الحسين ريحانة النبي (ص)

الشيخ كمال معاش

الحسين ريحانة النبي (ص)

المؤلف:

الشيخ كمال معاش


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٦

عن اُم الفضل بنت الحارث أنّها دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله إنّي رأيت البارحة حُلماً منكراً. قال : «وما هو؟». قالت : إنّه شديد. قال : «وما هو؟». قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووُضِعت في حجري. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رأيت خيراً ؛ تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك». فولدت فاطمة الحسين عليه‌السلام فكان في حجري كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فدخلت يوماً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعته في حجره ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تهريقان من الدموع فقلت : يا نبيّ الله بأبي أنت وأُمي! ما لك تبكي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أتاني جبرئيل عليه‌السلام فأخبرني أن أُمّتي ستقتل ابني هذا». فقلت : هذا؟! فقال : «نعم وأتاني بتُربةٍ من تُربته حمراء» (١).

عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يرى النائم بنصف النهار

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ١٧٦ ، كتاب معرفة الصحابة ؛ الفصول المهمة : ١٧٠ ؛ البداية والنهاية : مجلد ٣ ج ٦ ص ٢٦٢ ؛ ينابيع المودة : ص ٢٦١ ؛ مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ص ١٥٩ تاريخ مدينة دمشق : ج ١٤ ص ١٩٦ ح ٣٥٣٧ ؛ كفاية الطالب : ص ٣٧٧ ؛ تهذيب الكمال : ج ٦ ص ٣٩٧ الخصائص الكبرى : ج ٢ ص ١٢٥ ؛ نور الأبصار : ص ٢٢١.

١٢١

وهو قائم أشعث أغْبر بيده قارورة فيها دم فقلت : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله! ما هذا؟ فقال : «دم الحسين وأصحابه لم أزل ألْتَقِطُهُ منذ اليوم». فاُحصي ذلك اليوم فوجدوه وقد قُتل في ذلك اليوم. فاستشهد الحسين عليه‌السلام كما قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله بكربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة ويُعرف الموضع أيضاً بالطفّ قتله سنان بن أنس النخعي وقيل غيره (١).

وقد ذكر ابن أعثم في كتابه رؤيا الحسين عليه‌السلام قال : وسار الحسين حتّى نزل الثعلبيّة وذلك في وقت الظهيرة فنزل وترك أصحابه ثمّ وضع الحسين عليه‌السلام رأسه ونام ثمّ انتبه من نومه باكياً فقال له ابنه علي الأكبر : ما لك تبكي يا أبت لا أبكى الله لك عيناً؟ فقال الحسين عليه‌السلام : «يا بُنيّ إنّها ساعة لا تكذب فيها الرؤيا اُعلمك أنّي رأيت فارساً على فرس حتّى وقف عليَّ فقال : يا حسين إنّكم تسرعون المسير والمنايا بكم تسرع إلى الجنّة فعلمت أنّ أنفسنا قد نُعيت إلينا». فقال له ابنه : يا أبت ألسنا على الحق؟ قال : «بلى يا بُني والذي ترجع العباد إليه». فقال عليٌّ رضي‌الله‌عنه : إذاً لا نبالي بالموت. فقال الحسين عليه‌السلام : «جزاك الله عني يا بُنيّ خير ما جزى به ولد عن والد» (٢).

____________________

(١) المعجم الكبير : ج ٣ ص ١١٠ ح ٢٨٢٢ ؛ الصواعق المحرقة : ص ١٩٣ ؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ج ١ ص ٣٩٥ ح ٥٥٦ ؛ ذخائر العقبى : ص ٢٥٣ ؛ الخصائص الكبرى : ج ٢ ص ١٢٦ ؛ تهذيب الكمال : ج ٦ ص ٤٣٩ ؛ سير أعلام النبلاء : ج ٤ ص ٤٢٧ رقم : ٢٧٠ تاريخ مدينة دمشق : ج ١٤ ص ٢٣٧ ح ٣٥٤٧ ؛ اُسد الغابة : ج ٢ ص ٣٠ ؛ بغية الطلب : ج ٦ ص ٢٦٣٥ ؛ تاريخ الخلفاء : ص ٢٠٨ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٩٦.

(٢) كتاب الفتوح : ج ٥ ص ١٢٣.

١٢٢

عن سلمى الأنصارية قالت : دخلت على أُمّ سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تبكي فقلت : ما يبكيك؟ قالت : رأيت الآن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب فقلت : ما لك يا رسول الله؟ قال : «شهدت قتل الحسين آنفاً» (١).

عن الشعبي قال : رأيت في النوم كأنّ رجالاً نزلوا من السماء معهم حراب يتتبعون قتلة الحسين رضي‌الله‌عنه فما لبثت أن نزل المختار فقتلهم(٢).

هذا وقد التقيت قريباً بأحد الإخوة اليمنيّين فسرد لي قصّة رآها في عالم الرؤيا وهي كالآتي :

رأيت في عالم الرؤيا في يوم مقتل سيدنا الحسين عليه‌السلام ـ أي يوم العاشر من شهر محرم ـ أنّي مسافر من أرض إلى أرض فوجدت نفسي في صحراء كبيرة ورأيت جيشاً قد سدَّ الأرض ـ أي ملأها ـ خيولاً وأسلحة ورجالاً ورأيت في الجهة المقابلة رجلاً على فرس ووراءه نساء وأطفال سمعته يقول : «هل من مغيث يغيثنا؟ هل من مجير يجيرنا؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل

____________________

(١) سنن الترمذي : ج ٥ ص ٦٥٧ ح ٣٧٧١ ؛ تهذيب التهذيب : ج ٢ ص ٣٥٦ ؛ الخصائص الكبرى : ج ٢ ص ١٢٦ ؛ كفاية الطالب : ص ٣٩٠ ؛ الصواعق المحرقة : ص ١٩٣ ؛ ذخائر العقبى : ص ٢٥٣ اُسد الغابة : ج ٢ ص ٢٩ ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ١٤ ص ٢٣٨ ح ٣٥٤٧ ؛ سير أعلام النبلاء : ج ٤ ص ٤٢٧ رقم : ٢٧٠ ؛ مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : ص ٢٥٠ ؛ تاريخ الخلفاء : ص ٢٠٨ ؛ بغية الطلب : ج ٦ ص ٢٦٤٤.

(٢) المعجم الكبير : ج ٣ ص ١١٣ ح ٢٨٣٣.

١٢٣

من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟». فقلت في نفسي : هذا سيدي الحسين عليه‌السلام هؤلاء هم آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. فجئت إليه وقلت له : لبيك وسعديك يابن رسول الله سأُقاتل عنكم ؛ مخافةً من الله وحبّاً لنبيكم ومخافة من النار. فقال : «خذ بارك الله فيك». وأعطاني سيفاً لم أرَ أحسن منه وكان شديد اللمعان فنظرت إلى وجه سيدي الحسين عليه‌السلام وله لحية سوداء شديدة السواد شبية بسواد الكحل إلاّ أنّه به شعرات بيض يشعّ منها نور عجيب كنور المصباح الأبيض وحانت منّي التفاتة إلى جبهته الكريمة فرأيت نوراً يسطع منها كنور الشمس بل أقوى فأحرق عيني فصرخت بأعلى صوتي : قد عميت عيني! فمسح بيده اليمنى الكريمة على عيني فردَّ لي بصري وأصبح بصري قوياً وقال لي : «قاتل بارك الله فيك». فقاتلت الأعداء قتال المستميتين وقد قتلت منهم ما يقارب الثلاثين فارساً وكنتُ أضربهم بالسيف فيموتون وهم يضربونني وتخرج الدماء منّي ولكنّي لا أموت.

وكان سيدي الحسين عليه‌السلام يُقاتل على الجهة اليمنى فحال الفرسان بيني وبين الحسين عليه‌السلام فرأيتهم أحاطوا به فحاولت أن أمضي إليه لأخلّصه منهم وهم يحيطون بي من كلّ مكان فرأيتهم قد أثخنوه بالجراح وسقط ـ بأبي وأُمّي ـ على الأرض. والعجيب في الأمر أنّ جواد سيّدنا الحسين عليه‌السلام لا يفرّ عنه ولا يهرب وكان الجواد متعلّقاً بسيدنا الحسين عليه‌السلام كتعلّق الأُمّ بولدها وبقي يدافع عنه ويضرب برجليه كلّ فارس يقترب من جسد الحسين عليه‌السلام ورأيتُ نوراً يخرج من الجواد وكان قد أصيب بجراحات كثيرة يخرج منها نور وبدا لي كأنّه ليس من خيول الأرض ؛ حيث إنّه كان

١٢٤

مطيعاً لسيدنا الحسين عليه‌السلام وكانت دموعه تسيل على خديه ويكثر النظر إلى السماء وينظر إلى سيدنا الحسين وهو مُلقىً على الأرض فيأتيه ويشمّ جراحات الحسين عليه‌السلام ثمّ يلطّخ جبينه بدمه.

انشغلت بالقتال ولم أرَ الجواد وجعلت أنظر إلى الحسين عليه‌السلام وقد اشترك في قتله ثلاثة أحدهم ضربه برمح والآخر بسيف ضربات ثمّ نزل الثالث ـ وكان الإمام عليه‌السلام ملقىً على الأرض ـ فضرب برجله صدر الحسين عليه‌السلام ثمّ أمسك برأس الحسين وذبحه كما تذبح الشاة. فجئت إلى الرجل وأمسكته من رقبته ودفعته عن جسد سيدي الحسين عليه‌السلام وقلت : لعنك الله! أتدري مَنْ قتلت؟! هذا سيد شباب أهل الجنّة هذا ابن سيد المرسلين وحبيب ربّ العالمين! كأنّي أُلهمت وقلت ذلك على الطبيعة فقال : أعطوني مالاً. وقالوا : اقتله. فقتلته فاستيقظتُ من النوم مرعوباً محزوناً وقد توقّف شعر رأسي وأصابني حزن وبكاء عظيم. بعد ذلك أعطاني الله قوّة عجيبة في بصري فصرت أرى النملة السوداء في الغرفة الظلماء كأنّما في وضح النهار وصرت أرى أُموراً عجيبة.

واستمرّ في حديثه قائلاً : كنت أبكي على سيدنا الحسين عليه‌السلام في ذات ليلة وكانت ليلة جمعة فدعوت الله عزوجل أن يبلغ روحه منّي السلام وأنا في أرض بعيدة لا أستطيع زيارة قبر سيدنا الحسين عليه‌السلام وفي عالم الرؤيا جاءني رجل مرتدياً عمامةً مثل عمامتكم ولباسكم في المنام وقال لي : أتريد أن تزور الحسين؟

١٢٥

قلت : نعم. قال : قم. فأخذ بيدي وذهب بي إلى مكان في منزلي لا يوجد فيها أثاث ولا فرش بل أرض خالية قال لي : انظر. فإذا أنا بحفرة في وسط المنزل فقال لي : انظر هذا قبر الحسين عليه‌السلام ؛ بحبّك للحسين وآله يسّر لك قبره وأنت في بيتك. فنزلت إلى هذه الحفرة فوجدت فيها حفرة ثانية داخل تلك الحفرة الأُولى فنزلت فرأيت جسداً بدون رأس ولمسته بيديَّ هاتين فرأيت أنّه لا يوجد موضع من جسده إلاّ وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح وكان مقطّع الأعضاء قطعة قطعة.

والعجيب في الأمر أنّ هذه الأوصال المقطعة مخيطة بخيوط سود ويخرج منها دم قانٍ كأنّه قتل في هذه الساعة وتفوح منه رائحة طيّبة أطيب من رائحة المسك لم أشمّ مثلها قبل ذلك اليوم.

فجعلت أبكي عليه واجتمع أهلي على صوت بكائي وكان ضمن مَنْ اجتمع من أهلي هو خالي وكان يشكو ألماً في رجله اليمنى لا يستطيع المشي فقلت لهم وأنا أبكي داخل القبر : انظروا ما فعل بنو اُميّة لعنهم الله! لقد قطعوا جسده الشريف تقطيعاً ـ وأنا في حالة بكاء شديد ـ لقد فصلوا رأسه عن بدنه! فبكى أهلي بكاءً شديداً فاستيقظت من نومي وقد زاد حزني وبكائي وحبّي للحسين وآل الحسين عليهم‌السلام.

وفي الصباح جاء خالي لزيارتنا فإذا هو سالم معافىً فأخبرت أهلي بهذه الرؤيا فازدادوا يقيناً وحبّاً لآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

____________________

(١) التقيت به ليلة الثامن من شهر ربيع الأول سنة ١٤٢٢ هـ المصادف ليلة الجمعة (المؤلّف).

١٢٦

وأمّا الدليل الشرعي على الرؤيا في المنام فقد تطرّق القرآن الكريم وأشار إليها منها قوله تعالى : (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ للإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١) و: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٢) و: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ) (٣).

وذكر مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ رآني في المنام فقد رآني ؛ فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي» (٤).

ولمّا كان الحسين عليه‌السلام ملاحقاً من قبل عمّال يزيد بن معاوية ؛ لرفضه بيعة يزيد راح يشكو من ظلمه إلى قبر جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد ذكر أحمد بن أعثم في كتابه قائلاً : وخرج الحسين بن علي من منزله ذات ليلة وأتى إلى قبر جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «السلام عليك يا رسول الله أنا الحسين بن فاطمة أنا فرخك وابن فرختك وسبطك في الخلق الذي خلفت

____________________

(١) سورة يوسف : الآية ٤ و ٥.

(٢) سورة الصافات : الآية ١٠٢.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٦٠.

(٤) صحيح مسلم : ج ٤ ص ٤٥١ ح ٢٢٦٦ ، باب قول النبي (عليه الصلاة والسلام) : «من رآني في المنام فقد رآني» بغية الطلب : ج ٦ ص ٢٦٤٤ وفيه : «لا يتصوّر بي».

١٢٧

على أُمّتك فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذولني وضيّعوني وأنّهم لم يحفظوني وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك صلّى الله عليك وسلم». ثمّ وثب قائماً وصفّ قدميه ولم يزل راكعاً وساجداً.

ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً فصلّى ركعتين فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول : «اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد وأنا ابن بنت نبيّك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهمّ إنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه ما اخترت لي من أمري هذا ما هو لك رضاً».

قال : ثمّ جعل الحسين يبكي حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة فرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّى ضمّ الحسين عليه‌السلام إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال : «يا بني يا حسين كأنّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء بين عصابة من اُمّتي وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تُروى وهم مع ذلك يرجون شفاعتي! ما لهم؟! لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة فما لهم عند الله من خلاق. حبيبي يا حسين إنّ أباك وأُمّك وأخاك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون وإنّ لك في الجنة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة». قال : فجعل الحسين ينظر في منامه إلى جدّه ويسمع كلامه وهو يقول : «يا جدّاه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً فخذني إليك واجعلني معك إلى منزلك». قال :

١٢٨

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا حسين إنّه لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ...».

قال : فانتبه الحسين من نومه فزعاً مذعوراً فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب فلم يكن ذلك اليوم في شرق ولا غرب أشدّ غمّاً من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أكثر منه باكياً وباكية(١).

____________________

(١) كتاب الفتوح : ج ٥ ص ٢٦.

١٢٩
١٣٠

إرادة الله شاءت

١٣١
١٣٢

لمّا هلك معاوية بن أبي سفيان طلب يزيد بن معاوية من عمّاله في جميع الأمصار تجديد البيعة له ولكنّ الحسين عليه‌السلام رفض بيعة يزيد ؛ لكونه متلبّساً بالفسق والفجور والخمور. إضافة إلى أنّه ليس أهلاً للخلافة والإمامة ؛ لكونه من الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وشجب المسلمون هذا العمل الشنيع ومصادر كتبهم تُصرّح بذلك.

ولهذا الأمر قرّر الحسين عليه‌السلام الخروج إلى العراق وقد نصحه بعض الصحابة والتابعين بعدم الخروج إلى العراق إلاّ إنّه عليه‌السلام رفض ذلك ؛ لأنّه لا يريد مخالفة الإرادة الإلهيّة فكان خروج الإمام الحسين عليه‌السلام مستنداً إليها أي إنّه سار بأمر من قبل الله تعالى كما تُصرّح أحاديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وإخبار جبرائيل النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك. ولقد أشرنا إلى بعض تلك الروايات من طرق أهل السنة في واقعة فاجعة الطفّ.

وإليك بعض النصائح التي وجهت إليه منها :

عن الشعبي قال : إنّ ابن عمر كان بماء له فقدم المدينة فأُخبر بخروج الحسين فلحقه على مسيرة ثلاث ليال من المدينة فقال له : أين تريد؟ قال : «العراق». قال : لا تأتهم ؛ لأنّك بضعة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والله لا يليها

١٣٣

منكم أحد أبداً وما صرفها الله عنكم إلاّ للذي هو خير لكم. فقال له الحسين : «هذه بيعتهم وكتبهم». فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال : أستودعك الله من قتيل والسّلام(١).

ومن وصايا محمّد بن الحنفيّة إلى الحسين عليه‌السلام عند خروجه : اُشير عليك أن تنجو بنفسك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت .... فقال له الحسين عليه‌السلام : «يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللّهمّ لا تبارك في يزيد». ثمّ قال : «وإنّي قد عزمت على الخروج إلى مكة» (٢).

وعن ابن سعد بسنده قال : فجاءه أبو سعيد الخدري فقال : يا أبا عبد الله إنّي لكَ ناصحٌ ومُشفِقٌ وقد بلغني أنّه كاتَبَكَ قومٌ من شيعتك فلا تخرجْ إليهم فإنّي سمعتُ أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مَلِلْتُهم ومَلُّوني وأبغضتهم وأبغضوني وما بلوتُ منهم وَفَاءً ولا لهم ثَبَاتٌ ولا عَزْمٌ ولا صَبْرٌ على السيف» (٣).

وأتاه عبد الله بن عباس ومعه جماعة من أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور فقال له : يابن عمّ إنّ الناس قد أرجفوا بأنّك سائر إلى

____________________

(١) أنساب الأشراف : ج ٢ ص ٤٦٦ ؛ مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ص ٢٢١ ؛ الخصائص الكبرى : ج ٢ ص ١٢٥ ؛ ذخائر العقبى : ص ٢٥٦ ؛ بغية الطلب : ج ٦ ص ٢٦٠٤ ؛ تاريخ الخلفاء : ص ٢٠٦.

(٢) كتاب الفتوح : ج ٥ ص ٣٠.

(٣) سير أعلام النبلاء : ج ٤ ص ٤١١ رقم : ٢٧٠ ؛ تهذيب الكمال : ج ٦ ص ٤١٣.

١٣٤

العراق؟ فقال : «نعم». قال ابن عباس : فإنّي أُعيذك بالله من ذلك أتذهب ـ رحمك الله ـ إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم ... فلا آمن أن يغرّوك ويكذّبوك ويخذلوك ويُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك.

قال الحسين عليه‌السلام : «وإنّي استخير الله وأنظر».

ثمّ عاد ابن عباس إليه فقال : يابن عمّ إنّي أتصبّر فلا أصبر إنّي أتخوّف عليك الهلاك ؛ إنّ أهل العراق [أهل] غدر فأقم بهذا البلد ؛ فإنّك سيد أهل الحجاز ... ألا فإنّ في اليمن جبالاً وشعاباً وحصوناً ليس لشيء من العراق مثلها واليمن أرض طويلة عريضة ولأبيك بها شيعة فَأَتِها ثمّ ابثث دعاتك وكتبك يأتك الناس.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «يابن عمّ أنت الناصح الشفيق ولكنّي قد أزمعت المسير ونويته». فقال ابن عباس : فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك فوالله إنّي لخائف أن تُقتل ...

ثمّ خرج ابن عباس من عنده فمرَّ بابن الزبير وهو جالس فقال له : قرّت عينُك يابن الزبير بشخوص الحسين عنك وتخليته إيّاك والحجاز. ثمّ قال :

يا لَكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خَلا لكِ الجَوُّ فبيضي واصفُري

ونَقِّري ما شئتِ أن تُنقِّري(١)

____________________

(١) أنساب الأشراف : ج ٢ ص ٤٦٥ ح ٢٩٣ ؛ الأخبار الطوال : ص ٢٤٤ ؛ بغية الطلب : ج ٦ ص ٢٦١١.

١٣٥

قالوا : ولمّا كتب أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام بما كتبوا به فاستحفّوه للشخوص جاءه عمرو بن عبد الرحمن المخزومي بمكّة فقال له : بلغني أنّك تريد العراق وأنا مشفق عليك من مسيرك ؛ لأنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه ومعهم بيوت الأموال وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم فلا آمن عليك أن يُقاتلك مَنْ وعدك نصره ومَنْ أنت أحبّ إليه ممّن يُقاتلك معه وذلك عند البذل وطمع الدنيا. فقال له الحسين عليه‌السلام : «جزاك الله خيراً من ناصح نصحت ويقضي الله» (١)

وكتب إليه عبد الله بن جعفر يُحذِّره ويُناشده الله فكتب إليه : «إنّي رأيتُ رؤيا رأيت فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له» (٢).

وقالوا : وعرض ابن الزبير على الحسين عليه‌السلام أن يُقيم بمكّة فيبايعه ويبايعه الناس كأنّما أراد بذلك أن لا يتّهمه وأن يُعذر في القول فقال الحسين عليه‌السلام : «لئن أُقتل خارجاً من مكّة بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتل فيها ولئن أُقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليَّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر» (٣).

____________________

(١) أنساب الأشراف : ج ٢ ص ٤٦٥ ، أنّه عليه‌السلام أجاب ابن عباس بما أقنعه وأنّه لو لم يخرج لكانوا يستحلّون به حرمة الكعبة!! الفصول المهمّة : ص ١٨٥ ؛ تهذيب الكمال : ج ٦ ص ٤١٥ ؛ الأخبار الطوال : ص ٢٤٤ ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ١٤ ص ٢٠٢ ح ٣٥٤٢.

(٢) سير أعلام النبلاء : ج ٤ ص ٤١٤ رقم ٢٧٠.

(٣) أنساب الأشراف : ج ٢ ص ٤٦٧ ، هذا الحديث أيضاً دالّ على أنّه عليه‌السلام كان يعلم بأنّه يُقتل وإنّما خرج من مكة لئلاّ يُقتل فيها فيستحلّ به حرمة الحرم.

١٣٦

فقام ابن الزبير وخرج من عنده فقال الحسين عليه‌السلام لجماعة كانوا عنده من خواصه : «إنّ هذا الرجل ـ يعني ابن الزبير ـ ليس في الدنيا شيء أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز وقد علم أن الناس لا يعدلون بي ما دمت فيه فيود أنّي خرجت منه لتخلوا له» (١)

وهذه النصحية عكس نصيحته عندما رأى اختلاف أهل مكة إلى الحسين عليه‌السلام لمّا وردها ؛ لأنّه أراد أن يتخلّص منه حتّى يتوجّه أهل مكة إليه فقدّم إليه نصيحة مغشوشة كما ذكرها المسعودي في تاريخه.

وبلغ ابن الزبير أنّه ـ يعني الحسين ـ يريد الخروج إلى الكوفة وهو أثقل الناس عليه قد غمّه مكانه بمكّة ؛ لأنّ الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين فلم يكن شيء يُؤتاه أحبّ إليه من شخوص الحسين عن مكة فأتاه فقال : أبا عبد الله ما عندك؟ فو الله لقد خفت في ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم واستذلالهم الصالحين من عباد الله. فقال الحسين عليه‌السلام : «قد عزمتُ على إتيان الكوفة». فقال : وفَّقَكَ الله أما لو أنّ لي بها مثل أنصارك ما عدلْتُ عنها. ثمّ خاف أن يتّهمه (٢) ....

وخرج الحسين عليه‌السلام وعبد الله بن الزبير من ليلتهما إلى مكّة فقدما مكّة ؛ فنزل الحسين دار العباس بن عبد المطّلب ولزم ابن الزبير الحِجْر ولبس المَعَافريَّ وجعل يُحَرِّض الناس على بني اُميّة وكان يغدو ويروح

____________________

(١) الفصول المهمّة : ص ١٨٤.

(٢) مروج الذهب : ج ٣ ص ٦٧.

١٣٧

إلى الحسين ويشير عليه أن يقدم العراق ويقول : هم شيعتك وشيعة أبيك. وكان عبد الله بن عباس ينهاه عن ذلك ويقول : لا تفعل(١).

قال الحسين عليه‌السلام لابن عباس : «فإنّي مستوطن هذا الحرم ـ يعني مكّة ـ ومُقيم فيه أبداً ما رأيت أهله يحبّوني وينصروني فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم واستعصمت بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل عليه‌السلام يوم أُلقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل فكانت النار عليه برداً وسلاماً» (٢).

فلمّا أصبح الحسين عليه‌السلام وإذا برجل من الكوفة يُكنّى أبا هرّة الأزدي أتاه فسلّم عليه ثمّ قال : يابن بنت رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال الحسين عليه‌السلام : «يا أبا هرة إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت. وأيم الله يا أبا هرة لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم الله ذُلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وليُسلطنَّ الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهنّ فحكمت في أموالهم وفي دمائهم» (٣).

وقالوا : وكان زهير بن القين البَجَلي بمكّة وكان عثمانيّاً فانصرف من مكة متعجّلاً فضمّه الطريق وحسيناً فكان يسايره ولا ينازله ؛ ينزل الحسين في ناحية وزهير في ناحية فأرسل الحسين إليه في إتيانه فأمرته امرأته دملم

____________________

(١) تهذيب الكمال : ج ٦ ص ٤١٥.

(٢) كتاب الفتوح : ج ٥ ص ٤٤.

(٣) المصدر نفسه : ص ١٢٣.

١٣٨

بنت عمرو أن يأتيه فأبى فقالت : سبحان الله! أيبعث إليك ابن بنت رسول الله فلا تأتيه؟! فصار إليه ثمّ انصرف إلى رحله قال لامرأته : أنت طالق فالحقي بأهلك ؛ فإنّي لا أُحبّ أن يُصيبك بسببي إلاّ خير ثمّ قال لأصحابه : مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فإنّه آخر العهد وصار مع الحسين(١).

هذا الرجل لقد وصل به الموقف الحسيني إلى طلاق زوجته هذا هو العشق الإلهي للشهادة من أجل نصرة الإسلام فكلّ واحد منّا إمّا أن ينضمّ إلى معسكر الحسين عليه‌السلام أو إلى معسكر يزيد بن معاوية ؛ لأنّه صراع بين الحقّ والباطل والخير والشرّ ولا ثالث لهما أليس كذلك؟

وكان موقف الحرّ واضحاً للعيان في واقعة الطفّ يوم عاشوراء وذلك لمّا زحف عمر نحو الحسين عليه‌السلام أتاه الحرّ بن يزيد فقال له : أصلحك الله أمقاتل أنتَ هذا الرجل؟ قال له : إي إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي ... فأقبل يدنو نحو الحسين قليلاً قليلاً وأخذتْه رِعدة فقال له رجل من قومه يُقال له : المهاجر بن أَوْس : والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن! ولو قيل : مَنْ أشجعُ أهل الكوفة؟ لما عدوتُك. فقال له : إنّي ـ والله ـ أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحُرقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه‌السلام فقال له : جعلني الله فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستُك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون

____________________

(١) أنساب الأشراف : ج ٢ ص ٤٧٠.

١٣٩

عليك ما عرضتَ عليهم أبداً ولا يبلغون منك هذه المنزلة. فقلت في نفسي : لا اُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم وإنّي لو سولت لي نفسي أنّهم يقتلونك ما ركبت هذا منك وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منِّي إلى ربّي ومواسياً لك نفسي حتّى أموت بين يديك أفترى ذلك لي توبة؟ قال : «نعم يتوب الله عليك ويغفر لك. ما اسمك؟». قال : أنا الحرّ بن يزيد. قال : «أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة. انزل». قال : أنا لك فارساً خير منّي راجلاً اُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري. قال الحسين عليه‌السلام : «فاصنع يرحمك الله ما بدا لك».

ثمّ قال : يابن رسول الله كنت أوّل خارج عليك فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ؛ فلعلّي أن أكون ممّا يصافح جدّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله غداً في القيامة. فقال له الحسين عليه‌السلام : «إن شئت فأنت ممّن تاب الله عليه وهو التواب الرحيم» (١).

قال الراوي : هذا ما كان من أمر الحسين عليه‌السلام ونزوله بأرض كربلاء وأمّا ما كان من أمر ابن زياد فإنّه أتاه رجل من عسكر الحرّ من غير علمه وقال : اعلم أيّها الأمير أن الحسين نزل في أرض كربلاء ... فعند ذلك أطلق منادياً في الكوفة : يا معشر الناس مَنْ يأت برأس الحسين فله ملك الرّي عشر سنين. وأرسل في البصرة منادياً بمثل ذلك. فقام إليه عمر بن سعد وقال : أنا آتيك برأسه. فقال له : امضِ وامنعه من شرب الماء وائتني برأسه. فقال : سمعاً وطاعة فعند ذلك عقد له الراية والإمرة على ستة آلاف فارس.

____________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٥٦٣ تاريخ الطبري : ج ٤ ص ٣٢٤ ؛ مقتل الحسين للخوارزمي : ج ٢ ص ٩.

١٤٠