مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الذنب العظيم (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بعد التوبة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) فحينئذ لا ينظمهم في سلك الفاسقين ، ومحل المستثنى نصب ، لأنه من مثبت وهو راجع إلى الفسق فقط كما قال أبو حنيفة : إن الفاسق لا تقبل شهادته وإن تاب أو هذا الاستثناء راجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق كما هو مذهب مالك والشافعي ، وكما يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وجمع من الصحابة ، فمحل المستثنى حينئذ الجر على البدلية من الضمير في «لهم» ، فعند الشافعي : أن التائب تقبل شهادته ويزول فسقه ، ومعنى الأبد عنده مدة كونه قاذفا فتنتهي بالتوبة. قال الشافعي : التوبة من القذف إكذابه نفسه ، كما روي عن عمر بن الخطاب أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة ، وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ، ثم قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لا يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع وتابا وكان عمر يقبل شهادتهما ، وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته ، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة ، واتفق الأئمة الأربعة على عدم رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ) فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بدل من شهداء أو صفة لها على أن الا بمعنى غير ، أو وجدت البينة ولكن لم يريدوا إظهارها (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٦).

وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع أربع خبر لشهادة وبالله متعلق بشهادات ، والباقون بنصب «أربع» على أنه مفعول مطلق والعامل فيه شهادة وهو خبر لمبتدأ محذوف ، أي فالواجب شهادة ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي فشهادة كل واحد منهم واجبة (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٧) فيما رماها به من الزنا.

وقرأ نافع بسكون نون «أن» ، ورفع لعنة. والباقون بتشديد النون ونصب «لعنة» وهو خبر ، و «الخامسة» أو بدل منها أو على تقدير حرف الجر أي بأن لعنة الله ، ويجوز أن تكون الخامسة معطوفا على المبتدأ ، فالخبر المحذوف خبر عن المعطوف والمعطوف عليه وجملة و «الخامسة أن لعنة الله» إلخ معترضة بين المبتدأ وخبره المحذوف. وقرئ و «الخامسة» بالنصب على معنى : ويشهد الخامسة كما قاله الرازي : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي يدفع عن المقذوفة حد الزنا الذي ثبت بيمين القاذف (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (٨) فيما رماها به من الزنا (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) أي زوجها (مِنَ الصَّادِقِينَ) (٩) فيما قال عليها. وقرأ حفص و «الخامسة» بالنصب ، أي وتشهد الشهادة الخامسة وما بعدها بدل منها أو على تقدير حرف الجر والباقون بالرفع وما بعدها خبرها.

وقرأ نافع «أن» بالسكون و «غضب الله» بكسر الضاد ، وضم الجلالة على أنه فعل وفاعل ، والباقون بتشديد «أن» ، وقرئ غضب بالرفع مع تخفيف «أن».

روي أن هلال بن أمية قذف امرأته بالزنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إما

١٠١

البينة وإما إقامة الحد عليك». فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم حتى بلغ إن كان من الصادقين فلما سرى عنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا». قال : قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوها» فدعيت ، فكذبت هلال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» وأمر بالملاعنة ، فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الخامسة : «اتق الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد الخامسة ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتشهدين؟» فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها : «اتقي الله فإن الخامسة هي الموجبة» ، فتفكرت ساعة وهمّت بالاعتراف ، ثم قالت : «والله لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ثم قال : «انظروها فإن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين ، فهو لهلال وإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء» (١) ، فجاءت به كذلك (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠) لكان ما كان أي لو لم يشرع الله لهم اللعان لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر أنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضيحة ، ولأنه أعرف بحال زوجته ، وإنما أوجب الله لهم أربعة شهداء للستر على من اقترف الكبائر وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل أيمانه موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها ، ولو جعل أيمانها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له فجعل أيمان كل منهما دارئة للغائلة الدنيوية مع كذب أحدهما حتما ، وفي ذلك آثار التفضل والرحمة ، أما على الصادق فظاهر ، وأما على الكاذب فهو إمهاله في الدنيا بدرء الحد عنه لعله يتوب في الدنيا فغفر له. وكما ستر الله عليهم في الدنيا ولم يفضحهم بإظهار صدقهم وكذبهم وأجلهم بالعقوبة إلى الآخرة لدرك التوبة في الدنيا ، كذلك جعل سنة اللعان باقية بين المسلمين لتكون الحكمة باقية بينهم سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته ، (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي بأبلغ الكذب (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة من المؤمنين ؛ وهم زيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وعباد بن المطلب ، وحمنة بنت جحش ، وهي زوجة طلحة بن عبيد الله. و «عصبة» خبر «إن» وهي من العشرة إلى الأربعين (لا تَحْسَبُوهُ) الإفك (شَرًّا لَكُمْ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم ، فإن قصة الإفك كانت في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي حق عائشة وأبويها ، وفي حق جميع الصحابة امتحانا لهم

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٣٦٩).

١٠٢

وتهذيبا فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أشد الناس بلاء : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبتلى الرجل على قدر دينه» (٢). أي وذلك لأن الله غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه ، ويرده إلى حضرته ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل له : أيّ الناس أحب إليك؟ قال : «عائشة» فساكنها (٣) وقال : «يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة» وفي بعض الأخبار أن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك اه. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك حتى رد الله رسوله عن عائشة إلى الله تعالى بانحلال عقدة حبها عن قلبه ، ورد عائشة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الله تعالى حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها : بحمد الله لا بحمدك.

وقصة الإفك : إن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه ، فأقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق ، فخرج فيها اسمي ، فخرجت معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج ، فسرنا حتى إذا رجعنا وقربنا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت والتمسته ، وحبسني طلبه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فحملوا هودجي ، فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي فلما رجعت لم أجد في المكان أحدا فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فلما رآني عرفني ، فاستيقظت باسترجاعه فخمرت ، وجهي بجلبابي وو الله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، فنزل حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها ، فركبتها ، ثم قاد البعير حتى أتينا الجيش فتفقّدني الناس حين نزلوا وماجوا في ذكري فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليها فخاض الناس في حديثي ، والذي بدأ بالإفك وأذاعه بين الناس عبد الله بن أبيّ فقدمنا المدينة ، فلحقني وجع ولم أر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أعرفه منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ، ثم يقول : «كيف تيكم؟» ثم ينصرف فلا أشعر بما جرى من الإفك حتى نقهت ، فخرجت في بعض الليالي مع أم مسطح جهة المناصع ، وكان متبرزنا ثم أقبلت أنا وهي قبل بيتي فعثرت ، أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح. فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا؟! فقالت : أو ما بلغك الخبر؟ فقلت :

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٨٠).

(٢) رواه أحمد في (م ٦ / ص ١٠٣ ، ١٩٧) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٤٣٥٨) ، والطبري في التفسير (٨ : ٧٣).

(٣) رواه ابن حبيب في مسند الربيع (١ : ٦) ، بما معناه.

١٠٣

وما هو؟ فقالت : أشهد أنك من المؤمنات الغافلات ، ثم أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي ، ثم دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال : «كيف تيكم؟» فقلت له : ائذن لي أن آتي أبوي ، فأذن لي فأتيت أبوي فقلت لأمي : يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ فقالت : يا بنية هوني عليك فو الله ما كانت امرأة وصيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، ثم قالت : ألم تكوني علمت ما قيل فيك حتى الآن ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، فدخل علي أبي وأنا أبكي فقال لأمي : ما يبكيها قالت : لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن. فأقبل يبكي ، ثم قال : اسكتي يا بنية فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلم ، ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل ، ثم قال : «أما بعد ، يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت برئية فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه». قالت : فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته فاض دمعي ، ثم قلت لأبي أجب عني رسول الله. فقال : والله ما أدري ما أقول ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله فقالت : والله ما أدري ما أقول فقلت والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة منه لتصدقوني ، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلّا ما قال العبد الصالح أبو يوسف ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، ثم تحولت واضطجعت على فراشي ، والله أنا أعلم أن الله يبرئني ، وكنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت : فو الله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيه ، فو الله ما سرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس. فلما سرى عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها ، أن قال : «أبشري يا عائشة قد برأك الله» (١) فقلت بحمد الله لا بحمدك ، ولا بحمد أصحابك. فقالت : أمي قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد أحدا إلا الله الذي أنزل براءتي قالت : ولما نزل عذري قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب الحد على عبد الله بن أبي ومسطح ، وحمنة ، وحسان (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي على كل امرئ من أولئك العصبة (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاؤه فقدر العقاب يكون مثل قدر الخوض في الإثم ، وصار حسان أعمى أشل اليدين في آخر عمره ، ومسطح بن أثاثة وابن خالة أبي بكر الصديق ، مكفوف البصر وجلدت معهما امرأة من قريش (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) أي الذي تحمل أكثر الإفك من

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب النكاح ، باب : فيما يؤمر به من غضّ البصرة وأحمد في (م ٥ / ص ٣٥٣ ، ٣٥٧).

١٠٤

أولئك العصبة فابتدأ به ورغب في إشاعته وهو عبد الله بن أبي (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١) في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالحد ، وبالطرد ، وبأنه مشهور عليه بالنفاق (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) (١٢) أي هلا ظننتم بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم خيرا حين سمعتم الإفك ، ولم لم تقولوا حينئذ هذا إفك ظاهر؟ فكيف بالصدّيقة ابنة الصدّيق ، أم المؤمنين ، حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! كما روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوءا قال : لا ، قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعائشة خير مني وصفوان خير منك (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا أتوا على ما قالوا بأربعة شهداء عاينوا الزنا (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك الخائضون في حكمه تعالى ، هم الكاملون في الكذب (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٤) أي ولولا فضل الله عليكم أيها السامعون والمستمعون ورحمته في الدنيا بالإمهال للتوبة ، وفي الآخرة بالمغفرة بعد التوبة لأصابكم عاجلا بسبب حديث الإفك الذي خضتم فيه عذاب عظيم. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي وقت أخذكم حديث الإفك من المخترعين حتى اشتهر بسبب إفاضتكم (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي تقولون بأفواهكم كلاما ليس تفسيرا عن علم في قلوبكم. (وَتَحْسَبُونَهُ) أي حديث الإفك (هَيِّناً) أي ذنبا صغيرا أو لا إثم فيه حيث سكتم عن إنكاره ، (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ) أي والحال أن حديث الإفك عنده تعالى (عَظِيمٌ) (١٥) في الوزر واستجرار العذاب (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) أي وهلا قلتم تكذيبا للمخترعين والمشيعين حين سمعتم حديث الإفك ما يليق لنا أن نتكلم بهذا القول ، وأن يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه (سُبْحانَكَ) أي أتعجب ممن تفوه بهذا الكلام فإنه أمر عظيم وأنزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة ، (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦) أي كذب عظيم عند الله تعالى لعظمة المتقول عليه ولاستحالة صدق هذا القول (يَعِظُكُمُ اللهُ) بهذه المواعظ التي تعرفون بها عظم هذا الذنب ، كراهة (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي مدة حياتكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧) فإن الإيمان وازع عنه. (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي لأجلكم الآيات الدالة على محاسن الآداب دلالة واضحة لتتأدبوا بها ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بجميع أحوال عباده ، (حَكِيمٌ) (١٨) في جميع تدابيره وأفعاله. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الذين يريدون انتشار الخصلة المفرطة في القبح فيما بين الناس ، فالجار متعلق بتشيع أو متعلق بمضمر هو حال من الفاحشة ، أي إن العصبة الذين يقصدون شيوع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين عائشة وصفوان. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) من الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين. ولقد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبيّ ، فظهر كفره بعد أن كتمه ، وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسانا ومسطحا حد القذف ، وقعد صفوان

١٠٥

لحسان ، فضربه ضربة بالسيف فكف بصره. (وَالْآخِرَةِ) من عذاب القبر وعذاب النار ، ومما يعلمه الله تعالى ، فالحدود جوابر للذنب المحدود به ، كالقذف. وأما ذنب الأقدام فلا يكفره إلا التوبة وعذاب الآخرة لعبد الله بن أبيّ خاصة ، (وَاللهُ يَعْلَمُ) جميع الأمور ، ومن جملتها محبة ظهور الفاحشة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩) ما يعلمه الله تعالى ، لأن محبة القلب كامنة ، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء وإن بالغ العبد في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم ذلك منه ، ويعلم قدر الجزاء منه ، أما نحن فلا نعلم محبة القلب إلا بالأمارات (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بكم (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢٠) لهلكتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفاحشة في المؤمنين (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن يتبع طرق تزيين الشيطان فقد فعل القبيح ، وما لا يعرف في شريعة ، ولا في سنة ، لأن عادته يأمر بهما. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب ، وبشرع الحدود المكفّرة لها ، (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب إلى آخر الدهر. فإن العصبة قد تابوا وطهروا غير عبد الله بن أبي فإنه استمر على الشقاوة حتى مات.

وقرأ يعقوب وابن محيصن «ما زكّى» بتشديد الكاف أي ما طهر الله تعالى أحدا من أولئك العصبة من تلك الذنوب أبدا (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهره من الذنوب بحمله على التوبة وبقبولها ، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما أظهروه من التوبة ، ولأقوالكم في القذف ، وفي إثبات البراءة لعائشة ، (عَلِيمٌ) (٢١) بإخلاصكم في التوبة وبمحبة إشاعة الفاحشة وبكراهيتها. (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ولا يقصر أولو الفضل في الدين والسعة في المال في أن يحسنوا إليهم ـ كذا قاله أبو مسلم ، كما يروى عن أبي عبيدة ـ والمعنى عند أكثر المفسرين : ولا يحلف أولو الفضل منكم في الدين والبذل ، والغنى بالمال على أن لا ينفقوا عليهم وعلى أن لا يعطوهم. وقرأ الحسن «ولا يتأل» ، (وَلْيَعْفُوا) أي وليتجاوزوا عن الخائضين في الإفك بالظاهر ، (وَلْيَصْفَحُوا) أي ليعرضوا عن لومهم بالقلب بأن يتناسوا جرمهم. وقرئ الأفعال الثلاثة بتاء الخطاب. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢).

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح ـ وهو ابن خالته ـ وكان من فقراء المهاجرين وقد كان يتيما في حجره ، وكان ينفق عليه ، وأن لا ينفق على ذوي قرابته لما خاضوا في أمر عائشة ، فلما نزلت الآيات التي أبرأت عائشة من الإفك قال لهم أبو بكر : قوموا فلستم مني ولست منكم ، ولا يدخلن أحد منكم علي. فقال مسطح : ننشدك الله والإسلام والقرابة أن لا تحوجنا إلى أحد ، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب وإنما كنت أغشى

١٠٦

مجلس حسان ، وأسمع ولا أقول. فقال لمسطح : إن لم تتكلم فقد ضحكت وشاركت فيما قيل فقال : قد كان ذلك تعجبا من قول حسان ، فلم يقبل عذره وقال : انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون ، وأين يتوجهون من الأرض. وبعض الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي بكر ، وقرأ عليه الآية ، فلما وصل إلى قوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)» قال : بلى يا رب ، إني أحب أن تغفر لي ، فذهب أبو بكر إلى بيته ، وأرسل إلى مسطح وأصحابه وقال : قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين ، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم ، فرجع إلى مسطح نفقته ، وحلف أن لا ينزعها منه أبدا وألطف بقرابته وأحسن إليهم وهذا من أعظم أنواع المجاهدات ، فإن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة الكفار. (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي العفائف من الفاحشة (الْغافِلاتِ) أي النقيات القلوب (الْمُؤْمِناتِ) أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا وهن أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي عذبوا في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢٣) وهو عذاب الكفر ، فإن كان القذفة مؤمنين فذلك الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين ، وهجرهم لهم ، وزوالهم عن رتبة العدالة ، وضرب الحد. (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) فإن الله تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها ، (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة (يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي يعطيهم الله جزاء عملهم المقطوع بحصوله لهم ، (وَيَعْلَمُونَ) عند معاينتهم الأهوال (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥) أي الثابت في ذاته وصفاته ، وكلماته المنبئة عن الشؤون التي يشاهدونها ، المظهر للأشياء كما هي في أنفسها ، (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي النساء الخبيثات مختصات بالرجال الخبيثين. (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون لائقون بالنساء الخبيثات ؛ ويقال : المقالات الخبيثة من القذف مختصة بالخبيثين من أهل الإفك من الرجال والنساء. ويقال : المقالات الخبيثة من اللعن والذم ونحو ذلك مختصة بهم (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس. أو المعنى : والكلمات الطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال والنساء. ويقال : والطيبون من الفريقين لائقون بالكلمات الحسنة ، وحيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب الطيبين وأفضل الأولين والآخرين ، تبين كون زوجاته أطيب الطيبات بالضرورة. (أُولئِكَ) أي أهل البيت (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات. فالله تعالى برأ أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأكاذيب الباطلة لكيلا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة ، ونزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمثال هذا الأمر ، فلا أحد أطهر منه فأزواجه إذا لا يجوز أن يكنّ إلا طيبات. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي براءة من الله (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

١٠٧

في الآخرة. وهذه الجملة خبر ثان لأولئك ويجوز أن يكون لهم خبر أولئك ومغفرة فاعله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) أي التي تسكنونها (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟ وحتى يؤذن لكم ، (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) عند الاستئذان.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن التسليم أن يقال السلام عليكم أأدخل؟ ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل وإلا رجع». (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي التسليم مع الاستئناس خير لكم من تحية الجاهلية والدمور ، وهو الدخول بغير إذن وفي الحديث : «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر». (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٧) أي أمرتم بهذا التأديب لكي تتذكروا به وتعملوا به.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد ، وسبب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، لا والد ولا ولد ، فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال. فنزلت هذه الآية. فقال أبو بكر : يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن أفلا ندخلها إلا بإذن؟! فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) [النور : ٢٩] الآية (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) أي البيوت (أَحَداً) ممن يملك الإذن (فَلا تَدْخُلُوها) ، واصبروا (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) من جهة من يملك الإذن عند إتيانه ، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق ، أو كان فيه منكر ونحوه ، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع ، فارجعوا سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا ، ولا تلحوا بتكرير الاستئذان ، ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن (هُوَ) أي الرجوع (أَزْكى لَكُمْ) أي أصلح لكم من الوقوف على أبواب الناس ، لأنه قد يكرهه صاحب الدار. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الدخول بإذن وبغيره (عَلِيمٌ) (٢٨) فيجازيكم عليه. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم (أَنْ تَدْخُلُوا) بغير استئذان (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) كالربط والخانات والحوانيت ، والحمامات ونحوها ، فإنها معدة لمصالح الناس (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي حق انتفاع لكم كالاستكنان من الحر والبرد ، وإيواء الأمتعة والشراء والبيع ، والاغتسال وغير ذلك (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٢٩) من قصد صلاح ، أو فساد ، أو اطلاع على عورات في دخول هذه المواضع. (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ). ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه ، أي قل لهم : أن (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي يكفوا أبصارهم عن الحرام. «من» زائدة أو للتبعيض ، لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن ، فوقع قصد أو لم يقصدوه ، ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا علي ، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» (١). (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عن الحرام (ذلِكَ) أي غض البصر عن

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٢ : ٢٥٨).

١٠٨

عمله وحفظ الفرج (أَزْكى لَهُمْ) أي أبعد لهم عن دنس الريبة ، وأصلح من كل شيء نافع. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠) من إجالة النظر وتحريك الجوارح للحظوظ وللحقوق.

وقدم الأمر بمنع البصر على الأمر بحفظ الفرج ، لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أكثر. (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) بالتّصون عن الزنا ، (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) وهي ثلاثة أمور :

أحدها : الثياب.

وثانيها : الحلي كالخاتم والسوار والخلخال ، والدملج ، والقلادة ، والإكليل ، والوشاح ، والقرط.

وثالثها : الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها ، والغمزة في خديها ، والحناء في كفيها وقدميها. (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) عند مزاولة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل ، والخضاب في اليدين ، والغمزة ، والثياب. والسبب في تجويز النظر إليها إن في سترها حرجا بينا ، لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة ، والمحاكمة والنكاح ، وفي ذلك مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها كما لا يخفى. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أي وليرخين قناعهن على صدورهن. وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن ، فتظهر نحورهن وقلائدهن من جيوبهن ، فأمرن بإرسال مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) فإنهن المقصودون بالزينة ، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود ، ولكنه يكره نظره (أَوْ آبائِهِنَ) وإن علون من جهة الذكران والإناث ، (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَ) في النسب أو اللبن (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) من غيرهن وإن سفلوا ، (أَوْ إِخْوانِهِنَ) في النسب أو اللبن (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) كذلك ، لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن فلهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند الخدمة ، وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهن ، (أَوْ نِسائِهِنَ) المختصة بهن من جهة الاشتراك في الحدين وهي حرائر المؤمنات (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من الإماء دون العبيد فإنهم بمنزلة الأجانب من ساداتهم. وقيل : من الإماء والعبيد فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة ، وينظروا له وكذا العكس وذلك بشرط العفة ، وعدم الشهوة من الجانبين (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أي الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ولا حاجة لهم إلى النساء ، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمورهن. أو شيوخ صلحائهم قد ذهبت شهوتهم إذا كانوا معهن ، غضوا أبصارهم ، أو الممسوحون وهم ذاهبوا الذكر والأنثيين.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر «غير» بالنصب على الاستثناء والحال. (أَوِ

١٠٩

الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ، ولم يدروا ما هي لعدم تمييزهم ـ كما قاله ابن قتيبة ـ أو الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء ـ كما قاله الفراء والزجاج ـ فيجوز أن يبدين للتابعين والأطفال ما عدا ما بين السرة والركبة. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي لا يضربن الأرض بأرجلهن ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال ، ومن فعل ذلك منهن بحليهن فهو مكروه ، ومن فعل ذلك منهن تبرجا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال إن فعل ذلك عجبا حرم ، فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يحرم. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) أي توبوا من نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي.

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة ، أي فإنه وإن جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه ، والعزم على تركه كلما خطر بباله ؛ كما قال بعض العلماء : من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة ، لأنه يلزم أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه.

وقرأ ابن عامر هنا ، وفي «الزخرف» ، وفي «الرحمن» بضم الهاء وصلا ، ووجهه أن الهاء كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على حرف خفي ، فضمت الهاء اتباعا للرسم واتباعا لحركة ما قبلها ، وقد رسمت هذه الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها ابتاعا للرسم ، فالرسم سنة متبعة. (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوجوا أيها الأولياء والسادات من لا زوج له من الأحرار والحرائر (وَالصَّالِحِينَ) لأمر النكاح (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ليحصن دينهم وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة ، وفي بذل المال والمنافع ، وعدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر ، لأن الغالب فيهم الصلاح لمساعدة الأولياء لهم ، ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم (إِنْ يَكُونُوا) أي الأحرار (فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، أي لا تنظروا إلى فقراء أحد الجانبين ، الخاطب والمخطوبة ، ففي فضل الله ما يغني عن المال ، فإنه غاد ورائح ، يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ، (وَاللهُ واسِعٌ) أي ذو سعة لخلقه ، (عَلِيمٌ) (٣٢) بمقادير ما يصلحهم من الرزق ، يبسطه لمن يشاء ويضيق (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي وليجتهد في قمع الشهوة من لا يتمكنون من الوصول إلى النكاح (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي فمن لا يتمكن من المال فليطلب العفة عن الحرام ولينتظر أن يوصله الله إلى بغيته من النكاح (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم ليصيروا أحرارا (فَكاتِبُوهُمْ) أي فصيروهم أحرارا بعقد الكتابة ، والاسم الموصول منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي وفاء بأداء مال الكتابة ، وصلاحا لا يؤذي الناس بعد العتق.

١١٠

وهذا لندب الكتابة وليس لشرط الصحة. (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي حطوا أيها السادة عن المكاتبين جزءا من مال الكتابة ، أو ادفعوا إليهم جزءا مما أخذ منهم. وذلك للندب عند مالك وأبي حنيفة ، وللوجوب عند الشافعي. وقيل : هو أمر بإعطاء سهمهم من الزكوات ، فالأمر للوجوب حتما. وقيل : هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.

وروي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى يقال له : صبيح سأله أن يكاتبه فأبى عليه ، فنزلت هذه الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي ولا تجبروا إماءكم على الزنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي تعففا عن الزنا ، فالتقييد بهذا الشرط لأجل تحقق الإكراه المنهي عنه ، لأنه لا يتحقق إلا عند إرادة التحصن. أما عند ميلهن للزنا فهو باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ. وفائدة الشرط بالمبالغة في النهي عن الإكراه أي إنهن إن أردن العفة فالسيد أحق بإرادتها وفي ذلك إشارة على أن السادة إكراههن على النكاح فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتطلبوا بالإكراه الأمول بكسبهن وأولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) على الزنا (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٣) لهن لأنهن آثمات لأن الزنا لا يباح بإكراه.

روي أنه كان لعبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ست جوار معاذة ، ومسيكة ، وأميمة وعمرة ، وأروى ، وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب ، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية وقيل : إن عبد بن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ).

قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الياء أي مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود ، وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك. والباقون بفتحها ، أي موضحات في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وأنزلنا مثلا كائنا من نوع أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة ، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة ، والكلمة الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام ، فتنتظم قصة عائشة لقصة يوسف وقصة مريم ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها ، وبرأ عائشة بتلك الآيات العظام. (وَمَوْعِظَةً) تنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات ، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب (لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤). وهذا حث للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثار الموعظة ، المقتبسون من أنوارها ، ثم ذكر الله تعالى مثلين :

١١١

أحدهما : في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور.

والثاني : في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة. أما المثل الأول فقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال ابن عباس : أي الله هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون ، فمعنى النور هو الهداية ، أي ذو نور ، أي ذو هداية (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة النور الفائض من الله تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن (كَمِشْكاةٍ) أي كصفة كوة غير نافذة في الجدار في الإضاءة والتنوير ، (فِيها مِصْباحٌ) أي سراج ضخم ثاقب. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي متلألئ وقّاد ، شبيه بالدر في صفائه وزهرته. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على صيغة الماضي. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية ، وسكون الواو على المضارع المبني للمفعول. وعن نافع وحفص بياء كذلك. وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو ، وتشديد القاف و «زيتونة» بدل من «شجرة» ، و «لا شرقية» صفة لها ، أي يبتدئ إيقاد المصابيح ، وفتيلة الزجاج من زيت شجرة كثيرة المنافع ، تبرز على جبل عال ، أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب ، أي تقع الشمس عليها طول النهار ، لا شرقية وحدها ، ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية. وكان زيتها الصفاء. وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، واختيار الفراء والزجاج.

وقال ابن عباس : في الزيتون منافع يسرج بزيته وهو إدام ودهان ، ودباغ ، ووقود يوقد بحطبه وثفله وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم ، وهو أول شجرة نبتت في الدنيا ، وأول شجرة ثبتت بعد الطوفان ، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة ، ودعا له سبعون نبيا بالبركة منهم إبراهيم ومنهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قال مرتين : «اللهم بارك في الزيت والزيتون» (١).

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وهذه الجملة صفة لـ «شجرة» أي يقرب زيت تلك الشجرة يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا لصفائه.

قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن ، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإن الزيت إذا كان خالصا رؤي من بعيد كأن له شعاعا فإذا مسته النار إزداد ضوءا على ضوئه ، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاء العلم ازداد

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب المساجد ، باب : ما يكره في المساجد.

١١٢

نورا على نور ، وهدى على هدى كقلب إبراهيم عليه‌السلام من قبل أن تجيئه المعرفة ، أي قبل أن يخبره أحد بأن له ربا ، فإنه قال : هذا ربي ، فلما أخبره الله بأنه ربه وقال له : أسلم زاد هدى وقال : أسلمت لرب العالمين. (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي نور حاصل بالزيت ، كائن مع نور بالنار في قنديل ، فالزيت نور ، والقنديل نور والمصباح نور فالمشكاة التي هي الطاقة غير النافذة أجمع للنور فيكون فيها أقوى مما لو كانت نافذة ، فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كان أضوأ وأجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإن الضوء ينتشر فيه ، فالقنديل أعون على زيادة الإنارة ، وكذلك ضوء الزيت. والمعنى : ذلك القرآن نور عظيم كائن على نور عظيم متضاعف من غير تحديد كتضاعف نور المشكاة بما ذكر (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يهدي الله لنوره المتضاعف ، وهو القرآن من يشاء هدايته من عباده هداية موصلة إلى المطلوب ، بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيقته من الأخبار عن الغيب ، وغير ذلك من موجبات الإيمان. فالله تعالى بين الدلائل حتى بلغت في الوضوح إلى الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه. فوضوح الدلائل لا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان والعلم. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) كافة تقريبا للمعقول من المحسوس. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا. (فِي بُيُوتٍ) صفة لـ «مشكاة» ، أي كمشكاة فيها مصباح في بيت من بيوت الله ، أو صفة لزجاجة. والمعنى : ذلك القنديل معلق في مساجد (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي أمر الله أن نبنى رفيعة وتطهر عن الأنجاس والأقذار ، وقد كره بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد ورأى أنه من باب البيع ، وهذا إذا كان بأجرة ، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد ، وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال : «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ، وجمروها في الجمع ، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر» (١). (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بجميع أذكاره تعالى.

وقال ابن عباس : يتلى في المساجد كتابه تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) (رِجالٌ).

وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم بالبناء للمفعول ونائب الفاعل لفظ له ، و «رجال» فاعل لفعل مقدر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي يسبح له رجال أو المسبح رجال ، والوقف على الآصال حسن. والباقون بالبناء للفاعل و «رجال» فاعل ولا يوقف على «الآصال» لعدم تمام الكلام والصلاة التي تؤدي في الغداة صلاة الصبح ، وفي العشي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وقرئ و «الإيصال» أي الدخول في الأصيل (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا فرد من أفراد البياعات عن حضور المساجد لطاعة الله ،

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٢١٤).

١١٣

وعن أداء الصلاة في وقتها جماعة. روى سالم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهم أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس ، أغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد. فقال ابن عمر : نزلت هذه الآية في شأنهم. وروي عن أبي أمامة أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم ، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يقصد إلا ذلك كان أجره كأجر المعتمر» (١). وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة» (٢). وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا : «من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا وليتعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما»(٣) ، (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي وعن إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين.

قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) أي يخافون يوما تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم أمن ناحية اليمين ، أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ أي فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته ، فـ «يخافون» ، صفة ثانية لـ «رجال» أو حال من مفعول «لا تلهيهم» و «يوما» مفعول به و «تتقلب» صفة له (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي أحسن جزاء أعمالهم بحسب وعده لهم من أن حسنة واحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بمحذوف ، أي أيفعلون هذه القربات ليجزيهم الله فـ «اللام» لام العاقبة والصيرورة (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ما لم يستحقوه بأعمالهم وما لم يخطر ببالهم (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨) أي فالله يعطيهم غير جزاء أعمالهم مما لا يفي به الحساب ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أن مناط الرزق محض مشيئته تعالى ، وللإعلام بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره ، فإن جميع ما ذكر من أعمالهم الحسنة مقتبس من القرآن الذي هو المراد بالنور ، وبذلك يتم أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ) أي من أنواع البر كصدقة وعتق ووقف ونحو ذلك من كل ما لا يتوقف على نية ، (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) أي في أرض منبسطة. والسراب : ما يتراءى في

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٥٠٩) بما معناه.

(٢) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٢٤) بما معناه.

(٣) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٨ : ٣١) ، والطبراني في المعجم الكبير (١٠ : ٢٤١).

١١٤

الفلوات شبيها بالماء الجاري ، وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا. وقيل : هو لمعان الشمس على الفلوات يظن أنه ماء يجري. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي ويقصد الظمآن ما ظنه ماء ولا يزال جائيا إليه حتى إذا جاءه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أصلا ، كما كان يراه من قبل. فالكافر الذي يأتي بأعمال البر ، كصلة الرحم وسقاية الحاج ، وعمارة الكعبة ، وقرة الأضياف ، وإغاثة الملهوفين يعتقد أن له ثوابا عند الله ، فإذا مات ووافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه ، بل وجد العقاب العظيم ، فعظمت حسرته ، وتناهى غمّه. فيشبه حاله حال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء ، فإذا شاهد السراب ، تعلق قلبه به ويقوى طعمه فإذا جاءه أيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي وجدوا حكم الله عند المجيء يوم القيامة أو وجد الله بالمرصاد عليه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي أعطاه جزاء عمله كاملا بالعقاب ، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم وإفراد الضمير الراجع إلى الذين كفروا لإرادة الجنس ، أو لإرادة كل واحد منهم. وقد قيل : نزلت هذه الآية في شأن عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبّد في الجاهلية ، ولبس المسوح ، والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩) لأنه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).

وروي عن ابن كثير أنه قرأ «سحاب» و «ظلمات» بالجر على البدل من «ظلمات» كقراءة قنبل بتنوين «سحاب» وبجر «ظلمات» بجعلها بدلا من «ظلمات» الأولى. وروي عن ابن كثير أيضا على إضافة «سحاب» كقراءة البزي بجعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب. وقرأ الباقون «سحاب» و «ظلمات» كلاهما بالرفع والتنوين و «يغشاه» صفة ثانية لـ «بحر» ، وجملة «من فوقه موج من» مبتدأ وخبر صفة لـ «موج» وجملة «من فوقه سحاب» صفة لـ «موج» الثاني و «ظلمات» خبر مبتدأ محذوف وقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) عطف على كـ «سراب» وأو للتقسيم أي إن عمل الكافر قسمان قسم كالسراب وهو العمل الحسن وقسم كالظلمات وهو العمل القبيح : والمعنى. أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق يعلوه موج كائن ، من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة ، وهي ظلمة البحر ، وظلمة الموج الأول ، وظلمة الموج الثاني ، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) بيان لغاية قوة النور ، إلا أن ذلك متعلق بالمشبه ، وهذا بالمشبه به (إِذا أَخْرَجَ) أي من في هذه الظلمات (يَدَهُ) لينظر إليها (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي لم يقارب أن يراها ولم يحصل له رؤيتها مع أنها قريبة من عينه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) أي ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ولم يوفقه للإيمان به فما له هداية أصلا من أحد (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي قد علمت يا

١١٥

أشرف الخلق بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح أن الله ينزهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه ما في السموات والأرض وتنزهه الطير تنزيها خاصا بها حال كونها باسطات أجنحتها في جو السماء ، فإن كل موجود يدل على وجوب صانع واجب الوجود ، متصف بصفات الكمال ، مقدس عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي كل واحد من المخلوقات قد علم هو دعاءه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله تعالى إياه ، فالضمائر كلها عائدة على كل.

وروي عن ابن ثابت قال : كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قلت : لا ، قال : فإنهن يقدسن ربهن ، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء : إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وهذا دليل على أن الله يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) أي بحقيقة ما يفعلونه بالكمال (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن جميع الموجودات في تصرفه تعالى إيجادا واعداما لأنه خالق لها (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤٢) أي رجوع الكل بالفناء والبعث. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي) أي يسوق (سَحاباً) متفرقا ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي مجتمعا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من فتوق السحاب ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) فـ «من» الأولى ابتدائية ، وكذا الثانية بدل اشتمال من «من» الأولى ، و «من» الثانية تبعيضية ، أي وينزل مبتدئا من السماء من جبال كائن في السماء بعض برد ، ففي السماء جبال من برد ، كما أن في الأرض جبالا من حجارة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. والباقون بفتحها وتشديد الزاي (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بالبرد (مَنْ يَشاءُ) أن يصيبه ، فيضر ما يقع عليه من حيوان ونبات ، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) صرفه عنه فلا يسقط عليه. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي يقرب ضوء برق السحاب (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) أي يسلب الأبصار الناظرة له لشدة الإضاءة وسرعة ورودها ، (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالمعاقبة بينهما ، وبتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما تقدم ذكره (لَعِبْرَةً) أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ، وكمال قدرته وعلمه (لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤) أي لكل من له بصر يرجع إلى بصيرة. وهذا يدل أن الواجب على المرء أن يتفكر في هذه الأمور ، ويدل على فساد التقليد. (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، فمن صلة كل دابة لا صلة خلق ، فكل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وقيل : أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة ، فصارت ماء ، ثم خلق منه النار والهواء والتراب والنور. والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة ، فكان أصل الخلقة الماء.

١١٦

وقرأ حمزة والكسائي «خالق» بصيغة اسم الفاعل وبالإضافة. (فَمِنْهُمْ) أي الدواب (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية والحيتان والديدان (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنس والطير ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالنعم والوحش (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) كما يشاء (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٥) فلا يمنعه مانع. (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٦) موصل إلى الفوز بالجنة (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) هما في الأمر والنهي (ثُمَّ يَتَوَلَّى) أي يعرض عن طاعتهما (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ما قالوا هذه الكلمة. (وَما أُولئِكَ) أي الذين يدعون الإيمان والطاعة (بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) حقيقة.

وقال الحسن : نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر (وَإِذا دُعُوا) أي الذين ادعوا الايمان والطاعة (إِلَى اللهِ) أي إلى كتاب الله (وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ) الرسول (بَيْنَهُمْ) بكتاب الله (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨) عن كتاب الله وحكم الرسول إن كان الحكم عليهم (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى الرسول (مُذْعِنِينَ) (٤٩) أي طائعين لجزمهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكم لهم فقوله (إِلَيْهِ) متعلق بـ «يأتوا» لأنه متعد بـ «إلى» أو بـ «مذعنين» لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي إعراضهم لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم (أَمِ ارْتابُوا) أي أم لأنهم شكوا في أمر نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تقرير الإسلام في القلب ، (أَمِ) لأنهم (يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي يجورا عليهم في الحكم فإنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه ؛ كما قال تعالى ، (بَلْ أُولئِكَ) أي المعرضون عن حكم الله (هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥٠) أي ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة ، بل لأنهم هم الظالمون ، أي يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ، ويتم لهم جحوده ، فيأبون المحاكمة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق.

قال الضحاك : نزلت هذه الآية في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض ، فتقاسما ، فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة : بعني أرضك. فباعها إياه وتقابضا. فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء! فقال لعلي : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها ، لأنه لا ينالها الماء. فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها ، وعرفت حالها ، لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني ، وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت تلك الآيات : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي إلى كتابه (وَرَسُولِهِ) أي وإلى سنة رسوله (لِيَحْكُمَ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَيْنَهُمْ) بحكم الله (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا) أي أجبنا الدعاء ، (وَأَطَعْنا) لأحكامهما.

وقرأ الجمهور «قول المؤمنين» بالنصب على أنه خبر «كان» و «أن يقولوا» اسمها. وهذا

١١٧

أقوى صناعة ، لأن الأولى جعل الأعرف الاسم و «أن يقولوا» أوغل في التعريف ، لأن الفعل المبتدأ بأن لا سبيل إليه للتنكير بخلاف «قول المؤمنين» ، فإنه يجوز تنكيره بعزل الإضافة عنه. والمعنى : إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية قولهم المحكي عنهم.

وقرأ الحسن «قول المؤمنين» بالرفع على العكس. وهذا أفيد بحسب المعنى ، لأن مصب الفائدة هو الخبر ، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة وأظهر دلالة على الحديث. والمعنى : إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا وهذا تعليم أدب الشرع بمعنى : أن ما يجب أن يسلك المؤمنون هكذا ، (وَأُولئِكَ) المؤمنون القائلون بذلك (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥١) أي الفائزون بكل مطلب ، والناجون من كل غضب (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمروا به من الاحكام الشرعية ، فيما سرهم وساءهم (وَيَخْشَ اللهَ) على ما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره (فَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) بالنعيم الدائم في الجنة.

وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء. وقالون اختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف وقصر كسرة الهاء والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أقسم المنافقون به تعالى أقصى مراتب اليمين في الوكادة : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج إلى الغزو (لَيَخْرُجُنَ). نزلت هذه الآية لما قال المنافقون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ، ولئن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. (قُلْ) لهم إظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين في تلك اليمين : (لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) وهذا خبر مبتدأ محذوف ، والجملة تعليل للنهي ، أي لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير موافقة للقلب وهي معروفة لكل أحد.

وقرأ اليزيدي بالنصب على معنى تطيعون طاعة معروفة لكل أحد مشهورة في ذلك. والمعنى : أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله ، وكذا المعصية لأنه ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها كما رواه الطبراني عن عثمان ، وعن سعيد لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا من كان. وعن عثمان بن عفان قال : لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت فأدى هناك عملا أوشك الناس أن يتحدثوا به وما من عامل عمل عملا إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣) مما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها. وهو مجازيكم على ذلك. (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) فيما يدعوكم إليه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في مسلكه إلى الله تعالى ،

١١٨

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) أي فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فاعلموا أن ما على الرسول ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد شاهدتموه عند قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ). (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي ما أمرتم به من الطاعة. وعن نافع أنه قرأ «ما حمل» بفتح الحاء والميم مع التخفيف أي عليه ما حمل من أعباء الرسالة ، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) فيما أمركم به من الطاعة (تَهْتَدُوا) أي تصيبوا الحق (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤) أي ما على الرسول إلا التبليغ عن الله الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح ، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) يا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أقسم الله على من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح من أصحاب محمد ليجعلنهم بدلا عن الكفار متصرفين في الأرض العرب والعجم تصرف الملوك في مماليكهم ، (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كما استخلف الله تعالى بني إسرائيل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، وكما استخلف هارون ويوشع ، وداود ، وسليمان.

وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بضم التاء وكسر اللام فالموصول مرفوع بخلاف قراءة الجمهور من فتح التاء واللام فإن الموصول منصوب (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم وهو الإسلام (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء (أَمْناً) ، لأنه كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة قبل الهجرة خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا فيها يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة». فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنجز وعده وفتح لهم بلاد الشرق والغرب.

وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بسكون الباء الموحدة (يَعْبُدُونَنِي) حال من الموصول الأول الذي هو مفعول «وعد» أو استئناف بيان لجواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يستخلفون ويثبتون في دين الإسلام ويأمنون فقيل : يعبدونني. (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من الفاعل ، أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأوثان ، (وَمَنْ كَفَرَ) أي جحد حق هذه النعم بأن لا يقيموا حقها (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الاستخلاف والتمكين والتبديل (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥٥) أي العاصون الخارجون عن حريم الأمن ، وأول من كفر بتلك النعم قتلة عثمان رضي‌الله‌عنه. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) عطف على مقدر يطلبه نظام الكلام تقديره : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة فإنها مواصلة بينكم وبين ربكم. (وَآتُوا الزَّكاةَ) فإنها مواصلة بينكم وبين إخوانكم ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) أي راجين أن ترحموا (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ، والخطاب لكل أحد ممن يصلح له ، والموصول مفعول أول ، و «معجزين» مفعول ثان و «في الأرض» ظرف له لإفادة شمول عدم الإعجاز

١١٩

لجميع أجزاء الأرض أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم بالإهلاك في قطر من أقطار الأرض وإن هربوا كل مهرب.

وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على الغيبة ، والفاعل ضمير يعود على ما دل عليه شأن الكلام ، أي لا يحسبن حاسب إلخ فإنهم مدركون (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) في الآخرة (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧) أي والله لبئس المرجع هي ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي العبيد الصغار في الدخول.

وعن ابن عباس ليس للكبير من المماليك أن ينظر إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه.

وقال ابن المسيب : لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها. وشعرها. وشيء من محاسنها وقال الآخرون : بل للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مالكته وما شابهه (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي من الأحرار ، وهم الصبيان الذين حكوا عورات النساء وميّزوا بين الجميلة وغيرها ، وظاهر الآية أمر المماليك والأطفال الأحرار بالاستئذان ، وفي الحقيقة أمر الأولياء بتأديبهم فإن المقصود أمر المؤمنين بأن يمنعوا هؤلاء من الدخول عليهم في هذه الأوقات الثلاث من غير إذن لو كان المقصود أمرهم للزم تكليفهم ولما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، فيكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة فثلاث مرات منصوب على الظرف الزماني أو على المصدرية ، أي ثلاثة استئذانات ، ثم بين الأوقات فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت للقيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، وهذا في محل نصب على أنه بدل من ثلاث مرات ، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها بين الناس ، لأجل القيلولة ـ وهي شدة الحر عند انتصاف النهار ـ فـ «من» بيان لـ «حين» ، أو تعليل لـ «تضعون» ، أي من أجل حر وقت الاستواء (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) ، لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والالتحاف باللحاف (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) بالرفع خبر مبتدأ مقدر و «لكم» صفة ، أي هي ثلاثة انكشافات كائنة لكم ، أو مبتدأ وخبر أي ثلاث عورات مخصوصة لكم بالاستئذان ، وعلى هذا فالوقف على العشاء هو وقف كاف ـ وقرأ أهل الكوفة بالنصب على البدل من ثلاث مرات وكأنه قيل : في أوقات ثلاث عورات لكم ، وعلى هذا فالوقف على لكم وهو وقف تام (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) في تمكينهم من الدخول عليكم (وَلا عَلَيْهِمْ) في ترك الاستئذان في الدخول ، (جُناحٌ) أي إثم (بَعْدَهُنَ) أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وإنما أباح الله تعالى ذلك في الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن لما في العادة أنه لا تكشف العورة فيها (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي لأنهم يكثرون التردد عليكم بالدخول والخروج للخدمة ، فلو كلفتم الاستئذان في كل طوفة لضاق الأمر عليكم (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي كما أن

١٢٠