نهضة الحسين (ع)

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني

نهضة الحسين (ع)

المؤلف:

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني


المحقق: مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

الهِجرة الحسينيَّة وانقلابات حَول الستِّين

للحوادث أدوار تَتعاقِب كالليل والنهار ، والتاريخ يُعيد نفسه باختلاف الأطوار ؛ فما أشبه هِجرة الحسين (عليه السّلام) ، بأهله مِن المدينة إلى مَكَّة ؛ خَوفاً مِن آل أبي سفيان ، وبهِجرة جَدِّه محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ، بأهله إلى المدينة مِن مَكَّة ؛ خَوفاً مِن أبي سفيان وحِزبه ، وبين اليومين نحو سِتِّين عاماً ؛ كذلك مَجْدُ أُميَّة وأبي سفيان انقرض في فَتح مَكَّة ، على يدي محمّد بن عبد الله ، النبي الهاشمي (صلَّى الله عليه وآله) ، وانقرضت ثانية دولة آل أبي سفيان ، بعد مَقتل الحسين (عليه السّلام) ببِضع سِنين ، وبين اليومين نحو سِتِّين عاماً ، ثمَّ بُنيت على أنقاضها حكومة مروانيَّة ، عاشت نحو سِتِّين عام ، ثمَّ انقرضت هي وكلُّ مَجدٍ لأُميَّة على يدي محمّد بن عبد الله القائد الهاشمي.

وأولوا المَبادي والهِمم ، والعلماء ، بمَجاري الحركات في العالم ، لا تَبرد عزائمهم مَهْما خابت مَساعيهم ، ويواصلون المَسعى بالمسعى وإن فشلوا ، والدهر دوَّار ، وللتاريخ تَكرار ، وللنفوس إقبال وإدبار ،

٤١

فالناهض بفِكرة صالحة ، لابُدَّ وأنْ يُثابِر على نشره ، والدعوة إليه ، ثابت العَزم ، راسخ القَدم ، لا تُزحزحه عواصف العواطف ، ولا تُزلزله قواصف المَخاوف ، ولكنْ عليه أنْ يستخدم في سبيلها العِبر ، والغير والأحوال ، وبقاء الحال مُحال ، حتَّى لو وجد مُحيطه بالغ الفساد ، غير صالح للإصلاح ، استبدل عن المكان بمكان ، وعن الجيران بجيران ، تلك سُنَّة الأنبياء والمُصلحين ، حتَّى إذا فاز بهيئةٍ صالحةٍ ، وقوَّة مُسلَّحة ، عاد إلى مركزه (والعَود أحمد) كذلك محمّد (صلَّى الله عليه وآله) مِن مَكَّة ، ثمَّ إليها وذاك موسى مِن مِصره ، ثمَّ إليه ، هذا ، وليس حسينُ التاريخ بِدْعاً مِن رُسل الإصلاح ؛ إذا هاجر مِن موطنه خَوفاً على مَسلكه ، أو أملاً بنهضته.

فقد سَمِعتَ الأسباب ، التي دَعت حسيناً أنْ يُغادر يثرب خائفاً يترقَّب ، فاسمع الآن آثار هذه الهِجرة ، وحُسْن انعكاسها في العالم الإسلامي.

قد سَبق أنَّ المُخابرات بين المدينة والمُدْن ، كانت تحت المُراقبة ومفقودة الوسائل والوسائط ، فصارت حركة الحسين (عليه السّلام) قضيَّة ذات بالٍ تَناقلتها المَحافل والقَوافل ، والناس بعد حُلوله أُمَّ القُرى ، ومَن حولها سوابلَ جاريةً إلى الجهات ، فانتشر الخبر بأهميَّة لا مزيد عليها ، حتَّى صار حديث كلِّ اثنين يَجتمعان.

- «ما وراك؟»

- «هاجر الحسين (عليه السّلام) مِن مدينة جَدِّه».

- «لماذا؟»

- «لأنَّ يزيد قصد إرغامه على مُبايعته».

٤٢

- نَعمْ ، نِعْمَ ما صنع الحسين (عليه السّلام) ، فإنّه لو بايع يزيد الجائر المُتجاهر بفِسقه ؛ فعلى الإسلام السلام ، إذاً ما ترى أنْ يكون؟

- ليس سوى اجتماع المسلمين حوله ، ونصبه خليفة كأبيه عليٍّ (عليه السّلام) ؛ ليُحيي بعلمه معالم دين جَدِّه ؛ ويُحامي بغيرته الهاشميَّة عن مصالح المسلمين ؛ ويُنقذ بقوَّة إيمانه العلويِّ أحكام القرآن النازل في بيته.

هذه وأمثالها ، كانت أحاديثَ أكثر المَجامع يومئذٍ في الحِجاز أوَّلاً ، وفي سائر الأقطار بعده ، وما فاز الحسين بهذه الإذاعة والإشاعة ، إلاَّ بخروجه مِن المدينة مَظلوماً ، وناقماً على الظالمين.

٤٣

الحسين (ع) وابن الزبير

استقوت بحركة الحسين (عليه السّلام) عزائم ابن الزبير ، وأجهر أيضاً بخِلاف يزيد ورفض بيعته ، ولازم مَكَّة أُمَّ القُرى ، يسلُك مَسلك الحسين (عليه السّلام) لمْ يصرّح بالدعاء إلى شَخصه ، وإنَّما أجهر برفض بيعة يزيد فقط بالتقيَّة مِن شَرِّ أُميَّة ، راضياً بأنْ يُخلِّي له السِّرب ؛ كي يَنفذ إلى ثَغرٍ مِن الثغور.

كذلك الشريعة تَقضي على المسلم ، إذا لم يَسعه إظهار دينه في بلده ، أنْ يُهاجر منها إلى مأمن ، لا يضطرَّه إلى التقيَّة ، وسبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أحرى بالتزام شريعته ، وكان يتَّسع نطاق شيعته يوماً فيوم ، لإخلاص الحسين (عليه السّلام) في أمره ، وجليِّ فضله وسموِّ شَرفه ، وكرم مَحتدِه ، لكنَّ حزب ابن الزبير ، وإنْ كان صغير ، قد نفع الحسين (عليه السّلام) ، في تنفير العامَّة مِن بَني أُميَّة ، وكانت لابن الزبير وأبيه سابقة سوء مع عليِّ (عليه السّلام) ، في بدء خِلافته ، بالرغم مِن القُربى الماسَّة بينهم ؛ حتَّى قال عنهما عليٌّ (عليه السّلام) :

٤٤

«لمْ يَزل الزبير مِنّا ، حتَّى نشأ ابنه عبد الله» ، لكنَّما الغاية المُشتركة وضُعفهما تجاه العدوِّ القوي ، دعاهما إلى تجديد عهود الولاء ، ونسيان سوالف البَغضاء ؛ فصار يزور كلٌّ منهما الآخر عَشيَّةً وضُحاه ، وقد صار لمَظهر اتِّحاد ابن الزبير مع الحسين أثرٌ حَسَنٌ ، ورهبة في نفوس مَن عاداهم ، ومَن عداهم ، وذهبت الرُّسل مِن الحَرمين إلى يزيد بأخبارٍ مُذعِرة ، وبصورةٍ مُكبرة ؛ دعته إلى التأهُّب عليهما بكلِّ ما أوتي مِن قوَّة ومَكيدة ، فأرسل عمرو بن سعيد والياً على المدينة ، وأميراً على الموسم ، مُزوَّداً بالتعاليم ، وموعوداً بالتأييد ، فقَدِم مَكَّة ليلة التروية.

٤٥

وضعيَّة الإمام في مَكَّة

حَلَّ الحسين (عليه السّلام) في حرم الله ؛ مُستجيراً به مِمَّن يريدون إرغامه على مُبايعته لرجُلِ الجَور والفُجور ، وقد استحسن المسلمون اعتصابه واعتصامه بالتقاليد المُقدَّسة عند المسلمين ، فأخذ المُتقدّمون إلى الحَجِّ يتهافتون عليه ، ويهتفون بالدعوة إليه ، يطوفون حوله ، هذا يلتمس العِلْم والحديث ، وذاك يقتبس منه الحِكَم النافعة ، والكَلِم الجامعة ؛ ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة ، والرجُل بينهم مِرآة الكرامة والشهامة ، ومِثال الحِكمة والسلامة ؛ فطارت في الأقطار أخباره وآثاره ، فتواترت الكُتب والرُّسل ، والوعود والوفود ، سيَّما مِن كوفة العراق (عاصمة أبيه) مِن وجوه شيعته ومواليه ، إذ بلغهم هلاك معاوية ، فارجفوا بيزيد ، وعرفوا خبر الحسين (عليه السّلام) ، وامتناعه مِن بيعته ، وما كان مِن أمر ابن الزبير في ذلك ، وخروجهما إلى مَكَّة ، فاجتمعت الشيعة بالكوفة ، في مَنزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فذكروا هلاك معاوية ، فحمد الله سليمان وأثنى عليه ، ثمَّ قال : إنَّ مُعاوية قد هلك ، وإنَّ حسيناً قد نقض على القوم أمرهم ، وقد خرج إلى مَكَّة ،

٤٦

وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإنْ كنتم تعلمون أنَّكم ناصروه ومُجاهدوعدوّه ، فاكتبوا إليه ، وإنْ خِفتم الفَشل والوَهن ، فلا تغرُّوا الرجُل في نفسه. قالوا : لا ، بلْ نُقاتل عدوَّه ، ونقتل أنفسنا دونه. وكتبوا إليه الكتب في أواخر شعبان.

وشَذَّ ما ترى في الكتب المُرسلة ، كتاباً بإمضاء الواحد والاثنين ، وإنَّما هي رِقاع (مَضابط) ، موقَّعة بأسماء آحاد وعشرات مِن وجهاء ورؤساء (شيوخ) يعترفون بإمامته ، ويتمنّون قدومه إليهم ، بألفاظ جَذَّابة ، ولكنْ كذَّابة ، ومواعيد جَلاَّبة ، ولكنْ خَلاَّبة.

والمشهور أنَّه أحصوا عليه في أيَّام قلائلَ كُتُبَ اثني عشر ألف ، فاختلف عند ذلك الإشارات عليه مِن أصحابه وخاصَّته ، فمنهم المُشير عليه بإقامة مَكَّة ، وإرسال عُمّاله ودُعاته إلى الجِهات.

ومنهم المُشير عليه بالذهاب إلى اليمن ، مَنبت الصدق والإيمان ، ومَهبِّ الحِكمة والعروبة ، وقد سبق منهم لأبيه ولاؤهم الصادق ، منذ ولاَّه النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، لولا أنّ المتوّجه إلى اليمن ينقطع خَطّ رجعته ، كما تَنقطع مواصلاته مع الآفاق.

ومنهم المُشير عليه بالمَسير إلى العراق ، عاصمة أبيه ، ومَوطن أصحابه ومواليه ، ومَعدن الفروسة والفراسة ، ومَنبت الأموال والرجال ، وهما قوْام كلِّ حكومة.

٤٧

الحسين (عليه السّلام) يَختار الكوفة

كانت خُطَّة الحسين (عليه السّلام) ، إلى حين تواتر الرُّسل والكتب إليه ، خُطَّة دفاعٍ عن نفسه ، والالتجاء مِن آثام بيعة يزيد إلى مَلجأ حَصين. غير إنَّ صَريخ البلاد والعباد ، وهِتاف الأنصار والأمصار به وله ، وإليه حولا فِكره مِن دفاع مَحدود ، إلى دفاع وسيع النِّطاق ، رجاء نُصرة الدين ، ودفع عادية الظلمة عن المسلمين ، فاستخار الله ، وندب إلى العراق ، بعدما أرسل إليهم ليث بني عقيل ، مُسلماً ابن عمِّه ، حتَّى إذا وجدهم على ما كتبوا إليه ، توجَّه إليهم بنفسه وأهله ، وكان مسلم كبقيَّة آل علي (عليه السّلام) ، رجُلَ الصدق والصَفاء ، ومِثال الشجاعة والإيمان ، فقام لأمر صِهره وسيّده الحسين (عليه السّلام) ، وما قَدِم الكوفة إلاَّ وتكوَّفت جماهير الرؤساء لأخذ يمينه ؛ يُبايعونه نائباً عن الحسين ، وقد كان لآل علي (عليه السّلام) ، وفي صدورهم عِتاب مع أهل الكوفة ، في خُذلانهم الحسن بن علي (عليهما السلام) ، واغترارهم بدراهم معاوية ، لكنْ حُسْن استقبالهم لمسلم مَحى كلَّ عِتاب ، وكفَّر كلَّ ذنبٍ ، سيَّما وإنَّ الكرام سريعو الرضا ، والمُصلِح لا يَحفظ غِلاً أو حِقداً.

٤٨

فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السّلام) بإقبال العامَّة ، وإخلاص الخاصَّة ، نادمين على ما فرَّطوا في جنب البيت الهاشمي ، الذي كان سلطانه أنفع لدينهم ، وحَثَّ الحسين (عليه السّلام) على القدوم إلى العراق ؛ ليُجدِّد على ربوعه معالم أسلافه.

٤٩

بنو أُميّة والخطر الحسيني

أخذت قضيَّة الحسين (عليه السّلام) تُحرِّك العزائم ، وتُنبِّه المشاعر في الدوائر الأُمويَّة ، وساد القَلق على حُلفائهم وأوليائهم ، وهم عالِمون أنَّ حسيناً يضرب على أيدي الجائرين ، ولا يُولِّي فاسقاً أمر المسلمين ؛ فغدت رجال الحكم الأُموي ألسِنَةً وعيوناً ، وأقلاماً وسيوفاً ، ضِدَّ الحركة الحسينيَّة ، سيَّما في مناطق العِراق والحِجاز ، واستفزَّوا قبل كلِّ شيء حكومة الشام ، والهيئة المَركزيَّة بالتأهُّب للخطر الهاشمي ؛ فكتب عمر بن سعد ، وعمارة بن عقبة ، وعبد الله بن مسلم ، وأضرابهم إلى يزيد :

«أمَّا بعد ، فإنَّ مسلم بن عقيل قَدِم الكوفة ، وبايعته الشيعة للحسين (عليه السّلام) ، فإنْ يَكُن لك في الكوفة حاجة ، فابعث إليها رجُلاً قويَّاً ، يُنفِّذ أمرك ، ويعمل مِثل عملك في عدوِّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير ، والي الكوفة رجل ضعيف أو يتضعَّف».

وكأنَّهم ورُسلهم استلفتوا أنظار حكومة الشام ، إلى أنَّ العراق مفتاح الشرق الأدنى ، وهو باب الشرق الأوسط ؛ فالحسين (عليه

٥٠

السّلام) إذا رسخت أقدامه بين النهرين ، وأهلوهما شيعة أبيه ، ومَدائن كِسرى تواليه (مُنذ وَلْيَها سلمان ، وتزوَّج بشاه زنان) ، فأنوار مباديه تشعُّ على ربوع إيران ؛ فيكون له منهم أنصارُ المال ، وأنصارُ الحرب ، وأنصارُ الرأي والإرادة ، وأنصارٌ لنشر مَعارف القرآن ، وعلوم شرع جَدِّه الزاهر ، فإذا توفَّق بهم على تكوين حكومة راقية ؛ صار أولى مِن أُميَّة بالولاية على الأقطار ، حتَّى الحجاز والشام ؛ لأنَّ المُهيمن على العراق يُهدِّد أبداً خُطوط مواصلات الشام للحرميَن ، وربَّما يُجدِّد العراق على الشام حرب صِفِّين ، حينما أرض الشام خالية مِن الداهيتيَن : مُعاوية ، وابن العاص.

أمَّا يزيد ، فلم يَكُن منه بادي بدء ، سِوى استشارة (سرجون) مولى أبيه معاوية ، في كُتُب القوم إليه ؛ فأشار عليه باستعمال عبيد الله بن زياد على العراق ، وكانت بينه وبين يزيد برودة ، وأبرز سرجون ليزيد عهداً كان معاوية قد كتبه في هذا الشأن ، قُبيل وفاته (١) ، فوافق يزيد على ذلك ، وانتهى إلى ابن زياد أمره ، وكتب إليه : أمَّا بعد : فإنَّه كتب اليَّ شيعتي مِن أهل الكوفة ، يُخبرونني أنَّ ابن عقيل فيها ، يجمع الجموع ؛ ليَشُق عصا المسلمين ، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا ، حتَّى تأتي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتَّى تُثقِّفه ، وتوثقه ، أو تقتله ، أو تنفيه. إلى آخره.

فأخذ ابن زياد مِن كتاب يزيد ورسوله ، قوَّة وبصيرة ، وصلاحيَّة واسعة في صرف المال ، وبَثَّ المواعيد ، ومَنحه الاختيارات التامَّة.

__________________

(١) العقد الفريد ، لابن عبد ربَّه ٢ / ٣٠٦ ، وإرشاد المُفيد / ١٨٤.

٥١

رأت حكومة يزيد مِن الدهاء والحزم ، سكوتها عن ابن الزبير مُوقَّتاً ، حتَّى يَحسم الزمان أمر الحسين (عليه السّلام) ، الذي أصبح يُهدِّد كيان أُميَّة أيَّ تهديد ، فإذا قضت أُميَّة لُبانتها مِن الحسين (عليه السّلام) ، سَهل عليها أمر ابن الزبير؛ لأنَّ المرعوبيَّة تسود على أضداد يزيد ، بعد الإجهاز على الحركة الحسينيَّة ؛ ولأنَّ موقع ابن الزبير في النفوس ، ليس كموقع الحسين (عليه السّلام) ، سيَّما وابن الزبير شحيح (ولا يَسود إلاّ مَن يجود) ؛ ولأنَّ ابن الزبير لم يرتبط ببلاد ذات خيرات وبركات ، كالعراق واليمن ، حتَّى يستفيد مِن مِيرتها وذخيرتها لجيشه ، لو انتضى له جيش! فلو فُرِض استمراره على خِلاف يزيد بعد الحسين (عليه السّلام) ؛ فجُند أُميَّة يُحاصره في بلاد الحجاز ، القاحلة بين الجبال والرمال ، حتَّى يُسلِّم هو وجُنده ، أو يُقاتل وحده والوحيد مغلوب.

٥٢

الكوفة في نَظر الحسين (عليه السّلام)

شاعت مُبايعة العراق للحسين (عليه السّلام) بالإمامة ، ففَرِح أولياؤه وأهل الحَرمين ، وتفاءلوا مِن ذلك بعود الحَقِّ إلى أهله ، عسى أنْ تموت البِدع ، وتحيا السُّنن ، لكنَّ خاصَّة الحسين (عليه السّلام) بعد الإطلاع على سَفر مسلم إلى الكوفة ، كانوا بين مُحبِّذٍ ومُخطِّيء ، ويُمثِّل الأخير عبد الله بن عبّاس (رضي الله عنه) ، فجاء إلى الحسين (عليه السّلام) يُحذّره مِن الرواح إلى العراق ، ويُذكِّره بخُذلانهم أخاه وعصيانهم أباه ، في حين أنَّهم لم يكونوا يحلمون بإمام كأبي الحسين (عليهما السّلام) ، أشرف الناس ، وأذكاهم ، وأفصحهم ، وأسخاهم وأعلمهم ، وأتقاهم ، يلبس الخشِن ويكسوهم حِلله ، ويبيت طاوياً ويُنفِق عليهم مأكله ، ويَكدُّ مِن سَعي وسَقي ، ويتصدَّق على الفُقراء ، وإذا شُنَّت عليهم الغارات ؛ فهو في مُقدِّمة المُدافعين عنهم ، يخوض بنفسه حومة الوغى ، حتَّى يهزم الجمع ويولّون الدُّبُر ، فأيُّ إمامٍ يكون لهم كعليٍّ (عليه السّلام) ، وكيف كافئوه وأهله في حياته وبعد وفاته.

نعم ، إنَّ ابن عبّاس كان حَبرَ الأُمَّة ، ووليَّ الأئمّة ، ربَّاه

٥٣

أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعلَّمه ، وأسرَّ إليه مِن صَفوة مَعارفه ، وكان راجحَ العقل والفضل والأخلاق ، وكان مِن أعزِّ أقرانه على الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنَّ عليَّاً قام في سنوات اعتزاله الخِلافة بتربية غُلمَة في المدينة مِن أُسرته وأحبته.

لكنَّ الإمام لم يأخذ برأي مُحذِّرٍ ؛ إذ كان يَحسب نفسه في وادٍ والمُحذِّر في وادٍ ؛ فحسين الفِخار (ونفس أبيه بين جنبيه) لا يَسعه إلاّ أنْ يُلبِّي المُستغيث به ، ولا يُطيق الصبر على مَحْق الدين ، وسَحْق الموحِّدين ، ولو ذاق في جهاده الأمرَّين.

إنَّ غاية ما كان يراه الحسين (عليه السّلام) ، في تحذير المُحذِّرين ، أنَّ العراق لا يَفي بوَعده ، ولا يقوم على عهده ، فهبْ أنَّ ذلك كذلك ، فما ضَرَّ الإمام أنْ يُتمَِّ الحُجَّة عليهم ، قبل أنْ يُتمِّوا الحُجَّة عليه ، فإنْ ظفر بمَطلبه مِن إبادة الظالمين فبها ونِعْمَتْ ، وإلاَّ سار عنهم إلى الثغور القاصية ، حتَّى يفتح الله عليه بالحَقِّ وهو خير الفاتحين ، أو يأتيه الموت ؛ فيُلاقي ربَّه غير خاضع لأعدائه.

أمَّا رَحْلُ الحسين (عليه السّلام) وفِتيته ، فكانوا كلَّما ذكروا العراق ، تجلَّت لديهم ذكرياته الحُسنى ، وتذكَّروا حَنانه نحو الغريب وطلاوة الحديث الجَذَّاب ، والعواطف الرقيقة ، وذكروا عذوبة ماءه ، وطْيب هوائه ، عِلاوةَ ذِكرى مَن ألفوه بالكوفة ، مِمَّن تبودِلت بينه وبينهم الحقوق ، والنِّعم ، والعواطف ، والحسنات.

فكأنَّ هذه ، والتي سبقت ، خواطرَ مُهمَّة أدَّت إلى المسير نحو العراق ، وقَبول ما استدعاه وكيله الأمين (مسلم) في كتابه ؛ غير إنَّ الجميع واثقون مِن أنَّ الرحيل إلى العراق لو كان ، فإنَّما يكون بعد فريضة الحَجِّ ، وبعد الأضحى.

٥٤

خُروج الحسين (عليه السّلام) مِن مَكَّة

كان الحسين (عليه السّلام) أوسع علمٍ ، وأقوى ديناً مِمَّن انتقدوا عليه الخروج مِن مَكَّة ، قبل إكمال الحَجِّ ، مُستبدِلاً حَجَّه بعُمرةٍ مُفرَدة ؛ ليتسنَّى له الخروج يوم التروية ، ومُجاوزة حدود الحرم بأقرب وقت مُمكِن ؛ إذ صار بين جاذبٍ ودافعٍ ، تجذبه ظاهراً أنباء حِجَّاج العراق ، بأنّ ابن زياد تأهَّب للخروج مِن البصرة نحو الكوفة ، والحسين (عليه السّلام) يعرف مَبلغ دهائه وريائه ، وقوَّة إقدامه وجَسارته ، وأنَّه إذا سبق الحسين (عليه السّلام) إلى الكوفة ، قَلَب القلوب ، وقَطَع عليه الدروب ، واستعمل لخُذلان مسلم كلَّ وسيلةٍ وحيلةٍ ، وأنَّ مُسلماً بنفسيَّته الحربيَّة ، قد تَخْفَى عليه الحركات السياسيَّة ؛ فلا يَنجح مع ذلك الشيطان رجُل المروءة والإيمان ؛ فخرج إلى الكوفة مُسرعاً ، إنقاذاً لمُسلم وللمسلمين.

وأمَّا دافعه مِن الحرم ، فعلمه بالمَكايد المُدبَّرة مِن خصومه لحصره ، أو اغتياله في مَكَّة مِن حين تَفرُّق الحاجِّ منه ؛ فيُصبح إمَّا مَقتول ، أو مُقاتَل ، وفي كِلا الأمرين هَتْكُ الحرم ، المَمنوع فيه سَفك

٥٥

الدم ، وقد بدت قرينة مُناوأته ، في قُدوم عمرو بن سعيد ، عامل يزيد قَبل التروية بيوم ، وتَقدُّمه إلى الصلاة بالمسلمين ، وبَثِّه العيون حول الحسين (عليه السّلام) ، وحول ابن الزبير ، فصلَّى الإمام ، فطاف وسعى ، وحَلَّ الإحرام ، ثمَّ خرج. وبعدما عَرِف عمرو بن سعيد ، صرخ بالناس قائلاً :

«أركبوا كلَّ بَعير بين السماء والأرض ، واطلبوا حسيناً ، ولم يَحتشم حُرمة البلد الأمين ، ولا النبيِّ الأمين».

بادر الحسين (عليه السّلام) بمسيره ، قبل أنْ يُبادر العدوُّ إلى صَدِّه وإحصاره ، أو اغتياله ، وألجأته الضرورة إلى حركة غير مُنتظَرة ، وخارج الحُسبان ، وأوجد بمسيره هذا ثورة فِكريَّة ؛ أوجبت انتشار خبره بسرعة البرق. وحقَّاً أقول : إنَّ الحسين (عليه السّلام) مُجتَهد في نيَّته ، ومُستفرِغ كلَّما في وسعه ، في نشر دعوته ، في عصرٍ ومِصرٍ شحَّت وسائل النشر فيهم ؛ فكان لخروجه في غير أوانه دويٌّ يَرنُّ صداه في الداخل والخارج ، والناس يتسائلون عن نبأه العظيم ، وعن أنَّ الحسين (عليه السّلام) هل حَجَّ أو خرج؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ وإلى أين؟

هذا والحسين (عليه السّلام) يسير بموكبه الفخيم ، وحوله أهله كهالَةٍ حول القمر ، كأنَّ موكبه داعية مِن دُعاته ؛ فإنّ الخارج يومئذ مِن أرض الحَجِّ والناس متوجهون إلى الحَجِّ ، لابُدَّ وأنْ يستلفِت إلى نفسه الأنظار ، وإنْ كان راكباً واحداً ، فكيف برَكبٍ أو موكبٍ؟ إنَّه لأمر مُريب وغَريب ، يستوقف الناظر ، ويستجوب كلَّ عابرٍ.

وهذه أيضاً عمليَّة ، مِن شأنها شُهرةَ أمر الإمام ، وانتشار خبره الهامِّ ، ومِمَّن كان قادِماً إلى الحَجِّ ، واستجلب نظره الركب والموكب

٥٦

الفرزدق الشاعر.

قال : حَجَجت بأُمِّي في سنة سِتِّين ، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحَرم ، إذ لقيت الحسين بن علي (عليهما السلام) خارجاً مِن مَكَّة مع أسيافه وأتراسه ، فقلت لمَن هذا القطار؟

فقيل : للحسين بن علي (عليهما السّلام) ، فأتيته وسلَّمت عليه ، وقلت له : أعطاك الله سؤلك ، بأبي أنت وأُمِّي ، يابن رسول الله ، ما أعجلك عن الحَجِّ؟

فقال (ع) : «لو لمْ أُعجِّل لأُخِذت».

ثمَّ قال لي : «مَن أنت؟»

قلت : أمرؤ مِن العرب ، فلا والله ما فتَّشني عن أكثر مِن ذلك.

ثمَّ قال لي : «أخبِرني عن الناس خلفك».

فقلت : مِن الخَبير سألتَ ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل مِن السماء.

وسألته عن أشياء : مِن نذورٍ ، ومناسك فأخبرني بها ، وحَرَّك راحلته ، وقال : «السّلام عليك».

وكان موكب الحسين (عليه السّلام) ، يسير في بطون الفيافي والمفاوز ، وقوافل القلوب تُشايعه مِن بُعدٍ بَعيد ، وخفيف إلحاذ مِن عُشّاقه مُصمِّمٌ على الالتحاق بموكبه ، بعد أداء فريضة الحَجِّ بأقرب ساعة ، لكنَّ الإمام يُجِدُّ في مَسراه ، والقمر دليل الركب ورفيقه ، ولمّا بلغ بَطْنَ عقبة ، لقيه شيخ مِن بَني عِكرمة ، فسأله أين تريد؟

فقال الشيخ : أنشدك الله لَمْا انصرفت ، فو الله ، ما تُقدِم إلاَّ على الأسنَّة وحَدِّ السيوف ، وإنَّ هؤلاء الذين بعثوا إليك ، لو كانوا كفوك مُؤنة القتال ، ووطئوا

٥٧

لك الأشياء ، فقَدِمت عليهم كان ذلك رأياً.

فقال له الإمام (ع) : «ليس يَخفى عليك الرأي ، ولكنَّ الله تعالى لا يُغلَب على أمره».

ثمَّ قال (عليه السّلام) : «والله ، لا يدعونني حتَّى يستخرجوا هذه العَلقة مِن جَوفي ، فإذا فعلوا سَلَّط الله عليهم مَن يُذلّهم ، حتَّى يكونوا أذلَّ فِرق الأُمَم».

٥٨

ابن زياد على الكوفة

أمّا عبيد الله بن زياد ، فقد ضَمَّ يزيد الكوفة إليه ، مع البصرة ، فحَسِب ذلك ضَرباً مِن الترفيع ، سيَّما وقد أُعطي سِعة في النفوذ ، والسلطة التامَّة العامَّة ، فمهَّد أمره في البصرة ، وعهد بأزمَّتها إلى أخيه ، وإلى أعوانه المُجرَّبين ، خَوفاً مِن نشر الدعاية فيها لابن الزبير ، أو الحسين (عليه السّلام) ، وتأهَّب إلى الكوفة ، مِن حيثُ لم يعلم العامَّة أمره ، وسُرعان ما قَدِمها بكلِّ جَسارة ، ودخلها مُتنكِّراً ومُتلثِّماً ، وعليه عِمامة سوداء ، يوهِم الناس إنَّه الحسين بن علي (عليهما السّلام) ، وصار مَن يُصادفونه في خِطط الكوفة وطُرقاتها ، يزعمونه الحسين السبط ، فيُسلِّمون عليه بالإمامة ، ويُحيِّونه بكلِّ كرامة ، ويقبِّلون يديه ورُجليه ، وهو لا يُكلِّم أحداً فوق راحتله ، حتَّى بلغ قصر الإمارة ، فطرق الباب على واليِّها المحصور النعمان بن البشير ، حتَّى إذا عرفه فتح الباب ودخل.

عند ذلك فشى خبره أنَّه ابن زياد ؛ فباتت الكوفة تلك الليلة تَغلي كالمَرجِل ، والناس بين مُثبِّت ومُثبِّط ، وابن زياد دخل البلدة وَحْدَه ،

٥٩

وعلى حين غُرَّة ، ولم ينزل إلاَّ في مَركز الحُكم ، وأخذ في قبضته المال والسلاح ، ورتَّب في ليلته على الدوائر المُهمَّة مَن لم يَتجاهروا بمَعيَّة مسلم ، وأصبح مُناديه يجمع الناس لخِطابته في الجامع الأعظم ، فرقى المِنبر بكلِّ جَسارة ـ وجَسارة الخطيب تُعطي لكلامه قوَّة نفوذ ، وتأثير على الأوهام ـ فصار يَعِدُ ويوعد ، لا عن لسان الله ورسوله ، بلْ عن لسان أميره يزيد ، فبلَّغهم سلامه ، ولكنَّ الناس لم يردُّوا السلام عليه أوَّلاً ، حتَّى أخذ يُطمِّع المُطيع بمواعيدَ جِسام ، ويُهدِّد مُخالفيه بحَدِّ الحِسام ، والسيف مُصلَت بيده ، فعند ذلك ردَّ السلام عليه نَفر قليل ، ثمَّ أضحى مُناديه يَجمع الرؤساء والعُرفاء إليه ؛ لأخذ المواثيق ، وإنجاز المواعيد ، وتوزيع العطاي ، ومُعاقبة المُتخلِّفين عقوبة صارمَة ؛ فهرع لندائه خَلْق كثير ، وانقلبت القلوب ، وانحرفت الوجوه ، وتبدلَّت لهجات الأندية ، ونشريَّات الشيع.

نعم ، لا ينقضي العَجب ، مِن خَيبة الكوفة في نَهضتها ، إلاَّ بعد التدبُّر في أسبابها وأسرارها ؛ إذ باغت ابن زياد الكوفييِّن بزيِّ الحسين (عليه السّلام) ، حتَّى استقرَّ في دار الإمارة بين حامية مُستعدَّة ، وقد كان الواجب على أهل الكوفة بعدما لبَّى الحسين دعوتهم ، وإرساله مُسلماً وكيلاً عنه ، أنْ تَجتمع أحياؤها ، وتتَّحد رؤساؤه ؛ فيُخرجوا عامل يزيد وحاشيته ، ويُسلّموا دوائرها إلى وكيل الحسين (عليه السّلام) ، أو أنْ يقترحوا عليه مِن الأعمال المُهمَّة ما هم أدرى به وأعرف ، ومسلم لمْ يقَدِم عليهم كوالٍ مُختار ، أو مُفوَّضٍ مُطلَق ؛ ليستقلَّ في أعماله وأعمالهم بالتصرُّف والمسؤليَّة ، وإنَّما بعثه الحسين (عليه السّلام) كمُعتَمد ، يُشرف على أمرهم ، ويستطلع حقيقة خبرهم ،

٦٠