عقيلة بني هاشم

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

عقيلة بني هاشم

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المفيد للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مؤسسة المفيد للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٩

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يكن له ندٌّ ولا ولد ، ثمَّ الصلاة على نبيه المصطفى ، وآله الميامين الشرفا ، الذين خصّهم الله بآية التطهير. يقول تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

٣
٤

عقيلة بني هاشم

زينب الكبرى

ولادتها :

ولدت زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخامس من جمادى الأولى في السنة الخامسة من الهجرة ، وذكر جلال الدين السيوطي في رسالته (الزينبية) قال : ولدت زينب في حياة جدِّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

تسميتها وكنيتها :

سماها جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زينب. اسم اختاره لها جدّها سيد البشر (صلّى الله عليه وآله) ، وتكنى اُمّ كلثوم ، واُمّ الحسن. ويقال لها : زينب الكبرى ؛ للفرق بينها وبين مَن سُمّيت باسمها من أخواتها.

وتلقّب بالصدّيقة الصغرى ؛ للفرق بينها وبين اُمّها الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين. وتلقّب أيضاً بالعقيلة (١) ، وعقيلة بني هاشم ، وعقيلة

__________________

(١) العقيلة : هي المرأة الكريمة على قومها ، العزيزة في بيتها.

٥

الطالبيِّين ، وتلقب بالموثّقة ، والعارفة ، والعالمة غير المعلمة ، والفاضلة ، والكاملة ، وعابدة آل علي (عليه السّلام).

زينب اُولى بنات أمير المؤمنين (عليه السّلام) ولدتها فاطمة الزهراء بعد الحسنين السبطين (عليهما السّلام) ، ومما يؤكّد ذلك أن الرواة في أيام الاضطهاد كانوا إذا رووا رواية عن علي (عليه السّلام) يقول الرجل : هذه الرواية عن أبي زينب ، كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، وإنّما كنّوا أمير المؤمنين (عليه السّلام) بهذه الكنية ؛ لأنّ زينب كانت الأكبر من ولده بعد الحسنين (عليهما السّلام) ، ولم يُعرف بهذه الكنية عند أعدائه.

أبوها :

أبوها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، القرشي الهاشمي ، أبو السبطين الحسن والحسين (عليهما السّلام). ولد في بيت الله الحرام في الثالث عشر من شهر رجب قبل المبعث بعشرة سنين. كان أوّل الناس إسلاماً ، وأعظمهم إقداماً ، وأقواهم شكيمة ، وأشدّهم عزيمة.

كيف لا يكون كذلك وقد تربّى في حجر الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وآزره وحامى عنه وهو ابن عشر سنين ، وأخذ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلَّ العلوم ، واقتبس من قبس النبوة حتّى قال (صلّى الله عليه وآله) : «خير أعمامي أبو طالب (عليه السّلام) ، وخير اُخواني علي (عليه السّلام)».

وفداه بنفسه ليلة مبيته على الفراش ، وشهد مع النبي (صلّى الله عليه وآله) مشاهده كلَّها ، وقد زوّجه من ابنته فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ إذ

٦

ما كان لها كفواً إلاّ ابن عمها علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، فولدت له الحسن والحسين ، ومحسن السقط ، وزينب الكبرى ، وزينب الصغرى اُمّ كلثوم (عليهم السّلام).

وكان علي (عليه السّلام) أشجع أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلمهم بالفرائض والسنن ، وما أشكلت على المسلمين قضية إلاّ وجدوا عند عليٍّ (عليه السّلام) حلّها ، حتّى قال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر.

وكان من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى ، قال الحميري :

سائل قريشاً به إذ كنت ذا عمهٍ

مَن كان أثبتها في الدين أوتادا

مَن كان أقدم إسلاماً وأكثرها

علماً وأطهرها أهلاً وأولادا

مَن وحّد الله إذ كانت مكذبةً

تدعو مع الله أوثاناً وأندادا

مَن كان يقدم في الهيجاء إذ نكلوا

عنها وإن بخلوا في أزمةٍ جادا

مَن كان أعدلها حكماً وأبسطها

كفّاً وأصدقها وعداً وإيعادا

إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسنٍ

إن أنت لم تلق للأبرار حّسادا

٧

إن أنت لم تلق أقواماً ذوي صلفٍ

وذا عنادٍ لحقِّ الله جحّادا

ضُرِبَ (عليه السّلام) على قرنه ، ضربه عبد الرحمان بن ملجم المرادي الخارجي بسيفه وهو يؤدّي الفرض لله تعالى ليلة تسعة عشر من شهر رمضان ، في أفضل الأماكن من القطر العراقي (مسجد الكوفة) ، وفي أفضل الشهور (شهر رمضان المبارك) ، وفي أفضل الأوقات (بين الطلوعين) ؛ طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وفي أفضل الأمكنة (محرابه).

ضربه وهو مشغول بالصلاة لله في أول ركعة من صلاة الفجر بين السجدتين ، قال المغفور له السيد حيدر الحلي :

قتلتم الصلاةَ في محرابِها

يا قاتليه وهو في محرابهِ

وشقّ رأسَ العدل سيفُ جورِكمْ

مُذ شقّ منه الرأس في إهابهِ

فليبكِ جبريلُ له ولينتحبْ

في الملأ الأعلى على مصابه

اُمّها :

اُمّها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، كانت تلقّب بالزهراء ، واُمّ أبيها ، والبتول ، والصدّيقة ، والطاهرة ، والزكية ، والمحدّثة ، وهي أصغر بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، واُمّها خديجة بنت خويلد رضوان الله

٨

عليها ، ولدت فاطمة (عليها السّلام) في جمادى الآخرة وعمر النبي (صلّى الله عليه وآله) آنذاك خمس وثلاثين سنة.

نشأت في حجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتربّت في كنفه ، وزوّجها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السّلام). ويروى أنها بكت يوم زواجها ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «ما لكِ تبكين يا فاطمة ، فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علماً ، وأفضلهم حلماً ، وأوّلهم سلماً؟!». فولدت له الحسن والحسين وزينب الكبرى واُمّ كلثوم ومحسن السقط (عليهم السّلام).

وقد انقطع نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ من فاطمة ، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) ينوّه على المنبر بفضلها وشرفها وحبّه لها ، وكان يقول : «فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما يؤذيها ، ويريبني ما يريبها. يرضى الله لرضا فاطمة ، ويغضب لغضبها».

توفّيت سيدة النساء فاطمة (عليها السّلام) بعد أبيها بخمسة وتسعين يوماً ، واُلحدت ليلاً بوصية منها ، ودفنها عند قبر أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، واليوم يقال لموضع قبرها : بيت فاطمة ، فقال علي (عليه السّلام) يرثيها :

[ها] قد قبرتُك وانصرفتُ مودّعاً

بأبي ونفسي جسمكِ المقبورُ

أَمّا القُبورُ فَإِنَّهُنَّ أَوانِسٌ

بِجُوارِ قَبرِكَ وَالدِيارُ قُبورُ

نشأتها :

نشأت هذه الكريمة في حضن النبوة ، ودرجت في بيت الرسالة ، ورضعت لبان الوحي من ثدي بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) الزهراء البتول (عليها السّلام) ، وغذيت بغذاء الكرامة من كفِّ والدها ابن عمِّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛

٩

فنشأت نشأة قدسية ، وربيت تربية روحانية ، متجلببة جلباب الجلال والعظمة ، مرتدية رداء العفاف والحشمة ؛ فالخمسة أصحاب العبا (عليهم السّلام) هم الذين قاموا بتربيتها وتثقيفها وتهذيبها ، وكفاك بهم مؤدّبين ومعلمين.

ذكر العلامة محمد علي أحمد المصري في رسالته ، قال : السيدة زينب نشأت نشأة حسنة ، كاملة فاضلة عالمة ، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وكانت على جانب عظيم من الحلم والعلم ومكارم الأخلاق ، ذات فصاحة وبلاغة ، تفيض من يدها عيون الجود والكرم.

وقد جمعت بين جمال الطلعة وجمال الطوية حتّى أنها اشتهرت في بيت النبوة. ولقّبت بصاحبة الشورى ، وكفاها فخراً أنها فرع من شجرة أهل بيت النبوة الذين مدحهم الله في كتابه العزيز ... إلى آخر ما كتب عنها.

شرف نسبها وفضلها

جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيّد المرسلين ، ووالدها علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، واُمّها فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السّلام) ، وجدتها خديجة الكبرى اُمّ المؤمنين (عليها السّلام) ، وأخواها الحسن والحسين (عليهما السّلام) سبطا رسول ربِّ العالمين ، وأعمامها طالب وعقيل وجعفر فخر الهاشميين ، والعمّة اُمّ هاني بنت عبد مناف شيخ الأباطح ، وخالاتها أبناء رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

نسبٌ كأنّ عليه من شمسِ الضحى

نوراً ومن فلقِ الصباح عمودا

١٠

وقال آخر :

أبوها عليٌّ أثبت الناس في اللقا

وأشجعُ ممّن جاء من صلب آدمِ

فماذا يكون هذا الشرف ، وإلى أين ينتهي شأوه ويبلغ مداه؟!

وإذا أضفنا إلى شرف نسبها علمَها وفضلَها ، وتقواها وكمالَها ، وزهدَها وورعها ، وكثرة عبادتها ومعرفتها بالله تعالى كان هناك الشرف الذي لا يجاريه شرف.

ذكر النيسابوري في رسالته العلوية قال : كانت زينب بنت علي (عليهما السّلام) في فصاحتها وبلاغتها ، وزهدها وعبادتها كأبيها المرتضى واُمّها الزهراء (عليهما السّلام).

واقرأ ما دبّجته يراعة البحاثة الكبير (فريد وجدي) ، يقول : السيدة زينب بنت علي (رضي الله عنهما) ، كانت من فضليات النساء ، وشريفات العقائل ، ذات تقى وطهر وعبادة.

وحسب القارئ ما أملاه الاُستاذ حسن قاسم في كتابه (السيدة زينب) قال : السيدة الطاهرة الزكية بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، ابن عمّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وشقيقة ريحانتيه ، لها أشرف نسب ، وأجلّ حسب ، وأكمل نفس ، وأطهر قلب ، فكأنّها صيغت في قالب ضمّخ بعطر الفضائل.

فالمستجلي آثارها يتمثّل أمام عينيه رمز الحق ، رمز الفضيلة ، رمز الشجاعة ، رمز المروءة ، فصاحة اللسان ، قوة الجنان ، مثال الزهد والورع ، مثال العفاف والشهامة ، إنّ في ذلك لعبرة ... إلخ.

١١

وذكر العلامة محمّد علي أحمد المصري في رسالته السيدة زينب (رضي الله عنها) : هي بنت سيدي الإِمام علي (كرّم الله وجهه) ، وبنت فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهي من أجلّ أهل البيت حسباً ، وأعلاهم نسباً ، خيرة السيدات الطاهرات ، ومن فضليات النساء ، وجليلات العقائل ، التي فاقت الفوارس في الشجاعة ، واتّخذت طول حياتها تقوى الله بضاعة.

وكان لسانها الرطب بذكر الله على الظالمين عضباً ، ولأهل الحق عيناً معيناً ، كريمة الدارين ، وشقيقة الحسنين ، بنت الزهراء التي فضّلها الله على النساء ، وجعلها عند أهل العزم اُمّ العزائم ، وعند أهل الجود والكرم اُمّ هاشم.

وإليك ما ذكره عمر أبو النصر في كتابه (فاطمة بنت محمّد) قال : وأمّا زينب بنت فاطمة فقد أظهرت أنها من أكثر أهل البيت جرأة وبلاغة وفصاحة ، وقد استطارت شهرتها بما أظهرت يوم كربلاء وبعده من حجة وقوة ، وجرأة وبلاغة حتّى ضُرب بها المثل ، وشهد لها المؤرّخون والكتَّاب.

ومن فضلها وشرفها أنّ الخمسة أهل العبا (عليهم سلام الله) كانوا يحبّونها حبّاً جمّاً ، حتّى ورد في بعض الأخبار أنّ الحسين (عليه السّلام) كان إذا زارته زينب يقوم إجلالاً لها ، وكان يجلسها بمكانه.

١٢

ولقد حدّث يحيى المازني عن خفارتها وصونها ، قال : كنت مجاوراً لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في المدينة مدة مديدة ، وكنت بالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ، ولا سمعت لها صوتاً ، وكانت إذا أرادت أن تزور قبر جدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تخرج ليلاً ؛ الحسن (عليه السّلام) عن يمينها ، والحسين (عليه السّلام) عن شمالها ، وأبوها أمير المؤمنين (عليه السّلام) أمامها ، فإذا قربت من الروضة النبوية سبقها أبوها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل ، فسأله الحسن (عليه السّلام) عن ذلك مرة ، أجابه (عليه السّلام) : «أي بني ، إنّي أخشى أنّ هناك أحداً ينظر شخص اُختك زينب».

هذا هو الشرف ، وهذا هو الصون الذي حفظه التاريخ لهذه السيدة العقيلة.

عبادتها :

قلنا : إنّ السيدة زينب بنت الإمام علي (عليهما السّلام) كانت تشبه أباها عليّاً واُمها الزهراء (عليهما السّلام) بالعبادة ، كانت تؤدي النوافل كاملة في كلِّ أوقاتها ، حتّى إنّ الحسين (عليه السّلام) عندما أوصاها ليلة العاشرة من المحرم ، فمن جملة وصاياه أن قال لها : «اُختاه يا زينب ، واُوصيك أن لا تنسيني في نافلة الليل» ، كما ذكر ذلك الفاضل البيرجندي ، وهو مدوّن في كتب السير والمقاتل.

ولم تغفل عن نافلة الليل قطّ حتّى ليلة العاشرة من

١٣

المحرم ؛ فلقد جاءت الرواية عن فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) قالت : أمّا عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة ـ أي ليلة عاشوراء ـ في محرابها ، تستغيث إلى ربها ، والنساء ما هدأت لهنّ عين ولا سكنت لهنّ رنّة.

كانت (سلام الله عليها) من القانتات العابدات اللواتي وقفن حركاتهنّ وسكناتهنّ وأنفاسهنّ للباري تعالى ، وبذلك حصلن على المنازل الرفيعة ، والدرجات العالية التي حكت برفعتها منازل المرسلين ودرجات الأوصياء (عليهم الصلاة والسّلام) (١).

تهجّدها وأدعيتها :

كانت عقيلة بني هاشم كثيرة العبادة والتهجّد ، تصلّي النوافل ، ولا زالت تتلو القرآن الكريم ، وملازمة له ، ولن يفتر لسانها عن ذكر الله قط ، تدعو الله بعد كلِّ صلاة وتسبّحهُ.

فمن أدعيتها التي كانت تقرأها بعد صلاتها وحال القنوت ، وقد أخذت هذه الأدعية عن جدِّها المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، وأبيها المرتضى (عليه السّلام) ، واُمّها الزهراء (عليها السّلام) ، من الأدعية التي كانت زينب تدعو بها (٢) :

__________________

(١) هذه الجملة نقلناها من كتاب (زينب الكبرى) لاُستاذنا الشيخ جعفر نقدي (رحمه الله).

(٢) ورد في بعض الأخبار : «مَن واظب على قراءة هذا الدعاء كفاه الله هموم دنياه ، وكان له نوراً في اُخراه».

١٤

«يا عمادَ مَن لا عماد له ، ويا ذُخر مَن لا ذُخر له ، ويا سند مَن لا سند له ، ويا حرز الضعفاء ، ويا كنز الفقراء ، ويا سميع الدعاء ، ويا مجيب دعوة المضطرّين ، ويا كاشف السوء ، ويا عظيم الرجاء ، ويا منجي الغرقى ، ويا منقذ الهلكى ، يا مُحسن يا مجمل ، يا منعم يا مفضل ، أنت الذي سجد لك سوادُ الليل ، وضوءُ النهار ، وشعاعُ الشمس ، وحفيفُ الشجر ، ودوي الماء.

يا الله يا الله الذي لم يكن قبله ولا بعده ، ولا نهاية ولا حدّ ، ولا كفؤ ولا ندّ ، بحرمة اسمك الذي في الآدميين معناه ، المرتدي بالكبرياء والنور والعظمة ، محقق الحقائق ، ومطلّ الشرك والبوائق ، وبالاسم الذي تدوم به الحياة الدائمة الأزلية التي لا موت معها ولا فناء ، وبالروح المقدّسة الكريمة ، وبالسمع الحاضر النافذ ، وتاج الوقار ، وخاتم النبوة ، وتوثيق العهد ، ودار الحيوان ، وقصور الجمال ، يا الله لا شريك له».

ومن الأدعية والتسبيحات التي كانت تواظب (عليها السّلام) على قراءتها ، هو : «سبحان مَن لبس العزَّ وتردّى به ، سبحان مَن تعطّف بالمجد والكرم ، سبحان مَن لا ينبغي التسبيح إلاّ له (جلّ جلاله) ، سبحان مَن أحصى كلَّ شيء عدداً بعلمه وخلقه وقدرته ، سبحان ذي العزّة والنعم.

اللهمَّ إنّي أسألك بمعاقد العزِّ من عرشك ، ومنتهى الرحمة من كتابك ،

١٥

وباسمك الأعظم ، وجدّك الأعلى ، وكلماتك التامات التي تمّت صدقاً وعدلاً أن تصلّي على محمّد وآل محمّد الطيبين الطاهرين ، وأن تجمع لي خيرَ الدنيا والآخرة بعد عمر طويل. اللهمَّ أنت الحيّ القيوم ، أنت هديتني ، وأنت تطعمني وتسقيني ، وأنت تميتني وتحييني برحمتك يا أرحم الراحمين».

ومن أدعية أبيها الذي كانت تدعو به بعد صلاة العشاء ، وهو : «اللهمَّ إنّي أسألك يا عالمَ الاُمور الخفيّة ، ويا مَن الأرض بعزّته مدحيّة ، ويا مَن الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة ، ويا مقبلاً على كلِّ نفس مؤمنة زكيّة ، يا مسكّن رعب الخائفين وأهل التقيّة ، يا مَن حوائج الخلق عنده مقضيّة ، يا مَن ليس له بوّاب يُنادي ، ولا صاحب يُغشى ، ولا وزير يُؤتى ، ولا غير ربٍّ يُدعى ، يا مَن لا يزداد على الإلحاح إلاّ كرماً وجوداً ، صلِّ على محمّد وآلِ محمّد ، وأعطني سؤلي إنّك على كلِّ شيء قدير».

وممّا كانت تناجي ربها به هذه الأبيات ، وهي من مناجاة أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام) :

لك الحمدُ يا ذا الجود والمجد والعُلى

تباركتَ تُعطي مَن تشاءُ وتمنعُ

إلهي وخلاّقي وحرزي ومَوئلي

إليكَ لدى الإعسار واليسرِ أفزعُ

١٦

إلهي لئن جلّت وجمّت خطيئتي

فعوفك عن ذنبي أجلّ وأوسعُ

إلهي لئن اُعطيت نفسيَ سؤلها

فها أنا في روضِ الندامة أرتعُ

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي

وأنت مناجاتي الخفية تسمعُ

إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغْ

فؤادي فلي في سيب جودك مطمعُ

إلهي لئن خيّبتني أو طردتني

فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفعُ

إلهي أجرني من عذابك إنّني

أسيرٌ ذليلٌ خائف لك أخضعُ

إلهي فآنسني بتلقينِ حجّتي

إذا كان لي في القبر مثوىً ومضجعُ

إلهي أذقني طعم عفوك يوم لا

بنونٌ ولا مالٌ هنالك ينفعُ

إلهي لئن لم ترعني كنت ضائعاً

وإن كنت ترعاني فلست اُضيّعُ

إلهي إذا لم تعفُ عن غير محسنٍ

فمَن لمسيء بالهوى يتمتع

١٧

إلهي لئن فرّطت في طلب التقى

فها أنا أثر العفو أقفو وأتبعُ

إلهي لئن أخطأت جهلاً فطالما

رجوتك حتّى قيل ما هو يجزعُ

إلهي ذنوبي بذّت الطودَ واعتلتْ

وصفحك عن ذنبي أجلّ وأرفعُ

إلهي ينحّي ذكر طولك لوعتي

وذكر الخطايا العين منيَ يدمعُ

إلهي أقلني عثرتي وامحُ حوبتي

فإنّي مُقرٌّ خائفٌ متضرعُ

إلهي أنلني منك روحاً وراحةً

فلست سوى أبوابِ فضلك أقرعُ

إلهي لئن أقصيتني أو أهنتني

فما حيلتي يا ربِّ أم كيف أصنعُ

إلهي حليفُ الحبِّ في الليل ساهرٌ

يناجي ويدعو والمغفّل يهجعُ

إلهي وهذا الخلقُ ما بين نائمٍ

ومنتبهٍ في ليله يتضرّعُ

وكلهمُ يرجو نوالك راجياً

لرحمتك العظمى وفي الخُلد يطمعُ

إلهي يمنّيني رجائي سلامةً

وقبحُ خطيئاتي عليَّ يشنّعُ

١٨

إلهي فإن تعفو فعفوك منقذي

وإلاّ فبالذنب المدمّر اُصرعُ

إلهي بحقِّ الهاشميِّ محمّدٍ

وحرمةِ أطهارٍ همُ لك خضّعُ

إلهي بحقِّ المصطفى وابنِ عمِّه

وحرمةِ أبرار همُ لك خشّعُ

إلهي فأنشرني على دين أحمدٍ

منيباً تقياً قانتاً لك أخضعُ

ولاتحرمنّي يا إلهي وسيدي

شفاعته الكبرى فذاك المشفّعُ

وصلِّ عليهم ما دعاك موحّدٌ

وناجاك أخيارٌ ببابك ركّعُ

وكانت لم تزل تلهج بهذه الأبيات ، وهي لأبيها (عليه السّلام) :

وكم لله من لطفٍ خفيٍّ

يدقّ خفاه عن فهمِ الذكيِّ

وكم يُسرٍ أتى من بعد عسرٍ

وفرّج كربةَ القلبِ الشجيِّ

وكم أمرٍ تساء به صباحاً

فتأتيكَ المسرّة بالعشيِّ

إذا ضاقت بك الأحوال يوماً

فثق بالواحدِ الفردِ العليِّ

توسّل بالنبيِّ فكلّ خطبٍ

يهون إذا توسّل بالنبيِّ

ولا تجزع إذا ما ناب أمرٌ

فكم لله من لطف خفيِّ

حواست جمع كن

حواست جمع كن

حواست جمع كن

حواست جمع كن

من غُررِ كلامها :

ذكر أحمد بن أبي طاهر ـ طيفور ـ قال : كانت زينب

١٩

بنت علي (عليهما السّلام) تقول : مَن أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى الله فليحمده ؛ ألم تسمع إلى قولهم : سمع الله لمن حمده؟ فخف الله لقدرته ، واستحِ منه لقربه منك.

خطبتها في الكوفة :

حدّث حذلم بن كثير قال : قدمتُ الكوفة في المحرم سنة إحدى وستّين عند منصرف علي بن الحسين (عليه السّلام) والسبايا من كربلاء ، ومعهم الأجناد يحيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر إليهم ، فلمّا أقبل بهم على الجمال بغير وطاء ، خرجن نسوة أهل الكوفة يبكين وينشدن.

وذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) عن خزيمة الأسدي قال : ورأيت نساء أهل الكوفة يومئذ قياماً يندبن ، متهتّكات الجيوب.

قال حذلم بن كثير : فسمعت علي بن الحسين (عليه السّلام) يقول بصوت ضئيل ضعيف ، وقد أنهكته العلة ، والجامعة في عنقه ، والغل في يديه ، ويداه مغلولتان إلى عنقه : «إنّ هؤلاء النسوة يبكين ، إذاً فمن قتلنا؟!».

قال : ورأيت زينب بنت علي (عليهما السّلام) ، ولم أرَ خفرة (١) أنطق منها ، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السّلام).

__________________

(١) الخفر (بالتحريك) : شدة الحياء ، ومن قولهم : تخفّرت المرأة ، اشتد حياؤها. (لسان العرب)

٢٠