الإمام الحسين في حلّة البرفير

سليمان كتّاني

الإمام الحسين في حلّة البرفير

المؤلف:

سليمان كتّاني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٦

في أُسلوبها العتيق الهزيل ، وعادوا بها إلى مَلَكيَّة سيف بن ذي يزن ، أوْ عرش قَبليٍّ مهزوز القوائم لامرئ القيس ... أمَّا أنْ يقتل مُعاوية أخي الحسن؟ فبأيِّ حَقٍّ يحصل التعدِّي على أرواح الناس وأجسادهم ، وهُمْ الذين اشتراهم جَدِّي لجِنان الملكوت ، وصانهم أبي عليٌّ بالعدل والحَقِّ ، والرحمة والمُساواة ، وزيَّنهم بالصدق ، والطهر ونظافة الكَفِّ ، مِن دون أنْ يطمع برغيف لم تخبزه له فاطمة ، وقد عجنته مِن طحين سَحَقَ ـ هو ـ حبَّات شعيره على رَحى يُديرها بساعده الأيمن ويلقمها حبَّات الشعير بالأيسر؟؟؟

الوليد : ـ يا ابن بنت الرسول ، قد تكون أنَّك أفحمتني ، ولكنَّني أتوسَّل إليك ـ قبل أنْ أُغادر دارك ـ أنْ تُبايع ، وأرجو أنْ تُصلح مُبايعتك يزيد ، فتتضاءل الشبهات فيه ، وتُوفِّر هناءة لأهلك ، وتَحقن دم الأُمَّة ، كما فعل أخوك الحسن ، وليس للغَد إلاَّ أنْ يقول لك : هنيئاً لك الذكر الحَسن ، يا أخا الحسن ...

الحسين : ـ أمهلني إلى الغَد ـ يا ابن عتبة ـ ستعرف أنِّي بنيت قراراً تتفيَّأ به أُمَّتي وأُمَّة جَدِّي وأبي وأُمِّي وأخي الحسن ، سوف أُقدم على نوعٍ مِن مُبايعة يبهر عينيك ، وسوف لا أجبن عن بذل الذات في سبيل أُمَّتي هذه التي سأُفجِّر دمي حقناً لدمها ، حتَّى تبقى ملمومة إلى سَلالم المَجد ، ألم يتفانَ جَدِّي ، وأبي وأُمِّي وأخي ، في سبيلها؟ فأيُّ شيء لي ـ بعد الآن ـ لا أسكبه قطرةً قطرةً مِن دمي في الإبريق الذي تشرب منه ريَّها؟؟؟ اطمئنَّ ـ أيُّها الوالي ـ ورعاك جَدِّي! أنَّه رَبُّ السماط.

خرج الوليد بن عتبة بن أبي سفيان مِن دار الحسين ، وبعد خمس دقائق بالضبط ، كانت القافلة الصغيرة تَغذُّ في السير بثوب الليل ، وبعد خمسة أيَّام نزل الركب في مَحارم الكعبة ، ليكون للحسين قدر آخر بناه في سِرِّه ، وسيكون له إعلان عنه في الغَد القريب!!

١٢١

ـ ٥ ـ

لم يكن عجباً أنْ لا يُدرك الوليد بن عُتبة مرحلة واحدة مِن مراحل البُعد ، التي ساح فيها الحسين ، لقد كانت سياحات الحسين وليدة مُعاناة غزيرة تعمَّقت نفسه وتلوَّنت بها مِن حِسٍّ إلى حِسٍّ ، ومِن إدراكٍ إلى إدراكٍ ، أنَّى لابن عُتبة أنْ يسبر غوراً مِن أغوارها ، وإنْ يكن جاراً له في المكان والزمان ، يكفي أنَّ نفسيَّة ابن عُتبة إنَّما هي منسوجة على نول سفيانيٍّ ، لا يطمع في الدنيا إلاَّ أنْ يسلبها سلباً ، لا سِيَّما إذا وقعت في عِبٍّ ينتمي إلى جُبٍّ طالبيٍّ. لقد كان الحِقد حَدَّاً تاريخيَّاً فاصلاً بين هذين البيتين ، القريبين والشهيرين في أصلاب الجزيرة ، ولم يتوفَّق حتَّى الرسول الكريم ـ المُرتبط الانتماء بهما ـ أنْ يمحوه ويُخفي أثره مِن النفوس ، لا بالرسالة والتبشير ، ولا بالقُدرة التي كانت تسنح بها الظروف في المُناسبات العديدة ، مُنذ فتح مَكَّة الذي تحكَّمت فيه الأصنام ، وتمَّ الصُّلح والوئام بين جميع الفرقاء والأخصام ، ولا حتَّى في المُناسبة التاريخيَّة الثانية في الصُّلح الكريم الأبيض ، الذي وقَّع مُعاهدته مع مُعاوية الإمام الحسن.

أقول : لم يكشف الوالي ابن عتبة مغزى القول ، الذي تفوَّه به الحسين أمامه في تلك المُقابلة الخاطفة ؛ لأنَّ قول الحسين كان تعبيراً عن مُعاناة لم يكن للوالي أنْ يُعاني مثلها لا نوعاً ، ولا عُمقاً ، ولا لوناً. أمَّا أنْ يطلب منه تقديم المُبايعة ليزيد ، فذلك نصحٌ منه وتكرُّمٌ في إنالته حرزاً يقيه مِن العطب ، وكان يُدرك تمام الإدراك أنَّ ليس في مقدور الحسين أنْ يُقاوم ؛ لأنَّ سيطرة يزيد هي الفاعلة فوق الأرض ، مِن الشام ، إلى العراق ، إلى الجزيرة حتَّى مصر ، ولا يزال مَجْدُ مُعاوية ناشراً هيمنته على الساحات ، والدليل على ذلك هو تهديد العصيان بضرب العُنق ، قد يكون الوالي ابن عتبة متحلِّياً بخَلجة ما مِن عريكة طيِّبة ، علَّل الحسين بها حتَّى يُبايع ، ولكنَّ اتِّكاله كان على واقع الحال ، الذي يُجبر الحسين على المُبايعة مِن دون اللجوء إلى عُنف يستغني عن افتعاله ، لهذا سمع الحسين يتلفَّظ بمُبايعة فصدَّقها دون أنْ يُفصِّل منها معنى آخر يتلاعب به الرمز ، كما وأنَّ هذا النوع مِن الرجال السطحيِّين أو

١٢٢

البليدين في معرض الفَهم ، ويزيد بالذات كان على رأسهم في حقيقة الحُكم وحقيقة التمثيل ، كان في ثقل المُعاناة المُلقية أوزارها على نفسيَّة الحسين.

كان الحسين في تمام الاقتناع أنَّه المغلوب على أمره ، مَهْما يُحاول مِن حَشد قوى يُنازل بها يزيد. منذ زمن طويل والساحات الشعبيَّة العريضة مُموَّهة عن خطوطها الصريحة ، ولكنَّه توصَّل اليوم إلى أبهى ما تتوصَّل إليه المعرفة ، وأعمق ما يُدركه الوجدان ، وأثبت ما يتوصَّل إلى تركيزه واقع علم الاجتماع ، هو أنَّ مُجتمع الإنسان لا تنفكُّ تشدُّ به إلى درك غرائز منوَّعة الأشكال والألوان ، في حين يُقيِّض له الله بعض أفراد ينبرون منه ، وهُمْ مُميَّزون بشُّعلات دافقة مِن الفِكر والروح ، يشدُّون حِقْويه للارتفاع إلى مُستوى آخر ، ينتصر به في مجال تحقيق إنسانيَّته المُفتِّشة ـ أبداً ـ عن مَثل تتدرَّج بها في حقول الارتقاء ، مِن هؤلاء الأفراد المُفرزين مِن خصائص مُجتمع الإنسان المُشتاق ـ أبداً ـ إلى اكتشاف ذاته في حنينه المزروع فيه إلى الأسمى والأنقى والأبهى ، هُمْ العلماء والمُفكِّرون ، والفلاسفة والمُصلحون ، والرُّسل والأنبياء الكشَّافون عن عوالم الروح ، وكلُّهم درجات درجات في المُجتمع الإنسانيِّ ، المزروع في أُمَم مُنتشرة على سطح الأرض. إنَّهم هُمْ الذين يتضافرون في التقديم المُثمر ، الذي يتخمَّر به كلُّ مُجتمع على قدر طاقته مِن الأخذ المُستمرِّ ، وكلُّ ذلك في عمليَّة دائمة الصراع ، لا يتأخَّر عنها إلاَّ المُجتمع الذي ينوخ عليه الفتور ، أو الكَسل ، أو المَلل ، ليكون عِقابه التردِّي ، والتنكُّب والانحطاط ، إلى أنْ يعود إلى غَرْفه الأصيل مِن المَعْن التي هي في وجود تُراثه الإنساني ، الذي تحتفظ له به الحياة. أمَّا المُجتمع الحيُّ الدؤوب ، فهو لا يتعب مِن الغَرف ، لا بلْ إنَّ المُتحوِّل ـ بحَدِّ ذاته ـ إلى مَعين مَلآن ، تَغرف منه المُجتمعات الأُخرى ، ليكون قدوة ومثالاً لها في العَطاء الإنساني الكريم ، الذي هو ذخر السماء في إنسان الأرض.

ليت شعري! راح يقول الحسين في ذاته ـ وهو في مِثل هذه الذروة مِن التفكير المُتأنِّي ـ : ألم يحُلم جَدِّي الكريم الواسع الخيال ، والبعيد الأُفق خَلف كلِّ منال؟ سأجعل منك أكرم وأعزَّ أُمَّة على وجه الأرض ... وستكونون الأُمَّة التي أُفاخر بها كلَّ الأُمَم؟ ويتمادى الحسين في التصعيد : لقد ملأ جَدِّي الخزائن التي ستغرف منها

١٢٣

الأُمَم الأُخرى ، وأنَّها ليست خزائن زاد ليوم واحد ، بلْ إنَّها خزائن للأجيال الآتية ، تأخذ منها أُمَم الأرض ما يجعلها قويمة في مسيرتها الإنسانيَّة ، ومُتنعِّمة في جِنان الحَقِّ. أمَّا أُمَّته التي أنجبته مِن خاصرتها الكريمة ، فستبقى فخورة بانتسابه إليها ، وسيبقى مَعاذها وهي تنتسب إليه ، تتناول زادها مِن خزائنه كلَّما مدَّت أصابعها إليها.

عظيم هو جَدِّي ـ يُتابع الحسين تأمُّلاته ـ لقد قام بمُهمَّته الجليلة ورحل! ولم تكن مُهمَّته ـ قبل أنْ يرحل ـ انتصار بني طالب على بني حرب ، في معركة قبليَّة يقصف فيها سيف ، بينما يزهو الآخر لأنَّه مرويٌّ بالدم ، بلْ إنَّها كانت مُهمَّة انتصار قضيَّة مِن قضايا الوجود ، في معركة إنسانيَّة لا تنتهي إلاّ بانخساف الأرض مِن مدارها ، وهبوط الشمس في عُتمة الانطفاء ، لقد كانت الأُمَّة ميدانه الأبعد والأخلد ، في المعركة التي انتصر بها وتركها مفتوحة تُعالج الأُمَّة فيها أُمورها الحياتيَّة ، وتنتصر على كلِّ ما يعترض سبيلها مِن مخاوف ، ومخازي ، وهبوط في حُفر يُعمِّقها المرض ، والوهن والوهم الأعور. لقد ترك المعركة ورحل ، وهل كان مِن المُمكن أنْ يبقى ولا يرحل ، حتَّى يُبعد عن الأُمَّة وقوعها في زَيغ لا بُدَّ أنْ يحصل؟ ولكنَّ المُستحيل هذا هو المُتدارك ، فالقضيَّة ملفوفة بدستورها ، تعود إليه الأُمَّة تستجْلي منه كيفيَّة بعثها وارتدادها إلى حقيقة التصويب ، وهذه هي روعة القضيَّة المُتكاملة ببنودها العقليَّة ، الروحيَّة ، الإنسانيَّة ، الحياتيَّة ، المُتكافئة في الميزان ، سيرحل النبي ـ والحالة هذه ـ ولقد رحل ، والقضيَّة هي ذاتها ، ينتصر بها وفيها ، وإنْ يكن قد غاب لأنَّها هي وحدها عنصر البقاء.

كلُّ واحد بدوره مِن أهل البيت تناول الرسالة ، وبنى منها قضيَّة ما كانت إلاَّ فرعاً منها ، وهكذا رحل كلُّ واحد منهم وهو لا يزال باقياً تلتجئ إليه الأُمَّة ، لتأخذ منه حَيطة تستعيض بها في مَكمن الضعف الذي أصابها أو يُصيبها ، كأنْ تَشعر أنَّ تنكُّبها عن الأخذ بالعدل والمُساواة ، أو النزاهة والصدق ، أو العِفَّة والبراءة راح يُنقص مِن قيمتها ويُعرِّضها لبعض الارتجاجات. فعلاً كما حصل في عهد عثمان بن عفَّان ، وكما راح يحصل في عهد مُعاوية بن أبي سفيان فتتذكَّر عُليَّها المُستقلَّ بجلالته ، وتأخذ مِن

١٢٤

مبادئه في القضيَّة مرهماً لجروح فيها بدأت تنزف ، وهكذا ستجري الأُمور برجوع الأُمَّة إلى أخيه الحسن ، كلما تعرَّضت في أيَّامها الصاعدة إلى فتنة برصاء ، فسَّخ صدرها مِن ضلوعه ، فتلجأ إليه وتأخذ منه مَرهماً يلحم بَوعها برُسْغها ويُنجيها مِن الانفراط.

لقد وصل الحسين إلى ذاته ، وراح يستعرض طول رمحه في المعركة التي يُناجزه ـ الآن ـ فيها رجل اسمه يزيد ، لقد وجد الساحة التي يطلبه إليها المُصارع الآخر أضيق مِن خَربة ساقط سقفها ، يتناحر ضِمن حيطانها ضبَّان مشهوران بذَنَب كثير العُقد ، على أُنثى أبلد ما فيها أنها مِن قبيلة الضبَّان ، إنَّها كرسيُّ الخلافة في الشِّبه الحاضر ، لقد شغفت الأُمَّة بها مُنذ نصف قَرن ، على أنْ لا تتركها إلاَّ وكلُّ إصبعٍ مِن أصابع كفِّها تنشب ظِفراً فيها وتزرع وشمَاً على قوائمها ، إنَّه وشَم القبليَّة التي راحت تتلاعب بالقضيَّة ، كأنَّها الأنقى بين ضبَّين! هل يجوز للأُمَّة المبنيَّة مِن جديد أنْ تتغافل عن اقتناص حَظٍّ مِن حظوظها النادرة ، فتتلهَّى بالقشور عن التلقُّط باللباب ، وهو ليس كرسيَّ خلافةٍ بلْ جوهر خلافة موكولة بالإحاطة به إمامة مُشتقَّة مِن ضلوع الجوهر! ألا بِئْسَت كرسيٌّ يُجرِّدها مِن معناها ضَبٌّ مِن هنا وضَبٌّ مِن هناك ، وكلٌّ منهما دخيل عليها على مرأى الأصيل!!

ولكنَّ انفتاح الحسين على الأُفق الآخر مِن نفسه ، وهو المُطلُّ به الآن على ساحة الصراع الكُبرى ، أوقفته رهيباً في فُسحة المجال ، لتقول له : إنَّها الأُمَّة وكلُّ المجالات منشورة أمامها ، وهي التي يُعلِّمها الحَقُّ كيف تُميِّز بين خَطٍّ وخَطٍّ مِن مَفارق دروبها. لقد قدَّم لها الحَقَّ جَدُّك العظيم وهي تأخذ منه زمام أُمورها ، وقدم لها أبوك صراطاً تسلكه مُستقيماً إلى هذا الحَقِّ تُركِّز به وجودها ، وقدَّم لها أخوك لوناً آخر تُعزِّز به أوصالها في معركته الحياتيَّة ، أمَّا أنت فقدِّم لها ما تراه ضعيفاً في حِزامها ، فتتدارك به سقوطها تحت حوافر الميدان ، واعلم تماماً ـ يا حسين ـ أنَّ معركتك الطويلة ليست ـ أبداً ـ ضِمن حيطان خَربة مِن الخرائب ، بلْ في الميدان الأكبر الذي لا ينتهي فيه الصراع ، بلْ يشتدُّ فيه الصراع في حِضن الحياة الأوسع ، وأنَّه الميدان البِكر الذي

١٢٥

امتصَّ عِرْق جَدِّك وأبيك ، وأُمِّك وأخيك ، فهل تراه بعد الآن لا يُشوِّقه أنْ يمتصَّ دمك!!!

ـ ٦ ـ

لست أظنُّها إلاَّ استحكمت حلقات المُعاناة في نفسيَّة الحسين ، على التحام بكلِّ مُعاناة قاساها جَدُّه الأكبر ، وهو يستجيب إلى كلِّ نداءات الحَقِّ ، ليصوغ منها الملحمة الرائعة التي ألَّف منها حقيقة الصراع في المضمار ، الذي تلجأ إليه كلُّ أُمَّة مِن أُمم الأرض ، مِن أجل استيفاء حقِّها الإنساني في الوجود. إنَّ أُمَّة جَدِّه هي المضمار الأساس في انطلاق المجاهيد ، وتركيزها حاجة لإنسانها النامي ، وسيكون للحسين أنْ يُتابع الخَطَّ في مسيرته المُعيَّنة ؛ ومِن أجل هذه الأُمَّة بالذات ؛ تلبية لكلِّ ما انتدبه جَدُّه للقيام به ، تحضيراً وتتميماً ، وبذلاً موصولاً بالعقل ، والنفس ، والضمير ، تمتصُّه الساحة وهي في مضمار صراعها في التحقيق ، دون أنْ توهى بشُحٍّ ونُضوب ، أيْ : إنَّ المطلوب هو تقديم البَذل مِن المَعدن النفيس المُشتقّ مِن الإيمان والقلب ، والصدق والحُجى. وهي كلُّها ثروات تُعمِّر بها جيوب النفس في الإنسان ، وهي التي تخلد بها إنسانيَّة الإنسان ، وذلك هو التراث الذي تستمرُّ به ـ غنية ـ كل أُمَّة يلفحها مثل هذا الكرم ، مِن مثل هذا المَعدن المِغزار.

لقد أوصلت المُعاناة الحسين إلى إدراك حقيقته الإنسانيَّة العظيمة ، بأنَّها مُشتقَّة مِن الأُمَّة ومُتمادية بها ، وأنَّ الأُمَّة هي يوم حاضر مُعزَّز بطول الأمس ، ليكون لها ـ مِن هذا الأمس ـ وصلةً بالغَد الطويل الأغرِّ ، وأنَّ المُثل الكريمة هي التي وسَّعت عمرها كأُمَّة ، ومتَّنت جذورها في الماضي السحيق ، وأنَّها هي ذاتها المُثل التي تتولَّد مِن شوقها الحيِّ ، تُتابع بها صراعها مِن أجل الوصول إلى كلِّ غَدٍ وسيعٍ فيه عِزُّها وفَخرها ، وكان جَدُّه العظيم كلَّ تفتيشها المُشتاق عن تكثيف هذه المُثل ، والاستنجاد بها في تحقيقها الذاتي ، وهذه هي مادَّة الصراع ، تجده الأُمَّة في البذل النفيس يُقدِّمه لها نبيُّها مِمَّا غرفه مِن مَعدن الحَقِّ.

١٢٦

لقد علَّمه جَدُّه كيف يكون البذل الصادق مادَّة لا تنضب ، بلْ تزيد مع كلِّ يوم يشتدُّ فيه الأخذ منها ، والأخذ منها هو المُجدِّد والمولِّد في غزارتها والشاهد على طيب مذاقها ، وجودة حَدِّها في الصفاء ؛ مِن هنا يكون البذل وليد طاقات فِكريَّة ـ نفسيَّة ـ روحيَّة ، موجَّهة لمصلحة الأُمَّة ، ومُعبِّرة عن حاجاتها في واقع المُتطلَّبات المُلازمة لها ، والتي هي جديدها الدائم في سنة التقدم والتطوُّر ، وعدم القَبول بأيِّ عاملٍ مِن عوامل التنقيص ، مِن الزخم المُتدرِّج بها إلى المَراقي الزاخرة بعزم الحياة في الوجود الإنسانيَّ الكريم السمات.

والحقيقة أنَّ المُعاناة الطويلة التي اشتغلت بالحسين شُغلها الكبير ، قد وصلت به إلى هذه الحدود المُقرَّرة كيفيَّة التصرُّف ، ونوعيَّة المُبادرات الفرديَّة ، تتميماً للمُهمَّة الجليلة التي حدَّدت إطارها وتوجيهها ، وبروزها في كلِّ مجالات حياته ، إرادة جَدِّه المُنبثقة مِن إرادة شاملة ، وغير موصوفة إلاَّ بدلالاتها التي هي سمات غير مقروءة إلاَّ بإيحاءات ، تلقَّطت بها كلَّها جوارحه التي ما استراحت مليَّاً ، إلاَّ في استسلامها لكلِّ المفاعل التي فجَّر بها جَدُّه كلُّ تيَّارات فِكره ونفسه وروحه ، فإذا هو ـ أبداً ـ قطب مُمغنط بها ، ومُستكين إليها ، وحاضر الذهن لاستنباط كلِّ ما يُعزِّز ذِكره ومشيئته ، ويُتمِّم شوقه في إمداد الأُمَّة بكلِّ ما يرفع شأنها ، ويدفع بها إلى العِزَّة والكرامة ، لأنَّها هي الصندوق الفَخم الذي نبضت فيه رسالة حدَّدت الله في الإنسان.

ولم يتوانَ الحسين مُطلقاً عن الإدراك ، بأنَّ جَدَّه لا يستوعب ولا يستردُّ مِن غيابه إلاَّ في امتداده ـ هو الحسين ـ عِبر الإمامة الممدودة مِن أبيه إلى أخيه فإليه ، على أنْ تكون الخَطَّ الضابط والمُستوعب كلَّ هذه الأشواق ، التي انصبَّت ضماناً معصوماً مِن الضعف والوهن لصيانة الأُمَّة ، وهي الخزانة المجيدة لعُنفوان هذا الإنسان ، الذي احتكره النبي وشدَّه إلى صدره برسالة هي صُلبه وركيزته وعزمه الشبعان مِن الوجود. إنَّ الإمامة هذه هي كلُّ المقصد السَّنْيِّ في مفهوم الحسين ، وهي سِرُّ جَدِّه فيه ، وسِرُّه هو في جَدِّه ، وأنَّ أهل البيت هُمْ لُبُّ هذه الكينونة في كُنهها المحدود والمقصود.

١٢٧

أمَّا الأحداث التي استجدَّت في العصر ، مُنذ غياب النبي إلى هذه الساعة الراقصة بيزيد ، فإنَّما هي أمراس يرقص عليها صِبْيَة الأُمَّة ، يروِّضون بها أقدامهم في ساحات الملاعب ، لتكون لهم ـ في ما بعد ـ حبالاً متينة ، يُدْلون بها إدلاءهم إلى الآبار التي يكونون قد تعبوا بحَفرها ، ينشلون بها ريَّهم مِن الماء الذي يصلون إليه بعد أنْ يتذوَّقوه ، وإلاَّ فينبذونه إلى الأعمق أصفى وأذكى ، تلك هي الأحداث الأمراس في نظر الحسين ـ بعد كثير من التامل ـ لم يتعب مِن الرقص عليها أمام عيون المَلأ ، لا عمر بن الخطاب ، ولا أبو بكر الصدِّيق ، ولا عثمان بن عفَّان ، ولا مُعاوية ، ولا حتَّى أبوه وأخوه ، وأنَّ الدور واصل إليه الآن في مُناجزة يزيد ، إنَّها كلَّها أحداث في الساحة التي تختبر الأُمَّة فيها حقيقة شوقها ، وكيفيَّة إشعالها النار تحت القِدر تطهي فيه وجبات طعامها. أمَّا الرسالة ، فهي التي اجتهدت مليَّاً بتقديم القنوات القويمة والمُستنيرة بلفحات الشُّهب ، لتكون المَحكَّ الأصيل لكلِّ خُطوة تفتِّش عن حَظِّها في التصويب ، وتُعيدها التجربة إليه ، وستكون الرسالة المرجع الدائم للأُمَّة في المضمار ، الذي تطول ضلوعه ومساحاته فوق المكان إلى مالا يحدُّه زمان ، وسيكون معنى ذلك أنَّ اللاعبين هُمْ الذين تُشاهد الأُمَّة قفزهم على الأمراس : هل هو المِران العاقل الموصِل إلى جَدوى؟ أم أنَّه الصبيانيِّ الهوى ، الواقع توَّاً في الحُفر ، والموقعها في الجريرة العمياء؟! أمَّا الضعف فلابُدَّ أنْ ينكشف ، مِثلما لابُدَّ للصواب أنْ تتوضَّح معالمه ويتعمَّق حُفره ، وهكذا تتوصَّل الأُمَّة إلى ترجيح منهج على منهج في عمليَّة التجربة الطويلة ، التي هي وصلة صراع بصراع ، يأخذ بعضه بركاب بعضه الآخر ، فوق الساحة الفسيحة ، التي هي ميدان الأُمَّة في تفتيشها ـ أبداً ـ عن الأفضل والأسمى ، وهكذا تكتشف الأُمَّة أنَّ وجودها الحيَّ هو في وقوعها فوق أرض الميدان ، ثمَّ في نهوضها ـ وإنْ مُهشَّمة ـ إلى استئناف سيرها في التفتيش ، والتنقيب ، والإفادة مِن اقتناص العِبر.

ولقد تبيَّن للحسين أنَّ في الأخطاء ـ وإنْ تكُن مُتتالية ـ دروساً بليغة تُعلِّم الأُمَّة كيفيَّة احتمال شؤمها ، حتَّى يكون للتملُّص منها طَعم لذيذ التذوُّق ، ومشدود العافية ، وأنَّ الذين يسوسون الأُمَّة ويوقعونها في مثل هذا الوبال ، هُمْ الذين

١٢٨

يُعلِّمونها كيف تحزم أمرها تجاههم وهي تقول : إنَّ في الشَّرِّ خيراً عميماً لأُولي الألباب!!!

هل كان الحسين ـ وهو يستدرج في باله مثل هذه الخواطر ـ يُهيِّئ نفسه للنزول إلى المعركة التي وصف مضمارها : بأنَّه الأوسع والأسنى مِن أيِّ مضمار آخر ، تلعب الأُمَّة فيه لُعبة وجودها واستحقاقها ، وبلوغها كلَّ مَزْيَّة مِن مزايا الرُّشد؟ ولكنَّ الاستدراج هذا كان مُعزِّزا بكلِّ ما يلهب العَزم ، ويُحضره لخوض المعركة التي هي نوع مِن أنواع الملاحم. إنَّ الإمامة هي القاعدة التي ينطلق منها ، فهي الحِصن والملجأ ومجمع الذخيرة ، وهي السجلُّ الأصدق ، لأنَّها عِبُّ الرسالة ، ومَحض منها ، ومَخبأ مِن مخابئها ، وإرادة مكنونة في ضميرها ، وزَرد متين في دروعها ، ومجال حريز الصيانة للأُمَّة مِن تلاعب الأهواء في وحدتها ومصيرها ، إنَّها الخلافة الصحيحة لجَدِّه الذي لنْ تفرغ ساحات الصراع مِن التزوُّد مِن مضامين رسالته الحيَّة بوجود الإنسان ، ووجود الأُمَّة للإنسان.

هل يكون استعداد الحسين للنزول إلى ساحة الصراع نزولاً عسكريَّاً ، مُجهَّزاً بسيوف ورماح يقصف بها سيوفاً ورماحاً يُقابله بها خليفة مُعاوية وابنه يزيد؟ لم يظهر أنَّ الحسين قد تجهَّز بمثل هذا التجهيز ، أمَّا الذي بدا فهو مِن الصنف الآخر مِن المُعدَّات التي لن يحرز الحسين النصر إلاَّ بها ، والتي لم يطمح يزيد إلى الحصول على أيِّ نوعٍ مِن أنواعها ، أمَّا حَظُّ يزيد منها ، فكونه قد امتشق سيفاً مِن الذِّلِّ يضرب به عُنق الحسين ، فتناول الحسين حُسامه الأغرَّ ، ودافع به ليس عن عُنقه الأعزل ، بلْ عن عُنقه المسوَّر بالإمامة ، وعن صدر الأُمَّة المُدرَّعة برسالة جَدِّه ، وطُهْر أُمِّه ، وفِقار أبيه ، ونصاعة أخيه في الساحة البيضاء ... ما عدا ذلك فإنَّ يزيد قد تضاءل جِدَّاً أمام عين الحسين ، وأصبح طيفاً يتراءى في باله ، مَمزوجاً مزجاً مُركَّباً بمُعاوية أبيه ، وعثمان ، وعمر ، وأبي بكر ، وكلُّهم مِن الحَزمة التي يراهم فيها الحسين ، يشدُّون حِبالها على خِصر الأُمَّة وعُنقها مع عمرو بن العاص ، وبشير بن النعمان ، وأبي موسى الأشعري ، وزياد ابن أبيه أوْ أخي أخيه ، ومروان بن الحَكم ، وعبيد الله بن زياد ، وهذا الأخير الوالي المعزول ابن عتبة السفياني ...

١٢٩

فعلاً ، لقد استحكمت حَلقات المُعاناة ، وها أنَّ الحسين يتَّخذ القرار في تفجيرها ثورة تقتات منها الأُمَّة زاداً يُنعها ويُحييها في غَدها الصاعد. سيُقدِم ـ كما وعد ابن عتبة ـ على مُبايعة تبهر عينيه ، إلاَّ فليكن لنا أنْ نُشاهد الحسين كيف هو عزمه في المُبايعة!!!

١٣٠

المُبايعة

حتَّى ولو صحَّ الافتراض بأنَّ يزيد يفوق أباه مُعاوية ، مَقدرةً وحُنكةً ودهاءً ، فلا يُمكن الحسين أنْ يُقدِّم له أيَّ نوعٍ مِن مُبايعة فيها قَبول أو رضوخ ، فمُعاوية ـ بالذات ـ بعد أنْ توصَّل الحسين إلى تعيين ثُقله في الميزان ، وجَدَه لهوَّةً مُحنَّكة بصَواني الدنيا ، لا يهتمُّ بتزيينها وتقديمها على المائدة الكُبرى ، التي تتجمع حولها الأُمَّة تتناول منها ريَّها وشِبعها ، بلْ يحصر هَمَّه في جعلها حكراً في مقاصيره ، يسكر منها مجداً ، وسؤدداً ، وتلاعباً بمُقدَّرات الناس ، ويبذل قُصارى جُهده في تسييجها بالظلم المُتداهي ، والاستبداد المُتباهي ، حتَّى تبقى له في المُلكيَّة التي تتعبَّأ بالجَور والاستبداد ، مِن هنا كان الفِسق عند يزيد لوناً له في الإرث عن أبيه ، وتلويناً له في التصنيف المُمتاز وهو يتلهَّى بالبيزان والفهود ، وترقيص القرود على أوتار العود ، والتفنُّن بكلِّ أنواع المِجون ، ليكون له ـ بالتالي ـ تفنُّن قِرَديٍّ وفَهديٍّ الأظافر ، يأمر بإنشابها في عُنق مَن لا يبايعه على كرسيِّ الحُكم.

ليس الحسين الآن ـ وهو الغارق في نفسيَّة مُتملِّية مِن مُعاناتها الناضجة بالفَهم والعمق ورَوز الحقائق ـ إلاَّ الرافض كلَّ أنواع المُبايعات ـ أكان المُبايَع له يزيد الفاسق ، أم أبوه مُعاوية المُحنَّك بحلاوة المُلك. إنَّ الحسين الآن هو المُنتفض على كلِّ الخَطِّ الذي رسمه عمر بن الخطاب ، لأنَّه الخطَّ الذي لعب فيه ـ على هواه ـ لعباً زريَّاً بمصلحة الأُمَّة ، ورماها في فوهة المجهول. صحيح أنَّ الحسين تحوَّل ـ في فهمه وإدراكه ـ إلى اعتبار كلِّ خطأ طريقاً إلى صواب ، أو بالأحرى إلى تصويب ، ولكنَّ ذلك لا يعني أنْ يَحترم الخطأ ، ويلثم يده البيضاء ، لهذا فإنَّه الآن لا يقدر أنْ يغفر لابن الخطَّاب خُطوةً زلَّ بها عن حقيقة النهج ، ولا يقدر ـ في

١٣١

الوقت ذاته ـ إلاَّ اعتبار يزيد قرداً مُسمَّى (بأبي قيس) ، وهو ـ فعلاً ـ اسم قرد ذكيٍّ ومُمتاز ، خلعه عليه أُستاذه يزيد ، وكان رفيقه في جميع حفلات مُجونه ، أمَّا المهزلة المؤلمة التي يفرض على الحسين الآن احتمالها تحصل تحت عينيه ، فهي في كونه مدعوَّاً للرقص في الساحة ذاتها ، التي يرقص فيها (أبو قيس) الذي ألبسه يزيد حِلَّة التهريج!

سيان ـ يقول الآن الحسين في نفسه ـ أكان المُناجز يزيد ، أم أنَّه بهلوان آخر اسمه عمر ؛ لأنَّه أصبح يُدرك أنَّ ساحة الصراع تستدعي نزولاً حاملاً في يمينه سيفاً ، تستفيد مِن نوعيَّته الأُمَّة ، بأنَّه نوع لا يقصف ، وعندئذ فإنَّ الحسام هذا لا يُمكنه أنْ يحفظ اسم الذي ينزل إلى مُناجزته في الميدان. إنَّ قيمة هذا الحسام هو أنَّه صقيل وقائم بذاته ، ولا دخل لاسم الخصم فيه ، سوى أنَّه خصم قد استعجل هذا الحسام إلى الخروج مِن غُمده ، وهذا هو كلُّ دور يزيد وهو في الساحة يستدعي الحسين إلى النزول إليها مُبايعاً ، وإلاَّ فإنَّ عُنقه هو المضروب!!

في كلا الحالين ـ بايع الحسين أمْ لم يُبايع ـ فعُنقه هو المضروب! لقد توصَّل الحسين إلى استيعاب هذه الحقيقة في وجوده الصريح ، وهو وجوده طالبيٌّ ـ إماميٌّ ـ انتسابيٌّ إلى أهل البيت ، وهو وجود مرئي بعين سُفيانيَّة يُهيجها الانتساب الطالبيُّ ، كما يُهيج الثيران الاسبانيَّة كلَّ تلويح بقماشة حمراء ، أمَّا يزيد فهو المُتلاعب الآن بالتهديد ، كما تتلاعب القِطط ـ وهي فصيلة مِن فصائل القرود أو الفهود ـ بالفأرة التي تصطادها ، تُمنِّيها بالهروب ، وتُمنِّيها ... وتُمنِّيها وتُمنِّيها ... حتَّى تقتلها مِن فَرط التمنَّي!!

مِن هنا إن الوالي الذي عُزل لأنَّه لم يكن سِنَّوراً يُتقن اللعب بصيده ، جاء يعرض على الحسين مُبايعة تُنجيه مِن الوقوع في العَطب ، وهو يُصدِّق أنَّ الحسين نازل عند عرضه ، ومأخوذ بتبهرجه بيزيد ، لقد صدَّق ابن عتبة أنَّ الحسين مُقدِم على مُبايعة تُبهر عينيه ، ولقد أُعجب ـ أيضاً ـ بتبرُّع الحسين بدمه مِن أجل الأُمَّة ، التي هي مِن الصكِّ الذي يملكه يزيد ، أمَّا غير ذلك فإنَّه لم يلمح.

١٣٢

لم تكن المُبايعة التي قصدها الحسين في حضرة الوالي ـ أبداً ـ ليزيد ، بلْ إنَّها لجوهر الإمامة التي هي له الآن في شمولها المُطلق. إنَّها للأُمَّة تقطف منها ـ في كلِّ غَدٍ طالع عليها ـ ما يعينها في البلوغ الكريم ، وما يُثبِّت أقدامها في الترقِّي الصامد بحقيقة الذات ، ما يُعينها في البلوغ الكريم ، وما يُثبِّت أقدامها في الترقِّي الصامد بحقيقة الذات. ولقد تعهَّد ببذل دَمه مِن أجل هذه الأُمَّة الكريمة ، التي تتحصَّن دائماً باسم جَدِّه العظيم ، الذي وهبها كل ذاته ، في حين أنَّها لا تتمجَّد إلاَّ وهي تنمهر بذكره.

لم يشدَّ الحسين الآن ـ في حضرة الوالي ـ عزمه على المُبايعة تلك ، مُمهورة ببذل الدم حين تقضي الحاجة ، بلْ إنَّه التقرير الكبير الذي كان يصوغ بنوده ، مُنذ بدأ يعي حقيقته المرسومة في بال جَدِّه الأكبر ، وهي حقيقة ما استوعبها حتَّى أدرك أنَّه مربوط بالالتزام. إنَّ الإمامة ـ في إحاطتها الكاملة ـ هي التي كانت توسِّع عليه المُعاناة ، وتُكيِّفه بالصبر والتأنِّي ، وتُحضِّره لكلِّ مواجهة تُجابهه بها الأحداث ، التي هي ـ بحَدِّ ذاتها ـ مجالات تُعبِّر بها الحياة عن مقاييس زخمها في مُجتمعات الإنسان.

تلك هي مجالات الأحداث التي توقَّف الحسين طويلاً في استيعابها والتملِّي في درسها ، وهي تنفث ريحها السَّموم في جَوِّ الأُمَّة التي استوعبها جَدُّه وأبوه وأخوه ، وتركوا زمامها الآن عليه حتَّى يتعهَّدها بالإمامة التي عَبث بحبالها عمر بن الخطَّاب ، ولم يقبل إلاَّ أنْ يوصلها إلى مَن يُتابع العَبث بها عَبث الفاسقين!!!

أمَّا الأُمَّة ، فهي التي يتمُّ توجيهها لتعرف كيف تقرأ الأحداث ، التي نقشتها هي بخطواتها الممشيَّة فوق الأرض ، حتَّى يكون لها مِن حروف القراءة تمييز بين نَقشٍ ونَقشٍ ، تتجنَّبه هزيلاً مريضاً ، وتتحفَّز لتقويمه إنْ رأته معوجَّاً ، وترتاده إنْ تلمس فيه خطَّاً إلى صواب وجمال ، تلك هي المُهمَّة الكبيرة نَقَشَ خطوطها وقنواتها الصريحة جَدُّه الأعظم ، فقدَّمها للأُمَّة تقرأ بها تقويم خُطواتها ، وتعيين حظوظها ، كلَّما تنقَّلت بها الأعمار في باحات الحياة ، وتلك هي المُهمَّة الكبيرة ذاتها ، تناولها أبوه الأجلُّ ، وقدَّمها للأُمَّة تقرأ بها صيانة خطواتها ، وهي تحفرها فوق الرمال المَعْميَّة بالسراب ، وتلك هي المُهمَّة الكبيرة ذاتها ، توسَّلها أخوه الأحبُّ وقدَّمها للأُمَّة

١٣٣

تقرأ بها لملمة حواشيها ، وهي تنزل في كلِّ حقدٍ وضيم يُضلِّلانها في كلِّ ليلٍ مُدْلَهم ، يشتدُّ فيه سطو الذئاب على نعاج بلا حراسة ، أمَّا المُهمَّة الكبيرة ذاتها ، فهي التي تطوي كَشْحها عليه الآن ، ليقدح لها ـ مِن قبله وفكره وعزمه ـ شرارة تُعلِّم الأُمَّة كيف تبني سيرتها المجيدة في الحياة ، حتَّى تَخلص عينيها مِن كلِّ وطأة خَبلٍ ونعاس ترميها في غفوة الذِّلِّ والاستكانة ، وتُبعدها عن المحارم الشريفة والعزيزة ، التي تستهيم بها الحياة وهي تتمجَّد أبيَّة كريمة في حِضن ربِّها العزيز الكريم.

١٣٤

الشرارة

والشرارة! إنَّها مِن الاحتكاك ، وهي لا تتعدَّى كونها قبساً يتمادى في تواصله ، حتَّى يُصبح النار التي تُدفِّأ ضلوع الأرض ، وتُمرع فيها براعم الزهر وأفواج السنابل ، فالحياة ـ وهي ملقط مِن ملاقط الوجود ـ إنَّما هي الشرارة الخالدة ، التي ينبض بها هذا الكون ، وإذ تخبو ، فالوجود كلُّه في سُبات كالرماد ، ينخطف منه اللون والنخوة والدم الذي يمور!

ما أروع الحسين في جهازه النفسيِّ المتين! يتلقط بكلِّ حَدث مِن الأحداث التي دارت بها أيَّامه ، ليصوغ مِن احتكاكها الشرارة الأصيلة التي تدفأ بها ضلوع الأُمَّة ، وهي تمشي دروبها في ليالي الصيغ ـ لقد تبيَّن له ـ وهو يختبر وطأة الأيَّام في تنقُّلها عِبر الفصول ، وعِبر الليالي الطويلة والقصيرة ، وعِبر الأيَّام تُحرقها الشموس ، أو تُضنيها مقاطع الغيم. إنَّ الشبه قريب جِدَّاً بين حياة الأُمَّة ، فالفرد الذي يحتاج قميصاً مِن صوف في ليل الزمهرير ، لابُدَّ له أنْ يتعرَّى منه في اليوم الهجير ، وكذلك الأُمَّة بالذات ، فالحرير الذي تنام في وقت النعيم ، هو الذي لا يليق لها ، ويُضنيها يوم يشتدُّ عليها البؤس أو يستبدُّ الضيم ، والقول هذا يعني : أنَّ نوعاً واحداً مِن اللباس لا يسدُّ حاجة الفرد ، مع تقلُّب الفصول مِن شمس تُحرق إلى صقيع يَلسع ، إلى اعتدال يتبرَّأ مِن المُتناقضين ويتطلَّب حياكة ألبق وأنسب ، وكذلك الأُمَّة بالذات ـ وهي الفرد الكبير المُتقمِّص ذاته حتَّى لا يموت ـ فإنَّ نوعاً واحداً مِن تعهُّد العيش لا يسدُّ حاجتها في البقاء الطويل ، الذي هو اجتماع ينهب الزمان ليخلد فيها أطول فأطول. إنَّ الأُمَّة ـ الإنسان الاجتماعي ـ هي بحاجة أيضاً إلى ألبسة منوَّعة الحياكة ، فتلبس كلَّ واحد منها ساعة تشعر أنَّها بحاجة إليه ، وتستبدله بسواه في أيَّة لحظة أُخرى يطيب لها ذلك.

١٣٥

لقد دلَّ الاختبار الحسين أنَّ الأُمَّة تستأنس كثيراً بكلِّ واحدٍ مِن أبنائها ، يُقدِّم لها أنوالاً جديدة تتوسَّع الحياكة فيها ويتنوَّع جَدْلُ قمصانها. إنَّها الأُمَّة التي ستغتني بما تلبس ، وستترفَّه بما طرَّزوه لها ، وستعرف أنَّ في نفسها ، وحسَّها ، ووعيها ، زرعاً تأخذ منه ـ لكلِّ ساعة مِن عمرها ـ حصاداً جديداً ينتقيه لها جوعها أو شبعها ، وستعرف أنَّ كلَّ تُخمة تقع فيها تُعلِّمها كيف أنَّ الرجوع إلى جوع يكون أدسم مِن السِّمنة ، وأكثر اعتدالاً مِن الجَشع والنَّهم.

ولقد مَرَّ عليه الاختبار أنَّ جَدَّه العظيم قدَّم النول الكبير ، وجهَّزه بالخيطان الصحيحة ، وها هي الأُمَّة تأخذ مِن هذا النول قُمصانها ، ولقد مرَّ عليه الاختبار أنَّ أباه النزيه ملأ الدلاء بالألوان البريئة ، حتَّى تستسيغ الأُمَّة ـ ساعة يفتقر ذوقها إلى اللون ـ أنْ تصبغ القميص الذي ترتديه بلون الصدق ، أو بلون العدل ، أو بلون النزاهة المُستقيمة بنظافة الكَفِّ والحَقِّ ، ولقد مَرَّ عليه الاختبار أنَّ أخاه المُعبَّر عن دور الإمامة ، تناول القُمصان ذاتها ، وقد وسَّخها الاستعمال ولطَّخها بغُبار البُغض والزيغ والتعدي ، وطمع الاستئثار بأنانيَّة الحُكم والثراء المُزوَّر ، فغسلها بزُوفى السماح ، ودهنها بالصلح الأبيض ، فإذا بكلِّ كفٍّ نظيفة تُصافح أُختها بالمَحبَّة والوئام.

اللَّهمَّ ـ يُسِرُّ الحسين إلى ذاته ـ شدَّد عزمي ؛ حتَّى أُقدِّم للأُمَّة ـ التي هي أُمَّة رسولك وحبيبك محمد ـ ما يُصلح أمرها ؛ حتَّى تُوسِّع مِن خُطواتها فوق دروب الحياة ، اجعلني أشدد حُقويها ، وامنحني قوَّة الوثب أُعلِّمها ـ لا بالحرف وتَمتعة الشفتين ـ بلْ بالقدوة الحيَّة. إنَّ العُنفوان في الحياة هو الذي يقود إلى المجد ، وإنَّ التسكَّع والاستكانة لا يَصلحان لأكثر مِن ساعة ، وإذ تمرُّ بلا جدوى ، فإنَّ الذِّلَّ وحده يُصبح الخَلَف ، وهو غِلاف الموت ، وهو الرماد المخطوف اللون والنخوة والدم ، وهو الذي يتطلَّب العنفوان في النجدة العزيزة ، التي هي شرارة ترفض الذِّلَّ وتُحرقه ، وهي تحترق معه في غمرة الإباء والعُنفوان.

ها هي الشرارة التي ولَّدتها في نفس الحسين مُعاناة الحسين ، طيلة سِتٍّ وخمسين سنة مِن عُمره الهاجع في ضمير الإمامة ، إنَّه الآن تعبير عن وثبة جديدة سيثبها بعد

١٣٦

عِدَّة أيَّام ما وثب مثلها بطل مِن أبطال الملاحم ، إنَّها الشرارة التي سيُقدِّمها للأُمَّة ، تتطلَّبها كلَّ مَرَّة تقع في حُفرة مِن حُفر الذِّلِّ ، فتَثِب معها إلى خُلود لها تتذكَّر به فتاها الحسين!!!

١٣٧

روعة التصميم

كأنِّي ـ وأنا في غُمرة مِن الاستغراق مع الحسين ـ استمع إلى حديثٍ قد دار بينه وبين أخيه محمد بن الحنفيَّة ، بعد شهرين أو ثلاثة مِن خروج الحسين مِن المدينة إلى مَكَّة ـ لستُ أكيداً مِن ضبط الوقت ـ كنتُ أتحسَّس الحسين رزيناً ، يتنقَّل بخُطوات ثابتة في صحن الغرفة ، التي جعلها ديواناً خاصاً لاستقبال الأخصَّاء مِن الوافدين عليه ؛ للتشاور والتداول في الأُمور المُرتبطة بالأحداث ، وكلُّها جديد مُتعلِّق به وبالخلافة التي كان يحلم بها أيضاً عبد الله بن الزبير المُلتجئ مثله إلى مَكَّة ، هرباً مِن الضغوط التي كان يفرضها يزيد ـ خليفة مُعاوية ـ ، وهو فوق أرض الشام. لقد كان يزيد سيِّد الموقف بالنسبة للقوَّة التي خَصَّه بها الخَطُّ السياسي الأُموي ، المُحرز ـ حتَّى الآن ـ نصراً فائقاً فوق الساحة.

مِن الطريف أنَّ هوىً حلواً ربطني ببوَّاب الحسين ـ أسعد الهجري ـ مُنذ تلك الليلة ، التي تمَّت فيها المُقابلة بين الحسين ووالي المدينة الوليد بن عتبة ، وها أنا أهفو إلى هذا الصديق ، كأنِّي في رابطة وثقى معه مُنذ أكثر مِن وقت معهود ، وأنا أراه يفتح الباب على الحسين بدون أيَّة دالة مِن استئذان وهو يقول :

أسعد : ـ أخوك محمد ـ يا سيدي ـ سأُدخله عليك ، ولكنِّي أحببت أنْ أُطمئِنَ بالك أوَّلاً ، إلى أنَّ العبدين ـ عبد الله بن مسمع الهمذاني وعبد الله بن وال ـ قد أمنت وصولهما إلى الخَطِّ صوب الكوفة ، فاستلما الطريق وذهبا بأمان.

الحسين : ـ إنِّي واثق مِن عزمك وحُرصك يا أسعد ، ولكنِّي الآن انتدبك إلى كثير مِن مُتابعة اليقظة والحَيطة ، فالأيَّام صعبة يا صديقي ، وإنَّنا مُقدمون على سفر صعب ، بين ليلة وليلة نرحل ، إنَّ

١٣٨

الكوفة بانتظارنا ـ أيُّها الهجري المسكين ـ وأيَّة هجرة يا صاحبي لا تكون مثلك ومثلي ، مسكينة! ولكنِّي أراك مَتيناً في رفقة الحَقِّ ، وصلباً في تحمُّل السُّهاد ، فاذهب الآن إلى فراشك ، والبث حاضراً لمُلاقاة الصِعاب.

وانسحب الهجري ، وفي عينيه يسرح إيمان صدوق ، وعزم شفوق ، وبهجة رَؤوم ، وشيءٌ آخر لا يُريد هو أنْ يُفتِّش عن أيِّ تفسير له.

أمَّا محمد بن الحنفيَّة فلقد دخل وأخذه أخوه الحسين بين ذراعيه بكثير من الشوق العفيف ، ثمَّ أجلسه قُبالته وهو يطرح عليه السؤال :

الحسين : ـ قبل أنْ أسألك عن أيِّ جديد عندك ، هل زرت المقامات الثلاثة قبل أنْ تأتي إليَّ ـ يا أخي محمد ـ؟

محمد : ـ طِبْ نفساً ـ يا أبا عبد الله ـ لقد زرت المقام الشريف ، وركعت ساعة طويلة في المسجد في حضرة جَدِّنا العظيم ، وتوَّاً بعد ذلك أمَّيتُ البقيع ، وبعد ساعة مِن الزيارة للمرقدين الحبيبين ، ركبت الطريق ووفدت إليك.

الحسين : ـ ما أطيبك! فعلت؟ يا ابن كلِّ المُطيَّبين ، ويا للصدى الكبير ضِمن حيطان المسجد! ويا للقبرين الناضحين في البقيع بطُهر المثوى!!! والآن ـ يا محمد ـ هات ما عندك.

محمد : ـ لا يزال اللَّغط مُشوِّشاً في كلِّ أرجاء المدينة ، حول عزل الوالي ابن عتبة وإبداله بمروان بن الحَكم ، هنالك أسئلة ثلاثة طرحها الوالي قبل أنْ يُعزل ، وكان هو يعجز عن الإجابة عليها : لماذا وعدني الحسين بمُبايعة يزيد ثمَّ انسلَّ مِن المدينة ولم يفعل؟ ولماذا التجأ إلى مَكَّة وليس إلى سواها؟ وهل يُرتِّب الحسين مع عبد الله بن الزبير تضامناً في طرح مُبايعة للحسين يُعزِّزانها بثورة تخلع يزيد مِن الخلافة؟

١٣٩

الحسين : ـ والوالي الجديد ـ مروان بن الحَكم ـ ألم يُجِب على الأسئلة المطروحة؟

محمد : ـ إنَّه الأذكى على ما يبدو ، وإنْ لم يكن إلاَّ الأكذب والأروغ ، لقد قال أمام بطانته : لو أنَّ الوليد بن عتبة أصاخ جيِّداً إلى ما نصحته به ـ ولقد استشارني ـ لكان وفَّر عنَّا وعن نفسه إصغاء إلى أسئلة تُشغل بالنا بالجواب عليها ، ثمَّ استطرد وقال : أوَّل جواب عندي ، أنَّ الخليفة يزيد قد أحسن التصرُّف بعزل الوالي الأكتع والأعور ، أمَّا مَكَّة فإنَّها لن تتمكَّن طويلاً مِن حماية المُحترِمين فيها ، أمَّا المُبايعة للحسين ، فإنَّ الحسين ذاته لا يؤمن بها تقوم بها القبائل ، وتركها لنا نسيرها ونُعزِّز قوافلها ، إذا كانت الإمامة لا تكفيه فماذا يبقى علينا أنْ نفعل له؟ هل نَدمج بُردى بدجلة والفرات ونَهِبَه إيَّاها حتَّى يرتوي؟! فُرصة واحدة لا تزال مُهيَّأة أمام الحسين : مُبايعة يُقدِّمها ليزيد ، أو عُنق مضروب!!!

الحسين : ـ صدقت يا أخي محمد في وصفك الرجل ، صحيح أنَّه ذكيٌّ ، ولكنَّ في رنَّة صوته ذئباً يعوي وثعلباً يروغ ، لقد أصاب في تحديده المُبايعات التي لا يُمكن أنْ نعود إليها بعد أنْ رفضها جَدُّنا نبرة في إيقاظ القبليَّة بأنماطها العتيقة البالية ، واعتبر الإمامة ـ في مسدِّها ـ تحضيراً مُثقَّفاً بالرسالة ، ومُطيَّباً ومُعفَّفاً بها ، في سبيل وحدة الأُمَّة ورعايتها في طريق بلوغها وخلودها ، ما أطيب أخانا الحسن! يضمُّ ـ فعلاً ـ دجلة والفرات إلى بُردى في صُلحه الأبيض ، لا ليروينا وحدنا ، ولا ليروي مُعاوية ويزيد ومروان ، بلْ ليسدَّ عطش الأرض كلَّها في وحدة الرَّي ، ومِن حدود النيل إلى رحاب الغَوطة ، مِن أجل أُمَّة واحدة مجموعة العروبة في حِضن جَدِّنا العظيم محمد.

١٤٠