الإمام الحسين في حلّة البرفير

سليمان كتّاني

الإمام الحسين في حلّة البرفير

المؤلف:

سليمان كتّاني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٦

إنَّ فترةً زمنيَّةً حلَّ بها عثمان خليفة مُتنكِّراً لمعنى الخلافة ، وتمكَّنت مِن تحريك النفوس بثورة رافضة ، هي ـ في الحقيقة ـ ذات مردود مُبارك ، لا لكونها هدرت دماً ، بلْ لأنَّها حرَّكت وعياً يأبى أنْ يذلَّ ويستكين ، وتلك هي دلالات تُبشِّر بيقظة يتثقَّف بها المُجتمع ، مُفتِّشاً عن حقيقة الإباء والنُّبل اللذين يبنيانه إنساناً عفيفاً كريماً ، إنَّ في الحَقِّ والعدل والمُثل لَجاجة تحرُّك النفس ، وتستدعيها إلى البطولة التي هي وحدها عُنفوان صحيح في وجود الإنسان.

وكان حديث الإمام مع ولديه الحسن والحسين ، مُتضمِّنا ـ أيضاً ـ هذه المعاني وهو يُحلِّل ثورة الناس على الخليفة ، وكيف أنَّهم رفضوه حاكماً ، وكيف أنَّهم يطلبون الإمام المُغيَّب عن الساحة التي تطلبه الآن إدارة الحُكم وترميمه ، حتَّى يعود مُلمَّاً بشؤونهم التي اعوجَّ بها الاضطراب والزيغان. وتابع الإمام وقال :

وإنَّ مُعاوية في الشام يتَّهمني بأنِّي أنا صبغت قميص عثمان بالدم ، كأنَّ الرجل لم يدرِ أنَّنا نحن الذين كنَّا نُحاول أنْ نُرمِّم الحُفر مِن طريق عثمان ، حتَّى ننجيه مِن السقوط فيها فتتحطَّم ضلوعه ، ويشرب قميصه ذلك الدم!! إنَّ عمر بالذات هو الذي رزع الطريق بالحُفر التي وقع فيها عثمان ، وإنَّ مُعاوية بالذات هو الذي تمنَّاها عميقة حتَّى يُمكنها أنْ تواري عثمانه هذا ، وتبقى له الذريعة بأخذ الثأر ، أنَّه يظنُّ أنَّ الساحة قد خلت له الآن. يا للرجل! يعدُّ نفسه أيضاً بخلافة المسلمين! ألا تريان مثلي ومعي ، أنَّ شفقاً احمرَّ بالزور والبُهتان ، يُطلُّ علينا مِن خلف الأُفق المُطلِّ على الشام.

لم يكن وجيفاً جواب الحسن ، كما وأنَّ جواب الحسين لم يكن أقلَّ مِن مضيض. قال الحسن بما معناه :

٦١

الحسن : ـ نحن مِن زمنٍ طويلٍ حاضرون ـ يا أبي ـ لو أنَّ يقظة قد استدعتنا في عهد عمر ، لكنَّا لبيَّناها بإلحاح ، ولكنَّها تأخَّرت حتَّى الآن ، فهل لنا إلاَّ أنْ نُلبِّي؟! إنَّ الأُمَّة تطلبنا في الوقت الحاضر ، فامش إليها أيُّها الإمام. صحيح أنَّ كلَّ قعود طويل يوهِن الطريق ويُبعثر فيه حُفر العِثار ، ولكنَّ القضيَّة الكبيرة تبقى ـ أبداً ـ حافزنا نُلبِّيها ساعة تطلبنا النَّجدة بمَزيِّتها الحكيمة.

يظهر أنَّ مُعاوية يلعب لُعبة كبيرة في غوطة الشام ، إنَّها لُعبة يُتقنها ـ تيميَّة سُفيانيَّة ـ إنَّ تيميَّة أبي بكر تَنشط الآن في البصرة ، تُحرِّكها ابنته عائشة لصالح طلحة والزبير ، في حين يوظِّفها دَهاء مُعاوية حتَّى تكون لصالحه في طرف الميدان. فلنقف بوجه مُعاوية الآن في البصرة. لقد سمعتك في الأمس تُخطِّط : إنَّ عائشة أوَّلا ثمَّ يأتي دور الشام.

ما كاد الحسن يسكت عن حديثه الموجَز ، حتَّى نهض الحسين يزرع الدار بخطوات مَلزوزة ، كأنَّها هي التي راحت تُساعده في التعبير عن انفعالاته :

الحسين : ـ أجل ـ يا أبي ـ نحن دائماً حاضرون ، فالرسالة ـ القضيَّة ـ حاضرة فينا ونحن حاضرون فيها وبها ، وعلينا أنْ نُلبِّي في كلِّ لحظة يشتغل فيها وعي وإدراك ، ولكنَّني أسأل : ألسنا نحن يقظة في ضمير الأُمَّة؟! فإذا كانت الثورة قد هبَّت في وجه الخليفة وضرَّجته بدمه ، ألاَ نكون نحن هم الذين أيقظوا الثورة فأُسِكتت؟!فما كان يُنطَق بالعهر والكُفر؟ صحيح أنَّنا لم نَمتشِق حساماً غرزناه في صدر القتيل ، إنَّنا لسنا مُجرمين سفاكي دم ، ولكنَّنا نحن كلمة في الرسالة التي هبطت بالحَقِّ ؛ لتزيح المُجرمين السفَّاكين مِن درب الحَقِّ ، الذي يلهب يقظة الإنسان في أُمَّة جَدِّي ، لهذا نحن حاضرون الآن لأنْ نُلبِّي القضيَّة ساعةَ تطلبنا النَّجدة ، وسنلبيها بمُجازفة بأعناقنا ، ألم تكن المُجازفة

٦٢

في معركة أُحد بنت البطولة التي حقَّقت النصر؟! إنَّي أرى المُجازفة بنت الحِكمة ، فلنرمِ بنفسنا إلى الساحة حتَّى لا نخسر الفرصة بإعطاء الوقت الكافي لهروب اللُّص الذي سرق. أنا أقول ـ مثلك يا أبي ـ : لم يَقتل عثمان إلاَّ عمر ، فهل يكون لمُعاوية ثأر مِنَّا والجاني عمر؟!!.

ولكنَّ أُمَّة جَدِّي هي الضحيَّة ، وهل لغيرنا نحن أنْ يثأر؟!

لم يمرَّ هزيع أوَّل مِن ذلك الليل إلاَّ وكانت القوافل وخيول الجُند ، تترك المدينة وتستلم الخَطَّ المارَّ بالتنعيم ، والصفاح ، ووادي العقيق والقادسيَّة ، وكلُّها مَحطَّات تؤدِّي إلى البصرة والكوفة والشام.

ـ ١١ ـ

وأخيراً وصل الرجل الدعَّابة إلى الحُكم ، ولكنَّه قُتِل! أتكون دُعابته هي التي طعنه بها ابن مُلجم! وهو خاشع تحتها في مِحراب المسجد؟! ومِن أين لابن مُلجم أنْ يعرف معنى الكلمة : بأنَّه المزاح الخفيف في الطبع ، والمزيَّة البهلوانيَّة التي هي لُعبة يمرح بها الصِبْية في ليالي الطيش ، وفي خبايا الازَّقة ليلة العيد! أم أنَّه سمع عمر بن الخطاب يصف بها رفيقه عليَّاً بالجهاد ، ليلة ألَّف مجلس الشورى السُّداسي ، فلم يترك أحداً مِن السِّتَّة إلاّ دلَّ إليه بالمزيَّة التي فيه ، والتي تُعرقل وصوله إلى كُرسيِّ الخلافة ، وكان يتمنَّى على كلِّ فردٍ منهم : لو يَقدر أنْ يتنفض منها حتَّى يأتي الخلافة وهو في تمام استحقاقها ، أمَّا تمنِّيه على عليٍّ فكان حُكماً له بأنَّه يكون أمثل مَن يتولاَّها لولا دُعابة فيه تُبعده عنها ...

ولكنَّ التاريخ ـ وهو جليل القدر إذ يُمحِّص ويتبنَّى الحَزم والجزم في الحُكم ـ لم يتمنطق بشيء مِن فلسفته التي تُسمَّى (فلسفة التاريخ) وبها تتغربل المعاني والأحداث ، وأبقى على الكلمة خارجة مِن فَمِ عمر ، ولا صقة بعُنق عليٍّ ، دون أنْ

٦٣

يلمسها بوصف وتحديد : هل هي ثُؤلول في أنفه؟ أم حَدَرَة في جِفنه؟ أم غُضروف تحت لسانه؟ أم مُزحة طويلة مَدَّ لها رُمحه في ساحات الجهاد؟!!

لقد كانت الدُّعابة ـ إنَّنا الآن نقول ـ في نيَّة عمر ، يَمزح هو بها على المُجتمع ، وقد صاغه النبي بعِرقه وعِرق عليٍّ ، حتَّى يكون وحدة فاعلة يَعجنها ويخبزها : التُّقى ، والحُبُّ ، والعدل ، والإخلاص ، مِن دون أنْ تلوي بها أيَّة مَزحة مِن المَزحات ، التي كانت تتداعب بها القبائل المُجْفَل منها الوعي ، والفَهم ، والإدراك.

لو أنَّ عمر لم يَكذِب على نفسه وعلى نبيِّه ، وعلى حقيقة بناء مُجتمعه ، لكان نجَّى الأُمّة مِن الزواريب التي كانت تتعبَّأ بها السموم الزاحفة إليها مِن لَهيب حَرَّاتها ، ولقد كانت القبلية مِن أفتك السموم ، ومِن أشدِّ تلك الحرَّات نَفثاً بها!.

ما كان أغنى عمر عن مجلسٍ يضمُّ خمسة مُتزاحمين مُتصارعين على كرسيِّ زعامة ، وخلفهم مئات وأُلوف مِن القبائل المُبايعين المُساندين ، الضاربين بالسيف والرمح والرَجِل والخيل ، هنالك سادس لم يَدعب به التركيز والتأسيس ، ولم يأثم به : لا النبي ، ولا الحَقُّ ، ولا العدل ، ولا العقل ، ولا الصدق ، ولا الزَّند في ساحات الجهاد ، لقد بُني كأنَّه المصفاة لتُخلِّص الأُمَّة جَمعاء ، مِن أغبرة المُبايعات والزحافات على كرسيِّ لم يَعُد مُطلقاً مشيخةً ، بلْ إنَّه بيت لأُمَّة تنرصُّ نحو المَجد والعظمة ، إنَّه السادس الذي اصطفاه المؤسِّس العظيم ، الذي أسَّس وصمَّم ونفَّذ ، إنَّه صخرة الأساس ، ويمين في التصميم ، وعزم حادٌّ أصيل في التنفيذ ، فلماذا خضع عمر لمَهابة النبوَّة ، ولم يخضع لمُقرَّرات النبوَّة؟

كلُّ ذلك كان يحزُّ في نفس الحسن والحسين ، عشيَّة كان جزاء أبيهما ، مِن جهاد العُمر ، مَدْيَةً ينخرها الصدأ ، كبته كبَّاً رخيصاً ، وهو في خِضَم مِن جلال ووقار! صحيح أنَّ مرارة ثقيلة المَذاق كانت تُهيمن عليهما ، وهما يستدرجان واقع الأحداث التي أدَّت إلى مقتل أبيهما ، ولكنَّهما كانا يغرقان في جِدِّيَّة مِن البحث المسؤول ، فيه تقويم شامل وعامٌّ عن وضع الجزيرة ، وعن دورهم المسؤول في المُجتمع ، لقد تفرَّع

٦٤

البحث ودقَّ ، فتناول الرسالة ومعانيها الايجابيَّة في المُجتمع ، مِن حيث المقاصد والغايات والتصاميم ، حتَّى إنَّه تطرَّق إلى دراسة النُّظم التي تضبط المُجتمع وتصونه ، ومِن أحكمها وأعقلها خَطُّ الإمامة. ولقد جرى تقويم عامٌّ لفترة الإمامة التي زاولها أبوهما عليٌّ ، وكان التساؤل : هل هنالك تحقيق ما؟ أم أنَّه فشلٌ وإخفاق؟ أمَّا الأسباب التي أدَّت إلى ما يُسمَّى فشلاً وإخفاقاً ، فإنَّها كانت في مجال مِن البحث والتعليل والتحليل ، تفرَّعت منه التحسُّبات والتحوُّطات التي سيكون عليهما أنْ يتَّخذا منها عِدَّة للغد الذي يبدو أنَّه مُعتِّمٌ قاسٍ.

إنَّ الحسن وحده كان المُستفيض في البحث والتحليل ، أمَّا الحسين الذي كان مصبوغاً بحُزنه ، فإنَّه كان المُصغي باحترام إلى كلِّ كلمة كان يتنفَّس بها أخوه الحسن ، كأنَّه يسمعها مِن ثلاثة أفواه تنزل في أُذنه ، ونفسه ، واشتياقه ، دفعة واحدة : فَمِ أُمِّه الندي ، وفَمِ جَدِّه الصادق ، وفَمِ أبيه المُفعَم بالحَقِّ ... يا للأحضان تُناديه في لمِّه وحَضْنه!! لقد طواها الغياب ، إنَّما هي أبداً هيمنة في الروح ، والنفس ، والبال ، وإنَّما هي ذُخر نفيس في هذا الحِضن الذي بقي وحده الآن ، وهو يتكلَّم كأنَّ الثلاثة الذين غابوا هُمْ ـ به ـ يتكلَّمون ، وبحضوره يستمرُّون.

لو أنَّنا نقدر أنْ نُصغي الآن إلى شمول كان يعنيه الحسن ، كأنِّي به لم يعتنِ كثيراً بحصره في مادَّة الحروف ، ولكنَّه قد سكبه في كلِّ ما نهج به ، بعد أنْ تناول الإمامة عن أبيه ، وهي ـ أبداً ـ كُنهه المُكتنز بالفَهم والنُّضج ، وكأنِّي الآن أسمعه يتكلَّم أوَّلاً عن المُجتمع وعن دورهم فيه :

الحسن : ـ هل مِن حاجة يا أخي إلى توضيح وبيان ، إنَّ جَدَّنا العظيم هو الناطق بالحَقِّ ، وهو العقل والروح الناطقان بالنبوَّة المنزلة في الساحة؟ أنا أفهم الآن أنَّ الرسالة هي قضيَّة مِن قضايا جوهر الإنسان ، أمَّا الإنسان ، فهو المُطلق فيها ، ولكنَّه أوَّلاً إنسان الأُمَّة التي هي أمَّة جَدِّي ، كأنِّي بالأُمَّة هذه هي التي استدعت جَدِّي بكلِّ ما لها مِن زَخم جالٍ في روحها ، وعزمها

٦٥

وتفتيشها الدائب ، مُنذ أنْ بدأت تدب فوق هذه الأرض التي هي أرضها وحدودها ، ضمن بَوْتقة الزمان والمكان ، وهي التي انصهرت في عبقريَّته الفريدة ، واستقطبته إليها ، كأنَّه أعزُّ وأنبل وأجهد مَن لبَّاها إلى التوق الإنساني في اكتشاف ذاته والتلقُّط بحقيقة المُجتمع الإنساني ، الذي هو حِصنه في الوجود. ليس إدراك هذا بمعناه الجليل إلاَّ مِن نصيب القِلَّة الفاهمة في المُجتمع ، مِن هنا كان جَدُّنا ـ يا أخي ـ هو المُقتدر في الفَهم والإلمام ، وكان أبونا عليٌّ الأوَّل في الاستيعاب ، وكنَّا نحن المنقول إلينا وهج هو المُلزمنا أنْ نتلمَّسه ، لأنَّنا نشأنا في دائرة مِن دوائره الكبيرة.

ما توقَّف الحسن قليلاً عن مُتابعة البحث ، إلاَّ إفساحاً لما رآه يجول في خاطر أخيه الحسين. قال الحسين :

الحسين : ـ لقد كنت هناك ، في بيتنا في المدينة قُرب المسجد ، أُصغي إلى مِثل هذه المعاني تنطق بها جُدران البيت ، وسقفه ، والباحة التي كانت أمامه ، وهي ترتعش بشجرة الأراك. أكمل يا أخي ، إنَّني لا أزال أُصغي إليك.

أمَّا الحسن ، فإنَّه تناول رأس أخيه وفركه بين يديه ، وقبَّله ، ثمَّ استطرد في القول :

الحسن : ـ أمَّا نحن ، فإنَّ الإمامة هي التي أُوكِلت إلينا ، وراح يمنعها عنَّا كلُّ مَن لم يفهم أنْ الأُمَّة التي قصد الرسول ترسيخها ، ما كانت إلاَّ هَمُّه الأوحد ، ومُبتغاه الجامع ؛ لهذا فإنَّه قصدان يصونها بالصدق والطُّهر النابعين مِن الإيمان ، ومِن ثمَّ بالنظام. إنَّ الإمامة هي النظام ، وهي أُسلوب في الحُكم ، والسياسة ، والإدارة ، مشتقُّ مِن واقع الأُمَّة بالذات. أقول

٦٦

ذلك لأعني أنَّه نظام بمفهوم جديد ، لا ينبثق إلاَّ مِن جوهر الرسالة ، إنَّ المَخلوف هو جَدِّي النبيُّ الذي هو الرسالة ، والتي هي بدورها جَدِّي النبي ، اللذان هما ـ في المآل الأخير ـ المُجتمع الذي هو الأُمَّة. أمَّا الإمامة فهي الترتيب الفَخم المُشتقُّ ـ لفظاً ومعنى ـ مِن الأُمَّة لأجل الأُمَّة ، أمَّا الأُمَّة التي صيغت جديداً وسُحِبت مِن كلِّ أنظمتها البالية ، التي كانت تفسخها ولا تلحمها ، فإنَّها تأخذ نظام سياستها وصيانتها مِن الرسالة ذاتها ، التي سحبتها مِن تفسخها ، ولحمتها بوحدتها الرائعة. ليس الذي يؤسِّسها الآن مجاميع مَشيخات ، وزمر مِن أبالسة الأصنام ، إنَّما مَن يَسوسها في يومها الطالع ، فهو النبيُّ المَخلوف بتمام ما أنجز وتمَّم وأورث ، أمَّا أنْ تعود السياسة إلى مُبايعات ترقص رقصاً تحت أطناب المشايخ ، فهذا ما لا عودة إليه ، مَرضاً مُزمناً يُفسِّخ المُجتمع إلى وحدات لا حصر لها في العدد الذي يَفسخ ويَلغي.

مِن هنا ؛ إنَّ حصر الإدارة بخَطٍّ واحدٍ مبنيٍّ أساساً مِن جوهر الرسالة ، هو الذي يوحِّد السياسة ويوجِّهها ، ويُبعِد الأُمَّة عن أسباب تَشرذمها وتَخلُّفها ، ويُنسيها تماماً مناهجها العتيقة ، وهكذا تكون الإمامة أُسلوباً مُشتقَّاً مِن واقع المُجتمع ، أيْ مِن واقع إصابة أسباب تَخلُّفه ، ثمَّ في تنظيم ما يُزيلها أسباباً ويقضي عليها.

هنالك الزمن الآتي ، وهنالك المُجتمع الذي ينمو سِيَّما ويتطوَّر ، وهنالك كذلك الإمامة التي يعمق ضميرها في جوهر الرسالة ، والتي ستبقى ترسم ذاتها في مبناها ومعناها ، في رفقة المُجتمع الذي يُصبح ـ هو بالذات ـ مُرآتها في التصوُّر والتطوُّر.

٦٧

أنا لا أظنُّ ولا أقول بإمامة مسحوبة مِن هذا الأساس في الجوهر ، يُمكن أنْ تختلُّ موازينها في خدمة الأُمَّة وتوجيهها نحو الصلاح والفلاح ، إنَّ التوكيد على صِحَّة ظِنِّي هو في أنَّ الإمامة هي ترتيب جَدِّي ، الذي هو نبيُّ الأُمَّة التي هي ضميره المُشتاق ، وصدره الأوسع.

وقاطع الحسين أخاه الحسن وهو يُعلِّق :

الحسين : ـ طبت! طبت! يا أخي الحسن ، هكذا طابت فاطمة أُمِّي في ساحة المسجد ، وهي تفرك أُذنَي أبي بكر الخليفة ... ولكنْ ، قُلْ لي : ـ يا أخي الحسن ـ هل كان فعلاً أبو بكر خليفة جَدِّي؟

أمَّا الحسن ، فإنَّه راح يَمضغ الذِّكرى مَضغاً ، وهو يستأنف العرض بصوت خافت مُتقطِّع عميق الأداء ، كأنَّه نزف النفس مِن بين الشفتين :

الحسن : ـ أتكون ثلاث ساعات في سقيفة بني ساعدة ، بمقدار دهر مِن العُمر ، غاص به جَدِّي في غار حِراء؟! لقد جَنى جَدِّي كلِّ عُمْق الدهر ، وكلَّ نور السماء ، وهو يرصف عقد الرسالة ، وهو ينظم خَطَّ الإمامة ، لتكون الخلافة مِن حقيقة المَخلوف ، ومِن حقيقة الجوهر ، فأيَّة خلافة يُمكن أنْ تأتي بها ثلاث ساعات مِن ليلٍ في سقيفة؟!!

لا يا أبا بكر ، ولا لا يا عمر ، لن تكون خلافة النبي في مَسخ الخلافة ، وتعطيل الإمامة!!! وهكذا قد حصل ، هل نبكي؟ ولكنَّنا حزناً!!! وهل نيأس؟ ولكنَّنا تصبَّرنا وبقينا نعمل حتَّى وصلنا ، ولكنْ ـ بعد أنْ وصلنا ـ أيَّ شيءٍ تمكنَّا مِن تحقيقه؟!!

هنالك ثلاثة عقود مَرَّت ونحن مُقعدون ، لقد عادت مِن غفوتها العتيقة وانتعشت تلك الآفات التي كانت تخطف أنفاس الأُمَّة

٦٨

وتُعطِّل إمكاناتها في وجودها الإنساني فوق الأرض ، أمَّا الإمامة فقد حُجِر عليها في سقيفة أُخرى طيلة هذه السنين ، كأنَّها شهادة زور ، أو كذبة نَطق بها عنسيٌّ أسود ، أو مَزحة تَخفَّف بها جَدِّي وهو ينزف في غدير خُمٍّ!!!

إنْ نَسْتَفِقْ قبليَّات الجزيرة وتَعُدْ إلى رقصها في الساحات ، فتلك هي الرُّدَّة في وطأتها الثقيلة على المُجتمع الطريِّ العود! أمَّا أنْ نصل نحن بعد غياب ثلاثين سنة ونقول لها : أزيحي لِثامك مِن الدرب ، فقد شوَّشت الرسالة وزعزعت وحدة الأُمَّة ، فإنَّ ذلك هو الذي ، أصلا ضَاَمَ تيميَّة أبي بكر ، وضيَّع عمر عن الصواب ، وخبَّل عثمان بحِقد أُمويٍّ!!!

ولكنَّنا فعلاً وصلنا ، وبدأنا ننفض الغُبار عن ورقة الغار ، ولكنَّ الشَّنار بقي الشَّنار!! لقد تمكَّن مِن زرعه شناراً ثلاثة خُلفاء تعهَّدوه وتداركوه على مَدى ثلاثين سنة ، لقد جاء مَضريَّاً ، حميريَّاً ، كلبيَّاً ، تغلُبيَّاً ، قيسيَّاً ، يمنيَّاً ... ابتداء مِن مَكَّة ومروراً بالبصرة ، ومربوطاً مسموماً بالشام!!!

ولقد أجبرنا ـ إذ وصلنا ـ على خوضها معركة بنمط قَبَلِي ، واضطررنا على صَبغها بالدم حفاظاً على الإسلام ، ولقد اختلط دمُ جمل عائشة بدمٍ تفجَّر مِن صدر طلحة في معركة البصرة المشهورة بيوم الجمل ، وقفلنا راجعين إلى الكوفة ونحن نحسب أنَّنا ربحنا! ولكنَّ الحقيقة إنَّ الربح ذاته كان الهزيمة! لقد تجلَّت الهزيمة في اقتتالنا ضمن بيوتنا ، على أيِّنا هو الأحَقُّ بالوصول إلى صينيَّة الطعام : هل هو طلحة؟ أمْ الزبير؟ أمْ هذاك الطالبيُّ الملصوق بأهل البيت؟!

لقد كان القتال وهدر الدم ضمن العائلة الواحدة ، وضمن البيت الواحد ، وفوق الأرض الواحدة! يا لتعس الأُمَّة التي

٦٩

بناها جَدِّي لتُعانِق الغَد بحِلَّةٍ مِن فَخار!!!

ولقد خضناها في صِفِّين بذات النمط ، وما كِدنا نحسب أنَّنا ربحناها حتَّى انهزمنا هزيمة أُخرى لها جَعجعة أكرب مِن جَعجعة الجمال ، لقد جَعجع فيها عمرو بن العاص ، وأبو موسى الأشعريُّ ، بعد أنْ تكلَّم الاثنان باسم الرسالة التي هي رسالة جَدِّي ، يا للحُروف!! كيف يهرب منها النور؟! فتتعتَّم أوجاراً وأوكاراً للمناجذ والجُرذان!!!

أُترانا جزعنا مِن فَظاعة المَعمعة؟! وتهيَّبنا هدر الدَّمِ؟! واعتصمنا بعمليَّة حَقنه حتَّى لا يبقى للأُمَّة شيء مِن رَمق نُعالج نحن به مصيرها ، ونعود فنرتق فتقه ، ونرسم له خَطَّاً يعوله في طالع الغَد؟! لقد ركبنا المَركب هذا في ترجْرُجه فوق اليمِّ ، ولكنَّ النتيجة جاءت محمولة على مركب آخر ما استضاء ، وهو يقطع ظُلمة الليل فوق مُعترك المَوج إلاَّ بوميض كانت ترتجف به البروق في رعود العواصف والزوابع!!!

لقد كانت معركة النهروان ، تنهَّد بها الخوارج ، في زعمهم أنَّ حَقن الدم مُميت أكثر مِن تفجيره ، وهذا كان ضوءهم في الليل البهيم! ورحنا إليهم حتَّى نهزم فيهم الفوضى التي تُعتِّم على الإمامة دربها إلى المُعالجة والتصحيح ، ولكنَّنا ما هزمناهم حتَّى شعرنا أنَّ الأُمَّة بكاملها هي المهزومة فينا ، فدمها دائماً هو المهدور ، ووحدتها هي المفروطة ، وقبائلها هي المُستدعاة إلى أخذ الثار ، ثمَّ إلى الثار مِن الثار ، أمَّا الهزيمة الأخيرة ، والتي هي لنا فجيعة ، فهي التي أخذنا لها الثار مِن هذا المُسمَّى : ابن مُلجم!!!

ما كاد الإمام الحسن ـ وهو الآن خليفة أبيه في انتقال الإمامة ـ يصل إلى مثل هذه المُعاناة ، تحت وطأة ثقيلة مِن الاستعراض الشامل للأوضاع التي أوصلت الأُمَّة

٧٠

إلى ما يُهدِّد وحدتها بالانفراط المهزوم ، حتَّى بادره الحسين ، وهو مُثقَل مثله بهذا الذي يُولِّده العنفوان الهادر الصامت :

الحسين : ـ صحيح ـ يا أخي الإمام ـ لقد رُمْينا بالهزيمة التي احتاكت بها خلوة السقيفة ، لو أنَّ الخَطَّ مشى طريقه المرسوم ، لما كان للقبليَّة يقظة ، ولا للمرض عافية ، ولا لأيَّة زعامة ما يُغريها إلى التنطُّح والبروز ، ولكان الاستمرار كفيلاً بعدم قطع النور عن الحدقة ، ولكانت الأُمَّة هي التي تمتنُ ضلوعها في صدرها الأكبر!!!

وصبر قليلاً ثمَّ انتفض :

الحسين : ـ ولكنَّنا نحن ـ يا أخي الإمام ـ ضمير الرسالة ، وعُنفوان الأُمَّة ـ فهل يُمكن أنْ يخبو ضمير الرسالة ، وأنْ لا تُفتِّش الأُمَّة عن عُنفوانها الأصيل؟!!

ـ ١٢ ـ

لم يتمكَّن الحسن ـ فقط ـ مِن مُلاحقة الأحداث التي حصلت على الأرض ، مُنذ السقيفة حتَّى مقتل أبيه ، بلْ إنَّه تمكَّن أيضاً مِن قراءة بَصماتها قراءة مُستوعبة ، ولقد كان له مِن قراءة البصمات عُمق اللَّمح ووضوح التصوُّر ، لقد لمح أنَّهم مُنذ الصباح الذي أُعلن فيه وصول أبي بكر إلى كُرسيِّ الخلافة ، بدأوا يخوضون مَعارك الحِقد الموصِلة إلى الانهزام ، مُنذ ذلك الوقت راحت الخُطوط تمشى تحت جِنح الليل ، ولكنَّ الصباح ما كان أبداً يجيء إلاَّ تاركاً خلفه بصمات أفصح مِن الخُطوات في الإعلان عن مخبئاتها ، إنَّ الذكي الذي يعرف كيف يقرأ البصمات ، هو المُمتاز في لمحه ، وكان الحسن قارئا مُمتازاً.

٧١

مُنذ ذلك التاريخ ـ ولمَّا يصل الدور بعد إلى عمر ، وإنْ يكن له في كرسيِّ الخلافة الصدر والأُذن والعين وإشارة البَنان ـ وجَّه الخليفة أبو بكر ، في عُتمة الليل ، مُعاوية بن أبي سفيان ليزرعه في غوطة الشام ، ولمَّا مضى الخليفة العجوز إلى حِضن ربِّه ، تناول عمر الزرع بالحيطة والعُهدة ، فهو وإنْ زرع في الليل ، فإنَّ الصبح سينشره حاكماً مُقتدراً على الشام ، وحَمص ، وحماه ، واللاذقيَّة ، وحتَّى على صيدا وصور وسهول بيسان ، سيكون الحاكم المُلمَّ والمُقتدر على أيَّام الخليفة الثالث عثمان الذي وصل الليل بالنهار ، وهو يعتني بالزرع الذي ستغصُّ به البَيادر ، فيُشبع الأُمَّة التي هي بنو أُميَّة ، وتموت جوعاً تلك الأُمَّة الأُخرى التي هي طالبيَّة بني هاشم!!!

لقد كان مُعاوية أقدر مَن مشى الدروب في عُتمات الليل ، وكان يُجرِّب إخفاء بصمات خُطواته ، ولكنَّ الدروب لا تَقبل ـ كثيراً ـ بتشويه البصمات ، فهي مِن نصيبها تحمُّل الوطء ، والاحتفاظ بالبصمات التي هي تسجيلها الوحيد بإحصاء المارِّين ، ومُطالبتهم بما يكون عليهم مِن ضرائب المُكوث أو المُرور ، إنْ يَطل مكوث أو ينخطف مرور ، مِن هذا القبيل كان للثورة الصغيرة أنْ تمشي نحو عثمان وتُجندله عن كرسيِّ الخلافة ، وكان لمُعاوية أنْ يُحاول لَمْلَمة بصَماتها ، ولفهَّا بقميص القتيل ، وتحويلها ثأراً يُطالب به الإمام عليَّاً ليأخذ منه ديَّةً عليه ، أمَّا الثورة الرابحة التي كانت أوسع وأكبر مِن سابقتيها : ثورة الجَمل ، وثورة النهروان ، فإنَّه حاول أنْ يمتصَّ بصماتها ويلفَّها بورقة مِن أوراق المِصحف ، ليدرأ عنه ويلاً هددته به معارك صِفِّين ، إمَّا سقوط عليٍّ قتيلاً تحت مدية ابن ملجم ، فإنَّه جاء بعد خلوِّ الساحة مِن ثلاثة : أوَّلهم طلحة ، وثانيهم الزبير ، وثالثهم إمام ما طاله إلاَّ اليوم مشي الليالي الطويلة ، مُنذ أنْ مشاها عمر بقدمي أبي بكر ، وتخطَّاها عثمان بولاية مقصوفة. أمَّا البصمات فإنَّها توحي كلُّها الآن بأنَّه وحده ـ مُعاوية ـ هو الذي أصبح قدر الخلافة.

بعد هذا التخطيط الطويل ، وبعد لملمة كلِّ هذه البصمات وتجييرها في خدمته ، أصبح مُعاوية سيِّد الساحة ، والمُتحكِّم الأقدر بالخُطوط الطويلة التي تربط

٧٢

الشام بالكوفة والبصرة والمدينة ومَكَّة واليمن ، وأخيراً مصر في المُقلب الآخر التي لم تأنف كثيراً مِن استحالتها بقرة حَلوبا بين يدي عمرو بن العاص!

أمَّا الرجال الكبار الذين عاونوه في عمليَّات البصم والتجيير ، فإنَّهم لم يكونوا أقلَّ منه دهاءً ، وأطول نفساً في عمليَّة امتطاء الليل مِن أجل الحصول على كلِّ مَغنم فيه ثروة ، وفيه جاه ، وفيه تحكُّم برقاب الناس ، وفيه ـ بنوعٍ خاصٍّ ـ قضاء تامٌّ على بني طالب ، إنَّهم المعدودون في البطانة المُخمليَّة : منهم عمرو بن عاص ، والمُغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحَكم ، وزياد الذي كان ابن أبيه ، فأصبح أكيداً أخاه.

ذلك هو التخطيط المُصمَّم مُنذ ثلاثين سنة ، ومَن يَقدر أنْ يقول : إنَّ ليس التخطيط أقوى وأشدَّ فيلق مِن الفيالق التي تمشي إلى حرب؟ بمثل هذا التخطيط قابل مُعاوية بن أبي سفيان الخَطَّ العريض الذي رسمه النبي الكريم بصِفته صاحب الرسالة ، وجامع الأُمَّة ، وموليها حقوقها في الوجود ، ومُتعهِّدها الأوحد في الصيانة والديمومة ، وهي المحسوبة ـ أوَّلاً وأخيراً ـ أُمَّته العربيَّة التي ردَّها مِن غياهب الليل ، وهي التي تتَّصف به الآن في إطارها الجامع.

لقد أدرك الحسن واستوعب كلَّ ما رمى ووصل إليه تحيُّط الجماعة ، التي يُمثِّلها الآن مُعاوية في الشام ، ولقد رأينا كيف أنَّه لمَّح إلى كلِّ ذلك في الجَلسة التي عقدها مع أخيه الحسين ، عشيَّة مقتل أبيهما الإمام ، ولقد صمَّما على مُتابعة ملء الفراغ في الساحة المشحونة بالغبار ، كلُّ ذلك مِن أجل افتداء الأُمَّة ونَشْلها مِمَّا يُهدِّد لحمتها مِن انفراط بدأت القبليَّة تلعب به كمادَّة وحيدة يستنجد بها الآن مُعاوية ، وستكون نجدة كلِّ زعيم آخر يخوض الساحة حتَّى يثبت زعامته فيها.

غير أنَّ التخطيط الذي جعلنا الحسن نلمح خُطورته ، هو الذي يتفرَّد بامتلاك الساحة ، وبالتحكُّم بكلِّ مَفارق دروبها ، وبالإلمام بكلِّ تشعُّباتها ، ومَساربها ، وحناياها ، ومخبآتها. لقد كان كلُّ شيء مُعدَّاً بدرس وتصميم ، لإفشال كلِّ سعي

٧٣

يقوم به الخصم الطالبي لتثبيت وجوده ، وتجريده منه ، وتحويله مَكسباً ضِدَّه ، مِن حيث يُصبح وَبالاً عليه.

لقد صُدِم الحسن بمثل هذا الثقل ، ولقد عانى منه أغرقه في كآبة لا يُمكن أنْ يتحمَّلها إلاَّ الأبطال الصامدون ، ولقد استوعبه وتحمَّله ثقلاً ، ولكنَّه تصرَّف به تصرُّف الأفذاذ ، وراح يتلاعب به تلاعب المُقتدرين ، حتَّى يُحوِّله مِن مؤدَّى إلى مؤدَّى ، أو بالأحرى مِن سَلبٍ أسود إلى إيجابٍ أبيض!!!

مِن أبلغ ما فهمه الحسن ، ومِن آلم ما رضخ له ، أنَّ الساحة الآن هي التي يمتلكها مُعاوية ويضبط حدودها وكلُّ مُقدراتها ، لقد تحكَّم بها بقوَّة ما استلب منها ، لقد ولِّي الشام وهي الجناح الغربي مِن أرض الأُمَّة ، حتَّى تزدهر به مِن أجل تعزيز كلِّ قيمة مِن قيم الأُمَّة ، في ضبطها وتوحيدها ورَصِّها في المَبنى والمعنى ، وكانت النتيجة استئثاراً بما درَّت عليه الأرض المُخصبة والمُرتاحة ، لقد أصبحت الأرض في الشام بكلِّ ما تُعطي وتدرُّ ، قصوراً خضراء لمُعاوية ومُعاونيه ، وأصبحت أموالاً وثراء فاحشاً في صناديقه ومخزناته ، وسيوفاً ، ورماحاً ، ودروعاً ، وخيولاً مُطهَّمة لرجاله وجيوشه وبطاناته ، لقد كانت الشام نائمة على خيراتها بين يديه ، وكانت جيوشه مُرتاحة تنعم بالعطف منه ، وبالسلم الذي يوفِّر الراحة ورغد العَيش ، بينما كانت الأُمَّة هنالك تُعاني مِن زرع الشِّقاق فيها ويلات ووليلات ، لقد حمى الخُلفاء الثلاثة الأُولون مُعاوية في الشام ، وأبعدوه عن كلِّ هدر يُلهيه عن استكمال بناء قوَّته وإنجادها بالعُدَّة والعدد ، وراحوا يحجزون الخَصم في غُرف النوم ، حتَّى إذا ما ظهر هنا أيُّ تململ ، كان لهم استنجاد بالشام القويَّة ليقمعوه!!

وتململ الرافضون ، وحذفوا عثمان مِن الوجود ، فحُمِلت قميص عثمان إلى الشام حتَّى يقوم مُعاوية بالثأر مِن عليٍّ ، وتملمت البصرة بوجه عليٍّ حتَّى تفسد عليه حقوق الإمامة ، فكان مُعاوية البعيد المُرتاح ، يجمع نفسه لمُناهضة عليٍّ إذ تبرز به الساحة ، ونبتت مِن قاع الجَحيم اعتراضات الخوارج ، وبثَّت سَمَّها في معركة النهروان ، فارتاح مُعاوية مَليَّاً في الشام ، بينما أُنِهك عليٌّ في البصرة والكوفة

٧٤

وانتقلت المُعاناة إلى الحسن ، فإذا به يهتمُّ هنا بجمع قوى منهوكة ، خسرت عشرات الأُلوف مِن الرجال في معاركها المجنونة ، وخسرت المال ، والرزق والجَني ، والعُمران والاطمئنان ، بينما مُعاوية هناك تبتسم له الراحة ورغد العيش ، ويستقيم التخطيط بين يديه أكثر فأكثر ، في استعمال التعب والوَهن ، وترجيحهما إليه مكاسب بسط منها الرشوة ، تارةً بالشَّهد والوعد ، وطوراً بالوعيد والتهديد.

مَن كان يحسب أنَّ عبيد الله بن العباس قائد الجيش بالذات عند الإمام الحسن ، يشتريه مُعاوية بخمسين ألفاً ، فينتقل هو وفِرَق عديدة مِن الجيش ، إلى الجبهات التي يعدُّها مُعاوية لدَحر الذي يعتزُّ بتُراثه مِن أبيه الإمام ، وجَدِّه الرسول!!! وتُراثه الفخم مِن أبيه وجَدِّه هو إمامة ، ورسالة ، وقضيَّة ، ووحدة أُمَّة!!!

لقد فهمنا مليَّاً حتَّى الآن أنَّ مُعاوية كان أقوى مَن يمتلك الساحة ، وأدهى مَن يعرف كيف يتحكَّم بالدروب وبأيَّة خُطوات يمشيها ، أمَّا الحسن الذي وصل أيضاً إلى استيعاب هذا الواقع المؤلم ، فإنَّه ما جوبه به حتَّى تصرَّف ، ولقد ألبس تصرُّفه حِكمة لا نزال نلمسها اليوم ، بأنَّها هي التي يفتقر إلى جوهرها المُجتمع ، الذي هو إطار الأُمَّة في وحدتها الشريفة والصحيحة في الوجود.

لم يَخُضْ الإمام الحسن الحرب ضِدَّ مُعاوية ، لقد عقد صُلحاً معه ، وسلَّمه مقاليد الأُمَّة ، شرط أنْ يعدل فيها ، ويتحسَّسها أُمَّة حضرها جَدَّه لأنْ يكون لها يوم كبير طالع بالحَقِّ والصدق والجمال ، وإذا كان له أنْ يعتزل اليوم الحُكم ، فحتَّى يعود إليه هذا الحُكم في الغَد الذي يخلو هو فيه ـ مُعاوية ـ لمُقابلة جَدِّه النبي في تقديم الحساب ، ولقد أكَّد له أنَّ الأُمَّة وحدها هي التي فرضت عليه القَبول ، مِن أجلها لا مِن أجل مُعاوية ، مِن أجل حَقْن دَمها ، وتوفير قواها حتَّى تستمرَّ في الوجود ، والبقاء ، وتحقيق الذات.

هل كان الإمام الحسن مُصدِّقاً مُعاوية في تنفيذ المواثيق الواردة في اتفاقيَّة الصِّلح؟ ولكنَّ المُبادرة هذه كانت منه بمثابة مبادئ مُثبتة لهذه المواثيق ، على الأُمَّة

٧٥

أنْ تتطلَّبها مِن المُتنادين إلى سياستها وصيانة حُرماتها ومُرافقها فوق الأرض ، وإلاَّ فإنَّ الأُمَّة إلى هدر إمكاناتها ، وزعزعة كيانها ، والتفريط في حاجاتها المُلحَّة إلى وحدتها وانسياقها نحو التحقيق ، فإذا كان مُعاوية هو المُتمادي في سلبها حقوقها ، فإنَّ هذه المبادئ هي التي تبقى مِن حَقِّ الأجيال إذ يستيقظ بها الوعي ، فتعمَّد إلى الحاكم تطلبه أنْ يتحلَّى بها ، ليكون نبرة مُثقَّفة مِن نبراتها في صدق وعيها.

ولكنَّ مُعاوية الذي كان إفرازاً لمُخطَّط مُعيَّن النهج ـ ولا أتورع عن القول ـ مُعيَّن الحِقد ، ومُعيَّن الضمير ، فإنَّه بقي رحى الطاحونة ذاتها ، أمَّا أنْ يصدق في تعهُّده بأنْ يترك الخلافة مِن بعده للحسن ، فإنَّه ما عَدِم وسيلةً مِن حذفه مِن الوجود ، وبذلك يكون صادقاً بتعهُّده ، وتُصبِح الخلافة ذاتها ، بدلاً مِن أنْ تنتقل مِن بعده إلى الحسن ، تنتقل ـ بالأحرى ـ إلى ابنه يزيد ، وبذلك يلتقي الاثنان في تضحية واحدة : تضحية الحسن بمركز الخلافة مِن أجل مصلحة الأُمَّة ، وتضحية مُعاوية بالحسن مِن أجل مصلحة الخلافة التي هي الآن ليزيد.

ـ ١٣ ـ

أمَّا الحسين الذي كان وحده في البيت أسير التأمُّل. فإنَّه ما وصله الناعي ليفجعه بخبر مَقتل أخيه الحسن بجُرعة سَمٍّ مدسوسة في كوب مِن اللبن ، حتَّى شَعر بحِدَّة مزَّقت نفسه ، وفجَّرت فيها زوبعة ما حبلت بمثلها بعد مطاوي الأُفق التي تلفُّ الأرض!

لقد هبَّ بأجمعه يُفتِّش عن أخيه!!! فارتطم بأبيه مذبوحاً مِن خاصرته!!! فولَّى عينيه إلى الجانب الآخر ... فاصطدم رأسه بولولة تحملها حوملة مِن حوملات الريح ... وما كاد يَحدق بها ، حتَّى رآها ترتجف بالخمار الذي كانت ترتديه فاطمة أُمُّه ، وهي تخفق بيديها في باحة المسجد!!! فخرَّ إلى الأرض ورأسه لا يزال يضرب سقف البيت ... وإذا به يسمع قهقهات قِردَة ترقص على مزمار فَهْدٍ يعوي كأنَّه ممسوخ مِن كلبٍ ... فاختلط عليه المَشهد ، وإذا به يلمح زاوية خلف زاوية

٧٦

خلف زاوية ... في الواحدة : مُعاوية يتزايد في ضَحكه ، وهو يُقلِّب مِن كَفٍّ إلى كَفٍّ ، لُعبة خضراء صفراء ... وفي الثانية طاقم مِن ثلاثة رجال : واحد بلا رأس يفهم ، وثانٍ يطوي رأسه في عِبِّه فوق عكَّاز ، أمَّا الثالث العابس فعرفه مِن لِثامه أنَّه عمر!!! وفي الزاوية الثالثة خَربة مِن الخرائب المعولة ، مَخلوع عنها السقف!!!

لم يقف الحسين مِن نفسه المُمزَّقة إلاَّ هادراً بصَمت بعيد الغَور ، إنَّه الحوملة التي لم تكتشف بعد مداها.

٧٧

إنَّه هنا الحسين (ع)

نحن ما ضيعَّنا الحسين حتَّى نُفتِّش عنه ، لقد عرفنا مُنذ الوَهلة الأُولى أنَّه دائما في المسجد ، حيث الرسالة التي هي صوت جَدِّه ، وضمير القضيَّة في وحدة الأُمَّة ، ولكنَّنا رحنا نُفتِّش عن الأزاميل التي نحتته وصاغت منه بطلاً ما نسجت مثله أنوال الملاحم ، لقد خضنا البحث وعنوانه : (أين هو الحسين؟) بثلاثة عشر مقطعاً ، وهي كلُّها ـ في مُحتواها ـ هذه الأزاميل التي تكشف لنا الآن الردهات التي يطلُّ منها الحسين.

مُنذ الطفولة وأحضان منسولة مِن الحُلم ، والرمز ، وضمير القصد ، تدغدغ الحسين وتتدغدغ به ، كأنَّه حِضن الحُلم ، والرمز ، والقصد ، لدغدغة أُخرى تهجُّ في ضميرها ديمومة تتلقَّط بها إمامة ، ما كان الحسين الطفل إلاَّ ويشعر بها وهو يحتويها ، وما كان ينمو ويتنامى إلاَّ بها ، أكان في حِضن أُمِّه وهو يمتصُّ ثديها ويشعر أنَّها ـ بكامل ما فيها مِن دمٍ ولحمٍ وعطرٍ ـ نعيم لا يجفُّ لها عطفٌ ، ولاحُبٌّ ، ولا شوقٌ ، ولا جمال ، أم كان في حِضن أبيه الذي يشيع عليه مَهابة لا تتسربل بمثلها إلاَّ مداميك القلاع أو أبراج الحصون ، أمَّا جَدُّه المُتمنطق بآيات الجلال ، فإنَّه كان يمرح فوق منكبيه وهو يشعر كأنَّ النجوم تتساقط مِن أبراجها إلى عِبِّه ، وما أنْ ينزل عن المنكبين إلى الأرض حتَّى يركض كالولهان إلى حِضن أخيه الحسن ، ليُفرغ مِن عِبّه إلى عِبِّه الآخر ، كلَّ ما جناه مِن سلال جَدِّه المليئة بالعَطف ، والرغد ، والزُّهد المُجمَّع عن شاطئ الكوثر.

مِن يوم إلى يوم كان يعقد الزهر في روض الحسين ويُثمر ، ومِن عهدٍ إلى عهدٍ كانت تنجلي أمام عينيه ملامح الرؤى ، وما تتغلَّف بها الضمائر ، وكانت الأحداث

٧٨

تتفتَّح عن مكامنها ومقاصدها بين يديه ، وهو يجلوها بما هو مرهوب به مِن عقل ، هو ذخيرة ربِّه في أنقى عباده.

وإنْ كنَّا نؤمن بالعقل السليم طاقة تُحقِّق الفَهم والإدراك ، ولكنْ للجوِّ الحميم الذي ولِدَ فيه الحسين ـ مع كلِّ الذبذبات المُتجانسة التي رافقته بجميع تأوّداتها ، مُنذ الطفولة إلى كلِّ عهد آخر تزيَّن بالصَبْوة ، والشباب ، والرجولة ، تأثيرات بليغة الوطء وبارزة الأداء ، في عمليَّات التكييف ، والشحذ ، والتوجيه ـ كانت كلُّها بساطاً مُرتاحاً لهذه العقليَّة التي وصِفَت بأنَّها سليمة وباكرة النُّضج ، وأنَّه لمِن المُثير أنْ نلمح إلى شيء مِن هذه التأثيرات المبثوثة في الجوِّ الذي نشأ فيه الحسين ، وكيف كان لها فعل إيحائي ترهَّف به عقله ، وحِسَّه ، وتكوينه النفسي ، وكيف انطبعت به نزعاته ، وميوله ، في النهج والتعبير.

مِن المشهور والمشهود له ، أنَّ لطفولة الحسين تعهُّداً مُهتمَّاً ومُتفرِّداً عن المثيل ، ولقد اشترك في مثل هذا التعهُّد المُمتاز : الجَدًّ ، والأبُ ، والأُمُّ في إخراج موحَّد لا يُشير إلاَّ إلى وحدة القصد الذي يجتمع عليه الثلاثة ، فكان واحداً في اللون ، وواحداً في النوع ، وواحداً في التوجيه ، وواحداً في لمِّ الأخوين إلى مُشتركٍ واحدٍ دون أيِّ فرقٍ أو تمييز ، كأنَّهما واحد في التنشئة والتربية ، وكان الواحد منهما هو المُكمِّل للآخر ، على بُنية في المزاج تبقى ـ أبداً ـ منقوصةً إنْ لم يَنجدل خيطها بالخيط الآخر ، ليكونا حُبكةً واحدة في فتيلة السراج ، لقد كان الحسن والحسين ـ فعلاً ـ شخصين بمِزاجين ، ولكنَّهما كانا في وحدة فِكريَّة ـ روحيَّة رائعة الاندماج ، جمعتهما إلى القصد الواحد ، ليكونا أخراجاً واحداً لذلك القصد الأكبر ، الذي جال في بال النبي وهو يزفُّ إلى إنسان الجزيرة رسالة تجمعه مِن تيهه المُشرَّد إلى مُجتمعه المُوحَّد.

لقد تمَّ تأليف الأُمَّة وتوحيدها بعد بذل العرق والدم ، وتمَّ الانتصار على كلِّ ما كان يُعرقل سير القافلة الكبيرة على دروب الحياة ، وتمَّ القضاء على كلِّ تشويش كانت تتعنتر به القبليَّة ، وتشقُّ الأُمَّة وتُبعثرها إلى ألف ، وجاء التدبير الأوحد وألاحكم ، بإلقاء زمام التحكُّم والتعهُّد على رجل واحد مُرِّسَ بالإيمان ،

٧٩

والفكر ، والتوجيه ، والعَزم ، والإرادة. إنَّ هذا الرجل هو الذي يُمثِّل الخلافة المصقولة بالإمامة ، وهو الذي يمنع ـ وحده ـ رجوعاً إلى زعامات تقليديَّة يدعمها ـ مِن هنا وهناك ـ عدد لا يُحصى مِن القبائل ، وهو الذي يُمثِّل رسالة ما نجح غيرها في المُجتمع ، وهو الذي ينقدُّ ضلعاً أميناً مِن الرسالة ، وشَفرةً كريمةً مِن مَعدنها الأصيل ، وحارساً أميناً لعهودها المُرتبطة بالصدق والحَقِّ.

لقد تمَّ تعيين البيت الذي يحَضن الرسالة المُنبثقة مِن قلب الجوهر ، أمَّا النبيُّ العظيم ، وابنته التي كأنَّها جُبلت خصيصاً بطبيعتها الأنيقة ونفسها الكريمة ، وابن العَمِّ الذي ذابت كلُّ أجيال الجزيرة حتَّى أفردته فريداً في الصدق والعقل والعَزْم والبطولة ، هُمْ الآن الفاهمون القصد ، والمُجتمعون على تنفيذه ؛ لأنَّه هو وحده المستجيب لحقيقة الرسالة ، التي كانت ترجمة صادقة لمُجتمع تحقَّق والْتَمَّ ، وتمَّ أيضاً ملء البيت بالفتيلتين المؤلِّفتين سلك النور الذي سيستضيء به خَطُّ الرسالة والإمامة ، فلتكن لنا مُرافقة الحسين حتَّى تستقيم معه مُتابعة الدراسة ، فهو صاحبنا الآن في الرفقة الكريمة.

أقول : ـ ثلاثة هُمْ الراسمون القصد ، وهُمْ وحدهم الفاهمون ، وهُمْ الذين يُخرجونه بالمَبنى وبالمعنى ، وبوضح النهج ، أمَّا الحسين الطفل ، فهل كان له أنْ يعرف أنَّه هو القصد المُضمر؟ وأنَّه هو الذات المُستترة في البال وخَلف البال ، وفي الحُلم ، وفي الأبعَد منه ، وفي البيت ، وفي الأرفع والأفسح مِن سقفه؟ ولكنْ مَن يقول : إنَّ ليس للطفولة إدراك مُخبَّأ في الحِسِّ ، والشعور وطويَّة الذات ، وهو الذي يتغذَّى مِن كلِّ ما يحتكُّ به ، لينطلق مُعبِّراً عنه؟

ونقول : ـ إنَّ كلَّ ما احتكَّت به طفولة الحسين ، هو الذي كان ذُخراً في حِسِّه وشعوره وطوية نفسه ، وهو الذي ترسَّخ به عقله وقلبه وفكره ، وهو الذي تركَّز به واستقام رأيه ، واقتناعه ونهجه ، وهو الذي عبَّر عنه في كلِّ كلمة قالها ، وفي كلِّ عَزم مسح به إرادته وروحه وصلابته ، في الاقتحام والاحتمال ، لقد أصبح الجوُّ الذي رُبِّي وترعرع فيه الحسين ، كلُّ الحسين. إنَّه ـ في آنٍ واحد ـ

٨٠