الإمام الحسين في حلّة البرفير

سليمان كتّاني

الإمام الحسين في حلّة البرفير

المؤلف:

سليمان كتّاني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٦

على أيِّ شيءٍ يغار أهل هذا البيت ، لو لم يكن لهذا الذي يغارون عليه هذا الوزن ، وهذا الثقل ، وهذا الغد المُرتقب؟ إنَّهم يرون على مُجتمع تلقَّط بكلِّ أسباب تراثه وعِزِّة وجوده ، مِن أنْ يعمى عن سُبل الصيانة والتعهُّد ، فيبتعد كثيراً عن حقيقة الجنى. والمُجتمع ـ أصلاً ـ هو مُجتمع أهل البيت ، أمَّا الوعد الكبير ، فهم الذين نزفوا الدم مِن أجل تحضيره وتقديمه ، هم الذين أعدُّوا المائدة وهشَّموا ثريدها الطاهر ، وهُم الذين ملأوا كؤوس المشرب بماء فرات. وهُمْ الذين سكبوا في الحرف جلال المعاني ، فإذا في كلِّ آية مِن الآيات قرآن يبني إنساناً صحيحاً صادقاً ، يتحقَّق بوجودٍ مثله كلُّ مُجتمع سليم مِن مُجتمعات الأرض ـ إنَّهم أهل البيت ، ولا يدَّعون ـ أليس نبيُّهم العظيم ـ وهو منهم ـ هو الخلاَّق الجديد المَبريُّ مِن روح الحَقِّ ، ليقدِّم للجزيرة ، وللإنسان ، قرآناً جمعهم ولا يزال يجمع أجيالهم ، وأجيال العديد مِن المُجتمعات الذين يُنادون مِن فوق المآذن : بسم الله الرحمان الرحيم.

ولا يزال التاريخ ، ذلك المسَّاح الأصدق ، يصف لنا دارَة بناها الرسول في المدينة قُرب المسجد. لقد نزل في شِقٍّ منها النبيُّ الكريم ، وخصَّص الشِقَّ الآخر لسُكنى ابنته فاطمة ، بعد أنْ جمعها بعليٍّ في عمليَّة تتميم الأرادة المُحتسبة ، وتحقيق الحُلم المنسوج بفتنة الغَد.

هذا هو البيت الصغير ، الذي كان يعود إليه اثنان بعد كلِّ جولة يجولانها ؛ مِن أجل تثبيت جوهر الرسالة ونقشها في مَعدن الإنسان ، إنَّهما ـ اثناهما ـ كانا يعودان بجَعبةٍ واحدةٍ مليئةٍ بالتحقيق المُثَّبت والمُركَّز في هذا البيت ، وضمن هذه الحيطان المُصغية إلى النفس المليء بالحقِّ والوجدان ، كان الاثنان يتبادلان العَرض والدرس وغربلة الأحداث ، وكانا يبنيان التصاميم العريضة ، والدقيقة ، لجعل الغد الآتي مؤهَّلاً لأنْ يكون نبضة صادقة في تأليف الزمان. ما مِن حِكمة جالت في عقلهما وروحهما ، إلاَّ واندرجت على هذا البساط ، وتحت هذا السقف ، حتَّى يكون توحيد غزلها باهراً في حياكة الثوب ، الذي سترتَديه الأُمَّة في نهوضها مِن غفواتها الطويلات ، إلى يقظتها هذه الحاضرة والمُكلَّلة بالطُّهر ، والرُّشد ، وروابط الصواب.

٢١

اثنان ـ قلتُ : ـ وهل هما غير النبي العظيم مُلتحما بفتاه الآخر ، أو فلنقُل : مُلتحما بثقله الموزون في وحدة المنطق ، ووحدة الصدق ، ووحدة الجوهر؟ أقول ـ ذلك ولم ألمح حتَّى اليوم ، مِن الأمسِّ الدابر إلى اليوم الحاضر ، امتعاضة واحدة رشق بها التاريخ طويَّة الإمام عليٍّ ـ : بأنَّ هنالك ريشة ضئيلة تُخفِّف مِن ثِقله في ميزان الحَقِّ ، والعدل ، والفهم المُقدَّس ، والتحلِّي بطهارة الصادقين.

في هذا البيت الصغير الصغير ، وهو ـ بالقصد والمعنى ـ الكبير الكبير ، تمَّت جَولة الحُلم ، وانعقدت جَلوتها في اللحظة التي بدأ يدرج فيها طفلان ، ما قَصَّ شعريهما جَدُّهما ، وتصدَّق بوزنه فِضَّة تُصرَف على إطعام المساكين ، إلاَّ ليكون لاسمَيهما تسجيل جديد في صفحة تاريخ الأُمَّة ، لقد شَعر مُجتمع الجزيرة بأنَّ الحسن والحسين هما اسمان جديدان ، لم تتلقَّط أُذن بعد بنداء وجهه أحد مِن شيوخ القبائل إلى أيِّ فردٍ مِن أفراد القبيلة ، صحيح أنَّهما لفظتان عربيَّتان ، مشهورتان في اللفظ والتخاطُب ، ولكنَّهما ما كانا مُطلقاً اسمين لأيِّ شخصٍ مشى على صفحات هذه الرمال.

لقد شعرت الجزيرة بهذا الجديد ، والتاريخ أيضاً قد شعر ، أمَّا الجديد الكبير النائم في عين هذا الجديد الصغير ، فإنَّه بقي كأنَّه النُّعاس الذي يقطب العين فلا ترى ، وأنا أرى الآن أنَّ السقيفة في ذلك العهد ، قد تخبَّأت بهذا النُّعاس ، وأنكرت جديداً ينام في الاسمين المُشتقَّين مِن روعة الحُلم ، واللذين يدرجان في البيتين المُوحِّدين بالفهم والصفة. أمَّا الخمسة الذين جذبهم القصد واجتذبهم إلى صدره التحسُّب الأكبر ، فإنَّهم هم الذين لبثوا يهتمُّون بتأليف النهار الجديد الذي ستكون له شمسه الأُخرى.

ـ ٣ ـ

مُنذ أنْ هبط الحسين مِن رحم أُمِّه إلى حضنها الوثير ، تلقَّفته الأحضان مِن حِضن إلى حِضن ، وبقي ينمو ولا يدري أيَّ حِضن هو الأرفه والأوثر ـ لقد أمَّ الحياة صغيراً ضئيلا ـ لم تكن ولادته وهو في شهره السادس إلاَّ نحيلة كنُحول أمِّه في

٢٢

خشبة جَسدها ، وما احتاك به مِن زهيد الشحم والدم ؛ مِن هنا كانت الولادة نحيفة رهيفة ، كالمصدر الذي انزلقت عنه ـ غير أنَّ الأحضان التي سربلته بأكثر مِن دثار ، نشَّطت فيه طاقات عجيبة مِن التدلُّه النفسي الروحي ـ ما شَحَّ انعكاسه على عضلاته وألياف أعصابه ، فإذا هو كأنَّه رشأ يملأ البيت حركة ودلعا ورواء ، وإذا هو أكثر مِن جاذبيَّة شغف بها المُحيط كلَّه ، مِن ساحة الدار التي تُظلِّلها شجرة واحدة اسمها (الآراك) ؛ إلى داخل البيت الذي كانت حيطانه وسقفه ترشح بما لا يعرف مِن أيِّ ضَوْعٍ هو ، لقد راح الفتى يشعر أنَّه دلاَّعة البيت وهزَّته الصغيرة ، وكانت النشوة فيه تحتار مِن أين تأتيها الإشارة ، فبينا يغرق فيها في حِضن أُمِّه ، كأنَّه حرير مُبطَّن بمخمل ، إذا هي ـ في عُبِّ أبيه ـ كأنَّها إعصار يتناحل في نسمة الصبح ، أمَّا في حِضن جَدِّه وتحت عينيه ، الناضحتين بالحُبِّ ، فكأنَّها شعاع دفءٍ هابط مِن كُوَّتين ، هما مِن بهجة الصباح أنقى وأزهى.

وهنالك حِضن رابع كان يتعب وهو يتلقَّط به ليحتويه ، وهو حِضن الحسن أخيه الذي يزيده بالعُمر سنة وعِدَّة أشهُر ، ولم يكن يعرف الحسين أيَّ طعم كان يتلذَّذ به وهو مضموم إلى صدر أخيه ، كأنَّه نَكهة معجونة بسويق لا اسم له ، تلك هي الأحضان التي احتوت الحسين مُنذ أَمَّ الحياة ، وراح يدرج في البيت إلى أنْ تركه جَدُّه الكبير في حِضنٍ راح يُفسِّر له ـ بالتدريج ـ كلَّ معاني الأحضان التي احتوته طفلاً ، وحضَّرته ـ بدوره ـ لأنْ يكون حِضناً يتناول الرسالة إلى صدره ، ويفنخ فيها نفساً مقدوداً مِن صدره المليء بالعُنفوان.

لقد ضاع الحسين في تعيين أيِّ حِضن تدلَّه فيه ، كان أعطف وأرهف مِن الآخر؟ ولكنَّه ـ بالحقيقة البارزة ـ كان مُشتقَّاً منها جميعها على توحيد والتزام ـ لقد ضمَّته جميعها ، لأنَّها كلَّها كانت حدوده في المبدأ وفي صيانة الجوهر ، أنَّه مِن هذه الصياغة الكبيرة التي احتضنها الطالبيُّون الهاشميُّون ، فإذا بها مِمَّن مَرَّ أنَّها في النفس تتفتَّق عن رسالة تفوَّه بها الطالبيُّ الهاشميُّ ، فارتدَّت إلى الأُمَّة العظيمة أمانتها المحفوظة في عقل وجُهد نبيِّها العظيم محمد.

٢٣

إنَّ القصد المنسول مِن هذه الرسالة ، التي حقَّقت ذاتها فوق الأرض وتحت ظلال السماء ، هي التي وسَّعت ودفَّأت الأحضان التي انغلقت كلُّها بالتساوي على تعهُّد الحسن والحسين ، ليكونا ضِلعين مُخصَّصين لرعاية الخَطِّ الطويل ، إنَّما مِن أهل بيت حدوده في سوارٍ مِن نبوَّة أنتجت رسالة تتحدَّد بها الأُمَّة ، ويتحدَّد بها الزمان الجديد ، ويتحدَّد بها الإنسان الجديد.

٢٤

أهل البيت (عليهم السّلام)

ولكم تمنَّيت على التاريخ أنْ لا يقرأ علينا الكلمة بحروفها ، بلْ بمعناها النازل فيها ، ألا تراه هكذا قد تصرَّف وهو يكتب على أحدى صفحاته (أهل البيت) وهو يُفسِّر الكلمتين بحروفهما لا بمعناهما المقصود؟! والبيت هنا وأهله ، لا يعنيان في كلمتيهما أساساً مضروباً لإقامة أربعة حيطان ، تنشأ ضِمنها وحدة سَكنيَّة تنزل فيها عائلة مؤلَّفة مِن رجل وامرأة وعِدَّة بَنين ، إنَّما البيت وأهلوه هما رمزان ـ بالذات ـ إلى مُجتمع ظهر منه مُشتاق رائد تمكَّن مِن رصفه ورزمه في إطارٍ جديدٍ ، ومضى به إلى تحقيقات رائعة المثال ، وخارقة المجال ، نشلته مِن كينونة إلى كينونة ، فإذا الفرق بعيد بين إنسان كان يتشرَّد هنا وهناك فوق الرمال ، كأنَّه مثل هاتيك الغزلان ، لا يقودها العطش إلاَّ إلى واحاتٍ مِن سرابٍ ، وإنسان دلَّه عقل كبير إلى قضيَّة كبيرة في الحياة ، وجد بها منهله لحقيقته الإنسانيَّة ، التي يبني بها مُجتمعاً صحيحاً يُحقِّق به أنشودته في الوجود.

ألم يكن العظيم محمد هو الذي انفجر به شوق الجزيرة العربيَّة ، إلى سحبها مِن كلِّ حَرَّاتها الراقصة بالزفت والكبريت ، إلى واحاتٍ مِن نوعٍ جديدٍ يسرح فيها نسمٌ ، وينبت فيها ظلٌّ ، ويجمعها رُشد يُخلصِّها مِن تشريد وتحريب ، ويوفِّر لها نظاماً ينشلها مِن غزو وقتل ، وهدر قوى يمتصُّها الجهل وفقر الروح ، وتُبعثرها ـ توهيناً وتفتيتاً ـ روح قبليَّة عشائريَّة ، مُتزمِّتة في تجمهُرها وتصنيفها المرصوص في الأفخاذ والبطون.

مَن غير محمد ـ بعد هذه الآلاف مِن السنين المهدروة ـ تمكَّن مِن إشعال هذه الحَرَّات أتُّوناً مؤجَّجاً بنار زفْتها وكبريتها ، رمى إليه كلَّ هذه الأصنام التي كانت

٢٥

تُكبِّل هذا الانسان عن بلوغ حقيقته العُظمى في الحياة؟ لقد كان هذا الانسان بلا كتاب ، فهجَّأ له ـ لحظةً بعد لحظةٍ ـ كلَّ حروف الكتاب ، كان فرداً يُتقن القفز بين المفاوز وخلف الطرائد ، فضغطه إنساناً يعرف كيف يمشي على الطريق ، وكان قبيلة تلعب بها البطون والأفخاذ ، فجاهدها حتَّى جعلها في الوحدة المُجتمعيَّة المؤمنة بالحقيقة ، لقد كان هذا الانسان بلا قضيَّة فدمجه بالقضيَّة ، وأفهمه أنَّ الأُمَّة الواحدة لا يعلو لها إلاَّ صرح واحد مؤمن ، متين الأساس ، وعزيز الحَجر ، وكريم السقف ، أنَّه بيت الأُمَّة الواعية ، يوحِّدها الشوق ، ويجمعها العقل إلى تعزيز المصير المُشترك.

هل كان أحد غير هذا الفتى الرائي ، في حقيقة العزم والإقدام لخوض غمار معركة ، كان يبدو أنَّها خارقة الجنون ، وإذا بها ـ بعد اختلاءٍ في غارٍ ـ تُحقِّق ذاتها ، وتُحقِّق المعجزة التي لم يُحقِّقها ـ مُجتمعين ـ كلُّ الإبطال الذين ألَّفوا ملحمة هوميروس؟ إنَّها ـ العمري ـ أضخم معركة حصلت على وجه الأرض ، كان بطلها إنساناً حقيقيَّاً ، ولم يتجاوز الوقت الذي أحرزت فيه النصر عشر سنين ، وإذا بمُجتمع ـ برُمَّته ـ يلتمُّ إلى وحدة فوق ساحة كانت تلتهمها المسافات الفارغة ، وتُفرِّطها العادات والتقاليد ، وأبالسة الشياطين ، وأُلوف مِن القبائل المُشرَّدة ، والعشائر الضائعة في الليل ، وكلُّ شيخٍ مِن شيوخهن كأنَّه صنم بلا عين ، ولا قلب ، ولا لسان.

أجلْ ، إنَّها معركة التهبُّت بالحقِّ ، واشتغل بها الوجدان المُجنح بالخيال ، على صهواتٍ بيضٍ راحت تُحرِّر الأرض مِن عبوديَّتها المُعفَّرة بالسراب وبالغبار ، وترفعها إلى فضاءٍ يمرح فيه شعاع سَني النور ، مربوط الضلعين بالإسراء والمعراج ، فإذا السموات السبع ، وكلُّها موسوعة المَمرَّات إلى جنان تشرب الكوثر مِن راحتي الوعد السخي ، الذي سيتمتَّع به الإنسان الذي يسمو بالحَقِّ ، والصدق والمعرفة ، وهو يتحلَّى بالمُثل الكريمة النابعة مِن إيمانه بإلهٍ واحدٍ أمثل ، يُخلصِّه مِن كلِّ عبوديَّة ، ويُنظِّفه مِن الرغبات السود ، ويزينه بالصدق ، والطُّهر ، والعفاف ، ويُحضِّره لأنْ

٢٦

يكون أنساناً صادقاً في دنياه ، ليكون ثوابه جَنَّة مِن ذلك الطراز ، وهي ـ أبداً ـ جَنَّة سيجدها مزروعة في نفسه المُحرَّرة مِن الكَذب ، والغِشِّ ، والبُهتان.

ما شحَّت في هذه الملحمة الرائعة بطولات لحَمَت الأرض بالجنان ، وما ضؤل الثواب على المدعوِّين إلى مُعانقة الحقيقة الباهرة ، وكان الثواب تحقيقاً آنيَّاً مُترجماً على الأرض. هكذا كانت الترجمة العظيمة مُتجلِّية في الكلمة الواحد التي هي (الرسالة) ، وكان التحقيق البليغ ملموحاً في توحيد المُجتمع بإنسان رمى فرديَّته المنهوكة بقبائليَّته وعشائريَّته ، وفتائل زعاماته ، وثعابين أصنامه ، وراح يتمتَّع بمُجتمعيَّته التي هي الآن في حقيقة الوعد الكبير ، الذي زرع القيمة في الإنسان ، فإذا الحياة الكريمة هي الجَنَّة التي لمحتها عين الإسراء والمِعراج.

هذا هو المُجتمع الأمثل ، لقد حقَّقته الرسالة إذ بنته بيتاً كريماً تنزل فيه لتَخلد معه في القيمة المُستمرَّة في وجود الانسان ، ستُدافع عنه إذ تُدافع ـ أبداً ـ عن حقيقتها في ذاتها ؛ ومِن هنا كان البيت بيت الرسالة ، أمَّا أهلوه المُخصَّصون فهم المُنتقون عُنصراً متيناً للصيانة والتعهُّد ، حتَّى تبقى الرسالة فاعلة فعلها المُتصاعد ؛ مِن أجل أنْ يعمَّ الرُّشد ، ويَمتنُ هذا الإنسان بالمُمارسة التي تُنسيه مواطئ قدميه في أمسه الهزيل ، وتُنجيه مِن الردَّة في يومه الطالع.

هكذا بُنيت الملحمة مِن أجل تثبيت بُطولاتها فوق الأرض ، أمَّا البيت الهاجع في معناه ، فهو البيت الذي بنته الرسالة ، وهو المُجتمع المبنيُّ بها ، أمَّا الذي ينزل فيه الآن فهو الرجل الآخر ، لا لأنَّه عَصبٌ توضَّجت به عروق الدم ، الذي نسج لها ملحمة لفَّها بها في المعركة ، التي دمجت الأرض بجِنان النعيم ، وطهَّرت إنسانها تطهيراً.

لقد كان التاريخ في تفسيره (أهل البيت) أشبه ببطنٍ مِن بطون القبائل في تلك الأيَّام ، تجمعها روابط النَّسب واللحم والدم ، في حين أنَّ النبي العظيم برى

٢٧

الروابط هذه ، وجعلها مهدورة في المُجتمع الواحد ، وجعل البيت رمزاً للبيت الكبير الجديد المُوحَّد.

إنَّ أهل البيت هُمْ الوصيَّة المقصودة لتناول الإرث ، الذي هو رسالة ملفوفة بملحمة حقيقيَّة ما شهدت الأرض نظيرها مِن الملاحم ، أمَّا الحسن والحسين ، فمنهما الحُلم الذي انبثق مِن الوجدان الممسوح بالشوق والخيال. إنَّهما مِن صُلب هذا الوجدان وهو مرشوق بعظمة الرسالة ، سيكونان مخطوفين مِن بَهجة اللَّمح ، لقد نشأ أبوهما وهو يأكل مِن ذات الخمير ، ويتربَّع على ذات الحصير ، وهكذا نشأت أُمُّهما تمتصُّ رهافتها مِن ثديِ التي ذابت بين يدي زوجها كما تذوب شمعة مُقدَّسة أمام نافذة المِحراب ، وها هُما طفلان يلعبان في باحة المسجد ، ولكنَّهما ما كانا يشربان إلاَّ كوثراً صِرفاً سيكون به تحقيق الميراث ، وتحقيق الوصيَّة ، وتحقيق الإمامة ، وتحقيق الوعد الذي تعيش به رسالة ما انفكَّت ملحمة يلتحم بها إسلام الأرض بين يدي ربِّها الرحمان الرحيم.

٢٨

الأساس

لا يُمكن أنْ يكون للقضيَّة غير هذا الأساس ، لقد كانت القضيَّة مُطلقة مرماها وجوهرها ، فهي ما تناولت تنظيماً عاديَّاً مِن شؤون الهندسة ، كإنشاء بيت ، أو إنشاء قصر ، ينزل في الوحدة الصغيرة عائلة مسكينة ، وفي الوحدة الأُخرى أمير له ثَراء وجاه سلطان ، إنَّما تناولت شأناً حياتيَّاً آخر ، له مِن الحقيقة والشمول ، تصميم وتركيز في عمليَّة بناء الفرد بناءً إنسانيَّاً ، مُجتمعيَّاً ، تتحقَّق به الغايات الشريفة في الحياة ، فلا بيت ينشأ والقضيَّة هذه هي المطروحة فوق البساط ، ولا قصر ينشأ أيضاً ، وتكون لهما حقيقة الثبات ، ما لم تحفر أساسيهما عناية القضيَّة الكبيرة ، التي تُركِّز نظرة الإنسان على الحقيقة الصادقة فيه ، فيبني مُجتمعاً صادقاً يصون فعاليَّاته الفرديَّة الإنسانيَّة المُتحوِّلة ـ حتماً ـ إلى مُجتمع سليم منيع ، وعندئذ يكون له البيت ، والقصر ، والمُتعة بالعمران. إنَّ الأُمَّة الصادقة ، هي الأُمَّة المنيعة ، لا يدعمها في مناعتها إلا الحقُّ ، والصواب ، نظافة العقل ، والروح ، وهي كلُّها ـ في العدل والمُساواة ـ وحدة عظيمة يجدها الإنسان في ضلوع المُجتمع.

تلك هي القضيَّة ، إنَّها حشو الأساس ، وإنَّها هي البيت الذي سكن فيه باعث الرسالة ، وإنَّها هي الأساس الذي تقوم عليه جدران هذا البيت الذي هو ـ بكلِّ مُحيطه ـ بيت الأُمَّة في حقيقة الرمز.

أيكون أهل هذا البيت ملموحين حِجارة في الأساس؟ إنَّ للمنطق إصبعاً تستقيم بها الإشارة ، وإنَّ للقضيَّة تعييناً تتوضَّح دلالته إلى المقلع المرصوص بصلابة الصوان ، وإنَّ للحقيقة عيناً لم يدعَج بها إلاَّ عليُّ بن أبي طالب ، وهي ترنو إليه بأنَّه مِن المقلع المُمتاز ، الذي يصحُّ به رصف الأساس.

٢٩

ومِن الجهة المُقابلة ، أتكون الإمامة رُكناً يقوم على الأساس؟ ولكنَّ القصد الحكيم كأنَّه جعله سرباً ينضح منه ليعود ويسقيه فلا يعطش ، أمَّا المعنى فإنَّه أبداً واحد ، فالقضيَّة التي هي في عُمق الشمول ، والتي كلَّفت جُهداً يوازي عمر الجزيرة في التفتيش عن واحتها الكُبرى ، تتطلَّب صيانة أساسيَّة ومُركَّزة على مثل النظافة والجدارة اللتين يتجوهر بهما مَعدن عليٍّ ، كما وأنَّ القبلية الهزيلة العقل والهزيلة الإنسان ، أصحبت الآن ترفض إعادة لملمَّة حروف اسمها أمام جلال القضيَّة ، التي انبسطت بها أرجاء الجزيرة في وحدة مُجتمعها ، ستكون الإمامة الكرسيَّ الجديد والأنظف ، تجلس فيه ركيزة الإدارة ، دونما احتياج إلى أيَّة استشارة أو إثارة. إنَّ النظافة المرميَّة في الأساس ، وفي المدماك الأوَّل ، هي التي تُستشار الآن ، والتي ستُستشار في الغد ، ولكنَّ الأُمَّة التي سيَصلب عودها فوق هذا الأساس ، سيكون لها في مثل هذا الصدق والطُّهر ، ذيَّاك المُرَّان ، وستبقى القضيَّة الكبيرة التي جمعها هي مُستشارها الأفخم ، يُنجيها ـ ما دامت في وضوح الصراط ـ مِن العِثار.

في مثل هذا الجوِّ المُفعم بالمسؤوليَّة البالغة العُمق ، والقصد ، والجوهر ، كان يعيش البيت وأهلوه. لم يكن الحسين الذي يقفز الآن على الطريق المُمتدِّ بين باحة البيت وساحة المسجد ، ليفقه كثيراً ثقل القضيَّة ، ولكنَّه كان يشعر أنَّ شيئاً عظيماً يُدغدغه وهو يُفرِّق الناس الجالسين القُرفصاء ، وهم يُصغون إلى كلِّ كلمة كانت تخرج مِن بين شَفتي جَدِّه الجالس فوق المنبر. لقد توصَّل الفتى ـ بعد عَناء ـ إلى جَدِّه المُنبري بجلاله. لقد مدَّ يديه وتعلَّق بطوق الجُبَّة ، وصعد الهويناً ، وكفُّ جَدِّه يُسنده مِن الوراء ، وإذا به ـ رويداً رويداً ـ ويمتن ربوضه فوق المَنكبين المُستسلمين لإرادة الفارس. لقد تبسَّم الجَدُّ الذي هو الآن رحل الحسين ، وهو يقول : هذا سيِّدٌ ثانٍ مِن أسياد أهل الجَنَّة ، فطوبى لأُمَّة فيها مِثل عليٍّ يُنجب!!!

ـ ٢ ـ

وهذه حروف أُخرى ما رصفت ذاتها بذاتها ، ما كانت الحروف لأنْ ترقص على أذنابها فتتلحَّن بها الكلمة معطوفة على رَنَّة الوتر ، إنَّما المعاني هي التي يشغفها

٣٠

القصد ، فتتنضَّد حروفاً يرقص بها الوتر.

لو لم يكن الحسين (ع) لمَعة حُلوة ، في حُلم ذلك الذي رقص الدويُّ في اُذنيه فصار بعثاً ، وصار حرفاً ضجَّت به الآيات في القرآن ، لما كان له ـ الآن ـ أنْ يلفَّ عُنق جَدِّه بذراعيه الصغيرتين ، ويَجثُم فوق منكبيه ويُثَغْثِغ بالآية الهابطة مِن الجَنَّة التي رآها جَدُّه سيِّداً فيها ، أمَّا الجَنَّة التي يُشير إليها النبي المُشبع بالمهابة والجلال ، فهي التي رسم لها أُنموذجاً فوق الأرض ، في مُجتمع الأُمَّة الموحَّدة والمؤمنة بإلهٍ واحدٍ عظيمٍ كبيرٍ خيِّر ، يجمع بالحَقِّ ، ويظهر بالصدق ، ويبني بالعلم والمعرفة إنساناً يُصبح عظيماً بمقدار ما ترجح فيه قيمة المُثل.

تعيسة هي الكلمة تأخذها الأُذن ، أو العين دون أنْ يؤخذ معها لونها وصداها! ـ وأتعس منها كلُّ حقيقة تحتشم ، إذ تترك الحرف يتربَّع بها ويتأنَّق بإدراجها في لفَّة الزمر ، فإذا بها تترك ملفوفة بحشمتها ، وينبري الحرف يتبجَّح بأنَّه هو الصدفة ، ولولاه لما كانت بَهْرَجَة ولا لؤلؤة!

تلك هي قِصَّة الحسين الطفل فوق مِنكبي جَدِّه فوق منبر المسجد ، لقد سمع الناس ورَأوا عاطفة تموع ، وبادرة يلعب بها طفل اسم أُمِّه فاطمة ، أمَّا الرمز ، وأمَّا الصدى فلا عَلاقة للرسالة بهما ، كأنَّ النبي العظيم الذي أخضع الجزيرة برُمَّتها وجعلها تسجد أمام عظمة الحَقِّ ، ونجَّاها مِن طفولة بائسة ، ما كانت تلعب إلاَّ بالتُّرُّهات والخَرزات الزرق ، ليس له إلاَّ أنْ يُلاعب طفلاً اسمه الحسين ؛ لا لشيء إلاَّ لأنَّ أُمَّه اسمها فاطمة ، ولأنَّها ابنته مِن لحمه ودمه ...

أمَّا الطفل الصغير الذي كان مجذوباً إلى منكبي جَدِّه ، وهو يُملي على الناس كيف لهم أنْ يجتمعوا دائماً مع كلِّ غَدٍ ، فإنَّه وحده ـ على الأقل ـ راح ينحفر في نفسه ، بأنَّ الرسالة الكبيرة هي التي يغار جَدُّه عليها ، وهي التي يعتبرها دعامة اليوم لتكون دعامة الغَدِ. إنَّ هذه اللحظة ـ بالذات ـ هي التي تحفر في نفسه عُمق القضيَّة ، وعُمق المسؤوليَّة ، وعُمق الوصيَّة ، وعُمق الرمز الذي هو كلُّ الصدى.

٣١

حَجَّة الوَداع

ولن تُفلت حَجَّة الوداع مِن تَمنِّينا ، لو أنَّها لم تكن وداعاً بمعناها الحرفي ، إلاَّ بعد عشرين حَجَّة أُخرى ، على الأقلِّ ، بمعناها المُشتاق إلى إطالة العهد مع صاحب البعث ، وحامل الحَقِّ والهداية ، في سبيل تمتين الحُفر في النفوس ، فينمو عودها أنقى ، وأصلب ، وأثبت في واقع اللمس وترسيخ المُران ، ولكنَّها حصلت كأنَّها الحُلم في صباح تكدَّرت شمسه بمضيضٍ مِن كسوف!

هل كانت حَجَّة الوداع أكثر مِن اسطوانة تخبَّأت فيها وصيَّة؟ ولكنَّ الجماهير الغفيرة الذين امتلأت بهم قافلة الطريق ، بين المدينة ومَكَّة ، ما كانوا يمشون إلاَّ بحَفاء الأمس ـ صحيح أنَّ ولادة جديدة قد كحَّلتهم بنورٍ جديدٍ ، ولكنَّه نور لم يتسرَّب بعد إلى عُمق الحدقة ، ولم تختزنه الطويَّة بعد ، فيُصبح جزءاً منها ـ يا أُمْنَية وهي تضرُّع ـ لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهِجرة ، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي.

أمَّا الوصيَّة في غدير خُمٍّ ، فإنَّها هي التي برزت بثوب الرمز اللطيف ، ما شربت الاَّ عطشها المُقدَّس ... ألم يتوسَّل النبي الكريم ـ وهو الذي توسَّلت إليه مهابات وجلالات ـ وهو يقول : «عليٌّ منِّي وأنا مِن عليٍّ» ، «مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللَّهمَّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه» ، «إنِّي مُخلِّف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا مِن بعدي ، كتاب الله وعِترتي أهل بيتي ، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».

تلك هي الوصيَّة ، لقد عطشت بها وإليها حَجَّة الوداع. أمَّا السامعون غدير خُمٍّ ، فإنَّهم هم الذين كانوا يسمعون في صباح الأمس ، وهم جالسون

٣٢

القُرفصاء ، بين يدي مَن ينزل عليهم الآيات ، لقد قالوا في تلك الساعة : ما أطيب الرسول (ص) يُداعب ابن بنته فاطمة (عليها السّلام) ، وها هم الآن يُردِّدون القول في غدير خُمٍّ : ما اشدَّ حُبِّه لعليٍّ ، أتراه دائماً يُحبُّه أكثر مِن أيِّ واحدٍ مِنَّا؟ يا للوعي المَمزوق! كم يلزمه مِن المِران والصفاء ، حتَّى يستوي الفهم فيه والرواء!

ـ ٢ ـ

غير أنَّ الوصيَّة ما كانت بحاجة إلى حَجَّة الوداع ، حتَّى يتناولها النبيُّ المُتممِّ حُجَّته ما بين يدي ربِّه الرحيم ، مِن تحت أُبط عليٍّ ، ليعرضها على الناس فيصدُّقوه! لا ـ وأيْمَ الحَقِّ ـ لقد كانت الوصيَّة مدقوقة كالوشم فوق جبين عليٍّ ، إنَّها مِن سجاياه الناضحة مِن طويَّته الكريمة ـ لا التاريخ عَمْيَ ، ولا أيَّ رجل كريم مِن رجالات ذلك العصر كان يعمى عن قراءة الحقيقة ، ولكنَّ سياسة الزُّعماء المُتشرِّبين روح القبليَّة هي العميَّة!

لم يكن عمر بن الخطَّاب ضعيف السجيَّة ، إنَّه عنصر فطنة بين الرجال ، وإنَّه عقل تمكَّن مِن احتواء الوسيع مِن الرشد في مجال الحياة ، ولكنَّ عنجهيَّة قبليَّة نائمة في بطانة نفسه ، ما سمحت له ولا قبلت أنْ يتقدَّم عليه وعلى أمثاله مِن وجهاء الجزيرة ـ وبنوع خاصٍّ المُسنِّين منهم والبارزين في صفوف الصدارة ـ فتى لا يزال أمرداً ، أكان هذا الفتى عليَّاً أم كان فتى آخر اسمه أُسامة بن زيد! لقد كان حِسُّ ابن الخطَّاب ـ بمركز الزعامة ـ أرجح مِن حِسِّه بقيمة الرسالة ـ لهذا لم يُرِد أنْ يُصغي إلى فِطنة التحسُّب في التلميح بالوصيَّة ؛ ولهذا كان رفضه القبول بولاية عليٍّ بعد غياب الرسول إلى الرفيق الأعلى ؛ ولهذا ـ أيضاً ـ كان رفضه القبول بالفتى أُسامة بن زيد أميراً عليهم في الجيش الموجَّه إلى غزوة الشام.

لم يكن هذا وحسب في ميزان عمر ، بلْ إنَّ هنالك خبيئة مِن الماضي الوخيم تُعشِّش في ضلوعه ، إنَّها الدودة في وزيعة الإرث ، إنَّها الأُمويَّة السُّفيانيَّة ضِدَّ الطالبيَّة الهاشميَّة ، تمرح بين الخطَّين ، وتقضم مِن لحمة الطرفين ، إلى أنْ جاءت الرسالة الرضيَّة فتلملمت الدودة إلى خبيئتها في عُتْمة الظنِّ ، وها هو غياب الرسول يُعيد

٣٣

الدودة إلى مربعها الأوَّل ، وإذا الوصيَّة بعليٍّ هل الأُولى التي تتناولها بالقضم!!! فيا للأُمْنِية تًكرِّر في ضراعتها : لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهجرة ، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي! لرُبَّما كان طول المِران ما بين يدي صاحب الرسالة ، يقضي على دودة كان تئنُّ منها مُجتمع الجزيرة ، كما تئنُّ ـ أبداً ـ كلُّ واحة خضراء مِن أسراب الجُراد.

ـ ٣ ـ

هنالك سبب وجيه وأساس خَلْفَ تصرُّف عمر بن الخطاب ، يُلبِّيه مِن الوراء أبو بكر الصدِّيق بالرضوخ والمُطاوعة ، إنَّه يَكمن في فقر الساحة وافتقارها إلى الصفات التي يتحلَّى بها الإمام عليٍّ ، إنَّ الصدق الذي رفع الرجل إلى سويَّة الرسالة وجعله وحياً منها ، لم تكن قد حصلت له موجات مِن انعكاسٍ فاعلٍ ، رشقت الغير وقرَّبته مِن القُطب المُمغنط ، مِن هنا يكون تأثير الثقافات الفكريَّة ، الروحيَّة ، الحضاريَّة ، تتناول مُجتمعاً بأسره ، وتدمغه بالفهم ، والحِسِّ والنَّباهة ؛ ومِن هنا يكون المِراس والمِران عاملين قويَّين في عمليَّة تنشيط المواهب ونقلها ـ مِن البَلادة والخُمول ـ إلى التفاعل الحيِّ ؛ ومِن هنا يكون لعليٍّ وصول أوسع ، تغتني به أوصال المُجتمع.

لقد كان عليٌّ ساعة حمل الغَمامَ النبي إلى المصدر الأوسع ، طويَّة ينعكس هو فيها بحقيقته المتيقظة ؛ لهذا كانت سرعة ابن الخطَّاب في هندسة أمير يتسلَّم الأمارة ، قبل أنْ ينشط لها وعيٌ جديد يلمح عليَّاً ويستدعيه إلى مركز الرعاية.

مُنذ تلك الساعة إلى اليوم ، ولا رسالة تفعل فعلها المنقوص ، في مُجتمع يتقدَّم خُطوة إلى التحقيق ، وتتراجع به الرُّدَّة خطوتين إلى الوراء ، إنَّه لا يزال مُجتمعاً يهجع به الانتظار.

٣٤

أعود فأقول : لو أنَّ الرسالة في المُجتمع فعلت فعلها المُقدَّر لها حصوله في المُجتمع ، لما كانت الحَجَّة تلك بحاجة إلى إعلان وصيَّة ، ولما كانت لتُنعت بالوداع ، بلْ بالوَصلة الدائمة الحضور في دائرتها العظيمة ، التي تجلَّت هي فيها ، كأنَّها الأعجاز في رفع المُجتمع إلى وحدةٍ راح يتَّضح رويداً رويداً على الأرض جلالها في التحقيق.

لا ، لم تكن القضيَّة الكبيرة التي اعتنقتها الجزيرة بين يدي محمدها العظيم ، بحاجة إلى أيَّة وصيَّة ملفوظة بكلمات ، لقد كان لكلِّ خُطوة خطاها الرسول على الأرض حَفر مُعيَّن ، له سداد ، وله رشاد ، ولقد كان لكلِّ إشارة زفَّها إليهم بإصبع كفِّه ، أو بلفتة عينه ، أو ببسمةٍ ماجت بها شفتاه ، دلائل غنيَّة العُمق ، بعيدة الغور ، ولكنَّه لم يَخطُ خُطوة واحدة الاَّ ومعه الرسالة ، ولم يتفوَّه بكلمة واحدة ليست حروفها مِن حروف الرسالة ، إنَّها وحدها كانت الوصيَّة ، وإنَّها وحدها التي بنت وجمعت ، فهي القضيَّة ، وإنَّها منه ، وإنَّه لم يغار أبداً إلاَّ عليها ، لأنَّها القضيَّة ، ولن يُقرِّب اليه أحداً مِن الناس ، إلاَّ الذي يراه متين المنكبين لحمل الرسالة التي هي كلُّ القضيَّة.

أيكون كلُّ هذا المخطوط البارز في حقيقة مُجتمع الجزيرة صعب الفهم ، وصعب اللمح ، وصعب السمع حتَّى نطلب مِن الغائب الذي التحق بسُّحب الغيب ، أنْ يعود ويوضِّح حروف الوصيَّة ، لنرى اليوم مَن هو المدلول إليه ليتسلَّم زمام الرسالة؟ هل هو عليُّ بن أبي طالب ، أم أنَّه عمر بن الخطاب ملفوفاً بأبي بكر الصدِّيق ، مَفروزاً إلى عثمان بن عفَّان؟

ليت حَجَّة الوداع قد تكرَّرت مَرَّتين ؛ حتَّى يقتنع ابن الخطاب بأنَّ الوصيّة بتعهُّد الرسالة ـ القضيَّة ـ هي لعليٍّ ، لا بصفته قريباً وابن عَمٍّ ، ولو بوجود العبّاس وهو عمٌّ أولى ، ولا بصفته طالبيَّاً مُنافساً لسفياني ؛ بلْ لانَّ عزم الروح كان جليلا فوق منكبيه ، ولأنَّ الذي سَحب الجزيرة مِن أمسها البائس هو الذي حضَّر لها غَداً مُشرقاً ، غنيَّاً بالوِئام النظيف والرأي الحصيف.

٣٥

أين هو الحسين (ع)

ـ ١ ـ

إنَّه الآن هنا ثمَّ هناك ، لا يستقرُّ له مقام ، فبينا تراه قابعاً وحده في زاوية البيت ، كأنَّه في إغفاءة التفكير ، إذا به ، بعد لحظات قاسيات ، يقيس الطريق بخُطواته التائهة ، بين ساحة البيت وباحة المسجد.

لقد فهم بعُمق أنَّ حقيقة رهيبة اسمها الموت ، قد تناولت جَدَّه الحبيب ، ولفَّته إليها ، كأنَّها الزوبعة الرهيبة الهابطة مِن غياهب الغيب! أين هو جَدُّه الآن؟ وقد سحبته العاصفة مِن منبر المسجد؟ أتراه قد أصبح في البُعد البعيد ، أم أنَّه لا يزال حيَّاً في عذوبة الصدى ، كما تحيا شجرة الأراك في ظلِّها الناعم؟

ويرتاح الفتى ، وهو مأخوذ بعفويَّة التصوُّر ، يدخل المسجد الخالي مِن جَدِّه ، ومِن المُقرفصين المُصغين ... ويعتلي المنبر يُفتِّش عن المنكبين الرازحين تحت رأس الدلال!!!

ولكنَّه لا يجد المنكبين ، ولا الرأس تحت ملمس الكفَّين ، مع أنَّه راح يَسمع الجُدران الشبعانة مِن حفيف الصدى وهي تُردِّد : هذا ابني مِن عليٍّ وفاطمة ، إنَّه وأخوه عُقدة البيت ، وإنَّهما سيِّدان مِن أسياد الجَنَّة ، وإنَّهما يردان عليَّ الحوض ، وإنَّهما إمامان قاما أو قعدا ..

هنا دائماً سنجد الحسين في المسجد ، وفي زاوية البيت حِضنه الأوَّل والأحَبُّ والمُخمس الأحضان ، إنَّه ضمن حيطان المسجد ، يُلملم ، مِمَّا عُلِّق عليها مِن نبرات جَدّهِ ، كلَّ الخيوط التي سينسج منها جُبَّته وقُمصانه.

٣٦

ـ ٢ ـ

لقد كان الحسين باكر التمييز والنُّضج ، لا نردُّ ذلك إلى بُنية مُنسَّقة الاسنجام ، هي مِن نعمة باريها هِبة كريمة يتمتَّع بها وجود الإنسان ، أكثر مِمَّا نُعزِّزها ـ وهي البُنية الأصيلة ـ بتنشئة واضحة القصد ، والتوجيه ، والإحاطة ، فإذا هي طاقة مُستعجلة إلى تلبية الغاية وبلوغ المرام.

لقد كان الحسين تلك البُنية السليمة بما شعَّ عليها مِن دلائل نُبْل الفِكر والروح ، وهي كلُّها التي لمحتها عين النبيِّ الكريم مُتحدِّرة مِن صُلب عليٍّ ، فإذا هي ـ في عين الطفل وفي محياه ـ استجابة للأصل والجوهر ، وتحقيق لأشواق الحُلم الذي جاشت به تلك الليالي الصامتة : فكان الانبعاث ، وكانت الرسالة ، وكانت القضيَّة ، وكانت الوصيَّة الهاجعة في عين الحُلم.

مِن هنا كان وضوح القصد ، ومِن هنا كانت التنشئة مُعيَّنة التوجيه ، وكانت الإحاطة موحَّدة العناصر ، وحاضرة الإعداد ، وكانت البيئة ـ بحدِّ ذاتها ـ بيئة غنيَّة بمواردها الفكريَّة ـ الروحيّة ـ الأصيلة في بُعدها وجوهرها ، وتحقيقاتها الرائعة المِثال.

لقد كان كلُّ ذلك في الجوِّ الذي راح الحسين يتنفَّس فيه ، ويدرج مِن حِضن إلى حِضن ، فكيف له ـ وهو الآن في ثمانية مِن العُمر ـ أنْ لا يكون باكر النضج والتمييز؟! وكيف له أنْ لا يُدرك ـ وهو تحت عين أبيه علي وبين يديه وفي احتكاك لا يهدأ بروحه وقلبه ولسانه ـ أنَّ جدَّه الذي رجع مريضاً مِن حَجَّة الوداع ، وهو الذي أضناه التعب في الساحات الكبيرة ، التي امتصَّت فِكره وقلبه وأوصاله؟! وها هو يتركها وقد خلَّف فيها الثقلين : عترته ، ورسالة ملفوفة بكتاب ، وحُلماً أصيلاً بأنَّ الجُهد الكبير في الحياة ، هو مِن الحياة ، وأنَّ الحقَّ لا يموت ، وأنَّ الاستمرار هو الوصلة الجُلَّى ، يتنقَّل الجُهد بها وعليها إلى بقاء القيمة الخالدة في مُجتمع الإنسان.

لقد أدرك الحسين ـ وهو في بكرة طريَّة مِن العُمر ـ أنَّ جَدَّه وأباه ، هما مُحيطان في الإصابة ، وأدرك أنَّ عليه ـ مُنذ الآن ـ أنْ ينمو ويترعرع في حِضن جَدَّه الذي

٣٧

غاب وبقي كامل الحضور في المسجد ـ إنَّها وصيَّته ـ لقد سمعها مِن جَدِّه وهو يتغنَّج عليه فوق منبر المسجد.

ـ ٣ ـ

ما كان أبوه علي يخرج مَرَّة إلى الساحات ويعود إلى رُكن البيت ، إلاَّ وفي جَعبته خبر ثقيل كأنَّه الرزيئة ، لقد اجتمعوا أربعتهم الليلة هذه على الحصير حول صينيَّة ، مَدَّت عليها فاطمة وجبة الطعام ، أمَّا الأب الذي كان يأكل قليلاً وهو يتحدَّث ، فإنَّه راح يوضِّح لهم قِصَّة السقيفة ، سقيفة بني ساعدة ، كيف وظَّفها عمر بن الخطاب لتُبعده عن حقيقته وحقوقيَّته في الإمارة ، وإحلال أبي بكر فيها ، كأنَّ الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ ، وفي المعصية الصواب.

لقد تبسَّط أمامهم كيف أنَّ في التصرُّف هذا استدعاء أثيما لقبلية ، حاول النبي الحكيم وَأدَها وتخليص مُجتمع الأُمَّة منها ، وإذا لها الآن توَّاً ـ إثر غيابه ـ عودة إلى الأرض ، وإلى النفوس ، تنهدر بها الطاقات الفاعلة ، وينشل الزخم الواعي ، مُتلهياً بالعرض عن الجوهر. إنَّ الوحدة هي في الخطر المُداهم تحمله سياسة الزعامات!

لقد شرح لهم بعُمق وهو مُثقل المنكبين : إنَّ للأعمال الكبيرة أوقاتاً مرهونة بها ساعات مُباركة ، مقرونة بالتحفِّز والرضوان ، ولقد قطفتها ـ في حينونة ساعتها ـ نَهدة الحَقِّ بنبيِّها وبطلها الذيب ، لم تنجب صِنوه ملحمة مِن أقدس الملاحم في وجود الإنسان ، واستطرد يقول : مَن لنا الآن ، وقد غاب سيف صقيل مِن بيننا ، وفوَّتنا علينا تعهُّد ما غرسناه في البستان؟! لهفي على الرسالة ، يلزمها المَعين ، ونقطع عنها ـ وهي طريَّة ـ هذا المَعين!!!

ما كادت فاطمة تستوعب مرارة البوح حتَّى غاصت في نشيجها ، فهبَّ الحسن يُطيِّب خاطرها ويُهدئ مِن ثورة كالحة في صدرها وهو يقول : إنَّ خلف الليل هذا ـ يا أُمِّي ـ هزيعاً آخر ، لابدَّ أنْ تطيب شمسه ... فرمقه الحسين بعين سرحت منها نقطة دمٍ ، وهرول صوب الليل وهو يقول : جَدِّي ينتظرني في باحة المسجد.

٣٨

ـ ٤ ـ

بالرغم مِن أنَّ المُعتدَى عليه كان يسكت ويصبر على الضيم ، علَّ الليل يأتي بصباح آخر طيِّب الشمس ، كان المُعتدي لا يقبل إلاَّ بالتحدِّي.

لم يدرِ أهل البيت في أيَّة ساعة مِن ذلك الليل ، تسلَّل أُمويٌّ سفيانيٌّ إلى ساحة الدار ، واقتلع منها شجرة الأراك التي كانت وحدها مَظلَّة النبي ، وكانت وحدها ظِلاًّ يركن إليه صِبْية الحيِّ ليلعبوا مع الحسن والحسين ، في كلِّ ضحوةٍ محمومة بلهيب الشمس ، في تلك الليلة بالذات ، كان أهل البيت متحلِّقين حول عميدهم عليٍّ ، وهو يُطلعهم على تصرُّف الخليفة أبي بكر بحجزه (نِحلة فَدَك) عنهم ، كأنَّه لا يُريد لهم أيَّة بحبوحة مِن رزق تعولهم في حشرة الشَّحِّ!!.

ما تحمَّلتها فاطمة عندما فتحت الباب مع الصباح ، ولمحت شجرتها العفيفة مطروحة فوق التراب ، لقد تلفَّعت بخِمارها وانسابت ، كأنَّها قضيب مِن بانٍ معكوف عليه صولجان ، لقد تعلَّق بذيلها ـ وهي تهرول ـ فتاها الحسين ، لأنَّه عرف أنَّها تقصد المسجد.

لقد انتثرت ـ أمام مِن اغتصب المشيئة ، واقتلع مِن الساحة شجرتها المُظلَّة ـ ثورة مبحوحة الصوت ، ما تردَّت أُنوثتها مِن قَدِّها النحيل ، إلاَّ وتبدَّت بجبروتها مِن عُنفوانها الأصيل.

لقد أفهمته أنَّ الأُمَّة العظيمة ، التي ينشرها أبوها لتكون هديَّة ومِثالا على صفحة الأرض ، إنَّما هي صداه في جبروته المُتلقط بالذمَّة الكريم الطاهرة البنَّاءة ، وسألته : لماذا تُعطِّلون أنتم الذمَّة ، وتطمرون الصدى في حفر الجحيم؟! إنَّ الشجرة للظلِّ ـ فهي الوارفة ـ وتدَّعون أنَّكم ما قطعتم الظِلَّ إذ اقتلعتم الشجرة!!!

وفَدك ، أيُّها المُتنعِّمون بخيرات الفيء ـ وهل كان الفيء غير ظِلٍّ مِن أظلالنا؟! ونحن الذين استقيناه مِن كوثر النعيم ـ فلماذا تحرموننا منه ونحن الذين أفضناه؟

٣٩

لقد أُفعم الجوُّ كلُّه في باحة المسجد ، بنبرات صوتها التي لم تتمكَّن مِن تخليصها مِن الضعف والخفوت ... أمَّا الحسين ، فإنَّه راح يلتصق بها حتَّى لكأنَّه أصبح وتراً مشدوداً بعودها وهو يقول : طِبْت طِبْت يا أُمَّاه! لو تقدرين أنْ تجعلي صوتك عالياً كالهدير فيه!!! كمْ أُحبُّ الآن أنْ يسمعه أولئك الذين هُمْ نيام خلف جُدران هذا المسجد ، ارفعي صوتك أكثر وأكثر ـ يا أُمِّي ـ علَّهم أيضاً ، أولئك الذين هناك ، يسمعون.

أمَّا الخليفة الذي بدا كأنَّه المُنهار ، فإنَّه اقترب من المرأة ، وضمَّ الحسين إلى صدره وهو يُتمتم : كمْ كان النبي يُحبُّك يا بن علي ، لقد رأيته مَرَّة يُعرِّيك ويزرع في جسمك القُبَل.

والتفت إليه الحسين بعينين فيهما طفولة عمرها أقلُّ مِن تِسع سنين ، وفيهما بريق أدعج أحمر ، كأنَّه مِن زفرة شمس.

ـ ٥ ـ

لقد شاهد الحسين أُمَّه كيف كانت تَنْعس نُعاساً باسماً ، وهي تتأوَّد بفرح كأنَّه مُنتهى الغِبطة بين ذراعي الموت! لقد كان يفرك أصابع كفيِّها الباردة ، وهو جاث بجنب فراشها الممدود فوق الحصير ، كانت أسماء بنت عميس ، لطيفة كالشعاع ، وهي تُرطِّب شفتيها بمنديل مُبلَّل بماء الزهر ، حتَّى تُخفِّف عنهما نشفة مَصَّت منها بهجة القرمز. أمّا أبوه عليٌّ ، فكان كأنَّه طود مسحوق القِمَّة ، يزرع صحن الدار بخطوات تئنُّ مِن فَرط الوقار ، هنالك الحسن وحده بقي في الزاوية راكعاً يُصلِّي ، ثمَّ لا يعتم أنْ يتلَمْلَم على رؤوس أصابعه ، ويتقدَّم حتَّى يرى إذا يتنفَّس الأمل وتعود الحياة إلى ثغر أُمِّه فيبتسم!!

وفتحت فاطمة عينين غارقتين بما يُشبه النُّعاس ، ولكنَّه أعمق مِمَّا يُسمَّى بمرمى النظر ، إنَّهما مِن مدى آخر ، فيه شفافيَّة مِن فضاء ، وقرار مِن رؤى ، وسِمات مِن

٤٠