبعض الأنبياء آتنا معجزة كمعجزة بني فلان (أَتَصْبِرُونَ) يا معشر الأنبياء على ما تسمعون من أقاويلهم الخارجة من حدود الإنصاف ، فالمعنى جرت سنتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم بإيذائهم لهم لنعلم صبرهم. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) بأعمال كلهم وجزائها. وهذا وعد كريم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لا يؤملون وعدنا على الطاعة من الثواب فلا يخافون العقاب لكفرهم بالبعث. وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) إلخ. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخربنا بصدق محمد في رسالته. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي أنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه. (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٢١) أي تجاوزوا الحد في الظلم حتى اجترءوا على هذا القول العظيم الشنيع. (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) منصوب بعامل دل عليه «لا بشرى» أي يبغون البشرى يوم يرون ملائكة العذاب قائلين : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين في كل الأوقات فإنهم يشافهون في أول الأمر بما يدل على نهاية اليأس والخيبة ، فذلك هو النهاية في الإيلام (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (٢٢) أي يقول الكافرون الذين طلبوا نزول الملائكة إذا رأوا الملائكة وفزعوا منهم عند الموت : ويوم القيامة حجرا محجورا ؛ وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول شدة ، ويضعونها موضع الاستعاذة. والمعنى : نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا. وقيل : يقول الحفظة للكفار ، إذا خرجوا من قبورهم : حجرا محجورا. ومعناه جعل الله الغفران والجنة والبشرى حراما عليكم.

وقال الكلبي : إن الملائكة على باب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين : حجرا محجورا. وقرأ الضحاك والحسن وأبو رجاء على ضمها. وقرئ بفتحها. (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي وقصدنا إلى أعمالهم التي ظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) أي أبطلناه وجعلناه مثل الهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه في عدم إمكان الانتفاع به بالكلية والهباء شبه غباريرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) هم المؤمنون (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) أي موضع استراحة نصف النهار في الحر وقد أشارت الآية إلى أن كلا من أهل الجنة وأهل النار قد استقروا في وقت القيلولة. وإن كان استقرار المؤمنين في راحة ، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلائق قد انقضى في هذا الوقت ، لأن القائلة تكون في نصف النهار ، والحساب يكون من أوله.

والمراد من ذلك : بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع ، كما أن موضع القيلولة يكون

١٣٠

كذلك ، وإشارة إلى أنه مزين بفنون الزخارف (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥) أي يوم القيامة تتفتح كل سماء بسبب طلوع الغمام منها ، وهو سحاب أبيض فوق السموات السبع ، ثخنه كثخن السموات السبع ، وثقله كذلك ، فينزل على السماء السابعة فيخرقها بثقله ، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض ، وفيه ملائكة كل سماء ، فينزل أولا ملائكة السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من إنس وجن ، ثم ينزل ملائكة السماء الثانية وهم أزيد من ملائكة سماء الدنيا ، وهكذا ، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ، فإذا نزل ملائكة سماء الدنيا اصطفوا حول العالم المجموع في المحشر صفا ، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية اصطفوا خلف هذا الصف صفا آخر ، وهكذا ، أي يحيطون بمن بعدهم حتى يصيروا سبع صفوف حول العالم. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي السلطنة القاهرة الثابتة ثباتا لا يمكن زواله صورة ومعنى ثابتة للرحمن يوم إذ تشق الغمام لا يشركه فيها أحد. (وَكانَ يَوْماً) أي ذلك اليوم (عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦) أي شديدا بخلاف المؤمنين فقد جاء في الحديث أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) أي يوم القيامة يأكل الكافر يديه إلى المرفق ، ثم ينبتان ، ثم يأكلهما وهكذا فلا يزال كذلك ـ كما قاله الضحاك وعطاء ـ وقال أهل التحقيق : هذه اللفظة كناية عن الندامة والغم. (يَقُولُ) حال من فاعل يعض (يا) لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه (لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (٢٧) أي ليتني صاحبت رسول الله في اتخاذ سبيل الهدى ، واستقمت على دين الرسول. (يا وَيْلَتى) أي يا هلاكي ، تعال فهذا أوانك (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨) أي صديقا وافقته في أعماله. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي والله لقد صرفني عن القرآن وموعظة الرسول (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي).

قال ابن عباس : والمراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية ، بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما يدعو إليه جيرانه من أهل مكة ، ويكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعجبه حديثه ، فصنع طعاما ودعا الرسول ، فلما قرب إليه الطعام قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فأكل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طعامه. وكان أبي بن خلف الجمحي صديقه فعاتبه ، فقال له : يا عقبة قد ملت إلى دين محمد! فقال عقبة : والله ما ملت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن شهدت له ، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم فقال : أبيّ لا أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فأتاه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل عقبة ذلك ، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» (١) فنزل قوله تعالى :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢ ، باب : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا

١٣١

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) إلخ ، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحرث ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، طعنه في أحد ، فرجع إلى مكة ومات. وقال الشعبي : كان عقبة خليل أمية فأسلم عقبة وقال أمية ، وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فارتد ، فأنزل الله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) وعلم من ذلك أن المراد بفلان أبي أو أمية (وَكانَ الشَّيْطانُ) أي إبليس (لِلْإِنْسانِ) أي الكافر (خَذُولاً) (٢٩) أي مبالغا في ترك النصرة بعد المعاونة ، وكان يعد الإنسان في الدنيا بأنه ينفعه في الآخرة وهذا من كلام الله تعالى ، فإن آخر كلام الظالم بعد إذ جاءني ، فالوقف عليه تام (وَقالَ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكاية لله مما صنع قومه وفي هذا تخويف لقومه ، لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا). (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (٣٠) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يتأثروا بتخويفه وفي هذا تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تعلّم القرآن وعلّق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب ، عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» (١). (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ، ويفعلون ما يفعلون جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا ، (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣١) أي كفاك مبلغك إلى الكمال ومالك أمرك هاديا لك إلى مصالح الدين والدنيا وناصرا لك على جميع من يعاديك. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة كأبي جعل وأصحابه (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي هلا أنزل القرآن كله جملة واحدة ، كالكتب الثلاثة : التوراة والإنجيل والزبور (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي مثل ذلك التنزيل المفرّق نزلناه لنقوي بذلك فؤادك ، فإن فيه تيسير الحفظ ، وفهم المعاني. وهذا كلام الله ذكره جوابا لهم وردا لهذه الشبهة (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) معطوف على الفعل المقدر الذي تعلق به كذلك ، أي كذلك أنزلناه وآتينا بعضه بعد بعض على تؤدة وتمهل في ثلاث وعشرين سنة (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) أي ولا يأتي المشركون إياك يا أشرف الخلق بسؤال عجيب ، يريدون به القدح في نبوتك إلا جئناك بالجواب الحق الذي يدفع قولهم ، (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣) بيانا وبأقوى حجة (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي يحشرون يوم القيامة كائنين على وجوههم يسبحون

__________________

منها ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب : ١٤١ ، والترمذي في كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٥ ، باب : ١ ، وأحمد في (م ١ / ص ٣٨٠)

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٧ : ٣١٩) ، وأحمد في (م ٥ / ص ١٥٣).

١٣٢

عليها ، ويجرون إلى جهنم. وهذا الموصول صفة للموصول الأول ، أو بدل منه (أُوْلئِكَ) أي الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت (شَرٌّ مَكاناً) أي منزلا في الآخرة وعملا في الدنيا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٣٤) عن الحق (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي أنزلنا التوراة على موسى بعد غرق فرعون وقومه ، (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) (٣٥) يعينه في الدعوة وإعلاء الكلمة (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي آيات الإلهية وهي مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده بالملك والعبادة ، أي فذهبا إليهم فأرياهم الآيات التسع كلها ، وهي آيات النبوة ، فكذبوها كما كذبوا الآيات الإلهية (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) (٣٦) أي أهلكناهم عقب ذلك التكذيب إهلاكا عجيبا (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) أي نوحا ومن قبله ، فإنهم اشتركوا في المجيء بالتوحيد (أَغْرَقْناهُمْ).

فقال الكلبي : أمطر الله عليهم السماء أربعين يوما وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين فصارت الأرض بحرا واحدا (وَجَعَلْناهُمْ) أي وجعلنا إغراقهم (لِلنَّاسِ آيَةً) أي عبرة لمن سمع قصتهم لكيلا يقتدوا بهم ، (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي قوم نوح ومن سلك سبيلهم في تكذيب الرسل (عَذاباً أَلِيماً) (٣٧) هو عذاب الآخرة ، (وَعاداً) عطف على المفعول الأول «لجعلنا» ، (وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) ، وهي بئر غير مطوية ، ولهم وجوه.

أحدها : هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه ، فبينما هم حول البئر خسف الله بهم وبديارهم.

وثانيها : أن الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود ، فبعث إليهم نبي فقتلوه ، فهلكوا.

ثالثها : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم بطير عظيم فيها من كل لون سمي بالعنقاء فتخطف صبيانهم ، وعروسا فدعا عليها حنظلة فأصابتهم الصاعقة ، ثم إنهم قتلوا حنظلة عليه‌السلام فأهلكوا.

ورابعها : أن الرس بئر في أنطاكية كذبوا حبيبا النجار وقتلوه ، فدسوه في البئر.

وخامسها : عن علي رضي‌الله‌عنه أنهم كانوا قوما يعبدون شجر الصنوبر وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوها في الأرض بينهم.

وسادسها : هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له : الرس من بلاد المشرق فبعث الله إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب ، فكذبوه ، فلبث فيهم ، فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا بئرا ورسوه فيها ، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة ، فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد ، وأظلتهم سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (٣٨) أي أقواما كثيرا بين الطوائف المذكورة (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي كل قرن بينا له القصص العجيبة الزاجرة عن الكفر والمعاصي بواسطة الرسل (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٣٩) أي كل

١٣٣

واحد منهم فتتنا تفتيتا لما كذبوا الرسل فإنا لم نهلكهم إلا بعد الإنذار وجواب ما أوردوه من الشبه حتى وضح لهم السبيل. (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي وبالله لقد مرّ قريش على قرية سذوم من قرى قوم لوط التي أهلكت بالحجارة من السماء في أسفارهم إلى الشام للتجارة ، (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) أي أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٤٠) أي بل كانوا قوما ينكرون البعث ، ولا يؤمنون بالجزاء الأخروي فلا يرجون ثواب الآخرة حينئذ لا يتحملون متاعب التكاليف ومشاق الاستدلال (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ، أي إذا رآك يا أشرف الخلق كفار مكة قصروا معاملتهم معك على اتخاذهم إياك هزوا فقوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) جواب «إذا» ، واختصت «إذا» بكون جوابها لا يحتاج إلى الفاء إذا كان منفيا بما أو إن أو لا بخلاف غيرها من أدوات الشرط. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١).

وهذا محكي لقول مضمر هو حال من فاعل «يتخذونك» أي إذا رأوك يستهزئون بك قائلين : أبعث الله هذا رسولا إلينا ، وهذا على سبيل الاستهزاء. والمعنى : أهذا الذي يزعم أنه بعثه الله رسولا (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها).

ويروى أن هذا من قول أبي جهل و «إن» مخففة من «إن» الثقيلة ، وضمير الشأن محذوف أي إن الشأن كاد هذا الرجل ليصرفنا من عبادة آلهتنا صرفا كليا لو لا أن ثبتنا عليها ، وهذا اعتراف منهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجج وإظهار المعجزات إلى حيث قاربوا أن يتركوا دينهم ، لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) الذي يستحقه كفرهم وعنادهم عيانا في الآخرة (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٢) أي من أخطأ حجة فهذا وعيد شديد لهم على الإعراض عن الاستدلال والنظر (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٤٣). وهذا أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعجب من شناعة حالهم ، أي أرأيت يا أشرف الخلق الذي جعل معبوده ما يهواه وهو النضر وأصحابه أفأنت تكون عليه حفيظا تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك.

وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم ، فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات سماع تفكّر ، أو يفهمون ما فيها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن ، وهذا انتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ممن يسمع أو يعقل فـ «أم» بمعنى بل والهمزة التي للاستفهام الإنكاري وإنما ذكر الأكثر لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم ، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل

١٣٤

والمعجزات ، وإقبالهم على اللذات الحاضرة (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤) من الأنعام ، لأنها تنقاد لمن يتعهدها ، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها ، وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه تعالى من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب ولا يتقون العقاب ، ولأنها جارية إلى ما خلقت هي له فلا تقصير منها ، في طلب الكمال لأنه غير ممكن منها وهؤلاء معطلون لعقولهم مستحقون بتقصيرهم أعظم العقاب ، (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق إلى حسن صنع ربك ، (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)؟ أي كيف بسطه؟ فالظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص ، والظلمة الخالصة ، وهو فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران ، وهو أطيب الأحوال ، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وتسد النظر والضوء الخالص من شعاع الشمس يبهر البصر ويسخن الجو ، وهي مؤذية. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي دائما غير زائل بأن لا تذهبه الشمس (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي الظل (دَلِيلاً) (٤٥) ، فالنظر إلى الجسم الملون وقت الظل لا يشاهد شيئا سوى الجسم ، واللون ، ولا يعرف شيئا ثالثا فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم ، زال ذلك الظل ، فعرف أن للظل وجودا لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، فلولا الشمس لما عرف الظل ، ولولا الظلمة لما عرف النور ، فالله تعالى لما أطلع الشمس على الأرض ، وأزال الظل ، ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ، فلهذا قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أي خلقنا الظل أولا بالمنافع واللذات ، ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطلاع الشمس فكانت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة ، والخطاب في (أَلَمْ تَرَ) عام ، وإن كان ظهره للرسول ، لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في تنبههم على هذه النعمة وتوجيه الرؤية إلى الله تعالى إشارة إلى أن الذي ينبغي للعاقل أن يكون مطمح نظره معرفة شؤون الصانع الحكيم وأن يكون نظره مقصور على الآثار والصنائع ، (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) أي ثم أزلنا الظل يسيرا يسيرا ، فكلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل ، وقبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح ، فإذا غربت الشمس ، فليس هناك ظل إنما ذلك بقية نور النهار وقوله تعالى : (إِلَيْنا) للتصريح على كون مرجع الظل إليه تعالى كما أن حدوثه منه تعالى ، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي مثل اللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي جعل النوم الواقع في الليل قطعا عن الأفعال المختصة بحال اليقظة. (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧) أي زمان بعث من ذلك النوم. وفي هذا إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت وتنشر (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر.

وقرأ ابن كثير «الريح» بالإفراد وقرأ «نشرا» نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي

١٣٥

ناشرات للسحاب. وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل أي متفرقة. وقرأه عاصم بالباء الموحدة المضمومة وسكون الشين أي مبشرات فالرياح المبشرات هي : الصبا ، والجنوب ، والشمال. أما الدبور : فهي ريح العذاب التي أهلكت بها عاد. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤٨) أي بليغا في الطهارة (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي مكانا لا نبات فيه ، أي ليصير ذا نبات (وَنُسْقِيَهُ) أي ذلك الماء (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) أي بهائم (وَأَناسِيَ) جمع إنسان أصله أناسين ، (كَثِيراً) (٤٩). وهذا إما راجع لـ «الأناسي» ، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار ومنابع المياه فهم في غنية في شرب الماء عن المطر ، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وإما راجع إلى «ونسقيه» ، وذلك لأن الحيوان يحتاج إلى الماء حالا بعد حال ما دام حيا وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان أقرب إلى الضرر. (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي وبالله لقد أجرينا المطر في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة حتى انتفعوا بالزرعات ، وأنواع المعاش به ، كما روي مرفوعا عن ابن مسعود قال : «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ، ورزق معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله تعالى ذلك إلى غيرهم فما زيد لبعض نقص من غيرهم ، وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار». (لِيَذَّكَّرُوا).

وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف ، أي ليذكروا نعمة الله به ويقوموا بشكره. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين ، أي ليعتبروا بالصرف إليهم وعنهم (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠) أي جحودا للنعمة من حيث لا يتفكرون فيها ، ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه. وقيل : المعنى : وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر بين الناس المتقدمين والمتأخرين في القرآن ، وسائر الكتب المنزلة على الرسل ليستدلوا به على الصانع ، فأبى أكثر الناس إلا كفور النعمة القرآن والكتب ، ولنعمة المطر حيث أسندوها لغير خالقها ، (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٥١) أي نبيا ينذر أهلها فيخف عليكم أعباء الرسالة ، ولكنا قصرنا الأمر عليكم وفضلناك على سائر الرسل (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي فلا توافقهم فيما يأمرونك (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) (٥٢) أي جاهدهم بسبب كونك نذيرا كافة القرى جهادا جامعا لك مجاهدة ، أو وجاهدهم ملابسا بترك طاعتهم بل بالشدة لا بالمداراة جهارا كبيرا ، وذلك بتلاوة ما في القرآن من الزواجر والنواذر وتذكير أحوال الأمم المكذبة ، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسلهما في مجاريهما متلاصقين (هذا عَذْبٌ) أي سائغ (فُراتٌ) أي بالغ في العذوبة حتى يصير إلى

١٣٦

الحلاوة ، (وَهذا مِلْحٌ) أي مر (أُجاجٌ) أي زعاق. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما) أي الطيب والمالح (بَرْزَخاً) أي حائلا غير مرئي بقدرة الله تعالى (وَحِجْراً مَحْجُوراً) (٥٣) أي سترا ممنوعا به تغيير أحدهما طعم الآخر ، فالعذوبة أو الملوحة ، إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ) أي من ماء الذكر والأنثى (بَشَراً) أي خلقا كثيرا (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي فقسم البشر قسمين : ذكورا ينسب إليهم وإناثا يصاهر بهن ، أي يقارب ويخالط بهن. وقيل : النسب : ما لا يحل تزويجه من القرابة ، والصهر ما يحل التزويج من القرابة وغيرها. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (٥٤) حيث خلق من مادة واحدة بشرا مختلفا ألوانه ، وأعضاؤه وطباعه. وربما خلق من نطفة واحدة توأمين فأكثر. (وَيَعْبُدُونَ) أي كفار مكة (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ) بعبادته في الدنيا والآخرة (وَلا يَضُرُّهُمْ) بترك عبادته فيهما ، وهو الأوثان. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٥٥) أي وكان الكافر جماعة بعضهم معاون لبعض على إطفاء نور دين الله ، أو وكان الكافر معاونا للشيطان على عصيان ربه بالعداوة والشرك ، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) للمؤمنين على الطاعة (وَنَذِيراً) (٥٦) للكافرين على المعصية. (قُلْ) يا أكرم الرسل لأهل مكة : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧) أي لا أطلب على تبليغ الرسالة من أموالكم أجرأ إلا فعل من أراد أن يطلب المنزلة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة كما أدعوكم إليهما. وقيل : لا أطلب من أموالكم جعلا لنفسي عن التبليغ لكن من شاء أن ينفق أمواله لاتخاذ السبيل إلى ربه بالصدقة وغيرها فليفعل فالاستثناء على الأول متصل ، وعلى الثاني منقطع. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي اعتمد بقلبك في كل الأمور على الله تعالى والأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي نزهه تعالى عن صفات النقصان مثنيا عليه بنعوت الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على كثير نعمه. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨) أي كفى الله مطلعا على ذنوب عباده ما ظهر منها وما بطن. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، فخلق الأرض في يومين : الأحد والاثنين. وما بينهما في يومين : الثلاثاء والأربعاء. والسموات ، في يومين الخميس والجمعة وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة ومحل الموصل جر على أنه صفة ثانية لـ «الحي» (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) فالوقف على العرش تام إن أعرب «الرحمن» على المدح خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود إلا له وهو في الحقيقة صفة ثالثة لـ «الحي» كما قرأ زيد بن علي بالجر ، لأن المنصوب والمرفوع على سبيل المدح وإن خرجا عن التبعية لما قبلها صورة تابعان له حقيقة ولا يوقف على العرش إن أعرب «الرحمن» بدلا من الضمير المستكن في «استوى» فحينئذ فالوقف على الرحمن ، وهو وقف كاف. ومعنى «استوى على العرش» أي ارتفع خالق السموات والأرض ارتفاعا يليق بجلاله

١٣٧

وتصرف في ملكه تصرفا تاما. (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩) أي فاسأل أيها الإنسان عنه تعالى عالما بصفاته من الراسخين في العلم ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أي وإذا قيل لكفار مكة : اخضعوا للرحمن بالتوحيد والصلاة وغير ذلك. (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) : وما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذب أي فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي للذي تأمرنا بسجوده من غير أن نعرف السجود له ماذا.

وقرأ حمزة والكسائي بالياء أي أنسجد لما يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو هل هو مسيلمة الكذاب أو غيره أو كان الضمير راجعا لسيدنا محمد على أن بعضهم قال لبعض : أنسجد لأمر محمد إيانا بالسجود من غير معرفتنا للمسجود له. (وَزادَهُمْ) أي الأمر بسجود الرحمن (نُفُوراً) (٦٠) أي تباعدا عن الإيمان (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي منازل الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم :

فتزاهرت لعطارد الأقمار

 

زحل شرى مريخه من شمسه

وأسماء البروج منظومة في قول بعضهم :

ورعى الليث سنبل الميزان

 

حمل الثور جوزة السرطان

نوح الدلو بركة الحيتان

 

و رمى عقرب بقوس لجدي

وهذه البروج الإثنا عشر مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس : مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي : مثلثة أرضية. والجوزاء والميزان والدلو : مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. (وَجَعَلَ فِيها) أي البروج (سِراجاً) وهو الشمس.

وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» بضم السين والراء وهي الشمس والكواكب الكبار ، (وَقَمَراً مُنِيراً) (٦١) أي مضيئا بالليل. وقرأ الحسن والأعمش و «قمرا» وهي جمع قمراء ، لأن الليالي تكون قمراء بالقمر (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يعتقبان يأتي أحدهما بعد الآخر (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ). قرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين. وعن أبي بن كعب : ليتذكر أي لينظر الناظر في اختلافهما ، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من صانع رحيم للعباد ، (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢) أي ليشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف في النهار. وقال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، والحسن ، معنى الآية : من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار. ومن فاته بالنهار أدركه بالليل (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي هينين أي إن مشى عباد الله المقبولين في لين وسكينة وتواضع لا يضربون بأقدامهم ، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء. وعن زيد بن أسلم قال : التمست

١٣٨

تفسير «هونا» فلم أجد ، فرأيت في النوم فقيل لي : هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض. و «عباد» مبتدأ خبره الموصول و «ما» عطف عليه. (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بالسوء (قالُوا سَلاماً) (٦٣) أي ردوا معروفا كأن يقولوا لا خير بيننا وبينكم ، ولا شر فهو سلام توديع لا تحية. كقول سيدنا إبراهيم عليه‌السلام لأبيه سلام عليكم : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤) أي يحيون الليل بالصلاة ، و «سجدا» خبر «يبيتون». (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) في دعائهم : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) (٦٥) أي هلاكا لازما أي فإنهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب الله (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٦٦) وهذا يمكن أن يكون من كلام الله تعالى فهو مستأنف ، وأن يكون حكاية لقولهم تعليل بسوء حالها في نفسها عقب تعليل بسوء حال عذابها. والمعنى : أن جهنم بئست جهنم هي حال كونها مستقرا للعصاة من أهل الإيمان فإنهم غير مقيمين فيها وحال كونها مقاما للكافرين فإنهم يخلدون ويقال : إن جهنم أحزنت داخليها من جهة موضع استقرار ، ومن جهة موضع إقامة. (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) أي لم يجاوزوا حد الكرام (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي ولم يضيفوا تضييق الشحيح (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار وسطا.

وقرأ نافع وابن عامر «يقتروا» بضم التحتية وكسر الفوقية ، وابن كثير وأبو عمرو بفتح التحتية وكسر الفوقية ، والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية فالقراءات السبعية ثلاثة والقاف على كل ساكنة. وقرئ «قواما» بكسر القاف ، أي ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة ، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد.

وروي أن رجلا صنع طعاما في أملاك ، فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «حق فأجيبوا». ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال : «خلق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد». ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال : «رياء ولا خير فيه». (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) أي لا يعبدون (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ). والمقصود من هذا تنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أي بالردة وبالقتل قودا ، وبالزنا بعد الإحصان ، فالمقتضى لحرمة القتل قائم أبدا وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله تعالى : (حَرَّمَ اللهُ) إشارة إلى المقتضى وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) إشارة إلى المعارض (وَلا يَزْنُونَ). وعن ابن مسعود قلت : يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال :«أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت : ثم أيّ قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت : ثم أيّ قال : أن «تزني بحليلة جارك» (١). فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ)

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٠٢٢٧).

١٣٩

أي ما ذكر من الثلاثة كما هو دأب الكفرة المذكورين (يَلْقَ أَثاماً) (٦٨) أي جزاء إثمه. وقال الحسن : الأثام اسم من أسماء جهنم. وقال مجاهد : الأثام واد في جهنم.

وقرأ ابن مسعود أياما أي شدائد ، لأنه يقال لليوم الصعيب يوم ذو أيام (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ). وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وإسقاط الألف (وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي في ذلك العذاب (مُهاناً) (٦٩) أي مقرونا بالإذلال كما أن الثواب مقرون بالتعظيم. وقرأ ابن عامر وشعبة «يضاعف» و «يخلد» كلاهما بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال. وقرأ حفص مع ابن كثير «فيه» بصلة الهاء بالياء (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي يغفر الله لهم تلك السيئات ، ويكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع ، ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (١). (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠).

روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ، فلما نزل صدرها قال أهل مكة : قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش فأنزل الله الا من تاب إلى رحيما (وَمَنْ تابَ) عن المعاصي بتركها والندم عليها ، (وَعَمِلَ صالِحاً) يتدارك به ما فرط ، ولو كان نيته وعمله كلاهما ضعيفا (فَإِنَّهُ يَتُوبُ) أي يرجع (إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١) أي رجوعا مرضيا عند الله أي ومن تاب عن المعاصي إلى الطاعة ، فإن التوبة منه في الحقيقة توبة إلى الله أي فإنه قد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب ، محصلة للثواب ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليتمنين أقوام لو أنهم أكثروا من السيئات». قيل : من هم يا رسول الله؟ قال : «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» (٢). (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لا يحضرون مواضع الكذب ، فإن حضور مجامع الفساق مشاركة لهم في تلك المعصية ولأن النظر دليل الرضا بها أو لا يشهدون بالكذب.

وقال محمد بن الحنفية : الزور الغناء (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي بأهل اللغو على سبيل الاتفاق من غير قصد (مَرُّوا كِراماً) (٧٢) أي مكرمين أنفسهم عن مثل حال اللغو ، وهو كل ما يجب أن يترك وإكرامهم لأنفسهم لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) أي والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على

__________________

(١) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٥٠٨٦) ، والبغوي في شرح السنّة (١٣ : ٨٦) ، وابن المبارك في الزهد (١٣٠) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٦٩٣).

(٢) رواه السيوطي في جمع الجوامع (٤٧٠٠) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٥٨١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٣٤٤) ، والقرطبي في التفسير (١٣ : ٨٧).

١٤٠