نهضة الحسين (ع)

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني

نهضة الحسين (ع)

المؤلف:

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني


المحقق: مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

الله سبحانه ، فتح لنبيِّه مَكَّة فَتحاً مُبيناً ، ونصره على قريش نصراً عزيزاً ، (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا).

انتهت الحركة السُفيانيَّة ، ولكنْ في الظاهر ، أمَّا الحزب الخاسر المُنكسر ، فقد كان يَعمل ليلاً ونهاراً في تلافي خُسرانه ، وإرجاع سُلطانه ، ولكنْ تحت الستار ، وبأخفى مِن دبيب النمل على الصَّفا ، يرسم الخُطَّة للقيام بحركة وسيعة الدائرة ، حتَّى إذا قضى النبي (صلَّى الله عليه وآله) نحبه ، تنفَّس ورغب في الانتقام.

أجلْ ، لقي محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ربَّه ، وأبو سُفيان حيٌّ يسمع الناعية على جَنازة محمّد الهاشمي (صلَّى الله عليه وآله) ، ولكنْ لا يَسعه إظهار شيء ، وكان العبّاس (رضي الله عنه) ، عَمُّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) يعرف مِن أمره شيئاً ؛ إذ كان صديقه الحميم في الجاهليَّة والإسلام ، فأشار على عليٍّ (عليه السّلام) ابن أخيه أبي طالب ، وهو يُغسِّل جَنازة النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، قائلاً له : يا علي ، مُدْ يَدك ؛ لأبايعك ؛ حتَّى يقول الناس عَمُّ رسول الله بايع ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان. فلم يَسمع مِن ابن أخيه جواباً ، سِوى كلمة : «يا عمُّ ، أوّلُها غيري».

وقبل أنْ يُدفَن النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، نَجَمَ الخِلاف حول خِلافته بين المُهاجرين والأنصار ، وربَّما كان للحزب السُفياني يَداً في إثارته ، ونفخاً لإضرامه.

٢١

حركات أبي سُفيان

لكنَّ الذي نعلمه ، أنّ أبا سُفيان لم يكنْ مِن الأنصار ، ولا مِن المُهاجرين عندما قالا : مِنَّا أمير ، ومِنكم أمير ، حتَّى يَحْسَب لنفسه حِساباً ، في التحيُّز إلى طرفٍ بالصراحة ، ورأى انضمامه إلى أضعف الأحزاب ، أيْ حزب علي (عليه السّلام) ، أقرب إلى مَقصده مِن إيجاد موازنة في القِوى ، وخَلْق عراقيلَ تكاد تمنع مِن حَسْم الخِلاف ، فجاء عليَّاً قائلاً له : لو شِئت مَلأتُها لك خَيلاً ورجالاً ، وعليٌّ (عليه السّلام) يومئذٍ ، يَطرق الأبواب على المُهاجرين والأنصار ، يتمنَّى ناصراً لقضيِّته ، فلو كان مِمّن يَضيع رُشده بالمواعيد الخَلاَّبة ، لاغتنم مِن أبي سُفيان هذا الاستعراض ، ولكنَّ الإمام عرف سوء قَصده ـ وقصدُه الصيد في الماء العَكِر ـ فأجابه بالردِّ والاستنكار ، قائلاً : «مَهْ يا أبا سُفيان ، أجاهليَّة وإسلاماً؟!» ، أيْ : إنَّك تتربَّص دوائر السوء بدين محمّد (صلَّى الله عليه وآله) في عَهديك ، عَهد الجاهليَّة ، وعهد الإسلام ، وتَفرَّس سوء مَرامه مِن كلامه) ، وإنَّه انتهز فُرصة الخِلاف مِن حاشية النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، وقصد احتلال مدينة الرسول ، عاصمة الإسلام بحُجَّة

٢٢

نُصرة الضعيف ، أو تسوية الخِلاف ، وما جيوشه سِوى مَردة العرب مِن أهل النِّفاق ، فإذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد ؛ سادت مُنافَقة العرب ، وعادت مَبادئ الجاهليَّة والناس حديثو عهد بالإسلام ؛ فيكون الرجعيُّون أولى بالقوَّة والنُّصرة ، والموحِّدون أولى بالضُّعف والذِّلـَّة ، ويُخرجُنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ.

قرأ هذه الشروح ، وأكثر منها عليٌّ (عليه السّلام) مِن كلمة أبي سُفيان ، فرَدَّه رَدّاً قارصاً ؛ لأنَّ عليَّاً (عليه السّلام) رجُلُ الحَقِّ ، وبَطَلُ الإيمان ، لا يُضحِّي بالدين ، أو المصلحة العامَّة في سبيل نَفْعٍ ذاتيٍّ ، أو شَهوة وانتقام.

ولمَّا عَرِف أبو سُفيان أنَّ عليَّاً (عليه السّلام) لا ينخدع ، وأنَّه عند تداخل الأغيار ، لَيُصافِح إخوانه المسلمين ، ويتحدَّث معهم ؛ لحفظ بَيضة الدين ، مَهْما كان ضِدَّهم وكانوا أضداده ، نَدم أبو سُفيان على لفظته ، وهرع إلى الحزب الغالِب ، وانضمَّ إليهم ؛ ليَحفظ مركزه الاجتماعي ، قبل أنْ يَخسر الطرفين ، وتأخّرت مَنْويَّاته إلى حين ، حينما يَخضرُّ عود أُميَّة بإمارة مُعاوية على الشام ، وعود سلطانهم.

وبعدما نبغ فيهم مُعاوية ، أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه ، ومعه يومئذ أبوه ، يَنصب عليَّاً دون المسلمين هدفاً لسهامه الفتَّاكة ؛ إذ عرفه الينبوع الوحيد لِسيَّال وحي المُصطفى (صلَّى الله عليه وآله) ، وأنَّه البطل المُناوئ لهم بكلِّ قِواه ، والعَميد القائم ببيت بني هاشم ، والمركز القويُّ لإبطال الحركة السُفيانيَّة ، وإنَّ عليَّاً هو وأبوه نَصيرا محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ، حين لا ناصر له ، حتَّى أنَّه فداه بنفسه ليلة مَبيته على فراشه ، وضَيَّع على قريش هِجرته ، ونقض ما

٢٣

أبرموه عليه ، وعليُّ القاتل صناديد قريش ، وأركان حزبهم في بدر وغيرها ، ولولاه لقضوا على حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في بدرٍ ، وأُحُدٍ ، وحنين ، ومَواقف أُخرى ، ولولا علي لظفر عمرو بهم بالمدينة يوم الخَنْدَق ، وعلي الفاتح قلوب أهل مَكَّة في وجه المُصطفى ؛ إذ تلى عليهم سورة البراءة في الموقف العامِّ العَصيب ، بكلِّ ثَباتٍ وجَسارةٍ وإقدام ، الأمر الذي لم يَكُن يَقُمْ به أحد مِن المسلمين غيره ، إلى غير ذلك مِن مواقفه المُهمَّة التي ضَيَّع فيها على أُميَّة مَكايدها ، وكانت صدور أُميَّة تَغلي كالمِرجل على رجُلِ الإيمان.

٢٤

مُعاوية وتعقيباته

ناصب مُعاوية وحِزبه عليَّاً وصَحبه ، وكان ما كان مِن أيَّام البصرة ، وصِفِّين ، والنَّهروان ، وعليٌّ (عليه السّلام) في كلِّها غير مَخذول ، ولا يزداد مُعاوية إلاِّ حِقداً عليه ومَوجدة ، وتعقَّب الضغائن أثر الضغائن ، وكان مُعاوية مَعروفاً بالغَدر حليماً ، إلاَّ على عليٍّ (عليه السّلام) وخاصَّته.

فلمَّا تُوفِّي أمير المؤمنين ، سنة ٤٠ هجرية بسيف ابن مُلجَم الخارجي ، ساجداً في مِحرابه ، زال مِن بين عينَي مُعاوية ذلك الشبح الرهيب ، الذي كان يُخيفه في منامه ، وفي خلواته ، وقويت عزائمه وتوجَّهت شَطره أكثر النفوس ، التي كانت رهن سجايا عليٍّ (عليه السّلام) وعلومه ، ومُنقادةً لصوته ، وسوطه ، وصِيت شجاعته وسَماحته ، سيَّما وإنَّ الآثار النبويَّة المشهورة فيه ، كانت لا تُقاس كثرةً وشُهرةً بما في شأن غيره ، والخدمات التي قام بها أبو الحسن ، كانت قاطعة الألسُن ، فضلاً عن طول عَهد الإمارة لمُعاوية ، وانتشار حزبه الفعّال ، وتوزيعه الأموال.

٢٥

هذه العوامل وغيرها ، ضيَّقت دائرة النفوذ على الحسن بن عليٍّ (عليه السّلام) وخليفته ، وأوسعت المجاري والميادين لمُعاوية وحزبه ، فانتقم مِن عليٍّ (عليه السّلام) بعد وفاته ، وسبَّه على المَنابر ، والمَعابر ، والألسن ، والكُتب (ويا بأسها مِن حِيلة ووسيلة!) ، لاستئصال مَجد بني هاشم بثَلب كبيرهم ، وقد قال ابن عبّاس (رضي الله عنه) : إنَّهم يُريدون بسبِّ عليٍّ ، سَبَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، ثمَّ لم يَقنع بذلك ، فأخذ يتتبَّع خاصَّة عليٍّ بالسَّم وغيره ، ويتمثَّل بقوله : إنَّ لله جُنوداً مِن عَسل. يعني : السَّمُّ والمَعسول إلى أعدائه ، ولمْ يَسع حلمه أصحاب عليٍّ (عليه السّلام) وبَنيه قَطٍّ ، فدسَّ سَّماً ذريعاً إلى زوجة الحسن السبط (عليه السّلام) ؛ فقتلته اغتراراً بموعد زواجها مِن يزيد.

٢٦

تأثُّرات الحسين الروحيَّة

هُنا حريٌّ بنا ، أنْ ندرُس حالة سيِّدنا الحسين (عليه السّلام) ، ذلك المُتفاني في حُبِّ شَقيقه الحسن (عليه السّلام) ، ماذا يَجري على قلبه ، وهو يرى أحشاء أخيه مَقذوفةً في الطست مِن سَّم مُعاوية ، ثمَّ تُمنَع ـ بدسيسة مروانيَّة ـ جَنازة أخيه ، مِن زيارة جَدِّه (صلَّى الله عليه وآله) وهما ريحانتاه ، ويسمع سبَّ أبيه وأخيه في المَعابر ، وعلى المَنابر ، وتَنعى إليه صحابة أبيه مَن فَتك مُعاوية بهم ، وسَحق العهود الشريفة ، ومَحق شعائر الإسلام ، وتبديل سُنَن جَدِّه بالبِدَع ، وتحويل الإسلام مِن روح دينيَّة عالميَّة ، إلى روح القوميَّة والملوكيَّة ، وتمهيد أُسُس للرُجعى إلى الجاهليَّة ، هذا كلُّه عدا ما سبق مِن أمْرِ مُعاوية وعليٍّ (عليه السّلام) ، في حروب وفتن ، أوجدها مُعاوية لأغراضٍ ذاتيَّةٍ ، وفَتٍّ في عَضد الدين ، وشتَّت بها شَمل المسلمين.

أضفْ عليها ما جرى على جَدِّه المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) ، مِن الحِزب السُفياني ، في أثناء البِعثة ، وبعد الهجرة ؛ أفلا يكون بعد ذلك كلِّه قَلب الحسين دفتراً مِلئوه المؤلِمات ، ولابُدَّ وأنْ تكون

٢٧

هذه الموجدات في الحسين (عليه السّلام) ، وفي صدره بُركاناً قويَّاً مُشرِفاً على الانفجار ، وحسين الشهامة لم يكُن بالذي يُقيم على الضيم ، لولا أنَّ الوصيَّة تتلو الوصيَّة ، مِن أخيه ، وجَدِّه ، وأبيه ، وخاصَّة مواليه بالصبر ، والصبرُ أمرُّ مِن الصبر.

٢٨

كيف يُبايع الحسين (عليه السّلام)

غريب والله ، أنَّ يزيد المشهور بالسّفاسف والفُجور ، يُريد التقمُّص لخِلافة النبي محمّد (صلَّى الله عليه وآله) المبعوث لتكميل مَكارم الأخلاق ، وذلك في حياة الحسين (عليه السّلام) ابن ذاك النبي وحبيبه ، فيزيد يعلم نفسيَّة الحسين ، ويعلم أنَّ صدر الحسين (عليه السّلام) أصبح بُركاناً قريب الانفجار ، ومع ذلك لا يقنع بسكونه وسكوته عمَّا هو فيه ، بلْ يُريد منه ـ فوق ذلك كلِّه أنْ يعترِف له بالخلافة عن الرسول ، وهل ذاك إلاَّ رابع المُستحيلات ، فإنَّ اعتراف الحسين (عليه السّلام) بخِلافة يزيد ، عُبارة أُخرى عن أنّ الحسين ليس بالحسين ، أيْ أنَّ معنى قبوله البيعة ليزيد ، بيعُ دين جَدِّه ، وكلِّ مَجْده ، وكلُّ شعور شريف للعرب ، وكلُّ حَقٍّ للمسلمين ، وكلُّ آمال لقومه يبيعها جمعاء برضى يزيد عليه ، وهذا مُحال على الحسين (عليه السّلام) ، وعلى كلِّ أبطال الفضائل ؛ فإنَّ قبوله بيعة يزيد ، عُبارة أُخرى عن اعترافه بتساوي الفضيلة والرذيلة ، واستواء العدل والظلم ، واتِّحاد الحَقِّ والباطل ، وتماثُل النور والظلام ، وأنَّ العلم والجهل مُستويان ،

٢٩

وأنّ الخفيف والثقيل سَيَّان في الميزان ، فهل يَسوغ بعد هذا كلِّه سكوته وسكونه؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ!

وقد يزعم البُسطاء : أنَّ الحسين (عليه السّلام) لو استعمل التقيَّة ، وصافح يزيد ، لاتَّقى ببيعته شَرّ أُميَّة ، ونجا مِن مَكرها ، وصان حُرمته ، وحفظ مُهجته ، لكنَّ ذلك وَهمٌ بعيد.

فإنّ يزيد المُتجاهر بالفُسوق ، لا يُقاس بمُعاوية الداهية المُتحفِّظ ، فبيعة مِثل الحسين (عليه السّلام) ، لمِثل يزيد ، غير جائزة بظاهر الشريعة ؛ ولذلك تخلَّف عن بيعته سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير أيضاً ، فأنكروا على مُعاوية استخلاف يزيد ، وامتنعوا عن بيعته حتَّى فارقوا الحياة ، وكان سيدنا الحسين (عليه السّلام) أولى بهذا الامتناع والإنكار ، وأمَّا مع غَضِّ النظر عن التكليف الشرعي ، ومُطالبة وجه غير التمسُّك بظواهر الكتاب والسُّنَّة ، فنقول :

إنَّ التحري في الوثائق التاريخيَّة ، والكتب المُعتبرة ؛ يؤدِّي إلى الاعتقاد بأنَّ سيِّدنا الحسين (عليه السّلام) ، كان يعلم أنَّ خصومه مِن بَني أُميَّة ، مُنطوون على نيَّة التشفِّي مِن قتله (بايع أو لم يُبايع) ، وقد صَرَّح في مواطنَ عِدَّة : بأنَّ بَني أُميَّة غير تاركيه ، حتَّى لو كان في جِحر ضَبٍّ لاستخرجوه وقتلوه.

قال العَكرمي في (بَطن عقبه) : «ليس يَخفى عليَّ الرأي ، ولكنَّهم لا يدعونني ، حتَّى يُخرجوا هذه العَلقة مِن جوفي». وأكَّد ابن زياد نيَّة التشفِّي مِن قَتْل الحسين (عليه السّلام) ، في كتابه لابن سعد ، قائلاً : حِلْ بين الحسين وأصحابه ، وبين الماء ، فلا يذوقوا مِنه قَطرة ، كما صُنِع بالتقيِّ

٣٠

الزكيِّ عثمان بن عفَّان) ، وأعلن يزيد بقصده الانتقام في شعره :

لستُ مِن خِندفَ إنْ لمْ أنتقم

مِن بَني أحمد ما كان فعل

علِم ابن النبي (صلَّى الله عليه وآله) تصميم آل حربٍ ، على انتقامهم مِن آل عليٍّ ، مَهْما تظاهر هؤلاء بمُسالمتهم ومُطاوعتهم ، ومَهْما تظاهر آل حربٍ لهم بالأمان والإيمان ، وقد أكَّد هذا العِلْم غَدر ابن زياد بابن عمِّه مُسلم ، وإعطائه الأمان ، حتَّى إذا خَلع سلاحه قتله شرَّ قتله.

وأجلى مِن ذلك غَدر مُعاوية بأخيه الحسن (عليه السّلام) ، ودسِّه السَّمَّ إلى مَن قتله ، بعد أنْ صالحه وصافحه وتنازل له عن خِلافته المعقودة له ، فهل ترى ابن النبي (صلَّى الله عليه وآله) بعد ذلك كلِّه يُعيد الامتحان ويُجرِّب المُجرَّب؟

كلاَّ ، إذن فالحسين وجد نفسه مَقتولاً إذا لم يُبايع ، ومَقتولاً إذا بايع ، لكنَّه إنْ بايع اشترى مع قتله قَتْل مَجدِه ، وقَتْل آثار جَدِّه ، أمَّا إذا لم يُبايع ، فإنَّما هي قتلة واحدة تُحيي بها آلامه ، وشعائر الدين ، والشرافة الخالدة.

٣١

البيعة ليزيد

صفى لمُعاوية الجوُّ ، ومَلك نحو أربعين سنة ، مُلكَاً قلمَّا يسمح الزمان بمِثله لغيره ، وهو في خِلال ذلك ، لا يفترُ عن عمله ليله ونهاره ، فيستكثر أعوانه ، ويُعزِّز إخوانه ، ويستحوذ على مَن يشاء ، بما أوتي مِن مال ودهاء ، واستمال إلى أهوائه أمثال زياد ، وابن العاص ، والمُغيرة ، فمَدَّ أطناب حِزبه ، ورواق مأربه ، وانقادت إليه حتَّى آل هاشم ، ولكنَّ الرجُل استحبَّ دوام هذا السؤدَد لبيته ، ومَن يَخلفه في إنفاذ نواياه ، عرف أنَّ سُلطانه وقتيٌّ وقسريٌّ ، وما بالقسر لا يدوم ؛ فأراد تثبيته في بيته مادام حيَّاً ؛ لأنَّه يَخشى مِن موته على بنيه انقلاب الأُمور ، لا سيَّما وابنه يزيد موضع نِقمة الجمهور ، وفي الناس مَن هو أقدم مِن ابنه ، وأولى مِن جميع الوجوه ، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته ، بعد أنْ ذلَّلَ الصعاب ، ومَهَّد السبُل لغاياته ، غير أنّ جماعة مِن الصَّفوة البارزة ، مِن أولاد الخُلفاء وغيرهم ، مِمَّن ذكرناهم سابقاً ، أبوا عليه البيعة ليزيد ، واتَّخذت عملية مُعاوية هذه كمُناورة يُمتحَن بها مُخالفيه ، ثمَّ أوصى ولده يزيد بأنْ لا يمسَّ هؤلاء بسوءٍ ، إذا أبو عليه البيعة بعد موته ، إلاَّ ابن

٣٢

الزبير؛ والسِّرُّ فيما ارتآه داهية قريش ، هو أنّ البعض مِن هؤلاء ضعيف النفس ، وغير مسبوق بغَضاضة.

وأمّا الحسين (ع) فنفس أبيه بين جنبيه ، ويخشى على البيت الأُموي مِن التعرُّض إليه ، وبما أنّه رجُلُ الفضيلة ، يؤمْل فيه أنْ يَستمرَّ على سكوته وسكونه ، إذا عمل برغائبه ومُداراته ، ويُخشى مِن قيامه أنْ يقوم الحِجاز والعراق معه ، حين لا مُعاوية لديه ، ولا ابن العاص.

أمَّا ابن الزبير ، فذو نفسيَّة حربيَّة مع أعدائه ، وذو دَهاءٍ مع رُقبائه ، ولكنَّه كأبيه شحيح لا مطمع فيه ؛ فالعدوُّ لا يَأمن منه ، والصديق لا يأمل فيه ، فاستهان به ، وبالقضاء عليه مِن دون توقُّع مَحذور في مُعاداته ، لكنَّ يزيد لم يَعمل بهذه الوصيَّة الجوهريَّة ؛ وذلك لأنَّه عاش عِيشَةً مُترَفة قضاها في الصيد والسِّكْر واللَّهو ، ومِثل هذه التربية تَسوق صاحبها دائماً لعبادة الهَوى ، والاعتراف بسلطان الشهوات ، فلا يَحترِم قديماً ، ولا يَحتشم عظيماً ، ولا يحتفل بالدين ، ولا برغائب الجمهور.

وعليه فما مات مُعاوية ، إلاِّ والأوامر تَترى مِن يزيد على ابن عمِّه الوليد ، وإلى المدينة بأخذ البيعة له مِن الناس عامَّة ، ومِن الحسين (عليه السّلام) ، وابن الزبير للخِلافة خاصَّة ؛ فتلقَّى الوليد أوامره بكلِّ رَهبة واحتياط ، وكان يَعرِف سوء سُمعة يزيد كحُسن شُهرة هؤلاء عند المسلمين عامَّة ، وعند أهل الحِجاز خاصَّة ، فأدَّت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر ، بصورةٍ ودِّيَّةٍ مع المُداراة لرغائبهم وحركاتهم ، قبلما يأخذ البيعة العامَّة في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله) ليزيد كخليفة ، أرسل إلى الحسين (عليه السّلام) ، وإلى زُملائه للحضور في بيته لمُذاكرةٍ مُهمّةٍ ، فجاءه الحسين (عليه السّلام) ، ومعه ثُلَّةٌ مِن أقربائه ،

٣٣

ولكنْ لم يدخلوا معه ، فاستقبله الوليد بالترحاب والآداب ، ومروان جالسٌ مُتغيِّرٌ ، تكاد تقرأ ما في قلبه مِن سحنات وجهه ، وابتدأ الوليد يَنعى مُعاوية ، فاسترجع الحسين (عليه السّلام) ، ثمَّ قال الوليد : إنَّ يزيد استحبَّ اقتراح البيعة عليك ، فماذا ترى؟

فأجابه الحسين (عليه السّلام) : «إنّ البيعة تَحْسُن مِن مِثلي ، لمِثل يزيد أنْ تكون علانيةً ، وبمِلأٍ مِن الناس ، فالأوْلى أنْ تؤجِّلها إلى مَوعد اجتماع الناس في المَسجد».

فأجابه الوليد ، بكلِّ لِيْنٍ وتساهُل ، غير أنَّ مروان عكَّر صَفو السِّلْم ، وقال : يا أمير ، لا تدعْ حسيناً يخرج مِن عندك بلا بيعة ، فيكون أولى مِنك بالقوَّة ، وتكون أولى منه بالضُّعف ، فاحبِسه حتَّى يُبايع ، أو تَضرب عُنقه.

فوثب عندئذٍ حسينُ المَجد ، قائلاً : «يابن الزرقاء ، أنت تقتلني أم هو؟! كَذِبت والله ولئِمت». ثمَّ انصرف هو وبنو هاشم.

كان الوليد ومروان كِلاهما يَبغيان إخضاع الحسين (عليه السّلام) ليزيد ، ولكنْ ذاك بالسياسة ، وهذا بالتهديد.

وكأنَّ الوليد أراد أنْ يَستميل قلب الحسين (عليه السّلام) ، ويسترقَ مِن لسانه كلمة القَبول ، ولو سُرّاً ؛ لعلمه أنّ الحسين (عليه السّلام) ، رجُلُ الصِّدق والثَّبات ؛ فلا يَعدل عن كلمته ، وليس بذي لسانين : إسرار ، وإجهار ، ولا ذا وجهين : مُحضر ، ومَغيب.

وأمَّا مروان ، فكأنَّه علم أنَّ المسلمين ، إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره ومِنبره ، وحضر لديهم ريحانة النبي ، وبنو هاشم وقوف ، وبنو الأنصار جلوس ؛ فإنّ المؤثِّرات المعنويَّة ، والحِسيَّة لا تُسفِر إلاَّ عن البيعة للحسين ، وخُسران صَفقة يزيد.

٣٤

وعلى أيِّ حال ؛ فإنِّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه ، غير أنّ الخبر لم يكُ يَنتشر خارج المدينة لمُراقبة الوالي ، وفَقْد وسائل المُخابرات.

أمّا الحسين (عليه السّلام) ، فقد عَرِف أنَّ مروان سوف يُخابِر يزيد على عزل الوالي ، أو يَحمل الوالي على الوقيعة بالحسين (عليه السّلام) وآله ، وأنَّ يزيد وحزبه يَنقادون لإرادات مروان ، بشخصيَّته البارزة في الحِزب السُفياني ، وقديم عِدائه للنبي وآله ، وقد كان هو وأبوه طريدَي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وملعونيَنِ على لسانه ، فلابُدَّ وأنْ يَنتقم مِن ريحانة الرسول بالمِثل ، أو يزيد ، فلم يَجد الحسين (عليه السّلام) بُدَّاً سِوى الهِجرة سِرّاً إلى حرم الله ، ومِنه إلى اليمن.

٣٥

نَظرة في هِجرة الحسين (عليه السّلام)

يَصْفُ الواصفون لتاريخ الحسين (عليه السّلام) أشدَّ ليالي حياته عليه ، ليلة مَقتله في الطفِّ ـ تلك الليلة التي حوصِر فيها هو وذووه ، في بقعةٍ جَرداء ، وضاقت عليه الأرض بما رَحبُت ، ومُنِع حتَّى مِن شِرب الماء المُباح ، فلم تهجع عيناه فيها حتَّى الصباح ـ

ولا يبعُد أنْ يكون أشدَّ ليالي حياة الحسين ، ليلة مَرجعه مِن مَجلس الوالي في المدينة ، وحَيرته في سيرته مع القوم الظالمين ، إذا كان الحسين (عليه السّلام) ليلة مَقتله على بصيرةٍ مِن أمره ، وإنَّ ليس بينه وبين الجَنَّة سِوى سويعات ، لكنَّما الحسين (عليه السّلام) في ليلة هِجرته مِن مدينة جَدِّه كان في جِهادٍ فِكريٍّ ، وألمٍ عقليٍّ ؛ يُفكِّر في مُتابعته ليزيد وكونها ضرباً مِن المُحال ، ثمَّ يُفكِّر في بقائه في حرم جَدِّه ، لكنَّ ذلك استسلام لمروان ، فيما يفعل به وبأسرته : مِن قَتله المُستلزِم لقتال رجاله ، وذبح أطفاله ، ونهب أمواله ، وإرسال بناته مع رأسه إلى يزيد ، كان مروان مِمَّن يَفعل ذلك ، ويزيد عليه تشفِّياً لنفسه ، وانتقاماً لأُميَّة ، وتَزلُّفاً ليزيد ، ولم يَكُن ابن مرجانة بأوتر منه ، ولا أشقى.

٣٦

إذنْ ، فماذا يَصنع الحسين (عليه السّلام) ، إلاَّ أنْ يُهاجر إلى مَكَّة ابتغاء الابتعاد مِن المنطقة المروانيَّة ، ولقاء وجوه المسلمين في الحَجِّ ، وانتظار الفرج؟ ولكنْ كيف يُهاجِر بأُسرته الوفيرة العدد بلا عُدَد ، والهِجرة بالأهل ليس بالسَّهل ، سيَّما في مَسالكَ وعِرةٍ غامضةِ الحال ، مُبهَمة الاستقبال.

وفي النهاية ، اختار الحسين (عليه السّلام) هذا الرأي الأخير على حَراجته ، وأوحى بذلك إلى إخوانه ورجال أُسرته ، وهم يُلبونه فيما يرغب ، مَهْما كانوا كارهين ، التأهب لِما يُحِب كما يَجب ، إلاَّ محمّد بن الحنفية ؛ فإنَّه سأل أخاه البقاء في حَرم جَدِّه بين أنصاره ، فأجابه الحسين (عليه السّلام) بمَبلغ عَداوة يزيد معه ، وسوء نيَّته فيه ، وضُعف ثقته في ناصريه.

فقال ابن الحنفية : إنْ كان ولابُدَّ مِن ذلك ، فما معنى حملُك النسوة والذُّريَّة؟.

فلمْ يَجِد الحسين (عليه السّلام) مُقنِعاً لأخيه ، إلاَّ أنْ يقول له : إنَّه مِن فَرط الحُبِّ المُتبادل بينه وبينهنَّ ، لا يستطيع فِراقهنَّ ، كما لا يرضيْنَ بفِراقه ، ولو جرى عليهم ما شاء الله أنْ يَجري.

فقال ابن الحنفية : إنّك يا أخي ، أحبُّ الناس إليَّ ، وأعزُّهم عليَّ ، ولست أدّخِر النصيحة لغيرك ، تَنحَّ بيعتك عن يزيد ، ثمَّ ابعث رسُلك إلى الناس ، فإنْ بايعوك حمدتَ الله ، وإنْ اجتمعوا على غيرك ، لم يَنقص دينك ، ولا فضلك ، ولم تَذهب به مروَّتك.

قال الحسين (عليه السّلام) : «فأينَ أذهب يا أخي؟»

قال : انزل مَكَّة ، فإنْ اطمأنَّت بك الدار فيها ، وإلاّ لَحِقت بالرمال

٣٧

والجبال ، ومِن بَلدٍ إلى بَلدٍ ، حتَّى تنظر ما يصير إليه الناس ، فتكون أصوبَ رأياً.

فجزَّاه الحسين خيراً ، وقد استبقاه أخوه ؛ لضرورة وجود مَن يعتمد عليه في مركزه عِماداً للبيت ، ومُحافظاً لودايع أهله ، كما استبقى على مِثل ذلك ابن عمِّه عبد الله بن جعفر الطيار.

وكان عبد الله بن جعفر خَتْنَ الحسين على ، أخته وشقيقته زينب الكُبرى ، بنت عليٍّ (عليها السلام) ، ولمَّا عَلِم عبد الله بتوجُّه الحسين (عليه السّلام) من مَكَّة نحو العراق ، ألحقه بولديه عون ومحمّد ، وكتب على أيديهما إليه كتاباً ، يقول فيه :

«أمَّا بعد ، فإنِّي أسألك بالله لَمْا انصرفت حين تنظر في كتابي ؛ فإنِّي مُشفقٌ عليك مِن الوجه الذي توجَّهت إليه ، أنْ يكون فيه هَلاكُك ، واستيصال أهل بيتك ، وإنْ هَلكتَ اليوم طَفئ نور الأرض ؛ فإنِّك عَلَم المُهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تُعجِّل بالمسير ، ؛ فإنِّي في أثر كتابي ، والسّلام».

وسار عبد الله إلى عمرو بن سعيد ، فسأله أنْ يكتب للحسين (عليه السّلام) أماناً ويُمنِّيه ؛ ليَرجع عن وجهه ؛ فكتب إليه عمرو بن سعيد ، ولحِقه يحيى بن سعيد ، وعبد الله بن جعفر ، بعد نُفوذ ابنيه ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع ، فقال (ع) : «إنِّي رأيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في المَنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ له».

فقالا : «فما تلك الرؤيا؟».

قال : «ما حَدَّثتُ أحداً به ، ولا أنا مُحدِّثٌ ، حتَّى ألقى ربِّي عزَّ وجلَّ».

فلمَّا يَئس منه عبد الله بن جعفر ، أمر ابنيه عوناً ، ومحمّداً

٣٨

بمُلازمة خالهما الحسين (ع) ، والمسير معه والجهاد دونه. لقد فَشِل ابن سعيد (والي الحجاز بعد الوليد) ، في تدابيره لا قناع الحسين (عليه السّلام) بالرجوع إلى مَكَّة ؛ كيْ يَحصره فيها ، وفي منطقة نفوذه.

وقَنع عبد الله بن جعفر الطيَّار ، مِن الإمام بإجازة بقائه في وطنه ، وقَنع الحسين (عليه السّلام) ، منه بإرسال شِبليه الباسليَن ، وقد كانا ناصريَه بالنفس والنفيس ، وكانت أُمّهما زينب نصيرتَه في نَهضته ، وخليفته على صِبْيَته ، وسَلوته مِن كلِّ أحزانه ، ومُديرة أمر عياله وبيوت أصحابه ورجاله ، ولولاها لانفرط عَقْد يتاماه بعد قتله ، ولولاها لانتثر نظام أهله بعد انتهاب رحله ، ولولاها لقُضي على خَلَفِه العليل ، وانقرض نَسله الأصيل.

٣٩

هِجرة الإمام مِن مدينة جَدِّه

سار الحسين مِن حَرم جَدِّه ، ولم يقتصر في الوداع على قبره الطاهر ؛ إذ المُسافِر يوادِع مِن وطنه المَحبوب ، كلَّما وقع نظره عليه : مِن أصحاب ، وأحباب ، وغيرهم ، حتَّى الماء والتراب ، أمّا ركب الحسين (عليه السّلام) ، فكانوا يوادعون الربوع وداعَ مَن لا يأمل الرجوع.

خرج الحسين (عليه السّلام) مِن حَرم جَدِّه (صلَّى الله عليه وآله) خائفاً يترقَّب ، يُناجي ربَّه ؛ ليُنجيه مِن فراعنة مَصره ، ونماردة عصره ، ذِكراه رحمة ربِّه ، ومَبدؤه خوف ربِّه ، وغايته بيت ربِّه ، سائراً في المَنهج الأكبر (أيْ الشارع السلطاني).

فقيل له : «لو تَنكَّبت الطريق ، كما فعل ابن الزبير ؛ لئلا يلحقك الطلب».

فقال : «لا والله ، لا أُفارق الطريق الأقوم ، حتَّى يقضى الله ما هو قاضٍ». ونزل مَكَّة يوم الجمعة ثالث شعبان ، وهو يتلو : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).

٤٠