الإمام الحسين في حلّة البرفير

سليمان كتّاني

الإمام الحسين في حلّة البرفير

المؤلف:

سليمان كتّاني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٦

البيت ، وكلُّ أهل البيت ، بكلِّ ما في العبارة مِن معاني حقيقيَّة ومَجازيَّة على الأرض ، إنَّه البيت وجُدران البيت ، وباحته ، وشجرة الأراك فيه ، وليست كلُّها موجودة إلاَّ لأنَّها احتواء مُتكامل بأُمِّه فاطمة المُرتبطة ارتباطاً أمتن مِن الحُبِّ ، وأبهى مِن العِشق ، بأبيها محمد ، وبزوجها عليٍّ ، وبالتالي به هو الذي لا يقدر إلاَّ أنْ يأخذهم جميعاً إلى صدره ، وقلبه ، وروحه ، بحُزمةٍ واحدةٍ مِن الشوق الذي يَكبر أبداً ويكبر.

ونقول : ـ لا معنى للحسين ، لا في الوصف ولا في التحديد ، مِن دون أنْ نربطه ربطاً مُحكماً بجَدِّه وأبيه وأُمِّه ، ذلك هو الجَوُّ الذي رُبِّي فيه ، وتلك هي الوحدة التي كانت لُحمة إطاره ، فإذا كان لنا أنْ نتبيَّنه في ما بعد ، فسنجده تعبيراً مُتباهياً ـ أبداً ـ بجُدوده الأوفياء للحَقِّ ، والذين خرج مِن صُلبهم رجل راح يُسمِّيه ـ دائماً ـ (جَدُّه) وهو الرجل العظيم المُتوشِّح بالنبوَّة ، وهو الذي ما حبلت امرأة مِن نساء الجزيرة بأعقل منه ، وأكبر منه ، وأورع منه ، فهو الجزيرة ، وهو الرسالة ، والقضيَّة ، في سبيل مُجتمع الجزيرة ، وهو الأُمَّة التي تعتصب به ، وبنوره تمشي دروبها. إنَّ هذا الرجل هو جَدُّه الرسول ، وأبو أُمِّه الأجمل والأحلى والأطهر ، وابن عَمِّ أبيه الأمتن والأصدق ، والأنبل.

إنَّ المُختصر الوحيد ـ لهؤلاء الثلاثة الذين هُمْ في وجود الحسين كلِّ الحسين ـ هو في الرسالة ، وإنَّ القصد الوحيد مِن تنشئة الحسين تنشئة مغمورة بهذا اللون مِن الحُبِّ والعطف والرعاية ، هو مِن أجل إمداده بالحِسِّ والشعور الأمتنين والأصدقين ، مِن أجل القيام على الرسبالة ، وإنَّ الرسالة بمُطلقها الأساسي والجوهري ، هي مِن أجل هذه الأُمَّة ، التي هي المُستودع الأوحد لهذه الرسالة ، التي هي ـ بحقيقتها الواسعة ـ هذا الإنسان تبنيه القيمة ، وإنَّه ـ هو الحسين ـ تجسُّد لهذه القيمة ، زرعتها الرسالة فيه ، ليكون أوَّل مِن يمتثَّل إلى تعهُّدها ، والسهر عليها ، وهي التي تستدرج الأُمَّة ـ بها ـ وجودها النامي بالحَقِّ ، والصدق ، وعِفَّة الوجدان.

٨١

كلُّ هذا كان بالإحاطة حول تنشئة الحسين ، وما كان الحسين إلاَّ ليعيها ـ وهو طفل ـ ولتتجسَّد وتفخَّم فيه ، وهو ينمو وينهد إلى الشباب والرجولة ، ولتُصبح ـ بكلِّ ما فيها مِن مقصد ومعنى ـ محفورة في نفسه ، وعقله ، وشعوره. لقد فَهم مَليَّاً ـ مع تقدُّمه بالفَهم والإدراك ـ أنَّ تنشئته كانت بهذا الشكل ، والنوع واللون ، لأنَّه مزروع للقضيَّة ـ للرسالة التي هي القضيَّة ـ للأُمَّة التي هي أُسُّ الرسالة ، وللإنسان الذي هو كلُّ القضيَّة.

يصحُّ القول : ـ إنَّ لكلِّ تربية أثراً ما في مُجتمعات الإنسان ، تعكس ـ إلى حَدٍّ بعيدٍ ـ بُنية ذلك المُجتمع ، ومُقدار ما حصل عليه مِن الوعي والرُّشد ، ليكون التوجيه التربوي الهادف تلبية للحاجة المُلحَّة إلى التطوير ، ورفع المُجتمع مِن سويَّة إلى سويَّة ، وكانت تنشئة الحسين مشغولة بهذا النوع الوجيه الهادف ، وكان مُبالغاً في تعهُّدها وإظهارها للعَيان ، لثلاثة أسباب وجيهة :

ـ السبب الأوَّل : وهو شعور المُربِّي المُتعهِّد الضمني ذاته ، بأنَّ المقصد الكبير تلزمه العناية الكبيرة ، بحيث لا يجوز أنْ تكون حياكة قميصه إلاَّ على النول الأميز.

ـ والسبب الثاني : هو في التدليل البارز في نوعيَّة التنشئة ، حتَّى يشعر فتاها بأنَّه هو المُشار إليه ، وما ذلك إلاَّ حتَّى يشعر هو بأنَّ حمله سيكون جليلاً ، وأنَّه المُنتدب المُميَّز للمسؤوليَّة المُميزة ، وحتَّى يشعر بأنَّ هذا الجلال الذي يختم به إنَّما هو ظِلٌّ لذياك الجلال توشُّحه به الأُمَّة حتَّى تكبُر وتكبُر في ساحات التباهُل.

ـ والسبب الثالث : هو في الظهور الأبرز أمام الرأي العامِّ ، بأنَّ المدلول إليه بالتنشئة المُختصَّة والمُميَّزة ، إنَّما هو ـ بالتخصيص والتعيين ـ مُمثِّل للقدر الكبير الذي طابت على يده الرسالة ، وإنَّه هو الوحيد الذي جمع الأُمَّة ، وأنَّه هو الرائي البصير في كيفيَّة تعهُّدها حتَّى لا يطالها ، لا تعثُّر ، ولا وَهن ، ولا رِدَّة تهدر الجُهد أو تُخفِّف مِن مَزاياه.

تلك هي الأزاميل التي عمَّقت حُفرها في تكوين بُنية الحسين الروحيَّة والعقليَّة على السواء ، أمَّا أنْ يصطدم ـ كما رأينا مِن واقع الأحداث ـ بعد غياب جَدِّه عن

٨٢

الأرض ، بما راح ينقضُ الوصاية في التعيين ، ويشلُّ قوى البيت المبنيِّ للانطلاق الموجَّه والمدروس ، فإنَّ ذلك ما جعله واقفاً مذعوراً مِن مَغبَّة العصيان ، عِصيان جَدِّه في أعزِّ أمانيه وتصاميمه ، وفي أفخم توصياته قبل أنْ يترك الأرض ، إلاَّ أنَّ إيمانه بأبيه بأنَّه سيتمكَّن مِن إعادة الأُمور إلى نصابها ، جعله في مكامن التربُّص والانتظار ، ولكنَّ مَجريات الأُمور والأحداث ، ساقت إليه الخيبة تلو الخيبة ، والهزيمة تلو الهزيمة ، وهذه كلُّها كانت أزاميل جديدة عمَّقت حُفرها في ذهنه ، وأكسبته قوَّة في مكامن النفس لا تعترف ـ مُطلقاً ـ لا بخيبة ولا بهزيمة.

إنَّ العقل وحده عند الحسين هو الذي اكتشف الحقيقة ، التي تتغلَّف بها القضايا الكبيرة في الوجود ، ولقد اكتشف أنَّ الحَقَّ هو الذي يبني القضيَّة وأنَّ القضيَّة التي هي الحَقُّ ، لا يكون عمرها بالساعات ، بلْ إنَّها الأبقى مِن الدهر ... لقد سمع أباه يقول : «للباطل ساعة ولكنَّ الحَقَّ فإلى قيام الساعة» وما كان قد انجلى لمَّا سمع أباه هكذا ينطق ـ إلاَّ أنَّه الآن ـ بعد أنْ شاهد أباه يختم شفتيه بالصمت الفصيح ، وبعد أنْ غاب أخوه بجُرعة سَمٍّ!!! وجد نفسه أمام حقيقة الإدراك بأنَّه مُنتدب لتعهُّد الحَقِّ ، وسيقوم بحقيقة التعهُّد ، فإمَّا يكون له الظهور ، وإمَّا يكون له بروز العُنفوان الذي يبني الإنسان ـ لا للذلِّ ـ بل للحياة ... أمَّا الأُمَّة التي هي مِن بُنية جَدِّه ، فهي التي تبقى أبداً تنظر إليه ـ ولو بعد ألف حين ـ بأنَّه العُنفوان الذي إذ ما تُفتِّش عنه الأُمَّة تجده في حقيقة ذاتها ، وذلك هو جوهر الإنسان الذي بذل له جَدُّه وأبوه عُرق العمر!!!

هل يُمكننا الآن أنْ نقول : إنَّه هنا الحسين؟

٨٣
٨٤

القسم الثاني

في حُلَّة البرفير

المُعاناة

المُبايعة

الشَّرارة

روعة التصميم

كربلاء

٨٥
٨٦

المُعاناة

والمُعاناة : ـ يا لها مِن عِمارة يبنيها الإنسان مِن كلِّ ضجيج يصخب به مِن نفسه وفي نفسه! إنَّها العِمارة التي يبنيها هذا الإنسان لتعود ـ هي ـ فتبنيه بالحِجارة ذاتها التي بناها ـ هو ـ بها ، أمَّا الحِجارة فهي التي تكون قد انرصَّت بها نفسه ، وروحه ، وذاته ، مِمَّا اختلط فيها وتجمَّع إليها مِن غبار الأيَّام وهي تتزاحم ـ بقوافلها ـ عابرة مِن قُطبٍ إلى قُطبٍ في وجوده الإنساني الصامد في صدر الحياة. سيكون مِن هذا الغبار تأليف المقالع المقطوعة منها حِجارة العِمارة التي أُسمِّيها الآن ، عِمارة المعاناة.

والمُعاناة : ـ بمعناها المجازي هذا تُفسرِّها الحقيقة ، بأنَّها الخُبرة الطويلة ، التي يتمرَّس بها الإنسان عِبر تطوُّره في مُجتمعاته الإنسانيَّة ، ليكون له التحقيق المُتطوِّر نتيجة حتميَّة لكلِّ ما عاناه في رحلاته المُتمادية في حِضن الكون ، إنَّ المُعاناة التاريخيَّة الطويلة هي التي تبني هذا الإنسان المُحقِّق ذاته بذاته ، وهي التي تُكيِّف روحه ، وعقله ، وفكره ، وكلُّ المُثل التي يجنيها لتكون عماده الصحيح المُعبِّر عنه في البحث ، والبناء ، والسعي إلى حقيقته المُتكاملة.

والمُعاناة : ـ بمعنى واحد هي التي تُصيب دائماً في وجود الإنسان ، وهي التي تُحدِّد حاجته ، أو بالأحرى مجاعته إلى ما ينقصه في مُشتهاه ، وهي التي تدلُّه إلى هذا المُشتهى ، وهي التي تُعيِّن له ـ في ما بعد ـ هل هو المُشتهى الجميل المُحيي ، أم أنَّه المُشتهى الخاطئ المُميت؟ إلاَّ أنَّه يبقى ـ في كلا الحالين ـ تعييناً هزَّته المُعاناة المُتولِّدة في النفس ، وحرَّكت إليه.

أمَّا المُعاناة الكبيرة التي تتولَّد في النفس وتبنيها بناءً كبيراً ، فهي لا تزال مِن الصنف الفريد ، ولا يتعزَّز وجودها ويتعيَّن إلاَّ في تفاوت نسبي يلمح في المُجتمعات

٨٧

المُتطوِّرة والمُنقَّحة بالعلم والفَهم المُنعكسين حضارة وثقافة ، هنالك يكون للعقل يد ، وللروح ملامس ، ولا يكون مجال التعبير عنها إلاَّ في احترام الإنسان لذاته الجميلة ، وعندئذ فإنَّ المُجتمع هو الكريم ، والعدل والحَقِّ والمُساواة ، هي دروسه في الحقوق والموجبات ، والصدق والنزاهة ونظافة الكَفِّ ، هي كلُّها صفاته في البروز الصحيح ، واقتصاده المبنيِّ والمعنيِّ والشبعان ـ مع العِفَّة في جني الثمر ـ هي نهجه في الزرع ، وفي عمليَّات الحصاد. أمَّا المُجتمع الذي يبنيه إنساناً عظيماً يدور في حِضن الحياة مُجلَّلاً بالقيمة وعِزَّة النفس ، فهو مُداره الفخم الذي يُردُّ إليه ـ مِن مُعاناته ـ شعوراً ضمنيَّاً بأنَّ الجمال هو مُتعة النفس الكريمة التي يتعزَّز بها وجود الإنسان ، بنعمة وعظمة الحَقِّ والصدق المَغروسين في جِنان الإنسان.

والمُعاناة في الطبيعة : إنَّما هي عُنصر مِن عناصرها الجامعة ، ونَبرة مِن نبراتها المُعبِّرة في خُنوعها فجموحها ، فبُروزها في ثورة ما مِن ثوراتها التي تتنفَّس بها ، حتَّى تعود فتعتدل وتستقرُّ في بُروزٍ جديد تتولَّد منه حوملة أُخرى ، يتألَّف منها مَدار يُعينه شوق آخر مِن الأشواق التي يزخر بها فنُّ الحياة ، كلَّ هذا إنَّما هو موزَّع في الوجود ، أكان في الإنسان ، أم في الحيوان ، أم في النبات ، أم حتَّى في ما يُسمَّى جماداً ، كأنَّ المُعاناة هي التي تلمح كلَّ شيء حتَّى تُطوِّره ، وتخلق منه الحالة الأُخرى التي تشتاق إليها الحالة الأُولى التي هي حلقة منها في سلسلة الوجود. أليست هذه كلُّها هي ـ أيضاً ـ لُبعة الحياة في البقاء وتعلُّقها ـ أبداً ـ بالتطوُّر الذي هو تحوَّل يتلوَّن به جوهر الحياة في وجودها الأفسح؟

ليست المُحاولة هذه في تقديم هذه اللمحة عن المُعاناة ، غوصاً في علم النفس ، فإنَّ ذلك يتطلَّب إحاطة في الموضوع الفلسفي ، الذي يحتاج إلى تحقيقات باهرة الطرافة ، وواسعة الدرس والتدقيق ، إنَّما التلميح هذا يقصد إعطاء المُعاناة حِصَّة مِن الاهتمام والاحترام ـ فهي التي تتولَّد في نفسيَّة الإنسان ـ ومُطلق إنسان ـ وهي التي تعيُّن شوقه إلى أيِّ شيءٍ يُحرَم منه أو يحتاج إليه ، وهي التي تبنيه بناءً جديداً مُتولِّداً منها ، ومِن مُقدار ثقلها فيه وضغطها عليه ، ولا فرق أنْ يكون الحِرمان قد زال

٨٨

والحاجة قد أُشبعت ، أو أنْ يكون كلاهما قد زادا عُنفاً في تورُّطهما عليه ، فقفزا به : إمَّا إلى خُنوع واستسلام ، وإمَّا إلى ثورةٍ ما ، عُبِّر عنها بطريقة ما.

هذا هو الغرض الآن مِن خدمة الموضوع هذا ، حتَّى يتبيَّن لنا أنَّ الحسين الذي هو موضوعنا الجليل في هذا الكتاب ، قد اشتغلت بصياغته عظيماً هذه المُعاناة التي تبنَّاها وتبنَّته مُنذ الطفولة ، وراحت تتجسَّد وتتجسَّم فيه عِبر مراحل الفتوَّة والرُّشد ، وعِبر بلوغه مرحلة سديدة مِن مراحل التعمق الفِكري ـ النفسي ـ الروحي التي زجَّته فيها ظروف قاهرة ، ما انفكَّت تُعمِّق بصماتها عليه ، حتَّى فجرتها فيه ثورة هادفة مُركَّزة ، ما ارتضت مِن التحقيق إلاَّ بذل الذات في سبيل إشباع المُعاناة ، التي أصبحت لا ترضى إلاَّ ببذل الذات إشباعاً للذات الأُخرى التي هي إطار أكبر ، تنطوي فيه ذاته ـ هو ـ ملصوقة بذات أبيه ، وأُمِّه ، وأخيه ، وجَدِّه وكلِّ خَطِّ أجداده الصيَّد ، في مُجتمع واحد هو إطار الأُمَّة ، التي هي أُمَّة جَدِّه التي بناها بقضيَّة واحدة مختومة بالرسالة. فلنتبصَّر الأُمور هذه كلَّها في خَطِّ المُعاناة ، ولنعمد إلى تبويبها هكذا :

١ ـ خَطُّ الطفولة :

ولقد كانت للطفولة على الحسين خيوط لذيذة مِن المُعاناة ، حوَّشت منها نفسه كلَّ البطانات التي راحت تتلوَّن بها أيَّامه الطالعة. ما مِن لَمسة غَنج تدلَّع بها في مُحيطه البيتي المُشبع بالحُبِّ والحنان ، وكلُّ أساريره الهانئة بغِبطتها ، لقد مَرَّ بنا كلُّ ذلك ونحن نستعرضها في كلِّ ما تخصَّص لها مِن مُناسبة وحين ، لقد كان لكلِّ هاتيك البَهجات تأثير وسَّع نفسه المُعانية على فَهم كان يزداد بها ، وهي تتحوَّل فيه إلى مُعاناة أُخرى كان يولِّدها ازدياد الفَهم مع وضوح التحليل والتعليل.

كان الطفل الحسين ـ وأظنُّه كان في الخامسة مِن العُمر أو ما يزيد قليلاً ـ يلعب في باحة الدار في ظِلِّ شجرة الأراك ، مع صبيٍّ آخر مِن صِبْية الحيِّ ، قال

٨٩

الحسين ـ وهو يتباهى ـ :

الحسين : ـ جَدِّي أنا هو الرسول. وأنت مَن هو جَدُّك؟

الصبيُّ : ـ وجَدِّي أنا هو الرسول ، أمس دلَّتني إليه أُمِّي عندما كان مُتوجِّهاً إلى ساحة المسجد.

وحاول الحسين أنْ يعترض بعد أنْ وسَّع فتحة عينيه ، وبدأ عليه بعض الغضب ، ولكنَّه سمع أُمَّه فاطمة تُناديه ، وكانت تُراقبهما يلعبان وهي واقفة على الباب ، وبلحظتين كان الحسين بين يديها ، قالت

فاطمة : ـ معه حَقٌّ ـ يا حسين يا ولدي ـ جَدُّك الرسول هو جَدُّ كلِّ صبيان المدينة ـ افْهَم عليَّ ـ وإنَّه جَدُّ كلِّ صبيان الجزيرة ـ أتفهم عليَّ؟ ـ جَدُّك رسول السماء لكلِّ أهل الأرض ، يا حسين ، يا ولدي ، أتفهم عليَّ؟ أظنُّ جَدَّك لا يقبل أنْ تمتلكه وحدك ـ يا حسين ـ وهكذا تكبُر أنت يا ولدي ، ويكبر معك إخوتك في كلِّ المدينة ، وفي كلِّ الجزيرة التي هي لنا على السواء ، أفهمت عليَّ ما أقصد يا حسين؟

وسَرَت على وجه الحسين بَهجة مقطوفة مِن ثَغر أُمِّه ، وهي تُدغدغ وجنتيه بقُبلة مسحوبة سَحباً ناعماً مِن بين ضلوعها ، رَدَّ لها مثلها ، ولوى قافزاً نحو رفيقه المُتهلِّل برجوعه ، لقد هفا إليه ، وقبَّله وهو يلتفت صوب أُمِّه ، وكأنَّه يُخبرها أنَّه فهم مليَّاً ما فاهت به بفَمها الأطهر.

بعد خمس دقائق بالضبط ـ ولا تزال الأُمِّ فاطمة تسهر بعينيها على الصبيَّين اللاعبين في ظِلِّ الشجرة ـ وفد الحسن ليشترك معهما باللُّعبة المرحة ، فأخذه الحسين ليُسرَّ إليه بحديث أُمِّه ـ وما أنْ أدرك الحسن المغزى الجميل حتَّى تَهلَّل فرحاً وهو يلتفت صوب الباب ، فوجد أُمَّه مسرعة إليهم وكلُّ بهجات الدنيا في محياها ، وما أنْ وصلت حتَّى أخذت الصبيان الثلاثة إلى عِبِّها وهي ـ مِن فرحٍ ـ تبكي

٩٠

وعند المساء ، ما كاد عليٌّ يطأ عتبة البيت ، حتَّى هبَّ الحسين إليه ، قافزاً بين ذراعيه وهو يقول :

الحسين : ـ عندي ما أقوله لك.

علي : ـ وما عندك يا حسين؟

الحسين : ـ قالت لي أُمِّي فاطمة إنَّ جَدِّي هو جَدُّ كلِّ صبيان الجزيرة ، وأنت ألست أباً للجميع؟

علي : ـ وأنا كذلك يا حسين ، ألم تسمع جَدَّك يقول : «أنا وعليٌّ أبوا هذه الأُمَّة»؟.

الحسين : ـ وأنا وأخي الحسن ـ يا أبي ـ كيف سنكون؟

علي : ـ ألم تسمع أيضاً جَدَّك يقول : «هذان ابناي ، إنَّهما إمامان قاما أم قعدا» وهما سيِّدان مِن أسياد الجَنَّة؟

الحسين : ـ وكيف نكون إمامين وسيِّدين؟!

علي : ـ وسوف يقول لك الغَد يا ابني : كيف يكون ذلك. ألا تصبر ـ يا ولدي ـ إلى الغَد؟

أمَّا الحسين ، فإنَّه نام تلك الليلة وفي عِبِّه تسرح أحلام نابتةٌ مِن اللَّغز وهو يبسم لها ويترنَّح ، أمَّا جَدُّه ، وأبوه ، فإنَّه كان يشاهدهما فوق حِصانين أبيضين يصهلان فوق ، قُرب نجمة الصبح.

بعد سنتين وعِدَّة أشهُر ـ كان جَدُّه قد أغمض عينيه عن المسجد ، وعن صبيان كلِّ الجزيرة ـ عاد الحسين فاختلى بأبيه يوشوشه ، والحُزن يشرب مِن عينيه :

الحسين : ـ أيكون أبو بكر أباً لهذه الأُمَّة ، ولا تكون أنت ـ يا أبي ـ بعد جَدِّي الذي غاب وترك الأُبوَّة لك؟!!!

علي : ـ أبو بكر أبٌ بالحميَّة القبليَّة لا بالوصيَّة النبويَّة!!! صلّى الله على جَدِّك ـ يا ابني ـ وسلّم!!!

٩١

قال الامام ذلك وهو يتمشَّى في باحة البيت ، دون أنْ يلتفت صوب الحسين ليتبين وقع كلماته عليه ، ولمَّا وصل البيت ، وابنه الحسين يسحب نفسه كئيباً خلف خُطواته ، كانت فاطمة قابعة في الزاوية ينهكها الحُزن ويدعك عينيها الدم ، ولكنَّها انتفضت عندما وقعت عينها على الحسين وهو يقفو خُطوات أبيه مُنكِّسا رأسه ، كأنَّه فرخ بازٍ هبط مِن عِشِّه إلى الأرض ، وسريعاً ما تلفَّعت بخمارها وقفزت إلى الخارج صوب ساحة المسجد.

وعندما كان صوتها الخافت يقرع أُذني أبي بكر بذلك الخطاب ، الذي كانت ترتجف فيه ثورة ما حسبها التاريخ إلاَّ فاعلة ، كان الحسين لاصقاً بها مِن الخلف ، وهو يسجِّل في نفسه نبراتها المُتأوِّدة بالعظمة ذاتها ، التي كانت تسرح فوق جبين جَدِّه وهو يُعلِّم الناس في المسجد ذاته ، كيف يعتزُّون بالصدق والحَقِّ ، وكيف يكونون ضلوع أُمَّة عظيمة هُمْ أبناؤها ، وهو أبوهم الذي يجمعهم إلى مراحل المَجد ، وعندما انسحبت مِن ساحة المسجد راجعة إلى البيت ، أوقفها الحسين على العَتبة حتَّى يغمر جيدها بذراعين مِن لُطف ، ويلثمه بثغر مِن عِطر الزهر وهو يقول :

الحسين : ـ صوتك مِن صوت جَدِّي يا أُمِّي ، طاب صوتك في كلِّ صُبح ، وفي كلِّ مساء!

فاجابته ، وهي تَنْعس نَعاساً ذائباً في مقاطع الكلمات :

فاطمة : ـ يا حُلمي ... وحُلم جَدِّك وأبيك ... ما أشدُّ خوفي عليك وأنا أُطالب لك ... بروعة الميراث!!!

ولكنَّ الحسين ، وهو ما انفكَّ يُعانقها ، ويُعاني مِن وقع ولوج صوتها إلى العميق مِن أُذنيه ، حتََّى أحسَّ أنَّها تهبط أمامه على العَتبة ، كأنَّها الخيطان تتراخى عن المِغزل ، ولكَّن الأب الكبير ـ وهو الآن علي ـ كان يلفُّ بين ذِراعيه الأعصاب المُنهارة عن مِغزلها ، ويحملها إلى الفراش الذي أسرعت إلى ترتيبه أسماء بنت عُميس ، لقد شاهد الحسين ـ على مدى يومين ـ كيف كانت تبسم أُمُّه فاطمة وهي تُلاقي أباها في غَفوة الموت!!!

٩٢

لم تختتم ـ بانتقال أُمِّه إلى حِضن أبيها ـ طفولة الحسين ، ولكنَّها وسَّعت انتقاله إلى الرُّشد الباكر والمُطَّلع على واقع الأُمور ومزاجها الملفوف بالرموز ، لقد راحت تتطوَّر المُعاناة في حياكة نفسه على ضوء ما كان يُفسِّره له فهمه النبيه وإدراكه المُتوسَّع ، إلاَّ أنَّ موت أبي بكر هو الذي كان خاتمة طفولته ، التي شاهدت انتقال الولاية إلى عمر بن الخطَّاب.

٢ ـ عهد ابن الخطَّاب :

بانتقال الخلافة ـ وهي الآن بمفهوم الحسين ـ أُبوَّة يتناولها كلُّ واحد بالدور عن جَدِّه الذي كان أبا الجميع ، والتي هي ـ بقناعته الراسخة ـ مِن حَقِّ أبيه علي ، ولا تنتقل إلاَّ عنه إلى مَن هو في الخَطِّ الذي رسمته أُبوَّة جَدِّه الشاملة. أجلْ ، بانتقال الخلافة هذه المَقلوبة عن أُبوَّة صحيحة المقصد والمعنى ، إلى عمر بن الخطاب لم تتوسَّع ذهنية الحسين ، بلْ تعمَّقت فيها المُعاناة ، وهي تُفسِّر ذاتها في شعوره وتأمُّله الصامتين ، لقد كان يُراقب مُعاناة أبيه ، وهو صامت صابر ، وراح يصمت مثله ويصبر ، أمَّا حواره الأخير مع أبيه حول انتقال الأُبوَّة إلى أبي بكر ، فإنَّه فَهم منه أنَّ النخوة القبليَّة ، لا الوصيَّة النبويَّة ، هي التي جرَّدت أباه مِن أُبوّة كبيرة خَصَّه بها جَدُّه لضمِّ المُجتمع كلِّه إلى صدره الكبير ، ولقد فهم أنَّ الإجحاف طال أباه على يدي أبي بكر ، وها إنَّه لا يزال مُتمادياً على أقسى وأدهى مع هذا المدعوِّ عمر بن الخطاب!!!

كان عمر الحسين ـ عند انتقال الدور إلى ابن الخطاب ـ يدور حول عشر مِن السنين ، ولكنَّ الجوَّ الذي رَبِيَ فيه ، والأحداث القاسية التي ذرَّت غُبارها في هذا الجوِّ ، فهزَّته في صميمه ، وجعلت السنوات القاصرة في عمر الحسين ، واسعة الفَهم ، نبيهة الذهن ، وواسعة النفس تحت مُعاناة عميقة التفتُّح ، وحاضرة التأثَّر ، وشديدة التفتيش عن ماهيَّة الأحداث وارتباطاتها بموحياتها. بالأمس كانت له أربعة أحضان يتبرَّع كلُّ حِضن منها بتوسيع الحُبِّ والدلال عليه ، أمَّا الآن ، وقد

٩٣

خسر حِضنين كانا كلَّ طفولته السعيدة ، وكلَّ فرحه في الدنيا ، وبقي له حِضنان راحت تزرع الأحداث فيهما همَّاً ونَكداً أصابه كلُّ ثقل منهما في صميمه! أيكون جَدُّه ـ وهو نبيُّ الأُمَّة وحامل الرسالة ، وجامع الحَقّ وأبو صبيان كلِّ الجزيرة ـ مُستحقَّاً كلَّ هذا الهَمِّ والنَكد ، وهذا هو عِقاب الجاحدين الكافرين؟!!!

يا للحوار! الآن يدور بين الحسين الرازح تحت مثل هذا الثقل مِن المُعاناة ، وبين أبيه علي المُصغي إليه بكلِّ شغاف روحه. وسأل الحسين :

الحسين : ـ أبي ، إنِّي لا أزال أبحث مع نفسي ، ولكنَّني بحاجةٍ إليك حتَّى تشرح لي : كيف أوصل أبو بكر الخلافة إلى عمر؟!

علي : ـ لم تصل الخلافة إلى أبي بكر إلاَّ عن طريق عمر ، بتفاهُمٍ ضمنيٍّ عند عمر ، معناه : إذا صحَّت التجربة فأبو بكر هو الخليفة أوَّلاً ، ثمَّ يردُّها إليه إذ يشعر بدنوِّ الأجل ، وهكذا صحَّت المُحاولة ، وها هو عمر خليفة بدل أبيك ، وبعد جَدِّك على المسلمين.

الحسين : ـ واضح ذلك ، ولكنْ لو لم تصحَّ التجربة؟

علي : ـ لكانوا اعتمدوا عِدَّة طُرق سواها ، يوفُّر نجاح كلِّ واحدة منها شرط واحد ، وهو إبعاد أهل البيت عن خلافة ربِّ البيت!!!

الحسين : ـ ومَن هُمْ القبائل الذين يؤازرون عمر؟

علي : ـ لا قبائل يوآزرون عمر ، بلْ القبليَّة هي التي آزرته

الحسين : ـ ومَن هُمْ القبائل؟ وما تكون نسبة القبليَّة إليهم؟

علي : ـ القبائل هُمْ نحن ، إنَّهم العرب ، إنَّهم الجزيرة ، إنَّهم الأُمَّة ، الأُمَّة الكريمة في تراثها المُتجسِّد بجَدِّك العظيم ، إنَّهم التاريخ البعيد فوق الأرض المُتمدِّدة بالحياة إلى كلِّ هذه الأصقاع التي لا نَزال ـ كما كنَّا ـ نتحرَّك في كلِّ سهولها وجبالها ، وواحاتها ومَفاوزها ... ونبني فيها زرعنا وضرعنا ، ونخيلنا وكُرومنا ، وبساتين الخير وحصاد العافية ، إنَّهم الأُمَّة فوق

٩٤

أرض الأُمَّة التي جاء نبيُّها الكريم حتَّى يُمجِّدها في حِضن الحياة ، لأنَّها أُمَّة في ذخر الحياة ، وقُطب الله فيه الذي صدق في وجود الإنسان.

ما توقَّف علي قليلاً على ثورة صامتة وهادرة في عُروقه ، حتَّى نهض يتمشَّى في صحن الدار ، ثمَّ دار بكُلِّيته نحو الحسين ليُتابع جهد نفسه بالقول :

علي : ـ جَدُّك هو العظيم ـ يا ابني ـ في تجميع ذاته ليبذلها في سبيل الأُمَّة ، التي لو لا ها لما كانت له لا نبوَّة ، ولا رسالة ، ولا حَقٌّ يُنطق به بلسان الإنسان.

أمَّا القبليَّة التي تطلب تحديداً لمعناها المسحوب مِن ضلوع الشياطين ، فهي التي تفرِّط مجموع القبائل ، وتوزِّعها كذباً وحقداً وتمويهاً ، يتسربل بها كلُّ هؤلاء الأبالسة الذين يدَّعون أنَّهم يمشون بأقدام الإنسان ، وهُمْ أسنمة للزور والبُهتان!! لقد جمع جَدُّك المُجتمع القبائلي كلَّه في واحد ، بعد أنْ خلَّصه مِن الشرك وأسباب الانفراط ، لتعود القبليَّة فتُفرِّطه إلى الضعف والتفسُّخ والهَوان.

تلك هي القبليَّة ـ يا ابني ـ في انتسابها اللعين ومفعولها الناسخ!!! إنْ يكن لي الآن أنْ أغرق في ذِلِّي وانكسافي ، وفليس لأنِّي أُفتِّش عن كرسيٍّ اغتني به وأسود ، بلْ لأنِّي أُشاهد بأُمِّ العين ، أُمَّتي يتجرَّرون بها إلى الانخساف ، بعد أنْ بدأت ترفع رأسها بحقيقة الإنسان ... الذِّلُّ ـ يا ابني ـ للإنسان الذي لا تكون له أُمَّة يرتفع بها إلى الحقيقة الإنسانيَّة التي هي أوَج السعادة للإنسان ، ما عدا ذلك فأيَّة قيمة للثعالب والأرانب والجُرذان!! حتَّى للأرض كلِّها أنْ تكن خالية مِن مُجتمع صحيح صامد بقيمة الانسان؟!!!

٩٥

بعد تسع سنين مِن هذا الحوار الذي نزل في أُذن الحسين كأنَّه ذِخر النفس في الإباء والصدق والعُنفوان ، أصبح عمر الحسين يدور حول العشرين ، وجاءت مَدية أبي لؤلؤة تغرز حِقدها في خاصرة ابن الخطَّاب ، وجعلته يجهض المجلس الاستشاري السُّداسي ، فإذا بالقبليَّة الجهيض يتقمَّصها مِن بعده عُثمان بن عفَّان.

٣ ـ عهد عثمان بن عفَّان :

لقد أصبحت المُعاناة عند الحسين ـ في هذا العهد الثالث مِن تألُّب الأحداث ـ كأنَّها حوملة منها ، ولا تقتات إلاّ مِن ذاتها. إنَّها ـ مع بداية إطلالته على رجولة مُكتهلة بنضجها وعُمق اختلائها بجوهر الذات ـ تفاعلٌ جديدٌ أبداً بلونه وحقيقة كشفه عن الأحداث ، وربطها بالتيَّار الفاعل الذي تصدر عنه ، وتتخبَّأ به النوايا والمقاصد ، لقد اتَّضح له الآن ـ والأحداث أمام عينيه ـ تتكرَّر حاملةً ذات المقصد ، وإنْ بنمطٍ مُنوَّعٍ بوتيرةٍ أُخرى ، إنَّ تنويع الأنماط للوصول إلى المقصد هو ذكاء الدُّهاة في استنباط الوسائل ، بتمويهها بالإخفاء والحَذر ، حتَّى لا يكون للآخرين تحضير مُعاكس يُخرِّب الطريق إلى المقصد ويمنع عنه الحصول.

لقد شرح له أبوه عليٌّ كيف كان دهاء ابن الخطاب ، في استعمال سقيفة بني ساعدة سقفاً لنمط بلغ به فنُّ الدهاء سَحْب كرسيٍّ مِن تحت صاحبها ، وتركيز دعيٍّ آخر عليها بأنَّها حَقُّه في الجلوس ، ذلك كان النمط الأوَّل في الوصول إلى الهدف ، أمَّا النمط الثاني فإنَّه امتطى البراءة وقفز بها سريعاً إلى الهدف تدليلاً بأنَّ الكرسي هي ـ حتماً ـ للجالس فيها ، وهو صاحب الرأي في منحها لمَن يُريد ، وهكذا تصرَّف أبو بكر وخلعها على ابن الخطَّاب ، أو بالأحرى ، ردَّها إليه بنمط كأنَّه زيارة ورُدَّت بزيارة ، أو كأنَّها سِلفة مُقترضة رُدَّت إلى مَن أقرضها بالشكر والامتنان ، أمَّا النمط الثالث لبلوغ القصد ، فكان مُمرَّغاً بفنٍّ مُتمتِّع بكثير مِن مظاهر الإبداع ، الذي أغرى القبائل بروح القبليَّة ، فكان المجلس الاستشاري السُّداسي ، قدَّمه ابن الخطَّاب قبل أنْ يلفظ أنفاسه ، وجيَّره إلى عُهدة عبد الرحمان بن عوف ، بعد أنْ كتب الأسماء الستَّة بحروف صغيرة ، فأكبر ، فأكبر ، على أنْ يكون انتقاء واحد مِن الستة مُشاراً

٩٦

إليه بالحرف الأبرز والأجسم ، وهذا هو النمط الجديد الثالث الذي نفَّذ القصد ، وأوصل الخلافة إلى ابن عفَّان على حساب عليِّ بن أبي طالب.

لو أنَّ البراءة أو الغِيرة على كرسيِّ الخلافة كانتا ضِلعين في الميزان ، لهان الأمر وطاب الرضوخ للمقصد الأشرف ، ولكنَّ الرؤية ـ الآن ـ عند الحسين هي التي تُشاهد تَعدُّد الأنماط ، وتوحِّدها في المَخرج الواحد إلى المقصد الواحد ... ليس في العمليَّة الملعوب بها أيَّة براءة على الإطلاق ، إنَّما هنالك ـ بالعكس ـ نيَّة مُبيَّتة تنام على ما سينام عليه بيت موزون مِن الشعر ، قيل : مُطابقاً بعد عِدَّة قُرون ، لمعنى ما يحدث الآن :

إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسُها

عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَبُ

لقد تجلَّى للحسين أنَّ كرسيَّ الخلافة ليست وحدها في المقصد الخطير ، إنَّما أهل البيت بالذات ، وهم الطالبيُّون الأمجدون بالتخصيص ، هُمْ المقصودون في عمليَّة سيبقى لها التمادي الأحقر والأبلغ إجراماً!!! فليكن منهم الرسول أو النبي ، لا فرق. إنَّ الإبادة هي المقصد ، وهي في العطش المُزمن ، الأوفى والأروى!! لقد أصبح الدليل الشاهد على النيَّة السوداء بارزاً في الساحة التي راح يرقص فيها الآن عثمان بن عفَّان. إنَّ العصيَّ التي سينهالون الآن بها على رؤوس الطالبيِّين المُجرَّدين منها ، تجمَّعت كلُّها في أيدي بني حرب. إنَّهم الأُمويُّون الأعداء ، التقليديُّون الذين زرعهم أبو بكر وعمر بعُهدة أقدرهم وأبرزهم مُعاوية في ارض الشام ، وها هو الآن ابن عفَّان يُجاهر بهم ويَعتزُّ بما أحرزوه مِن مال وعتادٍ وسُلطان ، فليُدافع الطالبيُّون عن أنفسهم إذا قدروا ، لقد سبق ـ في ظنِّه ـ السيف العذل!!!

تلك هي المُعاناة المُستقية مِن مُعاناته التي كان يحيا بها في سنوات طفولته الواسعة ، التي تَعزَّز وتَدلَّل بها في هؤلاء الأحضان الذين هُمْ : كُلُّ جَدِّه العظيم ، وكُلُّ نفسه المُفتخرة ، وكُلُّ أمله الكبير في الحياة ، وكلُّ أركان الأُمَّة التي بُنيت جديداً للتفاخر والتباهي ... فكيف له أنْ يُشاهد خطَّاً أصيلاً باهراً مِن خُطوط كيانه ، مُهدَّدا بمثل هذا الانهيار ، تعمل على طَمرهم فيه تلك القبليَّة الرَّعناء التي

٩٧

وصفها له أبوه بالأمس : بأنَّها أخطر ما تتلامس بها أصابع الأبالسة وألسنة الشياطين؟!!!

ما كانت قد اكتملت بعد رجولة الحسين ، عندما كان يُعاني ثِقلاً ما عانى بعد مِن نوعه حتَّى هذه اللحظة مِن عمره ، عندما اشتعلت ثروة صغيرة حطَّمت الكرسيَّ على رأس عثمان ، ونبَّهت في بال الأُمَّة عِرقاً صغيراً مِن الوعي والرفض ، وراحت تبحث عمَّن يُنقذها مِن التشرُّد الجديد ، وما كادت تتلقَّط بذيل عليٍّ حتَّى أمسكت به وجرَّته جرَّاً إلى الكرسيِّ الذي تهرَّأت قوائمه بسُوسٍ أصبحت بؤرته واسعة في أرض الشام.

ولكنَّ مُعاناة الحسين هي التي تتلقَّط أيضاً بخيط جديد سيمدُّها بالانتعاش ـ ولو إلى عِدَّة لحظات ـ إنَّ الله مع الصابرين المؤمنين.

٤ ـ عَهد الإمام :

ما خفَّت لوعة الحسين مع وصول أبيه إلى كرسيِّ الخلافة ، ولكنَّها تحوَّلت فيه إلى غِبطة داخليَّة ، لم يجد لها في نفسه إلاَّ التفسير اللذيذ ، وإنْ تكن غبطة مُتولِّدة مِن هلع ، وهل للهلع في النفس أنْ يغزل قميصاً مِن طمأنينة؟! لقد تمثَّل له أنَّ جَدَّه الآن يُغمض عينيه في الإغفاءة القريرة ، وها هي رغبتة الكبيرة يُحقِّقها التنفيذ ولمَّا ينقل بعد جُثمانه الطاهر إلى مَقرِّه المُشبَّع بنور منه ... إنَّ أباه بالذات ـ بعد أنْ يحمله بذِراعيه ويُكفِّنه بمثواه ـ سيتوجه توَّاً إلى الكرسيِّ المُعدِّ له ، فيجلس ويُتابع تسيير الشؤون الكبيرة ، مِن دون أنْ ينقطع خيط واحد لا مِن سُداها ولا مِن لُحمتها .. هنيئا للأُمَّة العظيمة! لا يتركها مؤلِّفها وراعيها لحَظةً واحدةً ، لا في العَراء الفاتر ، ولا في هَدأة السكون ، بلْ في العُهَدة المُستمرَّة ، تُغذِّيها لواعج النفس المُطهَّرة تطهيراً ، ويتدبَّرها الإعداد الموزون بالرسالة التي هي حدود الله في الإنسان ، وتحديد الأُمَّة بالإنسان.

٩٨

لقد ذابت كلُّ فُسحة ضيِّقة مِن بال الحسين ، فلا أبو بكر يتوكَّأ على عَصاه خلف كرسيِّ الخلافة ، ولا سبيل لأيِّ واحد آخر يدُعْى عمر بن الخطاب يتخبَّأ تحت قوائم الكرسيِّ ، بانتظار هبوط دغشة الليل ، ولا أحد مِن بني عثمان يَحرق البيت بفتيلة السراج العتيق ، ولا جُذع واحد مِن بني حرب يتسرَّب إليه اسم مُعاوية ، فيسرق الشام مع الغوطة ويُغرقهما في عِبِّه ... إنَّ الأُمّة وحدها هي المُنزَّهة بين يدي أبيه مُنذ الساعة الأُولى مِن هدأة الفجر في نحر الفجر.

لقد تهيَّأ كلُّ ذلك في بال ومُخيَّلة الحسين في هذه اللحظة ، التي تمَّ فيها وصول أبيه إلى الحُكم ، فالأُمَّة التي هي جَدُّه في مُهمَّته الرساليَّة ، تناولت الآن محورها واستمرَّت في عمليَّة البثِّ ، هكذا تراءى للحسين المُنطبع انطباعاً مُطلقاً بجَدِّه ، وبرسالة جَدِّه ، والمؤمن إيماناً مُطلقاً بالأُمَّة التي هي تعبير مُطلق عن جَدِّه وقيمة جَدِّه في الوجود الإنساني الرائع ؛ مِن هنا إنَّ كلَّ ما كان يتحضَّر مِن أجل خدمة الأُمّة ورفع سويَّتها ، وكان يُحرِّك لهفة الحسين ، ويُلهب شوقه في الوجود ، ويُحيي فيه استحضاراً بالغ الخشوع لجَدِّه الذي يحيا أبداً في الرسالة ، التي لا تخلد إلاَّ في خلود الأُمَّة التي هي عنوانه الأبهى.

إنَّها الحقيقة في التطوُّر النفسي ـ الروحي ـ الذي كانت تُرتِّبه المُعاناة عند الحسين ، مع كلِّ مرحلة مِن مراحل عُمره بالتدرُّج العقلي إلى الفهم والإدراك والتفتُّح الذهني ، لقد كان واقع الأحداث على الأرض يوسِّع له الاختبار المُلمّ ، ويُكسب طاقاته الفِكريَّة ـ النفسيَّة ـ عُمقاً فلسفيَّاً وجوديَّاً ، راح يَغرق فيه غرقاً ذاتيَّاً محفوفاً بفضاء آخر ، كلُّ صفاته مِن التحديد ، إنَّه جوٌّ مِن التأمُّل المُتحفِّز النائم ـ أبداً ـ في كلِّ خليَّة مِن الخلايا المُنطوية بها حقيقة ذاته.

مِن هذا القبيل كان انتهاؤه إلى الاقتناع ، بأنَّ الرسالة التي حقَّقت أُمَّة هي الأُمّة ذاتها في جوهرها الكونيِّ الإنسانيِّ ، ومِن الحيف أنْ تخيب هذه الأُمّة ، وإلاّ فإنَّ الرسالة هي المُعطَّلة في مؤدَّاها الأصيل! ولكنَّ مُخيَّلة الحسين شغفت بأنْ تتلهَّى ـ الآن ـ بأنَّ وصول أبيه إلى الحُكم هو في خَطِّه الاستمراري ، ولم يشبَّ بأيِّ انقطاع

٩٩

مع أنَّ وصوله إلى الحُكم هو الوصول الهزيل ، بعد مُرور ثلاثين سنة مِن غياب ، وانقطاع أبْعَدا الخَطَّ عن استمراره الضابط!

ليت الحُكم وصل إلى عليٍّ عندما كان يتمنطق بسيفه (ذي الفِقار) ، لقد قصفت القبليَّة سيف عليٍّ بعد أنْ أبعدوه خمساً وعشرين حولاً عن مُتابعة الجهاد ، ولمَّا عادت إليه الساحة كان قد ادلهمَّ الليل بالعَكر المشؤوم. أمَّا الأُمّة فهي التي تئنُّ الآن وهي تستدعيه لتقديم الغوث ، فما أحوجه إلى عشرة سيوف يهزُّها دُفعة واحدة في وجوه هؤلاء القوم ، وخلف كلِّ واحد منهم قبائل تُنادي : يا للجاهليَّة في ثارات العرب!!!

كَمْ سيفاً قصف المُستعان به في صدر طلحة والزبير في معركة الجمل ، بقيادة أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر التيمي؟ وكَمْ كلَّفته مِن سيوف مقصوفة ، مَعارك صِفِّين ، بقيادة ذلك الذي وصِف بأدهى الدُّهاة ـ مُعاوية ـ كسرى العرب؟ وكَمْ أرهقته القبليَّة المُجنَّدة بقيادة عمرو بن العاص ، والمُغيرة بن شعبة ، وزياد المُلحق بأبيه ابن أبي سُفيان ، وأخيه مُعاوية ـ المُكحِّلين بغِبار فراش كانت تتقلَّب عليه امرأة اسمها (سُميَّة)؟!! ، وكَمْ أضنته حِياكة القُمصان المصبوغة بالزعفران ، حملها مع كلِّ أنوالها العتيقة إلى الشام ، بشير بن النعمان؟ وكَمْ أدمت قلبه وشلَّت مِن هِمَّته وأعصابه ، عنجهيَّة أبي موسى الأشعري ، التي كانت لقاحاً لورمٍ اصفرَّ تزنرت به بطولة مغشوشة ، شقَّت عصا الطاعة ، وضربت بها في معارك النهروان؟! وكَمْ صعقَته ساعات الحُزن وهو يغرق في تأمُّلاته المليئة بالعِفَّة ، والصدق ، ونقاوة الوجدان ، حتَّى غافله ـ وهو غائص مُستجمُّ بها ـ وغد آخر علَّمه أبو لؤلؤة كيف يضرب بالسيف المسموم صدر المُصلِّي في باحة المسجد!!!

إنَّها الحقيقة الصارمة يجابهها ـ الآن ـ الحسين ، لقد غاب أبوه مِن تحت نظره ، وبقي عظيماً كبيراً ماثلاً في مدى بصيرته ، لقد أخذ عنه ما أخذه عن جَدِّه ، إلاَّ أنَّ الأخذ هنا كان أطول في مَداه ، وكان مكوَّراً بمُعاناة ما زادته فهما حتَّى زيَّنته شعوراً بأنَّ رسالة جَدِّه العظيم ، هي بالحاجة القصوى إلى أنداد مِن طينة أبيه ، حتَّى تُعمَّر الأُمَّة ويستقطبها الوعي المُهذَّب إلى تحقيق ذاتها الإنسانيَّة الصامدة في صدر الحياة.

١٠٠