نهضة الحسين (ع)

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني

نهضة الحسين (ع)

المؤلف:

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني


المحقق: مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

منزل الحسين (عليه السّلام) بكربلاء

إنَّ عوامل اليأس التي تبعت نَعي مسلم ، وسوء صَنيع الكوفة به ، لم تؤثِّر في عزيمة الحسين (عليه السّلام) ، ولا ما بلغه مِن فاحش فعلهم برسولَيه عبد الله بن يقطر ، وقيس بن مُسهَّر الصيداوي ، ولا ما رآه في مُلتقاه بجيش الحُرّ ؛ لأنَّ داعي الحَقِّ لا يَقنط مِن رَوح الله ؛ ولكنَّما جيش الكوفة ، هو الذي صَدَّه وصرف بوجهه عنها ، وعن كلِّ آماله فيها ، فسلك ركبَه وموكبه سَبيلاً وَسطاً لا يدرون الغاية ، ولا يعرفون النهاية ، والحُرّ يُساير الإمام ؛ كي يُخرجه عن حدود أميره ؛ حتَّى يَعود إليه ببشارة تؤمِّن باله ، وتُطمِّن خَياله.

ويُخيَّل للناظر في الحركة الحسينيَّة ، أنَّ في خُلد الإمام أنْ يَعبر الفرات إلى الأنبار ، أو المدائن عسى أنْ يَجد لدعوته أنصاراً وشيعة وبيئة وَسيعة ، فبينا هم والحُرّ في تَيامُن وتَياسُر ، إذ لحقهم راكب مُتنكِّب قوسه ، فسلَّم على الحرّ وأصحابه ، ودفع إليه كتاب ابن زياد ، فقرأه الحُرّ على الحسين (عليه السّلام) ، وإذا فيه :

«أمَّا بعد ، فجَعْجِع بالحسين حين يَبلغك كتابي هذا ، ولا تتركه إلاَّ

٨١

بالعَراء في غير خضر ، وعلى غير ماء ...» إلى آخره.

فعرضوا عليه النزول ، فسأل الحسين (عليه السّلام) عن اسم الأرض ، فقيل : كربلاء.

فقال : «نَعوذُ بالله مِن الكَرب والبلاء ، هل لها اسم غير هذا؟».

فقيل له : العَقر.

فقال : «نَعوذُ بالله مِن العَقر ما شاء الله كائن».

مَّ قال (ع) للحُرِّ : «دعنا ننزل في هذه القرية ، يعني نَينوى ، أو هذه ، يعني الغاضريَّة ، أو هذه ، يعني الشفثيَّة».

فقال الحُرّ : هذا رجل قد بعث إليَّ عَيناً عليَّ.

فقال زهير بن القين : إنِّي والله ، لا أرى أنْ يكون بعد الذي ترون ، إلاّ أشدُّ مِمَّا ترون ، وإنَّ قتال هؤلاء القوم الساعة ، أهونْ علينا مِن قتال مَن يأتنيا مِن بعدهم ، فلَعمري ليأتينا مِن بعدهم ما لا قِبَل لنا به.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «ما كنتُ لأبدأهم بالقتال». ثمَّ نزل وذلك يوم الخميس ثاني مُحرَّم.

٨٢

جُغرافيَّة كربلاء القديمة

إنَّ لهذا البحث صِلة قويَّة ، بوضوح مَقتل الحسين (عليه السّلام) وحوادثه التاريخيَّة ، واستيفاء هذا البحث يُكلِّف صاحبه ؛ إذ لا يَجد المَنابع الوافية بالتفاصيل الجغرافيَّة عن كربلاء القديمة ، في أيَّام قتل الحسين (عليه السّلام) ، وإنِّي أجتزي في أداء هذا الواجب بالمُمكِن ، فحسب ما أظنُّه :

إنَّ كربلاء اسم قديم ، مأثور في حديث الحسين ، وأبيه ، وجَدِّه (عليهم السّلام) ، ومُفسَّر بالكرب والبلاء ، وإنَّ كربلاء مَنحوتة مِن كلمة (كور بابل) العربيَّة ، بمعنى مجموعة قُرى بابليَّة ، منها نينوى القريبة مِن أراضي سَدَّة الهنديَّة ، ثمَّ الغاضريَّة ، وتُسمَّى اليوم أراضي الحسينيَّة ، ثمَّ كربله بتفخيم اللام بعدها هاء ، وتَقرُب اليوم مِن مدينة كربلاء جَنوباً وشرقاً ، ثمَّ كربلاء أو عَقر بابل ، وهي قرية في الشمال الغربي مِن الغاضريَّات ، وبأطلالها أثريَّات مُهمَّة.

ثمَّ النَواويس ، وكانت مَقبرة عامَّة قبل الفتح الإسلامي ، ثمَّ الحَير رواق بقعته المُشرِّفة ، أو إلى حدود الصَحن الشريف ، وكان لهذا الحائر وهدة فَسيحة ، محدودة بسِلسلة تِلال مَمدودة ، وربوات تبدأ مِن

٨٣

الشمال الشرقي حيث مَنارة العبد ، مُتَّصلة بموضع باب السِّدرة في الشمال ، وهكذا إلى موضع الباب الزينبيَّة مِن جِهة الغرب ، ثمَّ تنزل إلى موضع الباب القبليَّة في جِهة الجنوب ، وكانت هذه التِّلال المُتقاربة تُشكِّل للناظرين نصف دائرة ، على شاكلة نون مدخلها الجَبهة الشرقيَّة ، حيث يتوجَّه منها الزائر إلى مَثوى سيِّدنا العبّاس بن علي (عليهما السّلام) ، ويَجد المُنقِّبون حتَّى يومنا ، في أثافي البيوت المُحدِّقة بقبر الحسين (عليه السلام) ، آثارَ ارتفاعها القديم في أراضي جِهات الشمال والغرب ، ولا يجدون في الجِهة الشرقيَّة سِوى تربة رخوة واطئة الأمر ، الذي يُرشد العرفاء إلى أنَّ وضعيَّة هذه البقعة ، كانت مُنذ عصرها القديم واطئة مِن جِهة الشرق ، ورابية مِن جِهتَي الشمال والغَرب على شَكل هلالي ، وفي هذه الدائرة الهلاليَّة حوصر ابن الزهراء (عليه السّلام) ، في حربه حين قُتِل كما سيأتي.

وأمَّا نهر الفرات ، فكأنَّه عموده الكبير يَنحدر من أعاليه ، يَسقي القُرى إلى ضواحي الكوفة ، وكذلك يَنشقُّ مِن عمود النهر ، الشَّط مِن لدُن الرضوانيَّة نهر كفرع منه ، يَسيل على بطاح ووهاد شمال شرقيِّ كربلاء ، حتَّى ينتهي إلى قُرب مَثوى سيِّدنا العبّاس (رضوان الله عليه) ، ثمَّ إلى نواحي الهنديَّة ، ثمَّ يَنحدر فيقترن بعَمود الفرات في شمال غربيّ قرية ذي الكِفل (الكوثي القديمة) ، ويُسمّى حتَّى اليوم (العَلقمي) ، وكان هذا الفرات الصغير مِن صدره إلى مَصبِّه يُسمَّى (العلقمي).

والطفُّ اسم عامٌّ لأراضي تَنحسر عنها مياه النهر ، وسُمّيت حوالي نهر العَلقمي البارزة مِن شواطئه ، (طفَّاً) لذلك ، وسُمّيت حادثة الحسين (عليه السّلام) فيه بواقعة الطفِّ.

٨٤

الإمام مَصدود مَحصور

حَلَّ حرم الحسين (عليه السّلام) حدود كربلاء ، في ثاني مُحرَّم ، سنة ٦١ هِجريَّة ، وأُنزل في بِقعة منها جَرداء ، بعيدة عن الماء والكلاء ، وصار مُعسكره زاوية مُثلث ، يُقابله جيش الحُرِّ في الغاضريَّات ، وجيش ابن سعد في نَينوى ، وكان الحُرُّ يرى مُهمَّته المُراقبة على مسير الحسين (عليه السلام) فقط ، غير مُهتمٍّ في إخضاعه ، ولا في إقناعه ، ولا في إرجاعه ، حتَّى وافاه ابن سعد مُهتمَّاً في إقناعه وإخضاعه ؛ فصار هو والحسين (عليه السّلام) يتبادلان الرأي والرُّسل ؛ ابتغاء الوصول إلى حَلٍّ مُرْضٍ. وكلَّف ابن سعد مِن بين حاشيته رجالاً لمواجهة الإمام ، فأبوا مُعتذرين أنَّهم مِمَّن كتبوا إليه يدعونه ، فعمَّ يتساءلون؟

فأرسل ابن سعد ، إلى ابن الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) ، رسوله الحَنظلي ، فجاء إلى الإمام ، وسأله عن لسان أميره عن موقفه ومسيره ، فأجابه الحسين (عليه السّلام) : «قد كتبَ إليَّ أهل مِصركم يدعونني إليهم ، أمَّا إذا كَرِهتم ذلك ، فأنْا أنصرف عنكم».

قال حبيب بن مُظاهر للرسول ، وهو مِن أخواله : ويحَك يا قُرَّة ،

٨٥

أينَ ترجع؟ إلى القوم الظالمين؟! أُنصُر هذا الرجُل ، الذي بآبائه أيَّدك الله بالكرامة.

فقال له الحنظلي : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته ، وأرى رأيي ، ثمَّ أنصرف إلى عمر بن سعد ، وأخبره الخبر.

فقال عمر : أرجو أنْ يُعافيني الله مِن حربه وقتاله. ثمَّ كتب إلى ابن زياد ما جرى بينه وبين الحسين (عليه السّلام) ، وأنَّ الإمام مُستعدٌّ للانصراف عن العراق ، وعن كلِّ أمل فيه.

قال حسان العَبسي : كنت عند ابن زياد ، حينما جاءه هذا الكتاب ، وقرأه ، فقال :

الآن إذ عَلقت مَخالبُنا به

يرجو النجاة ولاتَ حينَ مَناص

ثمَّ اجتمع الحسين (عليه السّلام) بعمر بن سعد ، تَحرِّياً منه للسِّلم ، واحتراماً للدماء ، فتناجيا طويلاً ، فكتب هذا إلى ابن زياد :

أمَّا بعد ، فإنَّ الله قد أطفئ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الأُمَّة ، هذا حسين قد أعطاني عهداً أنْ يرجع إلى المكان الذي أتى منه ، أو يسير إلى ثَغرٍ مِن الثغور ، فيكون رجُلاً مِن المسلمين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، إلى آخره.

ولمَّا تلاه ابن زياد ، قال : هذا كتاب ناصحٍ مُشفقٍ على قومه (يعني على قريش).

فقام إليه شمر بن ذي الجوشن قائلاً : أتقبل هذا منه ، وقد نزل بأرضك ، والله لَئن رحل مِن بلادك ، ولم يَضع يده في يدك ؛ ليكونَنَّ أولى بالقوَّة ؛ ولتكونَنَّ أولى بالضُّعف والعَجز ، فلا تُعطه هذه المنزلة ؛ فإنَّها مِن الوَهن ، ولكنْ ليَنزل على حُكمِك هو وأصحابه ، فإنْ عاقبت ، فأنت

٨٦

أولى بالعقوبة ، وإنْ عَفوت كان ذلك لك.

فلمَّا رأى ابن زياد ، في شمر غلوَّاً في عداء الحسين (عليه السّلام) وشَوقاً إلى حربه ، قال له : نِعمَ ما رأيت ، والرأي رأيك ، أُخرج بكتابي إلى ابن سعد ، فإنْ أطاعني فأطِعه ، وإلاَّ فأنت أمير الجيش ، واضرب عُنقه. وكتب إلى عمر كتاباً يقول فيه : إنِّي لم أبعثك إلى الحسين شَفيعاً ، ولا لتُمنِّيه السّلامة ، ولا لتَعتذر عنه ، فإنْ نزل هو وأصحابه على حُكمي ؛ فابعث بهم إليَّ ، وإلاَّ فازحف عليهم واقتلهم ، ومَثِّل بهم ؛ فإنَّهم بذلك مُستحقِّون ، وإنْ قَتلت حسيناً ، فأوطئ الخيل صَدره وظهره ؛ فإنَّه عاقٌّ ظَلوم ، ولستُ أرى أنَّ هذا يَضرُّ بعد الموت شيئاً ، ولكنْ على قول قد قلته ، إلى آخره.

جاء شمر بكتابه إلى ابن سعد ـ والرجُل السوء يأتي بالخبر السوء ـ ، فلمَّا قرأ ابن سعد كتاب أميره ، وتلقَّى أسوأ التعاليم مِن نَذيره ، تَغيَّر وجهه ، وقال : لعنك الله يا شمر ، لقد أفسدتَ علينا أمراً كُنَّا نرجو إصلاحه.

لكنَّما ابن سعد ، بعدما حَسِب شمراً رَقيباً عليه ، ومُهدِّداً له تَجاهر ، إذ ذاك بلزوم إخضاع حسين العُلا ، فتبدَّلت منه لهَجته ، وفِكرته ، وهَيئته ؛ فانتقل بجنوده إلى مَقرُبةٍ مِن الحسين (عليه السّلام) ، وثلَّث جِباه الحرب ، فصار هو في القلب بين الحِير والنهر ؛ لصدّ الحسين (عليه السّلام) مِن عبور النهر ، ومِن الورود منه ، فإذا وجد الحسين (عليه السّلام) سُبل سَيره مَقطوعة ، ومَشارع وروده مَمنوعة ، اضطرَّ إلى النِّزال معهم ، أو النزول على حُكمهم ، وهم واثقون مِن الغَلبة عليه في الحالين معاً.

٨٧

ولمَّا رأى الإمام ذلك ، علم أنَّه مقتولٌ لا مَحالة ؛ إذ هو نازل بالعَراء في منطقة جَرداء ، لا ماء فيها ولا كلاء ، فإنْ انتظر قدوم الأنصار ؛ هَلكتْ صِبيتهم وماشيتهم مِن الجَوع والعَطش ، وإنْ خَضع للقوم وبايع أُميَّة ؛ فقد باع الأُمَّة والشريعة ، بعدما انعقدت فيه الآمال ، وإنْ بدأ بحربهم خالف خُطَّته الدفاعيَّة ، حينَ لا مأمل في الانتصار عليهم في ظاهر الحال ، والحُرَّ إنْ لم يستطع أنْ يَعيش عزيزاً ، فأحرى به أنْ يموت كريماً.

٨٨

الحسين (ع) مُستميت ومُستميتٌ مَن معه

في مَكارم الأخلاق تتلألأ خِلَّة التضحية ، تلألأ القمر البازِغ بين النجوم الزواهر ، فإذا شوهد في امرءٍ شعور التضحية ، اكتفى الناس بها عن أيِّ مَكرُمة فيه ، أو أيَّة مأثرة له.

ولا عَجب ، فإنَّ الصِّدق إذا عُدَّ أصل الفضائل ، فإنَّ شعور التضحية هو مِن أجلّ مظاهر الصدق ، والمُستميت يُميت مع نفسه كلَّ شُبهة وشائبة : مِن سُمعة ، أو رياء ، أو مَكر ، أو دهاء.

إذنْ ، فشعور شريف كهذا يَنجم في تربة الصدق ، ويُسقى بماء الإخلاص ، لابُدَّ وأنْ يُثمر لأهل الحَقِّ بالخير الخالد ، وإذا كان الموت ضربةَ لازبٍ لا مَهرب منه ، ولا مَحيد عنه ، فلنشتر بهذا العمر القصير نَفعاً عامَّاً ، وخيراً خالداً ، هي هي ، والله الصفة الرابحة ، وتجارة لنْ تَبور.

فخير الموت الفداء ، وأفضل الأضاحي مَن أمات هيكله البائد لإحياء نفعٍ خالد ، وكذلك الشهداء في سبيل إصلاح الأُمَّة ، أو تحريرها مِن أسر الظالمين.

٨٩

وسيّد هؤلاء الشهداء ، الحسين بن علي (عليه السّلام) الذي أحيى (هو والذين معه) مَجد هاشم ، ودين محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ومعارف القرآن ، وشعائر الإسلام ، وأخلاق العرب في وثباتهم ضِدَّ سلطة الجَور والفجور ، فلم تختلف لهجته ، ولا تخلَّفت سيرته ، ولا وهنت عزيمته ، ولا ضعُفت حركته ، ولا ضيَّع مصالح أعوانه لترضية عدوانه.

ونفس قويَّة وأبيَّة مِثل هذه ، أضحت كالمُغناطيس جذّابة ، إليها أمثاله ، ومَن على شاكلتها في الإخلاص والتضحية ، وشبه الشيء مَجذوب إليه.

فالتفَّ حول حسين المَجد ، مِن صَحبه وآله ، مَن يَجرون على مِنواله ، بتضحية النفس والنفيس في سبيل الدين ، وصالح الأُمَّة ؛ حتَّى أنَّه يوم أحس بالصَّدِّ والحصار بكربلاء ، وأنَّه مقتول لا مَحالة ، عَزَّ عليه أنْ يُقتل بسببه غيره ، فأذِنَ لأهله وصحبه بالتفرُّق عنه ـ حيث إنَّ القوم لا يُريدون غيره ـ ؛ ليدرأ عنهم الموت بحِلِّ بيعته عن ذِممهم ، فخطب فيهم قائلاً :

«أُثني على الله أحسن الثناء ، وأحَمده على السرَّاء والضرَّاء ، اللّهم إنِّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة ، وعلَّمتنا القرآن ، وفقَّهتنا في الدين ، وجعلتَ لنا أسماعاً ، وأبصاراً ، وأفئدة ، فاجعلنا مِن الشاكرين.

أمَّا بعد ، فإنِّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً مِن أصحابي ، ولا أهل بيت أبرَّ ، ولا أوصل مِن أهل بيتي ، فجزاكم الله عنِّي خيراً ، ألاْ وإنِّي قد أذِنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ ، ليس عليكم حرج مِنِّي ولا ذِمام ، هذا الليل مِن بيعتي قد غَشيكم ، فاتَّخذوه جَملاً ، إلى آخره».

٩٠

فقال له أخوه ، وأبناؤه ، وبنو أخيه ، وأبناء عبد الله بن جعفر : لِمَ نَفعل ذلك؟ لنَبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا بَني عقيل ، حَسبُكم مِن القَتلى بمسلم ، فاذهبوا أنتم ، فقد أذِنت لكم».

فقالوا : سبحان الله! فما يقولون لنا؟ إنَّا تركنا شيخنا ، وسيِّدنا ، وبَني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نَرمِ معهم بسهمٍ ، ولم نَطعن معهم برُمحٍ ، ولم نَضرب معهم بسيف ، ولا نَدري ما صَنعوا ، لا والله لا نفعل ، ولكنْ نَفديك أنفسنا وأموالنا ، ونُقاتل معك حتَّى نَرِد موردك ، فقبَّح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة ، فقال : أنحن نُخلِّي عنك؟! وبما نَعتذر إلى الله في أداء حَقِّك؟ لا والله حتَّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضرِبهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي ، ولو لم يَكُن معي سلاح أُقاتلهم به ، لقذفتهم بالحِجارة ، والله لا نُخليك حتَّى يَعلم الله أنَّا قد حَفظنا عَيبة رسوله فيك ، أما والله لو قد علمت أنِّي أُقتل ، ثمَّ أُحيى ، ثمَّ أُحرَق ، ثمَّ أُحيى ، ثمَّ أذرى ، يُفعل ذلك بي سبعين مَرَّة ، ما فارقتك ، حتَّى ألقى حِمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنَّما هي قَتلة واحدة ، ثمَّ هي الكرامة التي لا نَفاد لها أبداً.

وقام زهير بن القين ، فقال : والله ، لوددت أنِّي قُتلت ، ثمَّ نُشرت ، ثمَّ قُتلت ، حتَّى أُقتل هكذا ألف مَرَّة ، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفِتيان مِن أهل بيتك.

وتكلَّم جماعة مِن أصحابه بكلام يُشبِه بعضه بعضهاً في وجه واحد ، فجزَّاهم الحسين خيراً.

وروي أنَّ رجُلاً جاء حتَّى دخل عسكر الحسين (عليه السّلام) ، فجاء إلى رجُل مِن أصحابه ، فقال له : إنَّ خبر ابنك فُلان وافى أنَّ الديلم

٩١

أسروه ، فتنصرِف مَعي ؛ حتَّى نسعى في فِدائه.

فقال : حتَّى أصنع ماذا؟! عند الله أحتسبُه ونفسي.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «انصرف ، وأنت في حِلٍّ مِن بيعتي ، وأنا أُعطيك فِداء ابنك».

فقال : هيهات أنْ أُفارقك ، ثمَّ أسأل الركبان عن خَبرك ، لا يَكُن والله هذا أبداً ، ولا أُفارقك.

٩٢

رُسُل السلام ونَذير الحرب

قدم إلى كربلاء شِمر الخارجي شَرَّ مَقدم ؛ إذ كان نَذير الحرب ، وحاملاً مِن ابن زياد إلى ابن سعد أسوأ التعاليم القاسية ، وحَسِبه ابن سعد رَقيباً عليه ، ومُهدِّداً له ، فانقلبت فِكرته ـ إذ ذاك ـ رأساً على عَقب ؛ لكي يدرأ عن نفسه تُهمة الموالاة للحسين (عليه السّلام) ، طَمعاً بإمرة الريِّ ؛ فنقل مُعسكره إلى مَقربة مِن الحسين (عليه السّلام) على ضِفاف العَلقمي ، وأوصد عليه باب الورود منه بمُصراعية ، عهد بحراسة المَشرعة إلى عمرو بن الحَجَّاج ، كما فعله معاوية بجيش أمير المؤمنين (عليه السّلام) في صِفِّين ، وأخذ يتظاهر على الحسين (عليه السّلام) ؛ تَقرُّباً إلى ابن زياد ، ويتشبَّه بغُلاة الخوارج ؛ إرضاءً لمَن معه منهم ، ولم يَقنع بكلِّ ما وقع ، حتَّى زحف بخاصَّته على الحسين (عليه السّلام) ، وتناول مِن دُريد سَهماً ووضعه في كَبِد قوسه ، ورمى به إلى مُعسكر الحسين (عليه السّلام) قائلاً : اشهدوا لي عند الأمير ، إنَّني أوَّل مَن رمى الحسين.

ورأى المُتزلِّفون هذه أسهل وسيلة ، إلى نَيل القُربى مِن أولياء

٩٣

السلطة ، فتكاثرت السهام على مُعسكر الحسين (عليه السّلام).

فقال حسين المَجد لأصحابه : «قوموا يا كِرام ، فهذه رُسُل القوم إليكم». يعني أنَّ الخصوم بدؤونا بالنضال والنزال ، بدل النزول على حُكم الكتاب والسُّنَّة ، ولا يَسعنا في هذه الحال سِوى استمهالهم إلى حين ، حين تهدأ فورتهم ، وإنْ أبوا إمهالنا ، فلابُدَّ مِن الدفاع عن مُقدَّساتنا ، والذَّبِّ عن النواميس والحُرمات ، أُسوة بالكرام عند اليأس مِن السلام.

٩٤

حَول مُعسكر الحسين (عليه السّلام)

بعدما أيقن الحسين (عليه السّلام) ، أنَّ أعداءه لا يَتناهون عن مُنكر في سبيل النَّكال والنِّكاية به ، استعدَّ لدفاع الطوارئ عن أهله ، ورحله وانتظار قتله ، لكنَّما وجد مُعسكره في أجرد البِقاع عن مَزايا الدفاع ، وكان مع العدوِّ رِجالة سوء مِن أسقاط الكوفة ، تَبعوا شِمراً الضبابي ؛ لطمعهم في الجوائز المُشاعة ، وجَشعهم على بقايا موائد الرؤساء ، وشَوقاً إلى غَنيمةٍ باردةٍ ، ولا سلاح لدى هؤلاء ، سِوى الحِجارة والجَسارة ؛ فكان يَخشى منهم على مُعسكر الحسين (عليه السّلام) مِن كلِّ الوجوه ، سيَّما وإنَّ هؤلاء الأذناب ، لا يلتزمون بما تلتزم به رؤساء القبائل ، مِن آداب العرب ؛ فخرج الحسين (عليه السّلام) مِن مُعسكره ، يَتخيَّر مَوضعاً مُناسباً للدفاع.

وبعدما سَبَر غَور الوهّاد والأنجاد ، أشرف على سِلسلةِ هِضاب ، وروابي تُليق حسب مزاياها الطبيعيّة ، أنْ تُتَّخذ للحرم والخِيَم ، وهذه الروابي والتِّلال مُتدانية على شاكلة الهلال ، وهو المُسمَّى بـ (الحِير) أو (الحائر) ، لكنَّ هذا الحِصن ، إنَّما يُفيد مَن استغنى عن الخروج لطلب ماء ،

٩٥

أو ذخيرة ، أو عتاد ، وأمَّا مَن لا يَجد القَدر الكافي منها ، كالحسين (عليه السّلام) ، فإنَّ تَحصُّن في مِثل الموضع ، فكأنَّه يَبغي الانتحار ، أو إلقاء أهله في التَّهلُكة ؛ لأنَّ عدوَّه يَتمكَّن مِن حصاره مِن فُرجَة الجِهة الشرقيَّة بكميَّة قليلة ، وإهلاك المَحصور جوعاً وعَطشاً في زمن قصير.

لكنَّ الحسين (عليه السّلام) ، رأى بجنب هذه وجنوبها رابيةً مُستطيلة ، أصلح مِن أُختها للتحصين ؛ لأنَّ المُحتمي بفِنائها يَكتنفه مِن الشمال والغرب ربوات ، تَقي مِن عاديات العدوِّ ، برُماة قليلين مِن صَحب الحسين (عليه السّلام) ، إذا اختبأوا في الروابي ، وتَبقى مِن سَمتي الشرق والجنوب ، جوانب واسعة تحميها أصحاب الحسين (عليه السّلام) ورجاله ، ومنها يخرجون إلى لقاء العَدوِّ ، أو تَلقِّي الرُّكبان ؛ فنقل إلى هذا الموضع حرمه ومعسكره ، ويعرف الآن بـ (خيمكاه) أي المخيم. فصارت مُحوَّطة الحِير خير فاصلة بينهم وبين مُعسكر الأعداء ، وأمر أصحابه أنْ يُقرِّبوا البيوت بعضها مِن بعض ، ويُدخلوا الأطناب بعضها مِن بعض ، وأنْ يُضرِموا النار في قَصب وحطب ، كانا مِن وراء الخِيم في خَندق حفروه مِن شِدَّة الاحتياط ، وأوجد في مُخيَّمه مزايا الدفاع المُمكِنة ، وهو ينتظر الفرج كلَّما ضاق المَخرج.

٩٦

عُطاشى الحرب في الشريعة

لا يَبرح البشر ، مِن احترام بعض الآداب في المُحاربات ، مَهْما كان المُحاربون وحوشاً وكَفرة ، كاجتنابهم قتل النساء والأبرياء ، ومنع الماء والطعام عنهم ، وأصبحت حكومات اليوم تُراعي هذه الأُصول بعَين الاحترام ، وتُعَدُّ ارتكاب هذه المظالم مِن أقبح الجرائم ، وقد نهى شرع الإسلام كبقيَّة الشرائع السماويَّة عن : حصار الأبرياء ، والتعرُّض بالنساء ، ومَنع الماء والطعام عنهم ، أو عن المرضى والأسرى والأطفال ؛ لأنّهم بُراءٌ مِمَّا قامت به رجالهم المُحاربون ، وقد مَنعت الشريعة والعاطفة أيضاً ذبح الحيوان عَطشاناً.

أمَّا الحزب السُّفياني ، فقد ارتكب كلَّ هذه المَظالم والجرائم ؛ حَنقاً على حسين الفضيلة وآله.

ولا نَنسى ما حَدث يوم الدار ، يوم ثار المُهاجرون والأنصار ؛ فحاصروا الخليفة عثمان بن عفَّان ، وطالبوه أنْ يُسلِّم إليهم ابن عمِّه مروان ، فاستغاث بعليٍّ (عليه السّلام) ، وشكا إليه العَطش ـ وعليٌّ يومئذٍ مُلتزم الحِياد التامَّ ـ ؛ فأرسل إليه مع ذلك ، وَلديه الحسن

٩٧

والحسين (عليهما السّلام) يَحملان له الماء ، وهو مَحصور ، ويَحاميان عنه وعن بيته الجمهور ، وتَحمَّلا في سبيله الجروح والحرايج ، غير إنَّ محمّد بن أبي بكر (رضي الله عنه) ، تَسوَّر هو ومَن معه مِن وراء البيت ، وكان منهم ما كان.

أمَّا معاوية الدَّهاء ، فقد شَيَّع الأمر في أهل الشام بالعكس ، مِمَّا كان بغرض بعثهم إلى حرب أمير المؤمنين ؛ فنشر بينهم أنَّ عثماناً قُتِل عَطشان ، وأنَّ عليَّاً منع الماء عنه ؛ لذلك سَبَق عليَّاً في صِفِّين إلى استملاك المَشرعة ، ومنع أهل العراق مِن ورودها.

أمَّا علي (عليه السّلام) ، فأرسل مِن أبطال العراق مَن فتحوه ، ثمَّ تركها مُباحةً للجانبين ، فأبت نفسه الكريمة أنْ يُقاتلهم بالسوء ، وقال : «كلاَّ ، لستُ أمنع عنهم ماءً أحلَّه الله لهم».

فجدَّد ابن زياد هذه البِدعة ، وأمر بمنع الماء عن الحسين (عليه السّلام) ومَن معه ، وروَّج أكذوبته ؛ فكتب إلى ابن سعد : حِلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا مِنه قَطرة ، كما فُعِل بالتقيِّ الزكيِّ عثمان ، إلى آخره.

مع أنَّ الحسين (عليه السلام) ، هو الذي حمل الماء إلى عثمان يوم الدار ، وعانى في سبيله المَشاقَّ ، وحاشا حسين الفضيلة ، وعليَّ الفتوَّة أنْ يرتكِبا منع الماء على ذي نفس ، ولو فرض الأمر كذلك ، فهل تؤخَذ عشرات النساء ولفيفٌ مِن الصِّبيَة والأطفال والمرضى بذلك؟! فيُحرَمون مِن الماء المُباح! كلاّ ، فالإسلاميَّة بريئة ، والإنسانيَّة ناقِمة مِن هذه المَظلمة الفاحشة.

تُرِك ابن ساقي الكوثر ، مَمنوعاً مِن الماء المُباح ثلاثة أيَّام ، هو

٩٨

وصحبه وآله ، وعشرات مِن نسوة وصِبيَة ، يُعانون هم وخيلهم العَطش في شهر آب اللَّهاب بعراء ، لا ماء فيه ولا كَلاء ، والخيل تصهل طالبة الماء ، والنسوة تَعجُّ لحاجتها إلى الماء ، والصِبيَة تَضجُّ وتنتظر الماء ، والرضيع يَصرخ ؛ إذ جفَّت مَراضعه ، والماء يَلمح جارياً بأعينهم ، والمانعون ينتحلون الإسلام ، وكلُّ هاتيك المَظالم القاسية ، مِن أجل أنَّ الحسين (عليه السّلام) ، لم يَضع يده في أيدي الظالمين ، يُبايعهم على مَحو كتاب الله ، وسُنَّة نبيه (صلَّى الله عليه وآله) ، وقد كان لسان الحال مِن حسين العُلا يقول : إنَّ في وِسعكم أيُّها الأعداء ، تُضيِّقوا حدود مبدئي العالي ، ومقصدي العامّ ، وكذا في وسعكم أنْ تقضوا على حياتي ، وعلى صَحبي وعلى صِبيَتي ، ولكنْ ليس في وسعكم قَطّ ، أنْ تقضوا على قَضيَّتي ، ولا على دعوتي ، ولا على فِكرتي ما دُمت حيَّاً ، وما دام المسلمون أحياء.

٩٩

اهتمام الإمام بالمَوعظة والنصيحة

سيرة الحسين (عليه السّلام) ، سِلسلة أدلَّة على قوَّة حُسن ظَنِّه بالناس ، وإنَّ نفسه كانت مُفعَمة بآمال الخير فيهم ، ولا غَرو ؛ فإنَّ قوَّة آمال الناهضين تُقاس بقوَّة اعتقادهم بحَقِّهم ، والحسين (عليه السّلام) كان رمز الإيمان ، وآية الحَقِّ ، ويرى حَقَّه كما يرى الشمس في رابعة النهار ، فحَريٌّ بأنْ يكون على الدوام مُتفألاًّ وبشيراً ، وهو يرى أكثر الناس ، نحو ما يرى نفسه مُستعدِّين لعبادة الحَقِّ ، إذا صادفوا الدليل ، فكان الحسين (عليه السّلام) يُعامل أعداءه مُعاملة مَن يَحترمون الحَقَّ ، بينما هم غافلون عنه ، فكان يبذل قُصارى الجُهد في تنوير أفكارهم بالاحتجاجات ، وإقامة المُظاهرات ، ويستفرغ وسعه في إنذارهم وإخطارهم ، بالرُسل والخُطب.

وجمهور خصومه كانوا مِن سَفلة البشر ، وعَبدة الطاغوت ، أولئك الذين لا يُقيمون للحَقِّ وزناً ، ولا يرون لغير المال والقوَّة شأناً ؛ وعليه قام حسين الإيمان ، بمُظاهرة باهرة ، بعد اليأس مِن سماح القوم له بالرجوع ، فلَبس عِمامة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)

١٠٠