الإمام الحسين في حلّة البرفير

سليمان كتّاني

الإمام الحسين في حلّة البرفير

المؤلف:

سليمان كتّاني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٦

صَدَقَ وكَذَبَ مروان ، صدق في توحيد المراوي ، وكَذَبَ في تعطيشنا وتعطيش مجموع الأُمَّة منها ، أمَّا أنْ يُهدِّدنا بقطع الأعناق ، فلسوف أُمدُّ عُنقي ليُقطع حتَّى يكون مِن وريدي منهل تستقي منه الأُمَّة ماء بطيبة الماء الذي حفره أجدادنا في بئر زمزم.

محمد : ـ وما تقصد ـ يا أخي الحسين ـ؟ أنا لا أُحبُّ أنْ أرضخ لتهديد يزيد ، أو لأيِّ آخر يُرهبنا به بنو حرب ، أنا أعرف أنَّ الأُمَّة بحاجة إلينا ـ يا أبا عبد الله ـ وأنا أُريد أنْ أشُدَّ عزمك على طرح المُبايعة لك ، فلتكن المُبايعة ردَّة شاءها الخصم ، فلنعتمدها أيضاً سلاحاً عليه ، إلى أنْ يَقيض الله لنا وقتاً يُمكننا مِن التخلُّص مِن أوزار الماضي التي لا تزال الآن تُفعَل! أنت لا تُريد أنْ تلجأ إلى اليمن حيث يُمكننا أنْ نلتقط الأنفاس ، ونُنظِّم قوانا للمُقاومة ، ولكنْ فلنُحاول ـ على الأقلِّ ـ أنْ نُحرِّك أعصاب الجزيرة ، وأعصاب الكوفة والبصرة ، إنَّ لنا رصيداً قويَّاً عند كلِّ هذه القبائل ، لابُدَّ أنْ يلبِّينا للتخلُّص مِن نيْر يزيد ، ونِيْر مروان ، ونِيْر بني حرب!!!

إنَّ الأسئلة التي طرحها الوالي المخلوع ، لا تزال بحاجة إلى جواب صريح ، ألا يكون عليك ، لا على مروان بن الحَكم ، أنْ تُجيب عليها؟

الحسين : ـ اصغ إليَّ ـ يا محمد ـ عندي وحدي الجواب عليها ، ولن تقتنع بها إنْ لم تفهمني الفهم الصحيح ، افتح أُذنيك الكبيرتين والعميقتين يا محمد ؛ فالموضوع كبير وعميق إذا أردت أنْ تُصغي : أنا ما موَّهت على الوالي بالمُبايعة ، بلْ قصدت أنْ أُلهي أُذنيه بحروفها ليظنَّ أنَّها ليزيد ، في حين أنَّها ـ في قصدي الوسيع ـ للأُمَّة التي تجمعني إليها قُدسيَّة الإمامة ، أمَّا إلهاء

١٤١

الوالي ، فحتَّى أتمكَّن مِن ترك المدينة إلى حيث يتسنَّى لي كسب وقت أتمكَّن به مِن تنفيذ ما صمَّمت عليه ، أمَّا تفضيلي مَكَّة على أيِّ مكان آخر في الوقت الحاضر ؛ فلأنَّها حرم لا يجوز بسهولة انتهاكه واقتحامه لمُلاحقة المُحترِمين فيه ، وبذلك يتسنَّى لي تحضير عُدَّتي لتنفيذ ما أنا مُقدم عليه.

محمد : ـ عظيم ـ يا أبا عبد الله ـ! فهل لك أنْ تجعلني مُرتاحاً وتُطلعني على ما أنت الآن مُقدم عليه؟

الحسين : ـ لا شكَّ أنَّك تقصد المُبايعة ، وأنِّي بين يديك في تتميم القصد ؛ أنا لست شريك عبد الله بن الزبير في تنظيم المُبايعة ، فهو يزورني ويَشدُّ أزري فيها ، لا لأنجح بها ضِدَّ يزيد ، بلْ حتَّى أتمادى في تفسيخ الأُمَّة وتاليبها على يزيد ، فأُنهِكه ويُنهكني ، ويبقى هو مُرتاحاً حتَّى يتمُّ له ظهور على مُتْعَبَين مُضْعَفَين ، أو على واحد منهما يبقى يرقص على قبر الآخر وهو مُنهك هزيل ؛ يظنُّ عبد الله بن الزبير أنَّ الخلافة قرص مِن الحَلوى عجنته له أُمُّه ليأكله إذ ينطُّ مِن السرير ...

قال الحسين ذلك وهو بحالة مِن الاستغراق ، بدا به كأنَّه ناسٍ أنَّه يشرح لأخيه وضعاً مُتعلِّقاً بالأحداث الجارية ، وهي تستدعيه لأنْ يُقدِّم مَخرجاً يفكُّ الأزمة ، ويوجِّهها صوب الحيطة والاحتراز. أمَّا أخوه ابن الحنفيَّة ، فإنَّه لبث يُراقبه وهو تحت هذه الموجة مِن التأثير ، دون أنْ يدري أين هو الآن في سياحته التي يَعبر منها بعينيه النائمتين ، بين تضييقهما وتفتيحهما على ما لا يبدو أنَّه ملموح ومنظور ... حركة خفيفة أبداها ، استردَّت الحسين صوبه فاستأنف الحديث :

الحسين : ـ إنَّك تهتمُّ معي بالمُبايعة أليس كذلك؟ لقد شردت قليلاً وأنا أُصغي إلى أبينا الإمام علي ، لقد فسَّر كثيراً أمامي موضوع المُبايعات ، لقد عرضوها عليه في اللحظات الكثيرة التي فوجئ

١٤٢

بها مع خلافة أبي بكر ، ثمَّ ابن الخطاب وابن عفَّان ، فكان يرفض قبولها تتحكَّم بمصير الأُمَّة وبتقرير مصيره وهو وحده الخليفة الإمام ، ولكنَّه لم يجد منها مناصاً بعد خمس وعشرين سنة ، أبعدته عن حقيقته في تجهيز الأُمَّة ، وتخليصها مِن النِّير الأسود ، فاستسلم إليها في ساعة غَفلة ، فأوصلته الى الحُكم ، وكأنِّي بها هي التي أسقطته تحت خَنجر ابن مُلجم!!! ليس في يد القبليَّة سيف يُدافع عن القبيلة ، وتُخطئ القبليَّة إنْ تَمْتَشق سيفاً تُدافع به القبيلة ، لا تعيش ـ مُطلقاً ـ قبيلة ما لم تَئد بيديها قبليَّتها الذميمة ، وتلك هي المُبايعة تمشي بها القبائل إلى إحياءِ قبليَّاتها الموؤدة تحت أقدام جَدِّنا العظيم.

محمد : ـ أتسمح لي أنْ أستوقفك قليلاً يا أبا عبد الله؟ ها إنَّنا نعمد إلى المُبايعة وأنت الآن تعمد إلى ذمِّها ، هل هذا هو سبيلنا في الوقت الحرج إلى يزيد وأعقاب يزيد؟

الحسين : ـ تصبَّر قليلاً ـ يا محمد ـ فإنِّي مُتابع موضوعي إليك ، فلتكن المُبايعة التي تُريد ... منذ عشر سنين وأنا أُرَاجَع بها ، لقد سمح أخي الإمام الحسن لمُعاوية ـ وإنَّ في ظروف قاسية فرضت عليه الحَلَّ ـ أنْ يُكمل عهده في الحُكم ... ولكنَّ بعض القبائل بقوا رافضين ، وعرضوا عليَّ القبول بمُبايعة ترفض مُعاوية وتشتدُّ إليَّ ، فأرجأتهم إلى ما بعد انقضاء المُدَّة ـ مدة الميثاق المعقود في وثيقة الصُّلح ـ وهي تنصُّ على أنَّ الخلافة تعود إلينا عِبْر الحسن ، إثر وصول الموت إلى مُعاوية ، أيْ : إنَّني لم أقبل بخيانة ميثاق قطعه أخي على نفسه ، وهو مُتَّصف بالإمامة ـ وبقي الخطُّ القبائلي ذاته على اتِّصال بي ـ ولكنَّه بعد خلوِّ الساحة وانتقال العهد إليَّ بعد غياب الحسن ، أصبحنا في حِلٍّ مِن الميثاق الذي خانه وتنكَّر له مُعاوية ، ونقل الخلافة مُلكاً

١٤٣

موروثاً عنه لابنه يزيد ، هل هذا ما تُريدني أوصِلك إليه؟

محمد : ـ بالضبط ـ إنَّه موضوعنا الآن ـ ألا تراني كيف أُصغي إليك؟

الحسين : ـ اسمع ، هل تدري أين هو الآن أخونا وابن عَمِّنا مسلم بن عقيل؟ لقد أوفدتُه مُنذ مُدَّة إلى الكوفة لدرس أوضاع المُبايعين المُناصرين في العراق ، ألا ترى معي أنِّي جئت مَكَّة لأكسب وقتاً أدرس فيه كيفيَّة تنظيم وتنفيذ الخُطَّة المرسومة؟

محمد : ـ عظيم أنت ـ يا أبا عبد الله ـ أكمِل!

هَزَّ الحسين برأسه وهو يسمع ارتياح أخيه محمد ، مِن مُتابعة السرد والوقوف على مسيرة التصميم ، مِمَّا جعله ينهض عن مَقعده ويتمشَّى قليلاً في صحن الغرفة ، وعلى مَهلٍ عاد فجلس قُربَه ليُتابع سردَ الحَدَث ، ولكنْ بصوت خافت كأنَّه يُعلن سِرَّاً يخشى أنْ يُفلت مِن حيطان الغرفة إلى أُذِن جاسوس :

الحسين : ـ هل تعرف أين كان أسعد الهجري قبل أنْ فتح لك الباب عليَّ ، في هذا الهزيع الأخير مِن هذا الليل؟ لقد رافق عبد الله بن مسمع الهمذاني وعبد الله بن وال ، إلى خارج مَكَّة ، وسلَّمهما طريق القوافل صوب العراق ، لقد حمل إليَّ الرجلان بريداً سريَّاً مِن سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد البجلي ، وحبيب بن مظاهر ، وكلُّهم ـ كما يبدو ـ موالون ، ولقد أصبح في جَعبتي منهم أكثر مِن عشرة آلاف كتاب تأييد ـ ولقد وجَّهت مع الرجلين الرسولين الليلة هذه كتاباً يُسلِّمان نسخة عنه لكلِّ رئيس مِن رؤساء الأخماس في البصرة ـ سأقرأ عليك نَصَّه ، وهاك أسماء هؤلاء الزُّعماء الذين في أيديهم أغلبيَّة قبائل البصرة : مالك بن مسعود الأزدي ، المُنذر بن جارود العبدي ، ومسعود بن عمر الأزدي ،

١٤٤

ونهض الحسين مُتوجِّهاً إلى مقعد في الزاوية الغربيَّة مِن المكان ، رفعه بيمينه وتناول صندوقاً مِن تحته ، حمله وتقدَّم مِن أخيه محمد ، فتحه وهو يقول :

الحسين : ـ هنا كُتب التأييد مِن زعماء القبائل ، لقد قرأتها كلَّها وأنشأت دراسة عن كلِّ قبيلة تتمثَّل فيها ، وسلَّمت الدراسات هذه لابن عمِّنا مسلم بن عقيل ، هذا كلُّ ما نفَّذته حتَّى هذه الليلة يا أخي محمد ، فهل يكون كلُّه مِن هواك؟ وهل رأيت فيه جواباً على الأسئلة الثلاث ، التي بقيت أُحجيَّة في بال الوليد بن عتبة؟ في حين قدر على حلِّها الوالي الجديد مروان بن الحَكم؟

محمد : ـ هل هذا كلُّ شيء؟

الحسين : ـ وماذا تُريد بعد؟

محمد : ـ والمؤَن ، والعتاد ، والقيادات ، والتخطيط ، وساعات التنفيذ ، هل تمَّ تدبير كلِّ ذلك؟

الحسين : ـ لكلٍّ أُسلوبها ومِرانها ، أوْ فلنقل : نوع فوضاها!!! ألا يكفي ذلك في إدارة الحُكم ، وتجهيز الميدان ، وتقرير المصير!!! ستهُبُّ الأُمَّة كلُّها في البصرة بقيادة الأحنف بن قيس ، ألا تعرف الأحنف بن قيس كيف ورَّط بني حنظلة وبني سعد بالقتال ضِدَّ أبينا عليٍّ في معركة يوم الجمل؟!!! إنَّه ذاته المُبايع اليوم ، ليس إكراماً لنا ، بل إكراماً ليزيد بن مسعود!!! وسيلهب الساحات بالعزم الأكيد ، غداً سأرحل صوب البصرة ، إنَّ القوم ينتظرون هناك وصول الإمام الحسين ، ألا ترى ـ يا أخي ـ أنَّ تنفيذ الأُمور أسهل مِمَّا تتصوَّر؟!!!

محمد : ـ لم أفهم ـ يا أبا عبد الله ـ إنَّك تعميني بالأُحجيَّات ، فبينا أراك مِن جِهة أُولى تعتمد المُبايعة وتُركِّز عليها ، وقد قطعت بها شوطاً لا بأس به صوب الظهور على الخَصم الفاسق والحقود ، أراك مِن جِهة ثانية تُقابلها بنوعٍ مِن الاستخفاف والتحقير ،

١٤٥

كأنَّك لا تُريدها تمشي بين يديك!!! بالله عليك ، أيُّ شيء تقصد؟ وأيُّ معنى ترمي إليه؟

الحسين : ـ محمد ، هل يجوز لنا ـ بعد أنْ غُصنا خمسين سنة في خِضَمٍّ مِن الأحداث ، ونحن أولياء جَدِّنا النبي ، وفي أعيُننا ضوء مِن نوره ، وقَبَس مِن هَدْيه ، وفِطنة مِن ذكائه ، وعزم مِن مضائه ـ أنْ لا نعرف كيف نقرأ حروف الكلمة ، وأنْ نُضيِّع في تفسير الرموز ، ونتيه حيالها في الأوهام!!! إنَّي أسألك : هل أنت مُنتظر مِن مُبايعات الكوفة والبصرة تلبية ترصُّ الصفوف وتقتحم الميدان؟! ما أسرعني يا أخي محمد أقول لك : قد ذلَّلَتْ الخمسون سنة مِن عُمرنا ، لا البصرة والكوفة وحدهما ، بلْ ذلَّلت الأُمَّة جمعاء ، ابتداء مِن غَوطة الشام ، وانتهاء إلى وادي النيل! عندما ذلَّت الأُمَّة أصابنا ـ نحن أهل البيت ـ وخاصَّة الرسول في عُهدة الإمامة ، ذِلٌّ أكبر ، ولن يُحرِّرنا منه إلاَّ العمل الأكبر ، والنهج الأكبر. ولن أصبر عليك حتَّى تستفهمني أكثر ، بلْ أسألك : مَنْ يُمسك في هذه اللحظة بالذات بخِناق العراق؟! إنَّه عبيد الله بن زياد ، لقد كان مُكتفياً بإمرة البصرة على أيَّام مُعاوية ، وها أنَّ يزيد يُرضيه بتوسيع ولايته على كلِّ أنحاء الكوفة ، لماذا؟ لأنَّه أتقن الفتك عن أبيه زياد ، وأجاد في بثِّ الإرهاب عن عَمِّه مُعاوية ، وها هو الآن أفسق مِن أميره زياد ، وأشرس مِن قرده (أبي قيس) ، إنَّ عبيد الله هذا يا أخي محمد ـ يعرف كمْ كَمأة قاءت الأرض في البصرة ، وكمْ بيضة قاقت بها دجاجات الحيِّ في الكوفة ، وكمْ شاة ثغت على حَملها المشويِّ فوق مائدة الأمير!!! إنَّ أرضاً واليها عبيد الله بن زياد ، أو مروان بن الحكم ، أو عمرو (الأشدق) ، وسائسها يزيد بن مُعاوية ، لأرض تنسى أنها سواد

١٤٦

مِخصاب!!! فهل يكون لها مِن نعمة التعقيم أنْ تُخصب مُبايعة تمشي مع الصُّبح إلى صباح؟!!!

ما توقَّف الحسين إلاَّ عندما لمح دمعتين تنزلان بصمت على خدَّي أخيه ، وهو غائب بذهول ، فهزَّه مِن كتفيه وهو يقول :

الحسين : ـ مُنذ مُدَّة طويلة أوقفنا عيوننا عن البُكاء ، وتركنا الحُزن إلى استثمار آخر يُهيِّئنا إلى إنتاج ، ألا تتأثَّر بي يا أخي وتشرب دمعك؟!

محمد : ـ صدقت ، إنَّ البُكاء للأطفال ـ ولكنْ ـ قبل أنْ اطلب إليك أنْ تتمادى بعد ، أُحبُّ أنْ أُذكِّرك بأنَّك وعدتني بنصِّ الكتاب الذي وجَّهته إلى رؤساء الأخماس في البصرة ، أظنُّه في حوزتك.

الحسين : ـ لقد تهتُ عنه! هاكه : «فإنَّ الله اصطفى محمداً على خلقه ، وأكرمه بنبوَّته ، واختاره لرسالته ، ثمَّ قبضه الله إليه ، وقد نصح لعباده ، وأبلغ ما أُرسل له ، وكنَّا أهله وأولياءه ، وأوصيائه وورثته ، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا ، فأفضينا كراهيَّة لفرقة ، ومَحبَّة للعافية ، ونحن نعلم أنَّا أحقُّ بذلك الحَقِّ المُستحقِّ علينا مَمَّن تولُّوه ، وقد بعثت برسولي إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنَّة نبيِّه ، فإنَّ السُّنَّة قد أُميتت ، وإنَّ البِدعة قد أُحييت ، فإنْ تُجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سُبل الرَّشاد».

هذا هو نصُّ الكتاب إلى رؤساء الأخماس ، فماذا ترى فيه؟

محمد : ـ أرى أنَّك قصدت تفتيح عيونهم لرؤية الحَقِّ والتزود منه ، حتَّى تتمكَّن أنت مِن إهدائهم إلى سُبل الرَّشاد.

الحسين : ـ صحيح هذا ، إنَّه قصدي ، فأنا لا أطلبهم إلى مُبايعة أكثر مِمَّا

١٤٧

استدعيهم إلى وعيٍ وإدراك ... أجل ، أنا لا أقدر ، ولا يُمكنني أنْ أكون إلاَّ في المركز الذي رسمه لي جَدِّي ، إنَّ الإمامة وحدها هي قدري المُحترم ، وهي مُرتبطة بي في ارتباطي بهذه الأُمَّة التي هي جِدِّي وكلُّ معنى وجودي في هذا الكون ، ولقد أصبحت أشعر أنِّي اشتقاق منها لا يقبل الانفصام. أمَّا فروضها عليَّ فأنْ أقوم بكلِّ ما يتعهَّدها في إتمام ذاتها ، وفي كلِّ ما أراه مِن حاجاتها في حقيقة البلوغ ، ماعدا ذلك فليس لي مِن معنى في وجودي ، إلاَّ إذا أردت تنعُّماً في عيش أوسِّعه عليَّ مِن بحبوحة إلى بحبوحة ، وأتذوَّق بها طعم الدنيا في لذاذاتها السخيفة والفارغة مِن حدود المعنى وحدود القيم. إنِّي ـ وهذا هو اقتناعي البليغ والصميم ـ أمام هذه الأُمَّة كما هو جَدِّي نبيُّها ورسولها ، وكلانا الآن مُشتقٌّ مِن صدر السموِّ الذي هو مصدر العصمة ، فإذا كان هو الحَقُّ مِن أجل أُمَّة هي الحَقُّ ، فعلى الأُمَّة بالذات أنْ يتوسَّع بها الإيمان والرُّشد ، حتَّى تتمكَّن هي مِن رؤية ذاتها فينا.

انطلاقاً مِن هذه القناعات ، يكون عليَّ أنْ أُرشد الأُمَّة وأُعطيها كلَّ ما تقدر هي أنْ تأخذ ، دون أنْ أحصر الأخذ بساعة مُعيَّنة مِن ساعات العمر ، فكما أنَّ نوع العطاء لا يكون إلاَّ مبدأ مِن المبادئ ، تتناوله الأُمَّة بعقلها وإدراكها ، فإنَّها ستأخذ منه حاجتها عندما يبلغ عقلها وإدراكها قوَّة اللمح ومُتعة التلمُّس ، ألم يُقدِّم جدُّنا العظيم رسالته العظيمة التي ستغرف الأُمَّة منها حاجاتها اليوم وغداً ، وبعد مُطلق غَدٍ في ربط الغرف بتطوُّر الفهم والإدراك وبروز الحاجة؟

على ضوء قولي هذا أرجو ـ يا أخي محمد ـ أنْ تفهم عليَّ ، فأنا ما توصلت إلى أيِّ قرار إلاَّ بعد أن زرعت عمري كلَّه في درس

١٤٨

الأحداث التي مرَّت علينا ، ولقد توصلت على ضوء ما تكشَّف لي ، أو بالأحرى ، على ضوء ما وهبني جَدِّي مِن عزم كشَّاف عن عُمق الحقائق ، إلى الإدراك أنَّ الأُمَّة كلَّها هي خزانة العزم ، وخزانة الإدراك ، وأنَّه علينا أنْ نُنبِّه فيها طاقات الروح والوعي والإدراك ، حتَّى تأخذ هي ـ مِن تنبُّهها ـ ما تحتاجه وهي تمشي دروبها الصاعدة ، ولقد توصَّلت إلى نوع مِن الشفقة على كلِّ الذين راحوا يتسلَّمون أزمَّة أمرها ، فرأيتهم مأخوذين بكلِّ خديعة ضلَّلتهم الدنيا بها عن ربط أُمور الأُمَّة بسياساتها السليمة ، وما كان ذلك خطأهم وحدهم في خِفَّة رُشدهم ، أكثر مِمَّا كان في عدم قابليَّة الأُمَّة على الأخذ سدَّاً لحاجاتها ؛ لأنَّ القيِّمين لم يتمكَّنوا مِن تنشيط قُدراتها ، وتنبيه طاقاتها ؛ لأنَّهم القيِّمون المُتطفِّلون.

مِن هنا أنَّ الشفقة التي تولَّدت فيَّ ، جعلتني أتجاوز كلَّ هؤلاء الذين أبعدونا عن حقيقة الحُكم ، وحقيقة التعهُّد الموكول إلينا القيام به ، عن طريق الإمامة المرسومة في ذهن جَدِّي ، إلى اعتبارهم مرُّوا مروراً خفيفاً على الساحة ، التي ما قصدوا إلاَّ أنْ يلعبوا فيها ، وقصدت أنْ أُبرئ عيني وبالي منهم ، وأنْ أُقدِّم للأُمَّة ما أراها بحاجة إليه حتَّى تُعزِّز خطواتها مِن مسيرة اليوم إلى مسيرة الغد ، أمَّا الحاجة التي رأيتها الآن ماسَّة في حياة الأُمَّة ووجودها الكبير ، والتي لا يُمكنها أنْ تعيش إلاَّ بها ، فهي أنْ تكتشف دائماً وأبداً ما هو مزروع في روعة طويَّتها ، مِن إباء يتدرَّج نوعه مِن سُلَّم إلى سُلَّم ، حتَّى يتَّصف أخيراً بذلك الذي يُسمَّى عنفواناً تتسلَّح به العواصف والأعاصير ، كأنَّه وحده هو الثورة التي لا تقبل الذِّلَّ إلاَّ لتُبيده مِن أمامها ، ولتمحو اسمه مِن حقيقة الإنسان ، لقد تثبَّت لي أنَّ المُجتمع الذي

١٤٩

يلفظه الذِّلُّ هو الواصل ـ بلا رحمة ـ إلى رغوة الغثيان ؛ لأنَّه وحده هو بَلادة في الفهم والروح ، وغثيان لا يُنتج إلاَّ رغوة السَّمِّ!!!

توصَّل الحسين إلى هذا الفاصل مِن حديثه ، وسكت كأنَّ إعياء هبط على عينيه ، فأغمضهما على عزم في روحه بقيت تنشط به كلُّ سمات كانت تَخفق بين طيات جبينه ، وتنساق قرمزيَّة فوق وجنتيه ، وعلى خطوط شفتيه ، ولكنَّه بعد دقيقتين على الأكثر فتح عينيه على أخيه محمد كأنَّه يستفهم ، فاحتواه أخوه بذِراعيه وهو يقول :

محمد : ـ إنِّي مأخوذ بما تقول ـ أيُّها الإمام ـ بدأت أُحسُّك ثورة في دمي ، ولكنَّها ثورة تفعل بك ، لقد بسطت شطراً مِن حديثك هذا ، فهل أنت تعبت عن الشطر الآخر؟

الحسين : ـ حتَّى التعب ـ يا أخي محمد ـ فهو غير مسموح له أنْ يكسرني ، ما أطيبك! دائماً تُصغي ، قلت : إنَّ الأُمَّة تأخذ حاجتها بعد عمليَّة التنبيه ، وها أنِّي أقوم بالمُهمَّة ، سأبدأ بيزيد فأُعلِّمه أنَّ خلافة جَدِّي ليست له أصلاً ، ولا لأيِّ آخر يخسر الفهم والتصميم!!! وأنِّي إنْ لم استردَّها بضربة السيف ، فبمُكنتي أنْ أُحرِّرها بخفقة الرفض ، وسيحصل ذلك تحت عينيِّ الأُمَّة ؛ تعليماً لها أنَّ العُنفوان الصحيح هو في النفوس الأبيَّة ، وأنَّه وحده المُتلقَّط بروعة التصميم ، وعندئذ تُفتِّش عنِّي الأُمَّة فتجدني في دائرة التصميم ، أنا لا أُبشِّر الأُمَّة بالذِّلِّ والاستكانة ، أمَّا القدوة الحيَّة فستكون البادرة الأُولى أقوم بها وأنا في روعة الرفض ، فإذا كان للرفض ـ بعد ـ أنْ يُعلِّم يزيد قراءة الحَقِّ ، فإنَّه المُتنحِّي أمامي عن ولاية ليست له ، أمَّا أنْ لا يرضى إلاَّ بعُنقي ثمناً لمجده الأسود ، فعندئذ تعرف الأُمَّة أنَّ مِن دمي الفدية التي هي الثروة المُكتنزة ، وهي التي ستبقى لها مِن جيل

١٥٠

إلى جيل ، تزرعها في خزائن روحها ، فتُورق وتُزهر وتُثمر المجد الذي يحيا به مُجتمع الإنسان.

تفوَّه الحسين بمثل هذا المعنى الموشَّى بالدم ، وسكت كما يسكت البُركان بعد قذفه غمراً مِن الحُمَم ، أمَّا الفجر فإنَّه كان يلوح بتباشيره المُنسلَّة مِن الطاقة العُليا ، المزروعة في حائط الغرفة في هذه اللحظة ، وابن الحنفيَّة مُتكفكف بإطراقه كأنَّه تعبٌ محزونٌ ، فتح الباب على مَهلٍ أسعد الهجري ، فرأى الرجلين تحت وطأة مِن وعي ضائع بين يقظة ويقظة ، فأدرك أنَّهما كانا في المِعراج الآخر ، الذي كثيراً ما كان يرقى إليه أمامه الإمام الحسين ، فأغمض عينيه عليهما وأقفل الباب وانسحب.

عندما انتبه الحسين وجد أخاه ينظر إليه ، ونور الشمس قد ملأ الديوان مِن الطاقة العُليا المفتوحة في الجدار ، فقال له :

محمد : ـ عجباً ـ يا أخي الحسين ـ ألم تكن تُحدِّثني في الليل؟

الحسين : ـ ولكنَّنا الآن في يوم آخر ، هل تدري بحضرة مَن كنت؟ قبل أنْ يهلُّ علينا هذا الصباح؟

محمد : ـ كنت تُحدِّثني بمُبايعات القوم ، وها أنِّي الآن أُحدِّثك أنْ تُشفق على نفسك وعلينا ، فلا ترحل لا تحمل عيالك ونساءك ، ولا تَرمهم إلى التهلُكة ، وأنْ تُرِدْ أنْ ترحل فإلى اليمن ارحَل.

الحسين : ـ ولكنِّي إلى الكوفة سأرحل!!! إلى الأرض التي امتصَّت دماء أبي عليٍّ سأرحل!!! أتاني مُنذ لحظة رسول الله وقال لي : يا حسين ، اخرُج ؛ فإنَّ الله قد شاء أنْ يراك قتيلاً ، وأنَّ الله قد شاء أنْ يرى نسائي سبايا.

بعد ساعة مِن الوقت كان الركب المُؤلَّف مِن الحسين ، وأولاد الحسين وبَنيهم ، وكلُّ الأقرباء يملأون القافلة التي أعدَّها أسعد الهجري ، الذي مشى أمامهم نحو خُطوط القوافل مِن مَكَّة إلى أرض العراق.

١٥١

كربلاء

وكربلاء ، إنِّي أتمثَّلها الخشبة العريضة ، التي عرضت فوقها مشاهد الملحمة التي كان نجمها الكبير ، وبطلها الأوحد ، الحسين بن عليِّ بن أبي طالب ، الذي صرفنا مجهوداً مُطيَّباً به ، ونحن نستنزف النفس والأوصال في تتبُّع سيرته المليئة بأسرار الذات ، وعُنفوان النفس ، والمنسولة نسلاً مِن كلِّ عبقريَّة يقترن بها تَوْق الإنسان ، فيقتنص له منها جناحاً يطير به إلى سماوات أُخرى ، تجعله قطباً مِن الأقطاب الذين يعتزُّ بهم وجود الإنسان.

والملاحم ، إنَّها نادرة في الشوق والتطبيق ، لهذا بقيت حِصَّة مِن حِصص المُتشوِّقين إليها ، وإنَّهم ما قدروا أنْ يُعالجوها ويُقدِّموا أنماطاً عنها إلاَّ في صنيع أدبيٍّ مُجنح بالخيال ، هرقوا عليه جُهداً واسعاً ، وسنوات طويلة في البحث ، والتدقيق والتنقيح ، حتَّى يجيء قريباً مِن الواقع الإنساني ، إلاَّ أنَّه بقي تعبير عن واقع آخر لا يقدر الإنسان أنْ يحياه إلاَّ بشوقه وخياله وأحلامه ـ ان ملحمة الإلياذة تشهد لهوميروس كيف خصَّص عمره كلَّه لها ، فإذا هي صنيع أدبيٌّ ، شعريٌّ ، خيالي ، ليس فيه غير أبطال آلهة ، خاضوا الأجواء كلَّها وربطوها بالميدان الأوسع ، وأجَّجوا الصراع وألهبوه بالبروق والرعود ، وبقي القرَّاء وحدهم المُشاهدين كيف يتمُّ زرع البطولات الخارقة ، وكيف يتمُّ الانتصار في المعركة الإلهيَّة التي يُحاول أنْ يُقلِّدها الإنسان.

ما أروع الحسين!! يجمع عمره كلَّه ويربطه بفيض مِن مُعاناته ، ويجمعه إلى ذاته جمعاً مُعمَّقاً بالحسِّ والفَهم والإدراك ، فإذا هو كلُّه تعبير عن ملحمة قائمة بذاتها ، صمَّم لها التصميم المُنبثق مِن واقعٍ إنسانيٍّ عاشه وعاناه وغرق فيه ـ إنَّ الملحمة التي

١٥٢

قدَّمها على خشبة المسرح في كربلاء ، هي الصنيع الملحميِّ الكبير ، ما أظنُّ هوميروس تمكَّن مِن تجميع مثله في إلياذته الشهيرة ، هنالك أبطال اعتلوا الجوَّ خشبة لعبوا عليها ، وهنا بطولة واحدة أتمَّت ذاتها بذاتها ، فَذَّة في مَسراها ، ومُصمِّمة في عزمها ، وإنسانيَّة في قضيَّتها ، وواضحة في أهدافها ، وحقيقية في عرضها المُشاهد ، وهي ـ بالوقت ذاته ـ مُركَّزة على ملحمة أُخرى أصيلة ، هي التي قدَّمها جَدُّه العظيم ونفَّذها فوق الأرض وتحت السماء ، فإذا هي ملحمة تنتصر بالإنسان فوق أرض الإنسان وتحت سماء الإنسان ، لا خيال فيها ، بلْ واقع إنسانيٌّ مَحض ، لحمت الأُمَّة وعجنتها بعضها ببعض ، في مُدَّة مِن الوقت لم تتجاوز عشرين يوماً ، مِن أوَّل خُطوة خرج بها مِن مَكَّة ، إلى آخر خُطوة خرَّ بها صريعاً في كربلاء العطشى وهي ضِفَّة مِن ضِفاف الفرات.

هل يجوز لنا وقد رافقنا الحسين سِتَّاً وخمسين سنة وهي كلُّ عُمره ، أنْ لا نقفو خُطاه في البقيَّة الباقية مِن أيَّامه بيننا على وجه الأرض ، وهي بقيَّة محفورة الخُطوات ، مَشاها على فترة عشرين يوماً ، فإذا هي نقش مُطرَّز بالدم ، ولكنَّه مُطيَّب بعبير البطولة القاصدة تحديد معنى البطولات في دنيا الإنسان ، فلنُرافقه ـ إذاً ـ مِن مَكَّة إلى كربلاء ، ولنكُن ـ على الأقل ـ مُشاهدين نمتصُّ عريناً ، ونمتصُّ التخاذل فينا ، ونمتصُّ شَذا البطولة وهي تدعونا إلى كلِّ إباء يجمعنا إلى حقيقة الذات ـ ذاتنا الاجتماعيَّة ـ يا للغبطة! الحسين وهو يُحقِّق ذاته فينا.

ـ ١ ـ

لا شكَّ أنَّنا الآن مِن المُشاهدين الذين لهم تألَّفت الملحمة التي صاغها الحسين ، وكانت كربلاء خشبة مسرحها ، ليس المُشاهدون زُمرة مؤلَّفة مِن عبيد الله بن زياد والي البصرة والكوفة في الوقت الحاضر ، ولا مِن عمرو بن سعيد بن العاص والي الحِجاز ، ولا مِن الحصين بن تميم ، والحُرِّ بن يزيد التميمي ، أو مِن عمر بن سعد بن

١٥٣

أبي وقَّاص ، الذي قابل ـ أخيراً ـ الحسين بثلاثين ألفاً نزلوا كربلاء وحزُّوا عُنق البطل! لا ، وليسوا أزلام يزيد ، وأزلام ابن زياد ، وليسوا القبائل الذين كان يُمثِّلهم سليمان ابن صرد الخزاعي مع رؤساء الأخماس المُوزَّعين في البصرة ، إنَّ المُشاهدين ـ ونحن منهم الآن ـ هُمْ كلُّ هؤلاء الذين سمَيثلون أمام خشبة المسرح المُسمَّاة بكربلاء ، بارتباط وثيق وممدود إلى خارج البصرة والكوفة ، إلى الشام ومصر ، واليمن وكلِّ أرجاء الحِجاز ، إلى كلِّ نَسمة أو نأمة تُمثِّل الأُمَّة التي تعب على رصِّها ومزجها ، وإخراجها وليِّها المُسمَّى محمداً جَدَّ الحسين ... إنَّ الأُمَّة جمعاء هي التي قصد الحسين اعتبارها قِبلته الكُبرى ، وهي الأحقُّ في الاستماع إليه يُرشدها ويُقدِّم لها الولاء ممهوراً بجُهد الروح ، ومشفوعاً ببذل الدم.

ـ ٢ ـ

وخطوط القوافل ، إنَّها مُمتدَّة مِن مَكَّة إلى العراق والشام عِبْر الصحراء ، ولقد أُنشئت فيها مَحطَّات تضبط السير مِن الضياع ، وتكون في الوقت ذاته أمكنة يرتاح فيها المُسافرون ، حتَّى يتمكَّنوا مِن مُتابعة الرحلة الطويلة والشاقَّة. إنَّها عديدة ، أمَّا المشهور منها فهو مُرتَّب هكذا مِن مَكَّة إلى البصرة والكوفة وأرض الشام : التنعيم ، الصفاح ، وادي العقيق ، الحاجر مِن بطن الرُّمَّة ، ماء العرب ، واقصة ، الخُزيميَّة ، الثعلبيَّة ، زُبالة ، بطن العقبة ، شراف ، التعذيب ، الهجانات ، كربلاء.

أخذت قافلة الحسين الطريق مِن مَكُّة وبقيت تخطُّ حتَّى توقَّفت في كربلاء ، مِن عشرين ذي الحَجَّة مِن السنة الحادية والستِّين هجريَّة ، وتوقَّفت في كربلاء في اليوم الأوَّل أو الثاني مِن الشهر التالي مُحرَّم ، إنَّنا الآن نُرافقه كمُشاهدين ومُصغين ، إنَّ في المُشاهدة عِبرة سخيَّة ، ولكنَّ الإصغاء إليه في المُناسبات اللجوجة كان وفير التأمُّل ، لأنَّه كان تظهيراً أصيلاً لكلِّ ما في نفسه مِن لواعج ، ولك ما في رؤياه مِن مدى وصدى.

١٥٤

ـ ٣ ـ

أدرك الحسين ـ وهو لا يزال في المَحطَّة الأُولى ـ التنعيم عبد الله بن عمر ، فلنُصغ إلى هذا النوع مِن الحوار ، الذي دار بين الاثنين في مُخيَّم الحسين.

عبد الله : ـ يا سبط الرسول ، ما كدت أعرف أنَّك تركت مَكَّة حتَّى هببتُ ألحق بك. حمداً لله ، إنِّي توقَّفت ولمَّا تقطع بعد أكثر مِن المحطَّة الأُولى مِن الطريق.

الحسين : ـ ألا تراني أُرحِّب بك ، هات ما عندك.

عبد الله : ـ ما أكرمك! تكسر قليلاً مِن شوقي ـ يا ابن علي ـ لقد رأيت جَدَّك الرسول يكشف عن سِرَّتك وأنت طفل ، ويُقبِّلك بها وهو مُغمض العينين ، ألا تكشف لي سِرَّتك ولو كنت لم تفعل ذلك مُنذ أكثر مِن خمسين سنة؟

الحسين : ـ لقد ذكرتني ـ يا رجل ـ بنعيمي الذي حكت منه ثوب أحلامي ، فها أنِّي أمامك على ظهري ، ولن أتحرَّك ولو ضربتني بألف خَنجر.

وانحنى ابن عمر يُقبِّل سِرَّة الحسين ثلاثاً ، وفي كلِّ واحدة منها كان يبدو وكأنَّه ينتهل مِن الكوثر ، ثمَّ نهض وهو يشكر ويقول :

عبد الله : ـ أتُريدني أشكرك على نعمة أُسبغت عليَّ ـ يا ابن بنت الرسول ـ؟ ولكنْ ... هل تُصغي إلى رجاء لي؟

الحسين : ـ اجلس وأفصِح يا ابن عمر.

عبد الله : ـ أيُّ إفصاح لي وأنا استعطفك بالرجوع إلى محارم الكعبة؟! ألا تسمعني أقول لك : إنَّ نجاتك مِن القتل؟! لا يشفع فيها واحد بألآلف إنْ تابعت طريقك!!!

الحسين : ـ إنَّ خمسين سنة مَرَّت علينا بعد ابن الخطَّاب قد صاغت قَدَري ، فلا تحزن عليَّ يا ابن عمر!!! رعاك الله مِن مُشفق تأخَّر كثيراً إشفاقه.

١٥٥

ونهض الحسين يتمشَّى تحت بِلاس الخيمة ، فهم ابن عمر أنَّه المصدوم برجائه ، فقام حزيناً وانسحب ، بينما كان يدخل بوَّابه أسعد الهجرى.

الهجري : ـ يحيى أخو عمرو بن سعيد!

الحسين : ـ أيُلاحقُني أمير الحِجاز بعد أنْ تركت له الحجاز وكلَّ أهل الحِجاز؟! ألا خَسىء الرجل ، وخسىء مروان بن الحَكم والوليد بن عتبة!! أدخله يا أسعد ولا تَخف عليَّ.

بعد قليل كان أخو الوالي في حضرة الحسين على بوَّابة المُخيَّم ، فعاجله الحسين قبل أنْ يرمي عليه السلام :

الحسين : ـ مِن قِبَل الأمير ، أليس كذلك؟

يحيى : ـ أجل ، أخي عمرو ، وهو أمير الحِجاز كما تعلم ، يعتب عليك لا تودِّعه قبل أنْ ترحل.

الحسين : ـ طرق القوافل مفتوحة ، قُلْ للأمير يا أخا الأمير : فمتى كان على مُسافر أنْ يودِّع الأمير؟

يحيى : ـ ولكنَّ الحسين يعلم ـ كما يعلم عبد الله بن الزبير ـ أنَّ المُبايعة للخليفة يزيد هي التي تفكُّ مِن المُراقبة والمُلاحقة.

الحسين : ـ قُلْ للأمير : أنْ لا شيء يحجزني في أرض أُريد أنْ أتركها إلى حيث يطيب لي.

يحيى : ـ إنَّه عصيان على ما يبدو ، سريعاً ما سأُبلِغ الأمير ، نحن على خيل لا تُلحَق ، غداً أو بعد غدٍ يكون لنا ما نتدبَّر به أمرك.

لم يجهد الحسين نفسه بالجواب ، بلْ تبسَّم وأرتدَّ إلى الداخل ، ولم يَعُدْ يرى كيف انصرف الرجل ، إلاَّ أنَّه أمر سريعاً بالرحيل ، وقبل أنْ يبلغ المَحطَّة كان قد لحق به

١٥٦

ابنا عبد الله بن جعفر ـ عون ومحمد ـ فنزلا معه في الصفاح ، حيث دار الحوار التالي :

الحسين : ـ وما عند ابني العَمِّ عون ومحمد؟

عون : ـ لقد هلع أبي عليك ـ يا عَمُّ ـ لا سِيَّما وقد عرف أنَّ الأمير ابن العاص قد أرسل في أثرك أخاه سعيداً ، فقصده وبقي يُلحُّ عليه حتَّى استحصل على أمان لك تعود به إلى مَكَّة ، وهذا هو صَكُّ الأمان.

الحسين : ـ لا أمان لنا يا عون في ظِلِّ بني حرب ، الأُمَّة كلُّها ـ يا ابن العم ـ تضيع عن التلقُّط بحبال أمنها!!!

محمد : ـ ولكنَّ الكتاب بين يدينا يا عَمُّ.

الحسين : ـ إنَّها كذبة قِرد ـ يا محمد ـ ألم يُخبرك أبوك ـ عبد الله بن جعفر ـ أنَّ صكوك الأمان قد بُدئ بتمزيقها مُنذ العهد الأوَّل على يدي أبي بكر؟!! فيكف نُصدِّق أماناً يُقهقه به قرد جديد في عهد يزيد؟ ارجعا وفتِّشا عن أمان آخر ـ يا حبيبيَّ ـ علَّني سأشتريه لكما مِن يَقظة جديدة مزروعة في دمي الأحمر!!!

عون : ـ وما تقصد يا عمَّاه؟!

الحسين : ـ ألا تخاف إنْ فسَّرت لك؟

عون : ـ ولكنِّي أخاف أنْ لا أراك يا عمُّ!! لقد التقينا مُنذ ساعة بشاعرنا الفرزدق ذاهباً إلى الحَجِّ ، سألناه عن الناس في العراق تجاهك ، فأجاب : قلوب الناس معك ـ يا عمُّ ـ وأسيافهم عليك!!!

الحسين : ـ أتظنُّني لا أعرف ذلك؟!

عون : ـ وكيف تذهب إليهم؟!

الحسين : ـ حتَّى أبلوهم بالحقِّ ، حتَّى أستشهدهم على نفوسهم

١٥٧

الضائعة بين الصدق والكذب ، حتَّى أُوكِّد لهم أنَّ الوعي لا يذلُّ وأنَّ الذِّلَّ لا يعى ، حتَّى أُرشدهم إلى حقيقة هاجعة فيهم يجلونها بالصدق ، والإباء وعِزَّة النفس. إنَّها القيمة التي يعيش بها الإنسان الصحيح الكريم ، وهي التي تبني المُجتمع الصحيح بقلبه وعقله وعفافه ، حتَّى أُبيِّن لهم أنَّ الحاكم الذي يرهب الناس ويشتريهم ، هو ذاته الذي يجعلهم أبقاراً تحلب وقطعاناً تسمن ، إنَّ الحليب والدسم ليُهرق فوق موائد الأمير!!!

محمد : ـ وكيف يُمكنك ـ يا عمُّ ـ أنْ تُفهمهم ذلك؟

الحسين : ـ أُقدِّم لهم القُدوة ، أُعلِّمهم كيف يكون الرفض يشترون به صَكَّ الأمان ، لو أنَّ الأُمَّة تعلمت الرفض ـ يا محمد ـ لما كان ليزيد بين يديها رقصة تهريج مع دَنٍّ ودَفٍّ ووترٍ!!!

محمد : ـ وكيف تُقابله وهو لابس هكذا نعله؟

الحسين : ـ سأُقابله بالرفض ، وسأُمكِّنه مِن الرقص على بدني حتَّى ترى الأُمَّة ـ بأُمِّ العين ـ أنَّ ثأرها لي هو الذي يُحييني فيها رافضة ـ فيما بعد ـ تسليم حاكمها حينما يُذلِّلها به!! فليكن إيمانك بالأُمَّة يا ابني ، وليكن لي أنْ أُريها أنَّ الحقَّ يبنيها ، وأنَّ العُنفوان يحميها ويُزهيها.

ما توصَّل الحسين إلى مثل هذه الحرارة في البحث ، حتَّى سكت كأنَّه المُنهك ، ثمَّ نهض مِن مكانه وخرج يستكشف وطأة الليل في الخارج ، بعد لحظات لحق به عون ومحمد ، فاستفهم الحسين :

الحسين : ـ أتعودان الآن إلى مَكَّة؟

عون : ـ أبداً ـ يا عَمُّ ـ ها أنَّنا نُمزِّق تحت قدميك كتاب أمان

١٥٨

عمرو بن سعيد ، ولن نترُكك وحدك في مُواجهة القَدر!!!

بينما كان الحسين يُراقب الورقة المفتوتة كيف راحت تَجثم بين قدميه ، كان يتناول بين ذِراعيه الرجلين ويلفُّهما بجُبَّته الوسيعة!!! مع الصباح قطعت القافلة وادي العقيق ، وتجاوزتها إلى الحاجز مِن بطن الرُّمَّة.

ـ ٥ ـ

توقَّف الحسين قليلاً في هذه المَحطَّة ، لتحضير كُتبٍ وإرسالها بسرعة إلى البصرة ، ولقد استدعى إليه قيس بن مُسهر الصيداوي ، وهو مُرافق لهم في القافلة التي لا يتجاوز عددها مِئة وثمانين نفراً بما فيهم النساء والأبناء والأخصَّاء ، لقد دار الحوار بالشكل التالي :

الحسين : ـ إنِّي أُدرك ـ تماماً ـ أنَّ المُهمَّة صعبة يا قيس ، ولكنَّك أنت الأصلب ، تعهَّدها ، هذه رسائل اجتهد في الحِرص عليها ، وإيصالها إلى سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد ، معناها ؛ حتَّى يكونوا على علم بقُدومنا تتميماً لكلِّ ما مهَّد له مسلم بن عقيل.

قيس : ـ سأسلُك أقرب الطُّرق ، وسأكون ـ يا سيِّدي ـ مِن نوع الثعالب في التخفِّي والظهور ، أليست الحالة تقضي مثل ذلك؟!

الحسين : ـ صدقت ، وأرجو أنْ لا يكون قد وصل إلى يزيد خبر تَرْكي مَكَّة إلى البصرة ، ولكنَّ أمير الحِجاز ثعلب آخر يا قيس ، وليس أخوه يحيى أقلَّ مِن قِرد على ظهر برذون ، عليك أنْ تتحسَّب كثيراً ـ ياقيس ـ أتوقَّع أنَّ ما مِن مَخرم

١٥٩

مِن مَخارم الدروب إلاَّ وأصبح ليزيد عين عليها ، فماذا تُراك تصنع بالكتب معك إذا وقعت بمصيدة؟!

قيس : ـ لا تَخَفْ يا سيِّدي ، أُمزِّقها وأزدردها ، ولنْ أعدم وسيلة أبلغ بها البصرة ، إنِّي كنت رسولك إليهم فيتمُّ لنا بذلك إبلاغ الغرض.

الحسين : ـ تزوَّد بالحقِّ وامشٍ يا قيس ، وانتظرني ألحِق بك ، ألا ترانا أبداً على موعد؟!!

التفت إليه قيس وقد التهبت حَدقتاه بما لا يُفسَّر أنَّه حِلم أو عزم ، أو وحي مِن قرار ، ولكنَّه سريعاً ما انسحب وامتطى الليل كأنَّه الخفَّاش ، ولكنَّه عَلِمَ في ما بعد أنَّ ما توقَّعه الحسين كان ترجمة صحيحة لما قد حصل ، فأمير الحجاز ما وجَّه أخاه في أثر الحسين وأدركه في المُحطَّة الأُولى مِن الطريق (التنعيم) ألاَ وكان قد وجَّه رسولاً آخر خطف الطريق خطفاً إلى يزيد في الشام ، يُطلعه على ما حصل ، وفي الساعة ذاتها كان صاحب الشرطة عند يزيد ـ الحُصين بن تميم ـ يربط الخطوط بالمُراقبة : مِن القادسية ، إلى خَفَّان ، إلى القطقطانة ، إلى جبل لَعْلَع ، وكلُّها مراكز ومحطَّات لابُدَّ للمُتوجِّهين صوب العراق والشام أنْ يمرُّوا بها ، ولقد خدع الناس على هذه الخُطوط برجال شرطة يزيد ، وظنُّوهم طلائع جيش يخصُّ الحسين ، لأنَّ شائعات ـ ولو مُتكتِّمة ـ كانت تتردَّد هنا وهناك بأنَّ الحسين سيُبايع له ، أمَّا حامل الكُتب قيس فإنَّه لم ينج مِن خيوط الشراك ، فمزَّق الكُتب وازدرَدَهَا قبل أنْ يُساق إلى والي الكوفة عبيد اللّه بن زياد ، الذي أمره ـ حتَّى ينجو ـ بأنْ يعتلي منبراً في الكوفة ويَلعن مِن فوقه الحسين ، فأطاع قيس ، ولكنَّه هتف بصوته المُرعد مِن فوق المنبر بلعن يزيد وابن زياد ، ولمَّا رُمي مِن فوق السطح وتحطَّم رأسه ، كان الخبر قد دخل كلَّ بيت مِن بيوت الكوفة ، وهكذا تمَّ تمزيق الكُتب ، ولكنَّ التكهُّن بأنَّ الحسين قريب مِن الأبواب كان حِصَّة الألبَّاء.

١٦٠